إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 31 ديسمبر 2021

وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا

 ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾ 

أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإنَّها علامةُ أصحابِ العقولِ وسبيلُ نجاتهم في الدنيا والآخرة، 

عبادَ الله، عندما انتهت مواجهةُ موسى ﷺ والسحرةَ في يومِ الزينةِ عاش موسى ومن معه مدةً من الزمنِ إلى جوارِ فرعونَ وقومِه،

وكأيِّ صراعٍ إنسانيٍّ بين الحقِّ والباطلِ فقد استمرَّ موسى ﷺ ينصحُهم ويدعوهم لتوحيدِ الله، في ظلِّ عنادٍ واستكبارٍ من فرعونَ وملأِه.

وفي أثناءِ ذلك كانتْ تأتيهم النُّذرُ ...آياتٍ ربانيةً لعلها تحيي القلوبَ الميتةَ وتفتحُ العقولَ المقفلة.

هي نُذُرٌ وتحذيراتٌ من اللهِ تعالى لبني البشرِ في كلِّ زمانٍ ومكان، يُرسلها إليهم ليعودوا إلى رشدِهم، ليعلمَ الإنسانُ أنه محضُ إنسان، ﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾.

ليعلمَ الإنسان أنَّ طغيانَه في هذه الأرضِ مجردُ قدرةٍ يسيرةٍ منحها اللهُ إياه ويسلبُها في أيِّ لحظة: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ﴾.

لكنَّ قومَ فرعونَ لم يروها بهذا الشكل، وكذلك أهلُ الطغيانِ والفجورِ والفسوقِ في كلِّ زمنٍ لا يرون تخويفَ اللهِ لهم شيئًا، بل يُمعنونَ في غفلتِهم، قال تعالى: ﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾.

أرسل اللهُ لفرعونَ وقومِه الطوفانَ الذي أصابهم بالغرقِ وهَلْكِ المحاصيلِ وإفسادِ البُنيان، 

وأرسلَ عليهم الجرادَ الذي يأكلُ نباتهم وحصيلةَ جهدهم، 

كما أخذهم بالسنين والمجاعات، 

وأرسل عليهم غيرَها من التحذيراتِ التي قد تصيبُ أيَّ قومٍ في أيِّ زمان، لكنهم أمامَ هذه النَّذاراتِ تكبَّروا وتجبَّروا، بل وصفوها بالسحر: ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.

وهذا الإلحاد في فهمِ آياتِ اللهِ ونَذَاراتِه يشبه حالةَ المعاندينَ في كل زمان ،الذين تجبَّروا أمامَ تحذيرِ اللهِ لهم فجعلوه محض ظواهرَ طبيعيةٍ، 

وظنُّوا أنهم يعرفون أسبابَها وعلاجَها بالعلم التجريبي، فجرَّدوا بذلك قدرةَ الله وتدبيرَه للكون، وجرَّدوا تلكم الظواهرُ الطبيعيةُ من فيضاناتٍ وحرائقَ وريحٍ وزلازلَ وكذلك الخسوفُ والكسوفُ، جرَّدوها أن تكونَ تنبيهاتٍ للناسِ كي يعودوا إلى رُشدهم ويثوبوا لربهم.

استمرَّ طُغيانُ فرعونَ وقومِه حتى أرسلَ اللهُ لهم وباءً عامًّا أصابهم بالهلاكِ والأمراض، فانهارتْ طاقتُهم أمامَه وعجَزَت حيلُهم حياله، هنا عادَ الإنسانُ من جديد لرشدِه، وثابَ عن غيِّه فنادى قومُ فرعون: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾.

فدعا موسى ربَّه فكشف عنهم هذا الوباء ومتَّعهم إلى حين.

لكن، أتراهم يا عباد الله بعد توبتهم هذه أحسنوا العمل؟

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ﴾، 

عاد الإنسانُ من جديدٍ للظلمِ والعدوانِ والشركِ بالله وعصيانِه، 

 

حيث استجمعَ الضلالُ قواه ﴿وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ 

فماذا كان فعلهم وقد رأوا آياتِ الله وتحذيراته؟ ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾

وهنا انتهت فرصةُ التحذيرِ والنَّذارة، فلم تعُد تنفعُ الآياتُ والتحذيرات، بل استحقوا العذاب: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.

انتهت قصةُ طغيانِ الإنسان، لكنها بقيتْ شاهدةً على ذلك الزمان، 

حتى إذا تكررت في أيِّ زمنٍ انتبه أولوا الألبابِ وأصحابُ القلوبِ الحيةِ أنه ليس شيءٌ على اللهِ بعزيز، وأنَّ السنةَ الكونيةَ ماضيةٌ باستحقاقِ الإنسانِ للعقابِ الدنيوي إنْ هو استكبرَ وتجبَّر وطغى في الأرض، وأنه ما نَزَلَ بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة.

فيكون هذا المسلمُ العابدُ أعقلَ الناسِ بإقبالِه على اللهِ ورجاءِ رحمتِه وعفوِه أن يرفعَ عنه وعن المسلمين الوباءَ فيكونَ بذلك سببًا للنجاة.

اللهم ارفع عنا الوباءَ واحفظنا بحفظكَ وأنت الحفيظُ العليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 الخطبة الثانية:

أما بعد، عبادَ الله، إن العاقلَّ الحصيفَ ليُدركُ أنه كما للبلاءِ أسبابٌ كونية، فلهُ أسبابٌ علميةٌ حقيقية، يُمكنُ استقصاؤُها بالعلم، وبه كذلك يمكنُ العلاج بحول الله، وهذا لا يتنافى مع الكلام السابق؛ 

فاللهُ سبحانَه وتعالى مسببُّ الأسبابِ كلِّها، يمنحُها من يشاءُ متى شاءَ، ولو حَجَبَها عن إنسانٍ فلن يصلَ إليها مهما بلغَ من العلمِ والقدرة، ولذا كانَ اللجوءُ إليهِ والافتقارُ لهُ هو أساسُ الحل.

من أجل ذلك يا عبادَ الله لنستصحبْ معَ رجاءِ اللهِ والتوبةِ والاستغفارِ الفعلَ بالأسبابِ التي قدَّر المتخصصون أنها وسيلةٌ لرفع الوباء، 

ولنكنْ قبلَ ذلك وأثناءَه وبعدَه متوكِّلينَ على اللهِ سبحانَه، معتمدينَ عليه أنْ يحفظَنا بحفظِه ويكلأَنا برعايته، 

فإننا إن توكلنا عليه سبحانه خفتَ الهلعُ واستراحَ البالُ واطمأنَّ القلب،

قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ أي: من فوَّضَ أمره لله كفاه ما أهمَّه، 

فلنعمَ العبدُ المتوكلَ على الله:  ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.

 


الخميس، 23 ديسمبر 2021

عيدا الميلاد ورأس السنة ( شعائر وأحكام)

 عيدا الميلاد ورأس السنة النصرانيين

أصلهما، وشعائرهما، وحكمهما

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على ما هداكم؛ فأكثر الناس قد ضلوا عن دينه، وحادوا عن شريعته، واستوجبوا سخطه ونقمته جل في علاه، وقليل من هداهم إلى ما يحبه ويرضاه من الدين، وكنتم من هذا القليل بفضل الله تعالى عليكم، وهدايته لكم (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة:198] .

أيها الناس: تقع هذه الجمعة المباركة قبل عيدين كبيرين من أعياد الأمة الضالة، التي ضلت عن دين المسيح عليه السلام، 

كانت أيام عيد المسلمين الكبير: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق التي شرعها الله تعالى لهم، وارتضاها من دينهم، وهداهم إليها، وجعلها ظرفا للتقرب إليه بأمهات الأعمال الصالحة من الذكر والدعاء والصيام والحج والأضاحي والهدايا، فما أبعد ما بين أعيادنا أهل الإسلام، وما بين أعياد الأمم الضالة من أهل الكتاب وعباد الأوثان!! فنحمد الله الذي لا إله إلا هو إذ هدانا لذلك، ونسأله أن يثبتنا على ما يرضيه إلى أن نلقاه.

أيها الإخوة: إن الأمة النصرانية أمة دخلت عليهم الوثنية مبكرا؛ فاستقوا من اليونان والرومان كثيرا من شعائرهم الوثنية، وجعلوها من أصل دينهم، ونسبوا بعضها للمسيح عليه السلام أو لحوارييه وهم مما أحدثوا بُرءاء.

ومن أعظم شعائرهم الباطلة ما يحتفلون به كل عام من الأعياد المحدثة التي ليست من دين المسيح عليه السلام، والاحتفال بما يزعمونه عيد ميلاد المسيح عليه السلام المسمى(الكريسمس) وبعده يحتفلون بعيد رأس السنة الميلادية، ولهم في هذين العيدين الكبيرين عندهم جملة من الشعائر والأعمال المملوءة بالشرك والبدعة، والمشتملة على أنواع من الشبهات المضلة، والشهوات المحرمة، والاعتقادات الفاسدة.

وهذه الأعياد الشركية تصل احتفالاتها وشعائرها إلى بيوت المسلمين في كل مكان عبر البث الفضائي، وأضحى كثير من المذيعين ومقدمي البرامج في أكثر الفضائيات والإذاعات يفتتحون برامجهم هذه الأيام بتهنئة جمهورهم بهذه الأعياد المحرمة؛ مما يحتم الحديث عنها، والتحذير منها؛ لعموم البلوى بها، وكثرة الواقعين في إثمها، المغترين بزخرفها؛ نصحا للأمة، وحماية لجناب الشريعة الربانية، 

إن عيد الميلاد عند النصارى قد أحدثوه لما يزعمونه تجديدا لذكرى مولد المسيح عليه السلام، مع أنه لم يثبت لدى مؤرخي النصارى يوم مولده عليه السلام، والخلاف بينهم في عامه كبير جدا!! فكيف بشهره ويومه؟!

وهذا العيد من أقدم أعيادهم؛ ، ومن شعائرهم فيه أنهم يذهبون إلى الكنائس، يقيمون الصلاة، ويرتلون الترانيم، وينشدون الأناشيد، ويقرءون قصة المولد من إنجيلي مَتَّى ولوقا، ويتبادلون الهدايا والتهاني به، وخصوا الأطفال بهدايا البابا نويل، وهو راهب يزعمون أنه يعيش في القطب الشمالي، ويحضر ليلة هذا العيد ليضع لعبا للأطفال النصارى وهم نائمون. وبعض النصارى يحرق كتلة من جذع شجرة عيد ميلاد المسيح، ثم يحتفظون بالـجـــزء غير المحروق، ويعتقدون أن ذلك الحرق يجلب الحظ.

والذي عليه المحققون من مؤرخي النصارى أن عيد الميلاد عيد وثني أحدثه عباد الشمس لما يزعمونه مولدا للشمس التي لا تقهر، فلما تنصر الرومان في القرن الرابع الميلادي، نقله رهبان النصارى من كونه عيدا لمولد الشمس إلى عيدٍ لميلاد المسيح عليه السلام؛ مسايرة للرومان الوثنيين الذين اعتنقوا النصرانية المحرفة، وموافقة لهم في عيدهم؛ ولذا جعلوه في موعده.

وشجرة الميلاد التي هي من رموز عيدهم هذا مأخوذة من الوثنيين؛ إذ يعتقد الفراعنة والصينيون أن الشجرة رمز للحياة السرمدية، وأخذها عنهم الرومان الوثنيون، فلما اعتنقوا النصرانية اخترع الرهبان لها أصلا في دينهم على عادتهم في التحريف والتبديل، وتطويع الدين والشريعة لأهواء الناس ومتطلباتهم.

أما عيد رأس السنة الميلادية فهو يوافق عيدا يسمى عيد (البسترينة) وهي آلهة اتخذها اليونان والرومان الوثنيون رمزا للقوة، فلما اعتنق الرومان النصرانية أقرَّ الرهبان كثيرا من شعائرهم وأعيادهم، وأحدثوا لها أصولا دينية عندهم، فسموا هذا العيد الوثني (عيد الختانة) وزعموا أن المسيح عليه السلام خُتِنَ فيه.

وكثير من الباحثين من نصارى الغرب يقرون بالجذور الوثنية لشعائرهم وأعيادهم وتعبداتهم، وألف مجموعة من باحثيهم كتابا بعنوان(الأصول الوثنية للمسيحية) قالوا فيه: " دارس تاريخ الأديان الوثنية والمسيحية لا بد أن يلاحظ أن الأعياد المسيحية قد وُقتت بذكاء من قبل الكنيسة، وصار يُحتفل بها في أيام الأعياد الوثنية نفسها....لا بد من الملاحظة أن الشعوب الوثنية أحبطت جهود الكنيسة لانتزاع الطابع الوثني عن بعض الأديان، وجعلت ذلك مستحيلا مما أدى بالكنيسة نفسها إلى أن تتبنى التقاليد والشعائر الوثنية، وتخلع عليها ألقابا مسيحية"( والصور والتماثيل دليل ) .اهـ

وللاحتفال بهذين العيدين في هذا الزمن شأن عظيم عند الأمة النصرانية، وانتقل إلى الأمم الأخرى بسبب التقليد والمحاكاة، والتزيين الإعلامي لهما، ولا سيما عيد رأس السنة الميلادية التي تكاد مظاهر الاحتفال به تشمل الأرض كلها بسبب اعتماد التاريخ الميلادي تقويما لأكثر دول العالم، حتى إن المسلمين في أكثر دول أهل الإسلام يحفظون التاريخ الميلادي النصراني، ولا يحفظون التاريخ الهجري الإسلامي الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

وأضحى الاحتفال برأس السنة الميلادية يتصدر نشرات الأخبار، والصفحات الأولى من الصحف والمجلات، وتنقل بالبث المباشر في شتى بقاع العالم احتفالات لحظة انتهاء العام الميلادي من منتصف آخر ليلة منه، وما يصاحبها من أنواع المحرمات والموبقات.

ويُنفق على هذا العيد وشعاراته واحتفالاته من النفقات ما يكفي لإطعام ملايين الجائعين، وإيواء مئات الألوف من اللاجئين والمشردين، ومعالجة المرضى، وتعليم الأميين، وفي إحصاءٍ قبل ست سنوات للدولة النصرانية الأولى في العالم بلغت نفقات هذين العيدين فيها خمسين مليار دولار!! فكيف ببقية دول أوربة والعالم أجمع؟

وكلها نفقات غير مخلوفة، ولا أجر لأصحابها فيها؛ لأنها على أعيادٍ وثنية أدخلها الرهبان في دين النصارى، لا يحبها الله تعالى ولا يرضاها، ومن شارك من المسلمين فيها باحتفال أو حضور أو إهداء أو تهنئة، أو أظهر شيئا من الفرح بها فليعلم أن في ذلك إقرارا لشعائر لا يرضاها الله تعالى لعباده، ولا يحبها منهم، ولا تزيد أصحابها من الله تعالى إلا بعدا، وتستوجب سخط الله عز وجل ونقمته، والله تعالى قد شرع لنا من الأعياد والشعائر التي تقربنا إليه، ويرضى بها عنا ما يغنينا عن تقليد الأمم الضالة في أعيادها الوثنية المحدثة ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ) [الجاثية:20].


أسأل الله تعالى أن يثبتنا والمسلمين على الحق المبين، وأن يرزقنا التمسك بأهداب الدين الحنيف، وأن يجنبنا صراط المغضوب عليهم والضالين، إنه سميع مجيب.

الخطبة الثانية :

أيها المسلمون: في هذا الزمن عمت البلوى بالأعياد الوثنية النصرانية، وصار الاحتفال بها ظاهرا معلنا، وتساهل كثير من المسلمين في حضورها والمشاركة فيها، والإعانة عليها، والتهادي بمناسبتها، والتهاني بها، وهذا من التساهل في شعائر الكفر الظاهرة، ولا يحل لمسلم أن يستهين بذلك.

وواجب على من يؤمن بالله تعالى ويعظم شريعته أن يجتنب حضورها أو المشاركة فيها، أو الإعانة عليها ببيع أدوات العيد وشعائره ورموزه، أو إعارتها أو إجارتها أو هبتها، أو التهادي بمناسبتها، أو قبول هداياها، أو تهنئة الغير بها، أو الرد على تهنئتهم بمثلها، بل الواجب رحمتهم إذ ضلوا عن الهدى، وتمني الهداية لهم، وحمد الله تعالى على نعمته.

وقد أجمع الصحابة والأئمة بعدهم على إنكار أعياد الكفار؛ فإن اليهود كانوا في المدينة وخيبر وما نقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم مشاركتهم في أعيادهم، أو حضورها، أو إعانتهم عليها، أو التهادي بمناسبتها، أو تهنئتهم بها.


ولما فتحت كثير من بلدان النصارى في مصر والشام وغيرها -وكان فيها نصارى بقوا على دينهم ودخلوا في ذمة المسلمين بالجزية- لم ينقل عن أحد من الصحابة وكبار التابعين المشاركة للنصارى في شيء من ذلك، بل إن عمر رضي الله عنه لما صالح نصارى الشام وكتب شروطه عليهم كان منها أن لا يُظهروا الاحتفال بأعيادهم أمام المسلمين، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على هذه الشروط، ولو ساغ مشاركتهم في شيء منها أو تهنئتهم بها لما منعهم من إظهارها.

وكل النصوص الواردة في النهي عن التشبه بالكفار تتناول النهي عن التشبه بهم في أعيادهم أو مشاركتهم فيها، نحو قول الله تعالى( وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16] وقول النبي عليه الصلاة والسلام "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ منهمرواه أبو داود.

وقد اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء على ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم من وجوب اجتناب الكفار في أعيادهم.

فأعيادهم من دين الشيطان الذي لا يحبه الله تعالى ولا يرضاه لعباده دينا ولا عيدا، والواجب على المسلم إنكار ذلك، وليس من الإنكار في شيء التهنئة بها؛ بل هي مشعرة بقبولها والرضا بها.

ولو أن وثنيا سجد لصنم، أو نصرانيا سجد لقسيس أو صليب فهنأه مسلم على سجوده لاستعظم الناس منه ذلك؛ لما في تهنئته من إقرار السجود لغير الله تعالى، ويرون أن الواجب الإنكار عليه ودعوته إلى التوحيد، فإذا كان كذلك فكيف يعجبون من تحريم تهنئة الكفار بأعيادهم، وأعيادهم من أظهر شعائرهم وأبينها؟!

فاحذروا -عباد الله- مشاركة الأمة الضالة في أعيادها وشعائرها، أو إعانتهم عليها، أو التهادي بمناسبتها، أو تهنئة أحد بها؛ لأن في ذلك رضا بشعائر الكفر ومناسكه، والمؤمن لا يرضى أن يُكفر بالله تعالى شيئا، بل ينكر ذلك ويأباه، ويحذر الناس منه، ويدعوهم إلى الحق الذي هداه الله تعالى إليه، وهذا من الاعتزاز بالإسلام والفخر به، والدعوة إليه.


الجمعة، 17 ديسمبر 2021

اللحظة الفارقة

 اللحظة الفارقة                         

يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.. التَخْطِيْطُ السَلِيْمُ عِمَادُ كُلِّ مَشْرُوعٍ نَاجِحٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ لِمَشْرُوعٍ مَا أَنْ يَكُونَ مَآلُهُ النَجَاحَ فَلَا بُدَّ أَنْ تَبْذُلَ كُلِّ مَا فِيْ وُسْعِكَ فِي التَّخْطِيْطِ الـمُسْبَقِ لَهُ، حَتَّى تَقْطِفَ ثَمَرَةَ نَجَاحِهِ بِإِذْنِ اللهِ.

وَلَا شَكَ أَنَّ أَعْظَمَ مَشْرُوعٍ فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ هُوَ مَشْرُوعُ حَيَاتِهِ.. فَإِذَا أَرَدْتَ لِحَيَاتِكَ أَنْ تَكُونَ حَيَاةً نَاجِحَةً دُنْيًا وَأُخْرَى فَلَا بُدَّ أَنْ تَحْرِصَ عَلَى التَخْطِيْطِ السَّلِيْمِ لَهَا مِنْ جَمِيْعِ النَوَاحِيبقدر الإمكان ، تخطيطاً سليماً واقعياً ..

وَإِذَا كَانَ النَّجَاحُ هُوَ نَتَاجُ التَّخْطِيْطِ وَالتَّنْفِيذِ فَإِنَّ بعض النَّجَاحَاتِ كقد تكون بِسَبَبِ مَوْقِفٍ فَارِقٍ، قَطَفَ الإِنْسَانُ ثَمَرَةَ النَّجَاحِ بِسَبَبِهِ.

رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: (فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ).

هُوَ مَوْقِفٌ وَاحِدٌ.. كَانَ السَبَبَ فِي أَنْ تُغْفَرَ ذُنُوبُ هَذَا الرَّجُلِ.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بينما رجل يمشي بطريق ، وجد غصن شوك ، فأخذه ، فشكر الله له فغفر له ) رواه البخاري ومسلم

وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : ( مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق ، فقال : والله لأنحّين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم ، فأدخل الجنة ) رواه مسلم .

 وفي رواية أخرى : ( لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق ، كانت تؤذى الناس ) 

هَذِهِ اللَّحَظَاتُ الفَارِقَةُ قَدْ تَكُونُ عَلى شَكْلِ اِبْتِلَاءٍ وَاِمْتِحَانٍ، وَقَدْ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ جِدٍّ وَاِجْتِهَادٍ، أَوْ تَكُونُ لَحَظَاتِ إِخْلَاصٍ وَتَفانٍ.

لَوْ تَأَمَّلْنَا حَدِيْثَ السَّبْعَةِ الذِيْنَ يُظِلُّهُمُ اللهُ بِظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ..

لَوَجَدْنَا ثَلَاثَةً مِنْهُ سَيَنْعَمُونَ بِالظِّلِّ بِسَبَبِ لَحْظَةٍ فَارِقَةٍ: رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، بِسَبَبِ مَا وَقَرَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الـمَحَبَّةِ الخَالِصَةِ وَالخَشْيَةِ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، 

وَرَجُلٌ دَعَتْهُ اِمْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ، فَكَانَتِ اللَّحْظَةُ الفَارِقَةُ لَهُ نَجَاحُهُ فِي الاِبْتِلَاءِ وَالاِمْتِحَانِ، 

وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، فَكَانَتِ اللَّحْظَةُ الفَارِقَةُ لَهُ إِخْلَاصُهُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَـمِيْنَ.

هَذِهِ اللَّحَظَاتُ الفَارِقَةُ لِهَؤُلَاءِ الثَلَاثَةِ وَإِنْ جَاءَتْ فِي صُورَةِ لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّهَا فِي وَاقِعِ الأَمْرِ نَتِيْجَةَ بِنَاءٍ طَوِيْلٍ، فَالذِي ذَكَرَ اللهَ خَاليًا مَا فَاضَتْ عَيْنَاهُ إِلَّا بِمَا اِجْتَمَعَ فِي قَلْبِهِ عَبْرَ الأَيَامِ واللَّيَالِي وَالـمَوَاقِفِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَجَاءِ مَا عِنْدَهُ، وَبِمَا وَقَرَ فِي قَلْبِهِ مِنِ اِسْتِعْظَامِ ذَنْبِهِ، وَتَذَكُّرِهِ لِمَا اِقْتَرَفَ، وَمَا يُؤَمِّلُهُ عِنْدَ رَبِّهِ مِنَ الثَوَابِ العَظِيمْ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وَكَذَلِكَ الحَال بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ دَعَتْهُ الـمَرْأَةُ وَالـمُتَصَدِّقُ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا الأَمْرُ يَصْدُقُ عَلَى مَوَاقِفِ الآخْرَةِ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَى مَوَاقِفِ الدُّنْيَا، فَنَجَاحُ الطَّالِبُ فِي مَادَّةٍ دِرَاسِيَّةٍ وَإِنْ كَانَ بِسَبَبِ جِدِّهِ وَاِجْتِهَادِهِ طَوَالَ الفَصْلِ الدِّرَاسِيِّ، إِلَّا أَنَّ اللَّحْظَةَ الفَارِقَةَ هِي لَحْظَةُ الاِخْتِبَارُ، فَلَوْ جَدَّ وَاِجْتَهَدَ طِيْلَةَ الفَصْلِ الدِرَاسِيِّ وَأَخْفَقَ فِي الاِخْتِبَارِ فَإِنَّ نَتِيْجَتَهُ الرُسُوبَ فِي هَذِهِ الـمَادَّةِ.

وَكَذَلِكَ الـمُتَقَدِّمُ لِوَظِيْفِةٍ، فَإِنَّ اِحْتِمَالَ قَبُولِهِ فِي الوَظِيْفَةِ يَنْبَنِي بِدَرَجَةٍ كَبِيْرَةٍ عَلَى أَدَائِهِ فِي الـمُقَابَلَةِ الشَخْصِيَةِ، وَالتِيْ هِي بِالنِّسْبَةِ لَهُ اللَّحْظَةُ الفَارِقَةُ لِمُسْتَقْبَلِ حَيَاتِهِ الوَظِيْفِيَةِ، مَعَ أَنَّ أَدَاءَهُ فِي هَذِهِ الـمُقَابَلَةِ سَيَكُونُ بِالتَّأْكِيْدِ مَبْنِيًا عَلَى عُلُومِهِ وَمَهَارَاتِهِ الحَيَاتِيَةِ التِي كَانَ يُحَصِّلُهَا فِي مَاضِي أَيَامِهِ.

وَإِذَا كَانَتِ اللَّحْظَةُ الفَارِقَةُ قَدْ تَأْتِي فِي صُورَةِ اِمْتِحَانٍ أَوْ جِدٍّ وَاِجْتِهَادٍ، فَإِنَّهَا أَيْضًا قَدْ تَأْتِي عَلَى صُورَةِ فُرْصَةٍ يَقْتَنِصُهُا الإِنْسَانُ الـمُوَفَّقُ، 

أَخْرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيْثِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِلَا حِسَابَ وَلَا عَذَابَ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: (أَنْتَ مِنْهُمْ)، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ ، قَالَ: (سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ).

هِي فُرْصَةُ.. فَلَيْسَ بَيْنَ طَلَبِ عُكَّاشَةَ وَصَاحِبِهِ إِلَّا لَحَظَاتٍ، لَكِنَّ الفُرْصَةَ كَانَتْ مِنْ نَصِيْبِ مُقْتَنِصِهَا.

إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاِغْتَنِمْهَا *** فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ

روى الإمام أحمد (12482) ، وابن حبان (7159) ، والحاكم (2194) عَنْ أَنَسٍ : " أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ : إِنَّ لِفُلَانٍ نَخْلَةً ، وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا ، فَأْمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِي حَتَّى أُقِيمَ حَائِطِي بِهَا .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ ) .
فَأَبَى .
فَأَتَاهُ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَقَالَ: بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي .
فَفَعَلَ .
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي. قَالَ: فَاجْعَلْهَا لَهُ ، فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ ) قَالَهَا مِرَارًا.
فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ .
فَقَالَتْ : رَبِحَ الْبَيْعُ - أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا " .
وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم " ، وكذا صححه الألباني في " الصحيحة "(2964) على شرط مسلم .

الخطبة الثانية :

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مَعَاذٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ،

مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَقُولُ: حَدِّثُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ سَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ؟ فَيَقُولُ:
أُصَيْرِمٌ، بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ. قَالَ الْحُصَيْنُ: فَقُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ أَسَدٍ: كَيْفَ كَانَ شَأْنُ الْأُصَيْرِمِ؟ قَالَ: كَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ عَلَى قَوْمِهِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ، بَدَا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ، فَعَدَا حَتَّى دَخَلَ فِي عُرْضِ النَّاسِ، فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ. قَالَ: فَبَيْنَا رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَلْتَمِسُونَ قَتَلَاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ إذَا هُمْ بِهِ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا لَلْأُصَيْرِمُ، مَا جَاءَ بِهِ؟ لَقَدْ تَرَكْنَاهُ وَإِنَّهُ لِمُنْكِرٍ لِهَذَا الْحَدِيثَ، فَسَأَلُوهُ مَا جَاءَ بِهِ، فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَا عَمْرُو؟ أَحَدَبٌ عَلَى قَوْمِكَ أَمْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: بَلْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، آمَنْتُ باللَّه وَبِرَسُولِهِ وَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ أَخَذْتُ سَيْفِي، فَغَدَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَاتَلْتُ حَتَّى أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فِي أَيْدِيهِمْ. فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَإنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

 

يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..  وَكَمَا أَنَّ اللَّحَظَاتِ الفَارِقَةِ قَدْ تَكُونَ فِي نَجَاحٍ وَفَلَاحٍ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ لَحْظَةً فَارِقَةً فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ يَهْلَكُ بِهَا الإِنْسَانُ، أَوْ تُودِي بِهِ لِلْفَشَلِ.

رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ).

وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ).

هِرَّةٌ وَاحِدَةٌ.. وَكَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ.. لَكِنَّهَا كَانَتْ سَبَبًا فِي دُخُولِ جَهَنَمَ، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.

قَدْ تَكُونُ اللَّحْظَةُ الفَارِقَةُ سَلْبًا فِي حِيَاتِهِ هِي تَجْرِبَتُهُ لِأَوَّلِ سِيْجَارَةٍ، أَوْ أَوَّلِ جُرْعَةٍ مِنْ خَمْرٍ أَوْ مُخَدِّرٍ، أَوْ أَوَّلِ سَفْرَةٍ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ حَلْقِ لِحْيَتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.. الـمُهِمُّ أَنَّ بِدَايَةَ سُقُوطِهِ كَانَتْ مِنْ لَحْظَةٍ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ.. التَخْطِيْطُ مِنْ رَكَائِزِ النَّجَاحِ، وَاللَّحَظَاتُ الفَارِقَةُ فُرَصٌ سَلْبًا أَوْ إِيْجَابًا.

قَدْ تَكُونُ اللَّحْظَةُ الفَارِقَةُ فِي حَيَاتِناَ لَمْ تَأْتِ بَعْدُ، لَا تَنْتَظِرْ أَنْ تَسْنَحَ لَكَ الفُرْصَةُ غَيْرُ العَادِيَّةُ، بَلِ اِنْتَهِزِ الفُرَصَ العَادِيَّةَ وَاِجْعَلْهَا عَظِيمَةً.