إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 16 مايو 2015

الصبر عند المصائب

( الصبر عند المصائب انا لله وانا اليه راجعون )

فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت و الحازم من بادر بالعمل قبل حلول الفوت, والمسلم من استسلم للقضاء والقدر, والمؤمن من تيقن بصبره الثواب على المصيبة والضرر
كرب الزمان وفقد الأحبة خطب مؤلم, وحدث مفجع, وأمر مهول مزعجبل هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان نار تستعر, وحرقة تضطرم تحترق به الكبد ويُفت به العضد إذ هو الريحانة للفؤاد والزينة بين العباد, لكن مع هذا نقول:
فلرب أمـر محـزن    ***    لك في عواقبه الرضا 
ولربمـا اتسع المضيق  ***     وربما ضاق الفضـا
كم مسرور بنعمة هي داؤهومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه, كم من خير منشور وشر مستور, ورب محبوب في مكروه, ومكروه في محبوب قال تعالى:{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }(4).
لو استخبر المنصف العقل والنقل لأخبراه أن الدنيا دار مصائب وشرور, ليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بكدر, فما يُظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب, وعمارتها وإن حسنت صورتها خراب, والعجب كل العجب في من يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللدغ واللسع؟
وأعجب منه من يطلب ممن طُبع على الضر النفع.
طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها    ***   صفواً من الأقذاء والأكدارِ
هل رأيت؟بل هل سمعت بإنسانٍ على وجه هذه الأرض لم يصب بمصيبة دقت أو جلت؟ الجواب معلوم: لا وألف لا, ولولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس كما قال أحد السلف.
ثمانية لا بـد منها على الفتى    ***   ولا بد أن تجري عليه الثمانية
سرور وهم, واجتماع وفرقة     ***   وعسر ويسر, ثم سقم وعافية
إن مما يكشف الكرب عند فقد الأحبة التأمل والتملّي والتدبر والنظر في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, ففيهما ما تقرّ به الأعين, وتسكن به القلوب وتطمئن له تبعاً لذلك الجوارح مما منحه الله, ويمنحه لمن صبر ورضي واحتسب من الثواب العظيم والأجر الجزيل, فلو قارن المكروب ما أخذ منه بما أعطى لا شك سيجد ما أعطي من الأجر والثواب أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ولو شاء الله لجعلها أعظم وأكبر وأجل، وكل ذلك عنده بحكمة وكل شيء عنده بمقدار)
قالت أمُّ سلمةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لما عَزَمَ أبو سلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على الهِجْرَةِ إلى المَدينةِ أعَدَّ لي بعيراً، ثمَّ حَمَلَني عليه، وجعلَ طِفْلَنا سَلَمَةَ في حِجْري، ومضَى يقودُ بِنا البعيرَ وهو لا يَلْوي على شيءٍ، وقبلَ أن نَفْصِلَ عَنْ مَكَّةَ، رآنا رِجالٌ مِنْ قَوْمي بني مَخزومٍ فَتَصَدَّوْا لنا، وقالوا لأبى سَلَمَةَإن كنتَ قد غَلبْتَنا على نَفسِك، فما بالُ امْرَأتِكَ هذه؟، وهي بِنْتُنا، فعلامَ نَتْرُكُكَ تأخُذُها مِنَّا وتسيرُ بها في البلادِ، ثم وَثَبوا عليه، وانْتَزَعوني منه انْتِزاعاً.

وما إن رآهم قومُ زوجي بنو عَبْدِ الأسَدِ يأخذونَني أنا وطِفْلي، حَتَّى غَضِبوا أشَدَّ الغَضَبِ، وقالوالا واللّهِ لا نتْرُكُ الوَلَدَ عِنْدَ صاحِبَتِكم بعد أن انْتزعتُمُوها من صاحِبِنا انْتِزاعاً .. فهو ابْنُنا ونحن أولى به، ثم طَفِقُوا يتجاذَبون طِفْلي سـلمةَ بيْنَهم عَلَى مَشْهَدٍ منِّي حتَّى خَلَعوا يَدَهُ وأخَذوه.

وفي لَحَظَاتٍ وَجَدْتُ نَفْسِي مُمَزَّقَةَ الشَّمْلِ وحيدةً فريدةً، فزوجي اتَّجه إلى المدينةِ فِراراً بدينه ونَفْسِه .. وولدي اخْتَطَفَه بنو عبدِ الأسَدِ من بينِ يَدَيَّ مُحَطَّماً .. أما أنا فقد اسْتَوْلَى علَّي قَوْمي بنو مخزومٍ، وجعلوني عِنْدَهم، فَفُرِّقَ بَيْني وبينَ زَوْجي وَبَيْنَ ابني في ساعةٍ.

ومُنذ ذلك اليومِ جَعَلْتُ أخرُجُ كُلَّ غَداةٍ إلى الأبطَحِ، فأجْلِسُ في المكانِ الذي شَهِدَ مأسـاتي، وأستعيدُ صورةَ اللَّحظاتِ التي حِيلَ فيها بيني وبينَ وَلدي وزَوْجِي، وأظَلُّ أبكي حتَّى يُخيّمَ عليَّ الليلُ.

وبقيتُ على ذلك سَنةً أو قريباً مِنْ سَنةٍ إلى أنْ مَرَّ بي رَجُلٌ من بني عَمِّي، فَرَقَّ لحالي ورَحِمَني وقالَ لِبني قوميألا تُطْلِقونَ هذه المسكينةَ، فَرَّقْتُم بينَها وبينَ زَوْجِها وبينَ ولدِها، وما زالَ بهم يَسْتَلينُ قلوبَهم ويَسْتَدِرُّ عَطْفَهم، حتَّى قالوا لياِلحقي بزوجِك إن شِئْتِ.

قالتْ: ولكِنْ كيفَ لي أن ألْحَقَ بِزَوجي في المدينةِ وأترُكَ ولدي وفِلْذَةَ كَبِدي في مكَّةَ عنْدَ بني عبدِالأسدِ، فَكيفَ يمكنُ أن تَهْدَأ لي لوعَةٌ أو تَرْقأ لعيني عَبْرَةٌ وأنا في دارِ الِهجْرَةِ وولدي الصغيرُ في مكَّةَ لا أعرِفُ عنه شيئاً؟.

ورَأى بعضُ النـاسِ ما أعالجُ مِنْ أحْزاني وأشْجاني فرقَّت قلوبُهم لحالي، وكلَّموا بني عبدِ الأسَدِ في شَأني واسْتَعْطفوهم عليَّ فَرَدُّوا لي وَلَدي سَلَمَةَ.

ثُمَّ لم أشأ أنْ أترَيَّثَ في مَكَّةَ حتَّى أجِدَ مَنْ أسافِرُ مَعَه؛ فقد كنتُ أخشى أنْ يَحْدُثَ ما ليس بالحِسْبَانِ فَيعوقَني عَنِ اللَّحاقِ بِزَوجي عائِقٌ، لذلك بادرتُ فأعْدَدْتُ بَعيري، ووضَعْتُ ولدي في حِجْري، وخَرَجْتُ مُتَوَجِّهَةً نحوَ المدينةِ أريدُ زَوْجي، وما مَعي أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ.

وما إن بَلَغْتُ التَّنعيمَ حتَّى لقيتُ عُثْمانَ بنَ طلحةَ فقالَ: إلى أين يا بِنْتَ زادِ الراكِـبِ؟، فقلتُ: أريدُ زَوْجي في المدينةِ، قالَ: أوَما مَعَكِ أحدٌ؟، قلتُ: لا واللّهِ إلا اللّهَ ثم بُنَيَّ هذا، قال: واللّهِ لا أترُكُكِ أبداً حتَّى تَبْلُغي المدينةَ، ثم أخَذَ بِخطامِ بعيري وانْطَلَقَ يَهْوي بي.

تقولُ: فواللّهِ ما صَحِبْتُ رجلاً من العَرَبِ قَطُّ أكْرمَ مِنْه ولا أشْرَفَ، كانَ إذا بَلَغ منزلاً من المنازِلِ يُنيخُ بَعيري، ثم يَسْتَأخرُ عنِّي، حتَّى إذا نَزَلْتُ عن ظهْرِه واسْتَوَيْتُ على الأرضِ دنا إليه وحَطَّ عَنْه رَحْلَه، واقْتَادَه إلى شَجَرَةٍ وقيَّده فيها، ثم يَتَنَحَّى عَنِّي إلى شَجَرَةٍ أخْرَى فيَضْطَجعُ في ظلِّها، فإذا حانَ الرَّواحُ قامَ إلى بعيري فأعَدَّه، وقدَّمه إليَّ، ثم يَسْتَأخِرُ عَنِّي ويقول: ارِكَبي، فإذا رَكِبْتُ، واسْتَوَيْتُ على البعيرِ، أتى فأخذَ بِخِطامِه وقادَه.

وما زال يصْنَعُ بي مثلَ ذلك كلَّ يوم حتَّى بَلَغْنا المدينةَ، فلمَّا نَظَرَ إلى قريةٍ بقُبَاء لبني عمرو بنِ عوِف قالَ: زوجُك في هذه القريةِ، فادْخُليها على بَرَكةِ اللّهِ، ثم انصَرَف راجعاً إلى مكَّةَ.

اجْتَمَعَتْ أمُّ سلمةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِزوجِها وابْنِها مرةً أخرى وقَرَّتْ عَينُها بَعدَ ذلكَ البَلاءِ العَظيمِ، ولكن بعدَ وقتٍ قصيرٍ جُرِحَ أبو سـلمةَ في غَزوَةِ أُحدٍ جُرْحاً بليغاً، فَظَلَّ أبو سلمةَ على فِراشِ مَرَضِهِ أياماً، وفي ذاتِ صباحٍ جاءَه رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ليَعودَه، فلم يَكَدْ ينتهي من زيارتِه ويجاوزُ بابَ داره، حتَّى فارقَ أبو سلمةَ الحياةَ، فأغْمَضَ النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بِيَديه الشريفتين عَيْني صاحبِه، ورَفَعَ طَرْفَه إلى السماءِ وقالاللَّهُمَّ اغْفِرْ لأبي سَلَمَةَ، وارْفَعْ دَرَجَتَه في المقرَّبين، واخلُفْه في عَقِبهِ في الغابرين، واغْفِرْ لنا وله يا ربَّ العالمين، وافسَحْ له في قَبْرِه، ونوِّرْ له فيه.

فرجعَ الهمُّ إلى أمِّ سلمةَ وأصْبَحَتْ حَزينةً وَحيدةً إذْ لم يَكُنْ لها في المدينةِ أحدٌ من ذويها غيرَ صِبيَةٍ صِغارٍ، وكَانتْ قَدْ سَمِعْتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا،‏ إِلاَّ أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا)،
قَالَتْ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟، أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،‏ ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، قَالَتْ: فَخَطَبني أبو بكرٍ ثمَّ عُمرُ ثمَّ أَرْسَلَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ، ثم تزوّج رسولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمِّ سَلمةَ فاستجابَ اللّهُ دعاءَها، وأخْلَفَها خيراً من أبى سَلَمَةَ، ومنذ ذلك اليومِ لَمْ تَبْقَ هِنْدُ المَخْزُوميَّةُ أمّاً لِسَلَمَةَ وحدَه؟، وإنما غَدَتْ أمّاً لجميعِ المؤمنينَ في كُلِّ زمانٍ ومَكانٍ.

عبادَ اللهِ .. كَثيرٌ مِنَّا يعرفُ هذا الحديثَ .. ويحفظُ ذلكَ الدُّعاءَ .. ولكن من مِنَّا يقولُه إذا وقَعتْ المُصيبةُ؟ .. ومن مِنَّا يقولُه وهو مؤمنٌ بوعدِ اللهِ تعالى إيماناً صادقاً لا يتخلَّلُه أدنى شكٍ أو ريبٍ؟ .. ونحن نعلمُ علمَ اليَقينِ أننا في دارِ الابتلاءِ والامتحانِ .. كما قالَ سُبحانَه في كتابِه: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

ماذا ينتظرُ الإنسانُ في مُستَقبلِه؟ .. هَلْ يَنْتَظِرُ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟.

فهل هيَّأنا أنفسَنا على استقبالِ الأقدارِ المُؤلمةِ؟ .. لقد وَعَدَ اللهُ تعالى ووعدُه الحقُّ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) .. وأخبرَ أن الأجرَ والبُشرى لأهلِ الصَّبرِ والثَّباتِ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) .. وهم (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)، فما هو أجرُّهم؟، (أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ) ثناءٌ من المَلكِ العزيزِ في الملأِ الأعلى، (وَرَحْمَةٌ) من العظيمِ الرَّحيمِ، (وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) وهِدايةٌ وتوفيقٌ في الدُّنيا والآخرةِ.

عن عمرَ بنِ الخَطابِ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُ أنه قالَ: (ما أصابتني مُصيبةٌ إلا وَجدتُ فيها ثلاثَ نِعَمٍ: الأولى: أنها لم تكنْ في ديني، والثانيةُ: أنها لم تكنْ أعظمَ ممَّا كانتْ، والثالثةُأن اللهَ يجازي عليها الجزاءَ الكبيرَ، ثمَّ تلا قولَه تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .. هكذا يُصبِّرُ أهلُ الإيمانِ أنفسَهم .. شكرٌ وحمدٌ .. وانتظارٌ للوَعدِ.

عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَبَاهُ وَقَعَتْ فِي رِجْلِهِ الْآكِلَةُ، فَقِيلَ: أَلَا نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ، فَقَالُوا: نَسْقِيكَ شَرَابًا يَزُولُ فِيهِ عَقْلُكَ؟، فَقَالَ: امْضِ لِشَأْنِكَ، مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ خَلْقًا يَشْرَبُ مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ حَتَّى لَا يَعْرِفَ بِهِ رَبَّهُ، فَوُضِعَ الْمِنْشَارُ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، فَمَا سَمِعْنَا لَهُ حِسًّا، وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فَعَزَّاهُ فَقَالَبِأَيِّ شَيْءٍ تُعَزِّينِي أَبِرِجْلِي؟، قَالَ: لَا وَلَكِنْ بِابْنِكَ قَطَعَتْهُ الدَّوَابُّ بِأَرْجُلِهَا، فَقَالَ عُرْوَةُ: لَئِنْ أَخَذْتَ لَقَدْ أَبْقَيْتَ وَلَئِنِ ابْتَلَيْتَ لَقَدْ عَافَيْتَ، وَمَا تَرَكَ جُزْءَهُ بِالْقُرْآنِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.

أهؤلاءِ بشرٌ؟ .. عندَهم مشاعرُ وأحاسيسُ أم هم حجرُ؟ .. يموتُ ابنُه وتُقطعُ رِجلُه بالمنشارِ .. ولا يفوتُه تلكَ الليلةَ القيامُ في الأسحارِ .. إنه الإيمانُ بقضاءِ اللهِ تعالى وقدرِه .. وما أدراكَ ما الإيمانُ.

واعلموا أن دمعَ العينِ وحُزنَ القلبِ عِندَ المُصيبةِ ليسَ ممنوعاً إذا لم يُصاحبْه سَخطٌ بالقلبِ ونياحةٌ باللِّسانِ .. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: (يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ).

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

عنْ أَنَسٍ ‏رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُ قال: كَانَ ابْنٌ لأبي طلْحةَ رضي اللَّه عنه يَشْتَكي، فخرج أبُو طَلْحة رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُ، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لأهْلِهَا: لا تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بابنِهِ حتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحةَ قال: ما فَعَلَ ابنِي؟ قَالَت أُمُّ سُلَيْم وَهِيَ أُمُّ الصَّبيِّ: هو أَسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً فَأَكَلَ وشَرِبَ، ثُمَّ تَصنَّعتْ لهُ أَحْسنَ ما كانتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذلكَ، فَوقَعَ بِهَا، فَلَمَّا أَنْ رأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعِ وأَصَابَ مِنْها قَالتْ: يا أَبَا طلْحةَ، أَرَايْتَ لَوْ أَنَّ قَوْماً أَعارُوا عارِيتهُمْ أَهْل بيْتٍ فَطَلبوا عاريَتَهُم، ألَهُمْ أَنْ يمْنَعُوهَا؟ قَالَ: لا، فَقَالَتْ: فاحتسِبْ ابْنَكَ، قَالَ: فغَضِبَ، ثُمَّ قَالَتركتنِي حتَّى إِذَا تَلطَّخْتُ ثُمَّ أَخْبرتِني بِابْني، فَانْطَلَقَ حتَّى أَتَى رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فأخْبَرهُ بما كَانَ، فَقَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (بَاركَ اللَّه لكُما في ليْلتِكُما).

فَولَدتْ غُلاماً فقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حتَّى تَأَتِيَ بِهِ النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، وبَعثَ مَعهُ بِتمْرَات، فقال صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (أَمعهُ شْيءٌ؟)، قال: نعمْ، تَمراتٌ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَمضَغَهَا، ثُمَّ أَخذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا في في الصَّبيِّ ثُمَّ حَنَّكَه وسمَّاهُ عبدَ اللَّهِ.

يا أهلَ الإيمانِ ..

امرأةٌ يموتُ ابنُها الصَّغيرُ، فتُغطيهُ في غرفةٍ من غُرفِ البيتِ .. وتأتي إلى زوجِها بالعشاءِ .. وتتزيَّنُ له ويُعاشرُها تلكَ الليلةَ .. ولا يظهرُ عليها شيءٌ من الجَزعِ أو الحُزنِ أو الهَمِّ؟ .. إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ .. فكانَ العِوضُ في الدُّنيا كما قالَ راوي القِصَّةِفكانَ أَنْ ولِدَ لعبدِ اللهِ هذا عشرةُ ذُكورٍ، كلُّهم يَحفظونَ القرآنَ.

فلا إلهَ إلا اللهُ .. ما الذي جعلَ أمَّ سُلَيْمٍ تَثبتُ في موقفٍ يتساقطُ فيه الرِّجالُ .. وما الذي جعلها تحملُ حِملاً تتقطَّعُ له أعناقُ الجِمالِ .. إنه الاستسلامُ والإيمانُ بقضاءِ اللهِ تعالى وقدرِه .. وما أدراكَ ما الإيمانُ.
روى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه:( أنه كان رجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له, فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أتحبه؟فقال: يا رسول الله, أحبك الله كما أحبه؛ فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما فعل ابن فلان؟"  فقالوا: يا رسول الله مات, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه:"أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك؟" فقال رجل: يا رسول الله, أله خاصة أم لكلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل لكلكم ")
وكان للمحدث إبراهيم بن إسحاق الحربيّ(ت285هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ ابن له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن ولقّنه من الفقه جانبًا كبيرًا, ثم مات الولدقال محمد بن خلف: جئت أعزيه فقال:الحمد لله، والله لقد كنت على حبي له أشتهي موته؛ قلت له: يا أبا إسحاق, أنت عالم الدنيا تقول ذلك في صبيٍ قد حفظ القرآن ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم, أو يخفى عليك أجر تقديمه؟ 
ثم قال: وفوق ذلك, فلقد رأيت في منامي وكأن القيامة قامت وكأن صبياناً في أيديهم قلالفيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم وكان اليوم حاراً شديد حرّه.
قال فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، قال: فنظر إلي، وقال: لست أبي، قال قلت: من أنتم؟ قال: نحن الصبية الذين متنا واحتسبنا آباؤنا، ننتظرهم لنستقبلهم فنسقيهم الماء, قال: فلهذا تمنيت موته..لتكن ( انا لله وانا اليه راجعون ) على لسانك خارجة من قلبك راضياً بقضاء ربك تسعد في الدنيا
1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق