إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 30 يناير 2020

السعي في قضاء حوائج الناس

( السعي في قضاء حوائج الناس )
السعي في قضاء حوائج المسلمين هو خلق الأنبياء والمرسلين:
اسمحوا لي في بداية خطبتي أن أعيش وإياكم مع شاب خرج من قريته بعد أن تآمر القوم على قتله، خرج خائفا فقيرا جائعا يتوقع الشر في كل لحظة، هاربا من بطش الظالمين، شاب أنهكه التعب والجوع والظمأ، لا يملك لا مالا ولا متاعا، شاب مشى حتى انتهى به المطاف إلى قرية ليستريح فيها، وما كاد يجلس على الأرض ليستريح من عناء السفر حتى رأى منظرا استفز فيه رجولته ونخوته ، فيا ترى ماذا رأى؟!
رأى فتاتين عفيفتين طاهرتين تتحاشيان الاختلاط بالرجال معهما أغنامهما ؛ وعلى الرغم من أنه لا يعرفهما وليس له حاجة عندهما إلا أنه رأى أنه لا يسعه أن يتركهما هكذا بلا عون ولا مساعدة ، فسقى لهما ثم بعد أن أنجز تلك المهمة لم يطلب منهما أجرة ما عمل أو انتظر منهن كلمة شكر، إنما تولى إلى الظل ليستظل من تلك الحرارة الشديدة، فيا ترى من هو هذا الشاب؟
إنه رسول من أولي العزم من الرسل، إنه كليم الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
 واستمعوا لربكم يقص عليكم ذلك الموقف﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص:21-24].
هل ذهب عمله ذلك هباء منثورا؟
لا والله.. لقد تكفل بثمن عمله رب العالمين واسمعوا للثمن﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ ﴾ [القصص:25-27].
الله أكبر! نتيجة قضاء حوائج المسلمين، وكشف كرباتهم، أمان بعد الخوف ورزق بعد الفقر وزوجة بعد العزوبة هذا جزاء في الدنيا حصل عليه نبي الله موسى- عليه السلام -، فكيف بجزاء الآخرة؟!.
أُمُّ المُؤمِنِينَ خَدِيجَةُ رضي اللهُ عنها تَقُولُ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: "إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ"رواه البخاري.
عباد الله: من قضى حوائج الناس قضى الله حوائجه:
ففي الصحيحين عن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة".
فمن كان الله في حاجته أتظنون أنه يخيب؟ أتظنون أنه يضيع؟ لا والله.
 صنائع المعروف وقضاء حوائج الناس يدفع البلاء وسوء القضاء:
قال صلى الله عليه وسلم "صنائع المعروف تقي مصارعَ السوء" صححه الألباني في صحيح الجامع.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم "من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة" رواه ابن ماجه.
وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه -عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال "صدقة السر تطفىء غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر وفعل المعروف يقي مصارع السوء"حسنه الألباني في صحيح الجامع.
قال ابن عباس رضي الله عنه: صاحب المعروف لا يقع فإن وقع وجد متكئاً.
 أيها الأحبة الكرام في الله: خلق من اتصف به كان من أوائل الداخلين إلى جنات رب العالمين:
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول:" إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف". رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه -عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: " لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس". رواه مسلم.
 بذل المعروف وفعل الخير سبب من أسباب الفلاح: قال تعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج:77].
 الساعي لقضاء الحوائج موعود بالإعانة، مؤيد بالتوفيق: قال- عليه الصلاة والسلام -: "...والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه..".
تعين أخاك المسلم فيعينك الله، ترحمه فيرحمك، تستره فيسترك، تنفِّس عنه كربةً من كرب الدنيا، فينفس الله عنك كربة من كرب القيامة، تضع عنه بعض الدين، يضع عنك بعض الوزر ، تفرج عن عسرته، يفرج الله عن عسرك يوم القيامة وهكذا.
قال إبراهيم بن أدهم " من لم يواسِ الناس بماله وطعامه، وشرابه - فليواسهم ببسط الوجه، والخلق الحسن" [مواعظ الإمام إبراهيم بن أدهم للشيخ محمد الحمد].
قلت ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم.....
 الخطبة الثانية : أيها المسلمون عباد الله:
قضاء حوائج الناس يعتبر من أعظم العبادات وأجل القربات إلى الله:
أخرج الطبراني وغيره عن ابن عمرَ رضي الله عنهما أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ- عليه الصلاة والسلام - فقال:
يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أحبّ إلى الله؟ وأيّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم "أحب الناس إلى الله - عز وجل - أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً (في مسجد المدينة) ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رخاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام". حسن الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة.
هذا الحديث لو عملنا بما فيه لكنا من أحب الناس إلى الله:
"أحبُّ الناسِ إلى الله تعالى أنفعُهم للنّاس، وأحبّ الأعمال إلى الله سرورٌ يدخِله إلى مسلمٍ أو يكشِف عنه كربةً أو تقضِي عنه دينًا أو تطرُد عنه جوعًا،...".
إن قضاء حوائج الآخرين، أفضل من الاعتكاف في مسجد النبي شهرا: ولأن أمشيَ مع أخٍ لي في حاجةٍ أحبّ إليّ مِن أن أعتكِفَ في هذا المسجد - يعني مسجدَ المدينة - شهرًا،..."
 قضاء حوائج المسلمين أمان من الفزع الأكبر: جاء في تكملة الحديث السابق: "...ومن مشى مع أخيه المسلمِ في حاجةٍ حتى تتهيأ له أثبتَ اللهُ قدمَه يومَ تَزِلُّ الأقدامُ".
قال ابن عباس: إن لله عباداً يستريح الناس إليهم في قضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم أولئك هم الآمنون من عذاب يوم القيامة.
وجاء في صحيح مسلم أن النبي- عليه الصلاة والسلام قال "من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه".
 عباد الله: من منع المعروف أو حث الناس على عدم فعله فهو على خطر عظيم:
يقول سبحانه وتعالى﴿ فويلٌ للمصلينَ الذينَ هُم عَنْ صَلاتِهم سَاهُون ا لذينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيمْنعونَ الْماعُون ﴾ [الماعون:4-7]
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم"، فذكر منهم " ورجل منع فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك".
 معاشر المسلمين: اصنعوا المعروف لكي تنالوا مغفرة الله تعالى وتدخلوا جنته، وأحسنوا إلى عباد الله، وأدوا إليهم حقوقهم الواجبة والمستحبة حتى يحسن الله إليكم، وييسر لكم أموركم، ويفرج عنكم كربكم في الدنيا والآخرة. نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لفعل الخير والإحسان إلى الخلق إنه سميع مجيب، واسأله أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنة أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.

الخميس، 23 يناير 2020

وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها

( وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) 
الخطبة الاولى : 

أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعلموا أن مِن أعظم وأجلِّ الطاعات والقربات أن يتذكَّرَ المسلمُ ما أنعم الله به عليه، في بدنِه ودينه ودُنْياه.
فما أعظم أنْ تستحضر -أيُّها المسلم- وتتذكرَ على الدوام، نعمَ الله عليك في بدنِك وأولادِك ودينِك.
قال بعضُ السلف: "ذِكْرُ النِّعمة يورث الحب لله -عزَّ وجلَّ-".  
وقال الحسن -رحمه الله-: "أكثروا ذكرَ هذه النِّعَم، فإن ذكرَها شكرُها". 

عباد الله: إن الكثير من الناس في مجالسهم، وبينَهم وبين أنفسهم، يذكرون المساوئ والمصائب، فالبعض يذكرُ قلَّةَ راتبه وكثرةَ احتياجاته، ، ويتجاهلون ذكرَ نعم الله عليهم، وما منَّ به عليهم من الصحة والعافية والهداية، وهذا لا يليق مع الرب المنْعمِ المتفضِّلِ عليهم.
ونِعَمُ الله كثيرةٌ عظيمة، وما خَفِيَ منها أكثرُ وأعظم، والكثيرُ من الناس، يستحضر نِعْمةَ المأكلِ والمشربِ والمسكنِ فقط، ولم يعلم أن هذه من أقلِّ ما أنعم الله به عليه، وهي نعمٌ أعطاها الله حتى الكفار والمشركين. 
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه، وحَضَرَ عذابه".

نعم -أيها المسلم- كم من النعم العظيمة الجليلة، التي تتمتع وتتقلَّب بها، وأنت لا تتذكَّرها ولا تستحضرها، أليس سترُ الله عليك، وعدمُ كشف معايبك وذنوبك؛ نعمةً لا تُقدَّر بثمن؟! ماذا عن نعمة الله عليك في سلامةِ عرضك وأهلك، ألست مُعافى من الوسوسة المميتة القاتلة، ألست مُعافى في بدنك، عندك قوتُ يومك، آمنًا في بيتك وأهلك، ألست تتمتع بالنظر والسمع والعقل؟!

يا مَن تشتكي قلَّة المال، وكثرةَ الديون، حتى أنْستك كلَّ نعمةٍ تتقلب بها، أتحبُّ أنْ تُعطى الأموال، وتُسلبَ نعمةً واحدةً من هذه النعم، فكيف تجحد وتنسى ما أنت فيه من النعم العظيمة، وتشكو حِرمان أموالٍ تافهةٍ قليلة.
ولكن صدق الله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات: 6]، قال الحسن -رحمه الله-: "الكنودُ هو الذي يَعُدُّ المصائب، وينسى نعم الله عليه".  
يـا أيُّها الظـالم في فعله *** والظلم مردودٌ على من ظلم
إلى متى أنـت وحتى متى *** تشكو المصيبات وتنسى النعم 

جاء رجلٌ إلى أحد السلف الصالحين، يشكو إليه الحاجة وقلَّة المال، فقال له: أتُحبُّ أنَّ لك ببصرك هذا الذي تُبصِرُ به مائةَ ألف درهم؟! قال الرجل: لا، قال: فبيدك مائة ألف درهم؟! قال: لا، قال: فبِرِجْلِكْ؟! قال: لا، قال: فذكَّره نِعَمَ الله عليه، فقال له: "أرى عندك مئينَ ألوفٍ، وأنت تشكو الفقرَ والحاجة".
فيا كثير التسخُّطِ والتشكِّي: اعْرفْ قَدْرَ الصِّحَّةِ والعافية.
قال وهب بن مُنَبِّهٍ -رحمه الله-: "مكتوبٌ في حكمة آل داود: العافيةُ: الْمُلْك الخفيُّ".
وقد قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". رواه البخاري.
أي إن الصِّحَّةَ وَالْفَرَاغ، كثيرٌ من الناس مغبونٌ فيهما، يندم ويتحسَّرُ صاحبُهما يوم القيامة، لعدمِ استغلاله لهما بما ينفعه ويُفيده.

أيها الْمُسْلم: وإنَّ نِعْمَةَ الله عليك في دينك، وسلامةِ عقيدتك، لهي أعظمُ نعمة، وأفضلُ منَّة، وهي التي يجب عليك شكرُها على الدوام. فإنَّ أكثر مَن في الأرض عقائدُهم باطلةٌ منحرفة.
قال بعض السلف: "كُنْ لِنِعْمة الله عليك في دينك، أشْكَرُ منك لنعمةِ الله عليك في دُنْياك". 
كمْ في الأرض مِنْ أُناسٍ يعبدون البقر والحجر، ومَنْ يعبدون الأولياء والأضرحة، فاحمد الله أن وفقك لعبادته وحده لا شريك له.

فيا من بارزت ربك بالمعاصي والذنوب: ألا يستحق مَنْ متَّعك وفضلك بهذه النعم، أنْ تشكره عليها كلَّ يومٍ وفي كل حين؟! ألا تستحي -أيها العاصي- أنْ تعصيَه وقد أعطاك كلَّ ما تريد، كيف تعصيه بِنِعَمِه، تَنْظُرُ إلى الحرام وغيرُك قد سُلب النَّظر، تَسمع إلى الغيبة والنميمة والغناء، وغيرُك قد حُرِم نعمةَ السمع، تعصيْه بالزنا والخنا، وغيرُك قد شُلَّت جوارحه، وتعطَّلت أركانه.
.
مرَّ أحدُ السلف الصالح بشابٍّ يُراود امرأةً عن نفسها، فقال له: "يا بني: ما هذا جزاء نعمة الله -عز وجل- عليك؟!". 

واعلم علمَ اليقين أن النعم إذا شُكرت قرَّت وزادت، وإذا كُفِرَتْ فرت وزالت، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، فمتى أردت دوامَ النعمِ وزيادتَها فالْزم الشكر، وبدونه لا تدوم ولا تَهْنأُ لَكَ نِعْمَة.

وقال الحسن -رحمه الله-: "إن الله لَيُمَتِّعُ بالنعمة مَنْ شاء، فإذا لم يُشْكَر قَلَبَها على صاحبِها عذابًا".  
وأما إذا كنت شاكرًا لله على نِعَمِه، وسخَّرت جوارحك في طاعته، فهذه كرامةٌ ومنحةٌ ربَّانية، 
وسترى المزيد والتوفيق بإذن الله تعالى.
قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "من عرف نعمة الله بقلبه، وحمده بلسانه، لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة؛ لقول الله -عز وجل-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7]". 

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الشكر معه المزيد أبدًا، فمتى لم تر حالك في مزيد، فاستقبل الشكر". اهـ.
أي إنك حينما لا ترى زيادةً في رزقك، وبركةً في أهلك ومالك وحالك، وانْشراحًا في صدرك، فإنما هو بسبب تقصيرك في شكر الله، فاسْتقبل الشكر الحقيقيَّ الصادق، الذي يكون معه العمل والإخلاص، والطاعةُ والإيمان، وتركُ الشِّكايةِ والتَّسخُّط.
فالشكر الحقيقي: أن لا يُستعان بشيء من نعمه على معاصيه، كما قاله السلف الصالح، فالنَّظَرُ نعمة، فلا تستعن بها على المعصية، والمال نعمة، فلا تستعن به على المعصية.
نسأل الله تعالى، أن يُلْهمنا شُكرَ نِعْمِه، وأن يعيذنا من كفرانها، إنَّه سميع قريبٌ مجيب.

الخطبة الثانية : 
اعلمُوا أَنَّ نِعَمَ اللهِ لا تُحْصَى, كما قال تعالى: ( وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ). أَيْ أَنَّكُم لَو اشْتَغَلْتُم بِتَعْدادِ نِعَمِ اللهِ, تَعْدادًا مُجَرَّداً مِن الشُّكْر, بِحَيثُ أَنَّكُم تَتَوَقَّفون عَن أعمالِكم كُلِّها, وتَشْتَغِلُون فقط بِتَعْدادِ نِعَمِ الله, فَإنكُم لا تَستطيعون إِحصاءَها, فَكيفَ ستُقابلونَ هذه النعمَ بالشُّكْرِ أَيُّها العبادُ الضُّعَفاء؟. 

قال طلق بن حبيب ان حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وان نعم الله اكثر من أن يحصيها العباد 

مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ العبادَ لو كُلِّفَوا بُمُقابلةِ جَميعِ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِم بالشُّكْرِ لَهَلَكوا. ولَكنَّ اللهَ سُبحانَه رؤوفٌ رحيمٌ لَطيفٌ بِعِبادِه, غَفورٌ لَهُم, حليمٌ عليهِم. ولذلك خَتَمَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ الكريمةَ بِقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ). أَيْ أَنَّه سبحانَه لَمْ يُطالِبْكُم بِمقابلةِ جَميعِ هذه النِّعمِ, وإنَّما يَرْضَى مِنْكُم الشكرَ اليسيرَ, في مُقَابِلِ الإنعامِ الكثير. والأدلةُ على ذلك كثيرةٌ في الكتابِ والسُّنَّة.

نَذكرُ مِنها ما رواه مُسْلِمٌ عن أبي ذَرٍّ الغِفاريٍّ رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى ). 
والمَقْصودُ بالسُّلامَى في الحديث: " المِفْصَلُ, أو العَظْم ", فإنَّ بَدَنَ الإنسانَ عِبارَةٌ عَن جَوارِحَ وعِظامٍ ومَفاصِلَ. يَقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّه خُلِقَ كُلُّ إنسانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ على سِتِّينَ وثَلاثِمائَةِ مِفْصَل ). 

وهذه المَفاصِلُ يا عبادَ الله, تَحتاجُ إلى أَنْ يُؤَدِّيَ العبادُ شُكْرَها. لأن ذلك مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ البَدَن والصِّحَّة. ومِنْ كَمالِ التَّعبُّدِ لِلّهِ والتَّذَلُّلِ لَه: أنْ يَقُومُوا بِشُكْرِ هذِه النعمة. ولكنَّ القيامَ بِذلك على الوَجْهِ الكامِلِ شاقٌّ على العبدِ, بَلْ مُسْتَحيل. لأن كُلَّ عُضْوٍ في بَدَنِك, وكُلَّ مِفْصَلٍ في بَدَنِكَ, حَياتُكَ بِدُونِه ناقِصَةٌ, بَلْ تَصْعُبُ عليكَ الحياةُ بِدُونِه. وَمِن أَجْلِ ذلكَ يَسَّرَ اللهُ على عِبادِهِ ورَضِيَ بِالعملِ اليَسِيرِ في مُقابَلَةِ نِعَمِهِ الكثيرة. فإذا سبَّحْتَ اللهَ وحَمِدْتَه, وكَبَّرْتَ وهَلَّلتَ عَدَدَ هذه المفاصِلِ السِّتِّينَ والثلاثِمائة, فقد تَصَدَّقْتَ عنها. وكذلك لَوْ قُلْتَ: سُبْحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلا الله ُواللهُ أكبر فِي يَوْم, فَقَدْ تَصَدَّقْتَ عَن مَفاصِلِك. 

وكَذلكَ لو نَوَّعْتَ أعْمالَك, ما بين ذِكْرٍ ونصيحةٍ وإماطَةِ أذىً وإعانةِ ضعيفٍ وإغاثَةِ مَلْهُوفٍ وغيرِ ذلك, فَبَلَغَتْ عَدَدَ هذه المفاصلِ فَقَدْ تصدَّقت عَنْها. وبإمكانِك أَنْ تَجْمَعَ ذلكَ كُلَّه في ركعتينِ تَرْكَعْهُما مِن الضُّحَى كَما وَرَدَ في الحديث. فَيَا لَهُ مِنْ تَيْسِيرٍ وسَمَاحَة, ويَا لَهُ مِن فَضْلٍ كَبيرٍ مِنَ الله, يَدُلُّ عَلَى رحمتِه الواسعةِ بعبادِه.

فَتَأّمَّل يا عَبْدَ اللهِ, وتَفَكَّرْ: لَوْ أَنَّكَ مُطالبٌ كُلَّ يومٍ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ عُضْوٍ ومِفْصَلٍ مِنْ هذه المَفاصِلِ بِالشُّكْرِ عَلَى حِدَه!!!. بَلْ إِنك لَوْ كُلِّفْتَ بالتفَرُّغِ والتَّعَبُّدِ لله مِنْ أجْلِ أداءِ شُكْرِ نِعْمَةِ عُضْوٍ واحدٍ مِن أعضائك, لَمْ تَتَمَكَّن مِنْ الوفاءِ بِذلك. 


إِنَّ هذا التَّفَكُّرَ يَدْعوكَ إلى الذُّلِّ والانكِسارِ بَينَ يَدَي الله, والحياءِ مِنه, والشُّعُورِ بالتَقْصيرِ. وَيَدعُوكَ أيضاً إلى الرِّضا وَعَدَمِ التَسَخُّطِ عِنْدَ حُلُولِ المُصِيبَة, لأنه سَيَجْعَلُكَ تقول: إذا سُلِبَتْ مِنِّي نعمةٌ واحدة, فَقَد بَقِيَ لِي نِعمٌ كثيرةٌ لا تُحْصَى. ويَدْعُوكَ أيضاً إلى اجْتِنابِ مَعْصِيَةِ الله, وعدمِ استعمالِ هذِه الأعضاءِ في مَعْصِيةِ الله. هذِه الأعضاءُ التي أنْعَمَ اللهُ عليك بِها وَيَسَّرَ لَكَ طريقَ شُكْرِ نِعْمَتِها, كيف تُعَطِّلُها عن عِبادةِ الله؟!! وكيفَ تُشْغِلُها في مَعْصِيَةِ الله؟!!


الخميس، 16 يناير 2020

حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة

( حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة ) 
أيُّها المسلمونَ: إِخوانُنَا وأبنَاؤنَا وأَخواتُنَا وبَناتُنَا ذَوُو الاحتياجاتِ الخاصَّةِ، وهمْ مِمَّن ابتُلُوا بقُصُورٍ أو خَللٍ وَظِيفيٍّ مُستدِيمٍ؛ حَرَكيٍّ أو حِسِّيٍّ أو عَقْليٍّ، وُلِدَ بهِ أو أُصيبَ بهِ بعدَ وِلاَدَتِهِ، هُم مِنَّا ونحن مِنهُم, هُم جُزءٌ مِن بِنَائِنَا ونَسيجِنَا الاجتماعيِّ، إنَّهم عَناصِرُ فَعَّالَةٌ ذَاتُ إِسهَامٍ في هذا البِنَاءِ، حَقُّهُمْ أَنْ تُوَفَّرَ لَهُمُ البِيئَةُ الصَّالحةُ والظُّروفُ الملائِمَةُ لِمَنحِهِمُ الفُرَصَ الحقيقيةَ المناسِبةَ مِن أَجلِ حَياةٍ لائِقَةٍ, مِن أَجلِ البِناءِ والعَطاءِ وتَوظِيفِ القُدُرَاتِ واستثمَارِهَا لَهُم.
 تَأمَّلُوا - أيها الإِخوةُ - في أَحوالِ بعضَ الأَديانِ والشُّعُوبِ!! كَيفَ كانَ استقبَالُهُم لهؤلاءِ الضُّعفَاءِ والعَجَزَةِ، ففي عَهدِ الإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ يُذكَرُ أنَّ المُعَاقِينَ يُترَكونَ للموتِ جُوعًا؛ أَو يُرْمَوْنَ في الصحراءِ، كِبارًا كَانوا أَو مَوالِيدَ، لِتأْكُلُهُمُ الطُّيورُ والسِّبَاعُ.
بَل تَذكُرُ بعضُ الرِّواياتِ التَّاريخيَّةِ أنَّه في الحربِ العَالميَّةِ كانَ مَشاهِيرُ القياداتِ العسكريةِ يَحتفِظونَ بالأطفالِ الأصحَّاءِ لتَحضِيرِهِمْ للتجنيدِ العَسكَريِّ الإِجبارِيِّ، وأمَّا فِئَةُ المعَاقينَ فلا بُدَّ مِن التَّخلُّصِ مِنهَا، إمَّا بالنَّفْيِ أَو القَتلِ؛ ومَا ذاكَ إلاَّ لاعتقَادِهِم بعَدَمِ إنتاجِهِمْ، وأنَّهُم عَالةٌ علَى المجتمعِ، ويَسْتَنْزِفُونَ اقتصادَ الدُّولِ.
وأمَّا في الإسلامِ العَظيمِ فهُم شَرِيحَةٌ مِن شَرائِحِ المجتمعِ، وفِئةٌ عَزيزةٌ مِن فِئَاتِهِ، لَهُمْ سَائِرُ الحقوقِ الَّتي للفردِ الصَّحيحِ، بلْ لَهُم حُقوقٌ أُخرَى انفرَدُوا بِهَا، مُراعاةً لأَحوَالِهِم وحَاجَاتِهِم.
وقَد شَمِلَ الإِسلامُ المعَاقِينَ بالرعايةِ فجَعلَهُم مَع غَيرِهِم مِنَ الأَسوِيَاءِ, يَتمتَّعُونَ بكاملِ حُقُوقِهِم, حيثُ حَفِظَتْ لَهُمُ الشَّريعةُ الكَرامةَ والعَدلَ والأمنَ , وكَفَلَتْ لَهُم حَقَّهُم فِي التَّعليمِ والصِّحةِ والعَملِ والتَأهِيلِ وإِبرَامِ العُقُودِ، والتَمَلُّكِ، وتَولِّي الوَظَائِفَ الشَّرعيةَ والإِداريةَ التي تَصِلُ إِلى الإِمارَةِ، كمَا أَعفَاهُم مِن مُهمَّةِ القِتالِ والدِّفاعِ عَنِ الأَوطَانِ لهذِه العِلَّةِ؛ قالَ تعَالى{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
ووضع الإسلام قاعدة تدفع عنهم المشقة والحرج، فقال سبحانه [لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا].
حتى في أعظَمِ أركانِ الإسلامِ عذرَ اللهُ المرضى وذوي الإعاقاتِ فقالَ صلَّى الله عليه وسلَّم (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ). فأيُّ تَكريمٍ؟! وأيُّ تَخفيفٍ؟! وأيُّ توجيهٍ لنا وَتنبِيهٍ لِتلكَ الفئَةِ الغالِيَةِ؟! حقَّا إنَّهُ دِينُ الرَّحمةِ!
 والشرع المطهر راعى المعاق عند تكليفه، ولم يحمّله ما لا يطيق، أو ما لا يتناسب وقدراته وطاقته، وبينت أن الإعاقة تخفف عن المريض التكليف، ويكتب له الأجر كاملاً، قال صلى الله عليه وسلم: (( إذا مرض العبد أو سافر كَتَبَ الله تعالى له من الأجر ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)) رواه البخاري
 عبادَ اللهِ: في تَاريخِ الإِسلامِ الكبير، حَظِيَ ذَوُو الاحتياجاتِ الخَاصَّةِ باحتِرَامٍ وتَقدِيرٍ كَبيرَيْنِ، ولنَا في الفَارُوقِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ -رضيَ اللهُ عَنهُأُسوَةً حَسنةً فِي اهْتِمامِهِ بهذِه الفِئَةِ العَزيزَةِ؛ حَيثُ بَلَغَ اهتِمَامُهُ وحِرصُهُ إلى أَنْ بَادَرَ إِلى سَنِّ أَوَّلِ نِظامٍ اجتِمَاعيٍّ في العَالَمِ لحمَايةِ المستضعَفِينَ والمقعَدِينَ والأَطفَالِ, وذَلكَ بإِنشاءِ دِيوَانٍ للطُّفُولَةِ والمستضعفينَ، وقَد فَرضَ للْمَفْطُومِ والْمُسِنِّ والمُعَاقِ فَريضةً إضَافِيةً مِن بَيتِ المَالِ.
وقَد بَلغَ مِن اهتِمَامِ عُمرَ بنِ عَبدِالعزيزِ - رحمهُ اللهُ - بهذِهِ الفِئَةِ أَيضاً، أَنْ عَمِلَ علَى إِحصاءِ المعَاقِينَ في دَولَتِهِ، وخَصَّصَ مُرَافِقًا لكُلِّ كَفيفٍ، وخَادِماً لكلِّ مُقْعَدٍ لا يَقوَى علَى القِيامِ.
 وقَضَتْ تَشرِيعَاتُ المسلمينَ أَنْ يَكُونَ بيتُ المالِ مَسؤولاً عَن نَفقةِ العَاجِزِينَ مِنَ المعَاقِينَ.
وَبنَى الخليفةُ الوَلِيدُ بنُ عَبدِالملكِ أَوَّلَ مُستَشَفىً للمَجْذُومِينَ (عامَ ثَمَانٍ وثَمانِينَ للهجرةِ)، وقَد أَعطَى كُلَّ مُقْعَدٍ خَادِمًا، وكلَّ أَعمَى قَائِدًا.
وبَنَى الخَليفَةُ المأمُونُ مَأوىً للعُمْيانِ والنِّساءِ العَاجزَاتِ في بَغدَادَ والمُدُنِ الكَبيرةِ، كمَا بَنَىالسلطانُ قَلاوونُ مُستَشفىً لرعَايَةِ المعَاقِينَ.
وكمَا سَمِعتُمْ - يا عبادَ اللهِ - كُلَّ هذه الإنجازاتِ الاجتماعيةِ لهذِه الفِئةِ العَزيزةِ تَمَّتْ قَبلَ مِئَاتِ السِّنينَ، وقَبلَ أَن تُقِرَّهَا وتَدعُوَ إليهَا المنظماتُ الحقوقيةُ، والجمعياتُ الخيريةُ في العُصُورِ المتأخِّرةِ ومَا ذَاكَ إلاَّ لِعظَمَةِ هذا الدِّينِ وعُلوِّ مَنزِلَتِهِ، ورُقِيِّ فِكْرِ أَهلِهِ.
وإِلَى إِخوانِنَا مِن ذَوِي الاحتياجاتِ الخاصةِ: نُذكِّرُكُم بأَنَّ اللهَ تعَالَى يَبتَلِي مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ بالْمِحَنِ، لِيَتَبيَّنَ الصَّادِقُ مِنَ الكَاذِبِ، والجَازعُ مِن الصَّابرِ، وهَذِه سُنَّتُهُ تَعَالى في عِبادِهِ؛ فسَلِّموا لربِّكُمْ وارْضَوْا بِمَا قَسَمَهُ – سُبحانَه -، وتذَكَّرُوا مَا أَعدَّهُ للمؤمنينَ بالقضاءِ والقَدَرِ، والصابرينَ علَى البلاءِ والضَّررِ من الخيرِ العظيمِ في الدنيا والآخِرةِ.
فاشكُرُوا مَولاكُم علَى مَا أَصابَكُم مِنَ البَّلاءِ وثِقُوا أنَّه ابتلاءُ مَحبَّةٍ واصطِفاءٍ، وأنَّ عَاقِبَتَه إنْ صَبرتُم جَنةٌ عَرضُهَا كعَرضِ الأرضِ والسَّماءِ، وتَذكَّرُوا دَوماً وأَبداً قولَ العَليمِ الخَبيرِ سبحانَه{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، 
وتَذَكَّروا أيضاً قولَ الحبيبِ صلَّى الله عليهِ وسَلَّم: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ" رواه الترمذيُّ وابنُ ماجَه.

كمَا يَنبغِي العِلمُ أنَّ الإعاقةَ لَم تَكُن يَومًا سَببًا للخُمُولِ والرُّكُودِ أو التَّنَصُّلِ مِنَ المسؤوليةِ والحَركَةِ في الأرضِ والإِسهَامِ في كافَّةِ مَجالاتِهَا الدينيةِ والدُّنيويةِ، فالإِعَاقةُ وإنْ حَرَمَتْ صَاحِبَهَا شَيئا مِنَ المجَالاتِ، فإنَّ ثَمَّةَ مَجالاتٌ لا حَدَّ لَهَا يَستطِيعُ مِن خَلالِهَا تَحقيقَ أَعلَى الإِنجازَاتِ وأَفضلَ الأَعمالِ, والتَّاريخُ حَافِلٌ بالمِئَاتِ مِن العُلماءِ والمفكِّرينَ والمختَرِعينَ, مِمَّن لَم تَمْنَعْهُمْ إِعاقَتُهُمْ عَن الإِنجَازِ والإِبدَاعِ.
وإذَا رُزِقَ الوَالدَانَ: الوَلَدَ، وكَتبَ اللُه تعالى عَليهِم أَنْ يَكونَ مُعَاقًا، فلْيَعْتَبِرَاهُ اختِبَارًا مِنَ اللهِ، فإنَّ الإسلامَ حثَّ الوالدينِ علَى العِنايةِ بهِ، وكيفيةِ التَّعامُلِ الصَّحيحِ مَعَ إِعاقَتِهِ، وتَربِيَتِهِ تَربيةً صَالحةً، والاهتمامِ بكافَّةِ شُئُونِهِ، وبذلِ كلِّ مَا يَحتَاجُهُ في سَبيلِ ذَلكَ، فلِكُلِّ الذينَ أَكرَمَهُمُ اللهُ عز وجل بوُجُودِ ذَوِي الإِعاقَةِ بَينَهُم مِن آبَاءٍ وأمهَاتٍ، وجَمعِيَّاتٍ، ومُعلِّمينَ ومُدرِّبينَ، وأَطبَّاءٍ وممرضِينَ، وتَدفَعُهُمْ إلى بَذلِ المزِيدِ مِن العِنايةِ، والرِّعايةِ بِهِم؛ فخِدمَتُهُم ورِعايَتُهُم، وإدخَالُ السُّرورِ على أنفُسِهِم، مِن أَحبِّ الأَعمالِ إلى اللهِ تعَالى؛ "فَخَيرُ النَّاسِ أَنفَعُهُمْ للنَّاسِ".
الخطبة الثانية : 
عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنه- لم يكن عَمَى بصرِه مانعًا من النظر في كفاءته ومقدرته؛ فقد استخلفه النبي -صلى الله عليه وسلم- على المدينة ثلاث عشرة مرة، كما تقول كتب التاريخ، فالنقص في جانب ليس نقصا في كل الجوانب، بل لعل في ذلك ما ينبِّه إلى أن البشر كل البشر فيهم جوانب نقص كما أن فيهم جوانب كمال، عبد الله بن أم مكتوم شهد فتح القادسية ومعه اللواء وقيل: إنه قتل فيها شهيدا -رضي الله عنه وأرضاه-.
 هذا الأعمى -رضي الله عنه- كان يقوم بوظيفة الأذان بل كان هو المسئول عن ضبط الوقت للصلاة والصيام إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ” ولمزيد من دمجه ومشاركته في المجتمع وهو أنموذج لغيره لم يأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التخلف عن صلاة الجماعة في المسجد على الرغم مما أبداه من أعذار فهو أعمى وليس له قائد يقوده إلى المسجد وبينه وبين الطريق عوائق قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قال: نعم، قالأَجِبْ، لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً” (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه
وثمة اعتبارات أخرى ذكرها بعض أهل العلم؛ منها: أن أصحاب الحاجات الخاصة مرهفو الشعور، رقيقو العاطفة دقيقو الإحساس، يخشى الواحد منهم أن يكون وجوده مع الأسوياء مكدِّرا أو مؤذيا فيتحرَّج من مخالطتهم، فيجب أن يراعى هذا ويوضع في الحسبان ، كل ذلك في إنسانية أخَّاذة ورفق جميل وإبعاد عن الخجل والمسكنة والاستنقاص والازدراء.
إنه هدم للحاجز بين المريض معوَّقًا أو غيره، وفتح للأبواب أمامه وأمام المجتمع بالخلطة والمشاركة دون خوف، فلا يتردد صحيح ولا يخجل مُبْتَلًى 
معاشر الأحبة: ومن جميل حضارتنا وطريف تراثنا واحتفائها بكل رجالاتها أنها أبقت على رجالات الأمة وقادتها العلمية والفكرية من أعلامها، أبقت عليهم بألقابهم، من غير خجل أو انتقاص من الأعرج والأعمش والأصم والأخفش وغيرهم ولقد كان لأصحاب هذه الألقاب مكانتهم العلمية وخلَّد ذكرَهم التاريخُ تخليدا لا يدانى.
 أيها المسلمون: ومما ينبغي تقريره أن أصحاب الاحتياجات الخاصة يواجهون مشكلات ومعوقات لا يستطيعون معها مواجهة معترك الحياة بقدراتهم الذاتية؛ مما يوجب بذل مزيد من العناية وحسن التعامل لتتحقق لهم حاجاتهم ويشبعوا حاجاتهم، إن لهؤلاء الأفاضل الكرام الحق في إيجاد الوسائل المساعدة وتوفير البيئة الملائمة وتهيئة الظروف في عملهم وتعليمهم وتنقلهم وتحركهم داخل المساكن والطرقات والمرافق العامة والخاصة، وأماكن العمل ودور التعليم، والبيئة العمرانية.
يجب تقديم كل المساعدات الْمُعِينَة على التكيف مع البيئة الاجتماعية ليتحقق لهم أقصى الدرجات الممكنة من الفاعلية الوظيفية والتوافق مع قدراتهم ليعتمدا -بعد الله- على أنفسهم، ولا ينبغي أن يتوقف الأمر عند حدود المبادرات الشخصية والتوجهات الخيرة لدى بعض الفضلاء والمحسنين بل يجب أن تتحول الجهود من الجميع دولا ومؤسسات وأفرادا إلى برامج وخطط وجهود منظَّمة لسد الاحتياجات بل لإشباعها وحُسْن توظيفها، وتحقيق الرعاية الاجتماعية الحقة لتصبح إحدى المهمات الرئيسية للدول والمجتمعات للوصول إلى أفضل مستوى معيشي وخدمي.
أيها المسلمونمقياس الصلاح والرقي والفساد والتردي لا يرجع إلى مظاهر الغنى، واكتمال القوى، واكتناز الجسد، ولكنه راجع إلى صلاح النية والقلب وصلاح العمل، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ“.
 الإنسان لا يستمد مقامه ولا مكانته من ضخامة بدنه وقوة عضلاته، ليس العجز بفقد السمع والبصر أو النطق ولكن العجز الحقيقي في عدم توظيف هذه الحواس والقوى التوظيفَ الحقيقيَّ، المعوَّق -على الحقيقة- مَنْ أكمل اللهُ له قدراتِه فعطَّلَها ولم يصرفها في مرضاة الله ونفع نفسه وأمته، ولقد قال الله في أقوام (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الْأَعْرَافِ: 179]، وقال سبحانه(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الْأَنْفَالِ: 22].
 ومن هنا: فإن نظرة الإسلام لهذه الفئة الكريمة من ذوي الاحتياجات الخاصة لم تكن نظرة شفقة أو استضعاف، إنهم جزء مما اقتضه حكمة الله وسنته من التنوع البشري والطبيعة البشرية، ومن أجل هذا فإن ما كانوا معذورين فيه لم يكن انتقاصا من حقهم أو تقليلا من منزلتهم؛ 
وهذه خطابات لجميع الأمة فمن حصل له عذر أو حل به مانع فالحرج عنه مرفوع وله الأجر كاملا والجزاء موفورا، فلهم الأجر غير منقوص إذا نصحوا لله ورسوله.