إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 26 مايو 2015

تعب السعداء والأشقياء

تعب السعداء والأشقياء 

فاتقوا الله أيها المسلمون:
حقيقة لا يماري فيها أحد، قررها الواحد الأحد، وعنوانها (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَد).
إنها حقيقة مهمّة لا بد أن ندركها، فالحياة الدنيا لا بد فيها من التعب والجهد، يستوي في ذلك المؤمن والكافر، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، وسائر طبقات الناس، فكل منهم له نصيب من التعب والكَبَد.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَد): في مكابدة ومشاقة وجهد وكد، وكفاح وكدح: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ...).
فمنذ اللحظة الأولى للإنسان يبدأ الجهد الأشق والكَبَد الأمر، وكل خطوة بعد ذلك كَبَد وكل حركة بعد ذلك كَبَد، وعند بروز الإنسان كَبَد، وعند انتصاب القامة كَبَد، وعند الخطو الثابت كَبَد، وعند التعلم كَبَد، وعند التفكّر كَبَد، وفي كل تجربة جديدة كَبَد؛ ثم تفترق الطرق وتتنوع المشاق؛ فهذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره وهذا يكدح بروحه، وهذا يكدح للقمة العيش، وخرقه الكساء، وهذا يكدح ليجعل الألف ألوفاً، وهذا يكدح لملك أو جاه، وهذا يكدح في سبيل الله، وهذا يكدح لشهوة ونزوة، وهذا يكدح لعقيدة ودعوة، وهذا يكدح إلى النار، وذاك يكدح إلى الجنة، والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه، وهناك يكون الكَبَد الأكبر للأشقياء، وتكون الراحة الكبرى للسعداء.
"كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"، كل الناس يشتغلون ويتعبون – ولكن النتائج والمآلات تختلف، فغادٍ في طاعة الله، تعب في عبادة الله، صرف جهده وهمه في سبيل مرضاة الله، فهذا قد اعتق نفسه. وآخر غادٍ في معصية الله، موبق نفسه بمعصية الله، مهلكها بانتهاك الحرمات والمحرمات، فهذا قد أهلك نفسه وأوبقها. 
حقيقة لا تغفل عنها: إذا كنت تتعب في طاعة الله فلا تظنن غيرك في المعصية مرتاحاً، لا يبذل جهداً ولا كداً، فكل ما تراه من تعب السعداء في طاعة ربهم فاعلم أن الأشقياء يتعبون أضعاف أضعافه في المعصية: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ).
إن الكَبَد طبيعة هذه الحياة الدنيا، تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكَبَد في النهاية، فأخسر الخاسرين هو من يعاني كَبَد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكَبَد الأشق الأمر في الأخرى، وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كَبَد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال رحمة الله. 
كل في هذه الحياة يغدو ويتعب، وكل يسعى ويشقى، وكل يعمل على شاكلته: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى). والجزاء مختلف، فليس الخير كالشر، و ليس الهدى كالضلال، و ليس الصلاح كالفساد، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى وليس من صدق وآمن كمن كذب وتولى، وإن لكلٍ طريقاً، ولكل مصيراً ولكل جزاء وفاقاً. 
والحقيقة الأخرى بأنه (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ). (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ). وأن "من جعل الآخرة همه جمع الله له شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، و من كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله، و جعل فقره بين عينيه، و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها".
كلٌّ في هذه الحياة يتعب وينصب ويهتم ويغتم، وإنما الهموم على قدر الهمم، فئة في بيت الله تركع مع الراكعين وتذكر الله مع الذاكرين، وأخرى في الشوارع جلوساً في الزوايا، أو دوراناً في الأحياء، فكلا الفئتين تتعب ولكن شتان ما بينهما.
شباب في حلقات القرآن عاكفون على حفظه وتلاوته، حابسون أنفسهم في بيت الله، و آخرون وفي نفس الوقت يمضون أوقاتهم في دوران وجولان وتفريط، فأي الفريقين أهدى إن كنتم تعلمون. (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). 
لسان شغل بذكر الله وتلاوة كتابه والدعوة إليه، وآخر يفري في أعراض المسلمين، و كلاهما متعب: (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ).
قوم يشدون الرحال و يبذلون الأموال ويجهدون الحال دعوةً إلى الله و نصحاً للعباد و محاربة للفساد، وإخراجاً للتائهين من الظلمات إلى النور. وأخرى تبذل جهدها وتنفق أموالها لتصد عن سبيل الله وتنشر الفساد، وتشيع الفاحشة، وتبث الخنا، و كلا الفريقين يتعب، لكن: (هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ). 
ما أعظم الفرق بين واقف يصلي، وواقف في طابور تذاكر ملعب !.
ما أعظم الفرق بين من يسهر ويتجافى جنبه عن المضاجع يدعو ربه خوفاً وطمعاً، وبين من يسهر ويمضي ليله في إيذاء العباد وورود موارد الفساد!.
ما أعظم الفرق بين شباب يجاهدون في سبيل الله ويرابطون في الثغور دفاعاً عن الأمة وحرماتها، 
وشباب تتعلق آمالهم بغانية ومرقص وحانة!.
ما أعظم الفرق بين من يجلس في المسجد انتظاراً للصلاة وذلكم الرباط، وبين جالس في بيته عاكف ع
لى شاشات الفساد وأفلام الهبوط.
ألا ما أعظم الفرق بين تعب السعداء وتعب الأشقياء التعساء.
ما أعظم الفرق بين من يكدحون ويتعبون في الدنيا ليستريحوا في الآخرة، لأنهم يدركون أن الدنيا كَبَد، ولا راحة للمؤمن إلا عند أول قدم يضعها في الجنة.
وبين قوم يكدحون وينصبون في الدنيا ليلاقوا كدحاً وتعباً أشد في الآخرة: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى).
فئة عملت و نصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة ولم تجد إلا الوبال والخسارة، فزادت مضضاً وتعباً، فهي عاملة ناصبة؛ عملت لغير الله، ونصبت في 
غير سبيله، عملت لنفسها ولشهواتها وتعبت لدنياها وأطماعها، ثم وجدت عاقبة العمل و الكد، وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد، ووجدته في الآخرة سواداً يؤدي إلى العذاب، 
و على الجانب الآخر: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ). حين ترى رضا الله عنها وليس أروح للقلب من أن يطمئن إلى الخير ويرضى عاقبته، ثم يراها ممثلة في رضا الله الكريم وفي النعيم: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً).
إن السعداء يتعبون والأشقياء كذلك، ولكن تعب السعداء تعب في طاعة الله ومرضاته، فهم يحصلون على أجر من الله ومغفرة و رضوان، قال صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي عز وجل في المنام في أحسن صورة، فقال لي: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟! قلت: الله تعالى أعلم! قال: فوضع الرب تبارك وتعالى يده بين كتفي حتى وجدت بردها في صدري، ثم قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟!. فعلمتُ ما بين السماء والأرض، فقلت: يختصمون في الكفارات، والدرجات، والدعوات، فقال: وما الكفارات؟! فقال: نقل الأقدام إلى الجمعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكروهات...".
فهذه أمور لها مشقة على النفس وتعب، ولكن جعل الله عز وجل فيها كفارة للذنوب.
تعب السعداء: إما تكفير معصية أو رفع درجة كما في الحديث: "من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة " (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ". 
أما تعب الأشقياء فتكثير لذنوبهم ومزيد إثم لهم (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ). (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ).
تعب السعداء أدرك ثماره في الدنيا قائل السلف: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف".
إنه تعب يثمر سعادة وانشراحاً، لأنه تعب في طاعة الخالق سبحانه، أما تعب الأشقياء فتعب يعقبه الشقاء والكَبَد و التعب لأنه في معصية الله.
الشقي يشعر أن تعبه في معصية الله، فإذا انتهى من لذته وذهب شعوره بها بقيت الحسرة في قلبه وأورثه التعب هماً وحزناً. 
 
تعب الأشقياء تعب يعقبه الضيق و الضنك: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). شعور بتأنيب الضمير، شعور بالقلق من آثار الذنب، شعور بالخوف من مصيبة وعقاب على النفس والمال و الأهل والولد. شعور بالذل والانهزامية ويأبى الله إلا أن يذل من عصاه. تخوّف من الأمراض والفضائح و(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ). 
تفنى اللذات ممن ذاق صفوتها
من الحرام و يبقى الإثم و العار
تعب السعداء مؤقت ينتهي بفراق هذه الحياة حين يجد الإنسان عند الموت من التثبيت والبشرى بحياة النعيم الدائم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). ثم الجزاء الأعظم حيث: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، و هناك تنسى المتاعب وتتلاشى المصاعب، وينقطع النصب والهم والحزن.
أما الأشقياء فهم على شقوتهم وتعبهم في الدنيا، يجدون عند الموت من النذر والعلامات على شقوتهم ما يجعلهم يموتون شرَّ ميتة، ثم يجدون في قبورهم وفي الآخرة من التعب والعناء أضعاف ما لاقوه في الدنيا.
و في الحديث: "يؤتى يوم القيامة بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة فيصبغ في النعيم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت شراً قط؟! هل مر بك بؤس قط؟! فيقول: لا والله يا رب، ما رأيت شراً قط، ولا مرّ بي شدة قط؟! ويؤتى بأشد أهل الدنيا نعيماً من أهل النار فيصبغ في العذاب صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟! هل مر بك نعيم قط؟! فيقول: لا و الله يا رب، ما رأيت خيراً قط، و لا مر بي نعيم قط".
إن السعداء يدركون أن الحياة الدنيا مهما تطل فهي قصيرة، وأن عناء السعداء وتعبهم مهما اشتد فهو محتمل في سبيل الله ما دامت نهايته الموت وعاقبته الفوز والنعيم المقيم، ومن هنا فالسعداء يستقلون كل تعب لقوه في الدنيا في ذات الله حينما يجدون ثوابه و جزاءه: "لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرماً في سبيل الله لحقره يوم القيامة".
وقد يقول قائل: وما هو التعب الذي يلقاه هؤلاء الأشقياء في دنياهم؟ 
فأقول: إن هذا التعب كثير، ولكن خذ بعض الأمثلة من هذا التعب الذي يلقاه أولئك الأشقياء:
الشقي يشعر -أولاً- بأن تعبه في معصية الله، فإذا انتهى من لذته أياً كانت هذه اللذة، وذهب شعوره بها، بقيت الحسرة في قلبه
ولذلك كان الشاعر يقول وهو ينصح ابنه إن أهنا عيشة قضيتها ... ذهبت لذتها والاثم حل

فهو إذا كان ممن ينتسبون إلى الإسلام يشعر بأنه وقع في معصية، فإذا انتهى تلذذه بهذه المعصية بدأ قلبه يوبخه، وضميره يعاتبه، فشعر بالإثم وبالذنب العظيم، فأصابه نتيجة لذلك شيء غير قليل من الشقاء
كذلك قد يترتب على هذه المعصية التي وقع فيها: مصائب دنيوية يصيبه الله عز وجل بها في نفسه أوفي أهله أو في ماله أو في غير ذلك، تجعل حياته كلها تنغيصاً
تسمعون -مثلاً- عن الأمراض الجنسية الفتاكة التي انتشرت في العالم اليوم: كالهربس والإيدز وغيرهما
وهذه الأمراض ليست جديدة، بل قد كان العالم يتحدث قبلها عن أمراض كثيرة، مثلأمراض الزهري والسيلان وغيرها من الأمراض الجنسية التي تكلم عنها الأطباء
فالإنسان حين ينتهي من هذه اللذة العابرة التي هي أسرع ما تزول، قد يصاب بمثل هذه الأمراض الفتاكة التي تفسد عليه حياته، وتهدم جسمه، وتهدم عمره، فينتهي أجله شر نهاية، وتقول له نفسه: (بينما الناس الصلحاء يقتلون شهداء في المعارك، في الذب عن دينهم أو عن أعراضهم أو عن أخلاقهم، أنت تموت شر ميتة في سبيل لذة عابرة) فيشعر بالخزي والعار نتيجة لذلك
وقد يسلط الله تعالى عليه مصيبة في ماله، حيث يبذر هذا المال في أوجهه المحرمة، حتى ينتهي ماله الذي تعب في جمعه، ينتهي في هذا السبيل المحرم، فيصبح هذا الإنسان شقياً من وجهين: شقياً -أولاً- في جمع هذا المال، ثم شقياً -ثانياً- حين فرقه في معصية الله تعالى
وقد يسلط الله تعالى عليه نتيجة معصيته فضيحة تلازمه إلى آخر الدهر،
ولذلك لا تتصور –أيها المسلم - وأنت تحرم نفسك من الأشياء المحرمة، تحرم نفسك من مشاهدة الأفلام الجنسية الهابطة، من مشاهدة المسلسلات المنحرفة، من النظر إلى النساء، من عقد الصداقات المحرمة، من السفر إلى بلاد الكفار، من تمتع العين والقلب برؤية الصور الجميلة، لا تظن وأنت تحرم نفسك من ذلك كله أنك في شقاء، وأن الذي أجاب داعي الشيطان، وأملى لنفسه في هذه الأمور في سعادة، لا تظنن ذلك، بل تأكد أنك تجد من لذة حرمان نفسك من هذه المعاصي، وشعورك بالترفع، وشعورك بأنك نجحت في المجاهدة، تجد في نفسك وفي قلبك من اللذة الشيء العظيم
وذلك الإنسان الذي أتبع نفسه هواها في هذه الأمور يجد من الشقاء والتعاسة والألم وتوبيخ الضمير ما لا يخطر لك على بال
حتى حدثني بعض من رأى هؤلاء الشباب، قال: والله لقد رأيت أحدهم وهو يجلس مع بعض النسوة، ثم يغادرهن إلى مكان آخر ليبكي بأعلى صوته، يبكي لأنه يجد في قلبه داعي الإيمان، ويجد في قلبه شعوراً بالخطيئة، فيتألم لذلك، وقد يسيطر عليه هذا الشعور، فيعبر عنه بالصراخ والبكاء،
أما الفرق الأكبر فهو ما يلقاه السعداء في قبورهم من النعيم، ثم يلقونه في الآخرة من السعادة والسرور وألوان اللذة مما لا يخطر على بال، وأعظم ذلك النظر إلى وجه الله عز وجل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ).
أما الأشقياء الذين سخروا جهدهم وتعبهم في معصية ربهم، فإن عناءهم لا ينقضي و حسرتهم لا تنقطع، فهم محرومون من النعيم، و يقاسون من ألوان العذاب ما يقاسون حتى إنهم يطلبون أقل المطالب: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ). (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ).
هذا هو الفرق بين السعداء الذين تعبوا في مرضاة ربهم وطاعته، فهم سعيدون في الدنيا بطاعة الله وبلذة المناجاة وبالأنس بقرب الله، سعيدون بما يلقون من الأذى في سبيل الله، وبما يجدون من التعب في طاعة الله، سعيدون بكل معاني السعادة، سعيدون عند الموت بالبشرى، سعيدون في قبورهم بما يلقون من النعيم، سعيدون عند البعث، سعداء بعد الحساب، و هذا هو جزاء المؤمنين الذين قرروا أن يقضوا حياتهم على وفق ما يرضي الله عز وجل وإن تعبوا ونصبوا وحرموا أنفسهم من اللذات.
أما الأشقياء فقد شقوا في الدنيا بالتعب في معصية الله، أشقياء في أجسامهم، في قلوبهم، أشقياء عند موتهم، في قبورهم، عند البعث، عند الحساب، وبعد الحساب: (جَزَاء وِفَاقاً). (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ).
نسأل الله تعالى أن يسخرنا لطاعته وأن يستعملنا في مرضاته وأقول هذا القول، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم. 
الخطبة الثانية
وثمة فرق حاسم بين تعب السعداء و تعب الأشقياء نلحظه من خلال قراءة التاريخ و مشاهدة الواقع.
تعب السعداء تحفه عناية الله وتوفيقه وبركاته، فالسعداء في معية الله، ومن كان الله معه كان التوفيق والتسديد يلاحقه. 
انظر إلى أعمال الصالحين وميادين الخير ومجالات البر والإصلاح، قليل مقدارها، عظيمة آثارها. 

يدخل الداعية إلى مدينة أو قرية فما يفارقها حتى يُخرجَ جماً من أهلها من الظلمات
 إلى النور رغم قلة إمكاناته و قليل قدراته. 
انظر إلى الحلقات القرآنية و الدور النسائية كم نفع الله بها؟! وكم خرّجت من حفظة و حافظات وصالحين و صالحات؟! رغم قصر عمرها، وقلّة مواردها، ورغم الحملة الجائرة عليها لتشويه سمعتها وتحجيم دورها. 
انظر إلى جمعيات البر وهيئات الإغاثة ومستودعات البر؛ كم استفاد منها من بائس و كم تعفف بها من فقير وكم فرج بها من مكروب؟!. 
انظر إلى جهود الدعاة في أدغال أفريقيا يسلم على أيديهم الآلاف بجهد قليل و مال يسير و زمن قصير؟!. 
انظر إلى جهود المصلحين، كم استقام على أيديهم من منحرف؟! و كم صلح بجهودهم من فساد؟! رغم ضراوة الخصوم وشدة مكر الأعداء واشتداد لغرائز وهيجان الشهوات. 
إنه تعب السعداء، تظهر آثاره وتتجلى ثماره في الوجود فيسعد به العاملون ويتحول العناء إلى هناء، ويصبح التعب لذة و حبوراً.
أما الأشقياء فيكدحون ويتعبون، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).  

لقد كانت غايتهم من إنفاق أموالهم الصد عن سبيل الله، فسيخسرون أموالهم، ثم تصير نفقتهم ندامة عليهم، وكما قال ابن جرير؛ أموالهم تذهب و لا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، لأن الله معل كلمته وجاعل كلمة الكفر هي السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ثم إلى جهنم يحشرون، فأعظم بها من حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك، أما الحي فخرُب ماله، وذهب باطلاً في غير نفع ورجع مغلوباً مقهوراً محروماً مسلوباً، وأما الهالك فقتل وسلب وعجل به إلى نار الله يخلد فيها.
تأمل حال الذين يحاربون الدعوة ويضعون العقبات لمواجهة الدعاة، ويقفون حجر عثرة أمام معالم الخير ومواطن الإصلاح ستجدهم من أتعس الناس وأكثرهم شقاوة. 

ترى أحدهم يلهث ويلهث حتى لا تظهر للدعوة كلمة أو ترتفع لها راية، يسهر ليله و يشفي نهاره وينفق ماله في الكيد و المكر لعله ينجح في وأد كلمة خير أو يفلح في نشر رذيلة تبعد الناس عن حياض الفضيلة.
مساكين هؤلاء القوم فإن الحسرة تحيط بهم من كل مكان!.
مساكين هؤلاء القوم الذين اغتروا بجبروتهم، وانتفشوا بغرورهم، و ما دروا أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن الزبد يذهب جفاء وأن الباطل كان زهوقا. 

و بعد أيها المسلمون:
و بعد أن أدركنا فصل ما بين السعداء في تعبهم والأشقياء في نصبهم، من بعد هذا: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ).
أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحاً تحمل عبئك، وتجهد جهدك و تشق طريقك لتصل في النهاية إلى ربك بعد الكد و الكدح و
الجهاد.

أيها ال
عاقل:
إنك لا تجد الراحة في الأرض أبداً، إنما الراحة هناك لمن يقوم لها بالطاعة والاستسلام، التعب واحد في الأرض، والكدح واحد، وإن اختلف لونه وطعمه، أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك، فواحدٌ إلى عناء دونه عناء الأرض، وواحد إلى نعيم يمسح عنه آلام الأرض فكأنه لم يكدح ولم يكدّ. 
يا أيها العاقل:
اجعل كدك وكدحك وتعبك فيما يرضي ربك لكي تحاسب حساباً يسيراً، وتنقلب إلى أهلك مسروراً.
و احذر أن تكون من الوجوه الخاشعة العاملة الناصبة التي تصلى ناراً حامية، والتي تدعوا ثبوراً، لأنها عملت لغير الله ونصبت في غير سبيل الله، ثم وجدت عاقبة العمل والتعب، وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد، ووجدته في الآخرة سواداً يؤدي إلى العذاب.
اللهم اجعل سعينا في مرضاتك، و كدحنا موصلاً إلى جناتك.

2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق