إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 27 أغسطس 2021

مكانة الصحابة وفضلهم

 ( مكانة الصحابة وفضلهم ) 

الخطبة الأولى:

 أما بعد:  حديثنا معكم أيها الاخوة في هذه الخطبة عن أفضلِ جيلٍ عرفتُه البشريةُ عن جيلٍ اختارهم الله لصحبة نبيه -عليه الصلاة والسلام- عن جيلٍ وصفهم الله –تعالى- بأعلى الأوصاف وأحسنِها، قال -تعالى- في وصف أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلاممُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ)[الفتح: 29]؛ فذكر الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية ثلاث صفاتٍ للصحابة -رضي الله عنهم-:

 ذكرَ صفتَهم مع أعدائهم من الكفار بأنهم أشداءُ عليهم، وذكر صفتَهم فيما بينهم وأنهم رحماءُ فيما بينهم، وذكر صفتهم فيما بينهم وبين ربهم، وأنهم يتقلبون في صلاتهم ما بين الركوع والسجود مخلصين لربهم يريدون فضلَه وثوابه.

وأخبر الله -سبحانه وتعالى- من فوق سبع سماوات أنه رضي عنهم قال تعالىلَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)[الفتح: 18].

 عباد الله: إن الحديثَ عن الصحابةِ -رضي الله عنهم- وتدارسَ أخبارِهم وسيرِهم فيه فوائدُ عظمية؛ منها: 

الاقتداء بهم، وازدياد الإيمان بذكرهم، ومحبتهم، وهذا من الإيمان كما جاء في الصحيحين أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال "حبُّ الأنصارِ آيةُ الإيمان وبغضُهم آيةُ النفاق"؛ أي: علامة النفاق، وكما قال -عليه الصلاة والسلام "لا يحبُهم إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافق؛ من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" (متفق عليه).

 وأخرج أبو نُعيم في الحِلية  عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: "مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانُوا خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَبَّرَهَا قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا،

قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ -صلّى الله  عليه وسلم- وَنَقْلِ دِينِهِ، فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ فَهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ".

 وكان عبد الله بن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له ألا تستوحش؟ فقال: "كيف أستوحش وأنا مع النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه"؛ يعني أنه يقرأ في الكتب التي عنده سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرة أصحابه.

 وإليك شيء من أخبارهم ومواقفهم:

أولاً: إجلالهم للنبي -عليه الصلاة والسلام- ومحبتهم له وتقديم محبته على محبة كل أحد جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأنصاري أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَزَلَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي السُّفْلِ -أي في أسفلِ بيت أبي أيوب لأن هذا أسهل لخروجه ودخوله وللقاء من يأتيه - وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعِلْوِ -في أعلى البيت- قَالَ فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً فَقَالَ نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ - أي جانب البيت يريد أن لا يكون هو وزوجته فوق النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -: كيف أكونُ فوقكم يا رسول الله؟ يريد أن ينتقل النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أعلى البيت وهو زوجته ينزلان في أسفل البيت- فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السُّفْلُ أَرْفَقُ -أي أسهل لي في الدخول والخروج- فَقَالَ لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْعُلُوِّ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَعَامًا فَإِذَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ -رجاء أن تُصيبه بركة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم أما غيرهُ فلا يجوز التبرك بآثارهم-.

 وعندما نزل قول الله -سبحانه وتعالى- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الحجرات: 2]،

افْتَقَدَ  النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ- وكان ثابت خطيب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: شَرٌّ- أي: وقعتُ فيه - ثم تحدث عن نفسه فقال: كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ مُوسَى: فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: "إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ". 

 وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية أرسل المشركون عروة بن مسعود لكي يتصالح مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَيْنَيْهِ قَالَ: "فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ".

 فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "أَيْ قَوْمِ! وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحَمَّدًا؛ وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ".

 ثانياً: من مواقفهم  في بذل المال -وتعلمون  عباد الله أن المال محبوب للنفوس ولا يُبذلُ المحبوبُ إلا لشيءٍ أحب- 

في صحيح البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)؛ 

قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ"؛ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ".

 ثالثاً: ومن مواقفهم تقديمُ طاعةِ اللهِ ونبيه -عليه الصلاة والسلام-  على طاعة كل أحد ولو كان أقربَ قريب؛ ففي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قَالَ: حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ -يعني أمه وذلك عندما أسلم- أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ، وَلَا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ قَالَتْ: زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ، وَأَنَا أُمُّكَ، وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا. قَالَ: مَكَثَتْ ثَلَاثًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنْ الْجَهْدِ، فَقَامَ ابْنٌ لَهَا يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ فَسَقَاهَا فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةَ: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[لقمان: 15].

 وفي رواية عند الطبراني: "فلما رأيتُ ذلك قلتُ: يا أماه تعلمين والله لو كان لك مئةَ نفسٍ فخرجت نفسًا نفسًا ما تركتُ ديني هذا لشيء؛ فإن شئتِ فكُلِي، وإن شئتِ لا تأكلي" فأكلتْ.

 الخطبة الثانية:

عباد الله: لقد تمكَّن أعداء الإسلام في بعض القنوات والصحف ومواقع الإنترنت وغيرِها من وسائلِ الإعلام من نشرِ سمومِهم وعقائدِهم الفاسدة وتشكيكِ الناسِ في دينِهم وللأسفِ الشديدِ أنهم وجدوا من يستضيفُهم في بيته ويدخلُهم على أهله وأولاده، وإنَّ من العقائدِ الفاسدةِ عقائدَ الذين يسبُّون أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- ويلعنون أبا بكر وعمر -رضي الله عنهم- من على منابرهم  فما موقفنا عباد الله من مثل هذه القنوات، وما موقفنا من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟

 أما موقفنا من هذه القنوات فإنه يحرم علينا إدخالها إلى بيوتنا؛ لأن سبَّ الصحابة -رضي الله عنهم- من المنكرات العظيمة، ولأنَّ المسلمَ ربما يتأثر بهذه الشبهات التي تُلْقَى فانظر أيها الأب إلى الذي في بيتك فكلُّ ما لا يرضي الله أخرجه من بيتِك؛ لأنك أنت ربُّ الأسرةِ والمسئول عنها؛ يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار: "ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً لم يُحطها بنصحه؛ إلا حرم الله عليه الجنة".

 أما بالنسبة لموقفنا من الصحابة -رضي الله عنهم- فالواجب علينا محبتهم، وبغض من يبغضهم ويسبهم؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: "لا تسبُّوا أصحابي؛ فإن أحدَكم لو أنفقَ مثلَ أحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه".

 والواجب علينا الكفُّ عنهم والاستغفار لهم؛ لقد ذكر الله -عز وجل- في سورة الحشر المهاجرين، ثم ذكر الأنصار، ثم ذكر المؤمنين الذي يأتون بعدهم فقال: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر: 10].

 وأما بالنسبة لما شجر بين الصحابة -رضي الله عنهم- فأكثر ما يُذكر كذبٌ لا صحة له، ومنها ما زِيدَ فيه وبُدِّلَ، وأما ما كان صحيحًا فإنهم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون أو مجتهدون مخطئون.

 ولنعلم عباد الله أن سبّ الصحابةِ -رضي الله عنهم-: هو قدح في الله -سبحانه وتعالى- حيث اختار كما يزعمون أصحابًا لنبيه بهذه الصفة والعياذ بالله.

 وكذلك قدح في النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث كان أصحابُه أناسًا بهذه الصفة المذمومة كما يزعمون.

 وكذلك قدحٌ في شريعة الإسلام؛ حيث أن الذين نقلوا لنا هذا الدين وحدّثوا بالأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هم من يصفونهم بالردة والكذب، والعياذ بالله.

 فنسألُ الله أن لا يجعل في قلوبنا غلاً على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رضيالله عنهم أجمعين، وجعلنا ممن يسلكون طريقهم فيفوزون فوزًا عظيمًا.

الخميس، 19 أغسطس 2021

الغيرة على المحارم والأعراض

 الغيرة على المحارم والأعراض


الخطبة الأولى :

:.أما بعد فيا عباد الله : في منتصف شهر شوال من الثانية للهجرة ، وبينما امرأة مسلمة ، تبيع جلباً لها بسوق بني قينقاع ( إحدى قبائل اليهود ) إذ ثارت ثائرة الحقد والضغينة في نفوس شرذمة من اليهود بالسوق ، فلما جلست إلى صائغ بالسوق جعل اليهود يراودونها على كشف وجهها ، فأبت الحرة وامتنعت ، فعمد أشقى أولئك القوم إلى طرف ثوبها ، فعقده إلى ظهرها ، وهي لم تشعر فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا منها ، فصاحت بالمسلمين ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فتطاير الخبر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فهب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فحاصروا أهل الغدر والخيانة ، حتى نزلوا على حكم المسلمين ، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام وهلك أكثرهم فيها .

عباد الله : لقد انتصر محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه لتلك المرأة من اجل خلق عظيم ، وخصلة كريمة ،خصلة وصفة زالت وللأسف حقيقتها من بعض النفوس ، وتنكرت لها قلوبهم ، فلم يعد لها أثر بالكلية ، وإن وجد لها أثر عند البعض فهو أثر ضعيف لا قيمة له ، ولا يجاوز الفؤاد .

أيها المسلمون : تلكم الصفة هي خلق الغيرة على المحارم .

الغيرة صيانة للأعراض ، وحفظ للمحرمات . 

الغيرة خصلة عظيمة ، وغريزة شريفة ، إنها مظهر من مظاهر الرجولة الحقة ، وهي وسيلة من وسائل نشر الفضيلة في المجتمعات المسلمة وغير المسلمة .

عباد الله : لئن أتت الجاهلية الحديثة ــ قبحها الله ــ بهدم صارخ للقيم ، وعداء سافر للفضائل ، ودعوة محمومة لنسيان الغيرة وجعلها من سقط المتاع ، فإن الجاهلية القديمة بالرغم مما فيها من كفر وضلال ، كانت في هذه الصفة أسعد حظاً ، وإلى الحق أكثر قرباً ، حيث جعلت للعرض مكانة عالية ، ومنزلة سامية يرخص في سبيلها كل غال ونفيس .

كان من عادة العرب إذا وردوا الماء أن يتقدم الرجال والرعاة ثم النساء ، فيغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن ، آمنات ممن يؤذيهن ، فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء فهو الغاية في الذل والمهانة .

كانوا على شركهم وكفرهم يشيدون بعفة النساء ووفائهن . ولقد كان كشف الستر بجارح النظرات ، وهتك الأعراض بخائنة الأعين ، وفضح الأسرار باستراق السمع يترفع عنه كل عفيف وما أجمل قول احدهم :

وإن جارتي ألوت رياح ببيتها * تغافلت حتى يستر البيت جانبه

نحر أحد الجاهليين راحلة امرأته حين استغنت عنها ، غيرة وانفه أن يركب احد مكان امرأته.

إنهم لا يقبلون في مس العرض والقرب منه صرفا ولا عدلا
أيها المسلمون : جاء الإسلام فحمد لأهل الجاهلية هذا الخلق الرفيع، هذبه وجعله شعبة من شعب الإيمان ، وخصلة من خصال الشرف والمروءة ، 
جعل الإسلام الغيرة من سمات المؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم :" المؤمن يغار والله أشد غيره " متفق عليه . وكيف لا تكون الغيرة سمة للمؤمن ، والمولى سبحانه متصف بها ويحبها من عبادة " إن الله يغار ، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله " رواه الشيخان .

يقول ابن القيم رحمه الله :" إذا ترحلت الغيرة من القلب ، ترحلت منه المحبة ، بل ترحل منه الدين كله " ا هـ .

أيها الأخوة : من حرم الغيرة حرم طهر الحياة ، ومن حرم طهر الحياة فهو أحط من بهيمة الأنعام ، ولا يمتدح بالغيرة إلا الكرام الرجال وكرائم النساء ، وإن الحياة الطاهرة تحتاج إلى عزائم الأخيار ، وأما عيشة الانحاط فطريقها سهل الانحدار ، وبالمكاره حفت الجنة وبالشهوات حفت النار 

إن الأسف كل الأسف ، والأسى كل الأسى أن ترى هذه الخصلة الكريمة ، قد بدأت تتناقص في نفوس بعض الخلق ، حتى رضيت نفوسهم بكثير من المنكرات ، وألفت العديد من السيئات .

لقد جلبت لنا مدنية هذا العصر ما فيه ذبح صارخ للأعراض ، وواد كريه للغيرة ، أغان ساقطة ، وأفلام آثمة ، سهرات فاضحة ، وقصص داعرة ، ملابس خالعة ، وعبارات مثيرة ، وحركات فاجرة ، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد في صور وأوضاع يندى لها الجنين .

إن من يبصر ما وصل إليه حال بعض المسلمين والمسلمات من تكشف وعري في الأسواق والطرقات ، في الشواطئ والمنتجعات ، في المصائف والمنتزهات ، ليدرك إلى أي حد وصل إليه الحال ببعض المسلمين من ضياع للحشمة والعفة ، وفقدان للغيرة والرجولة .

ترى الواحد منهم يرى زوجته أو ابنته أو أخته ، وهي تكشف عن زينتها ، وترتدي ملابس فتنتها ، وتجوب الأسواق والشوارع ، تحادث وتعاكس ، وقد تزيد في الكلام وتعاكس دونحياء أو خجل ، ومنهم من تمشي معه زوجته أو ابنته أو أخته في سيارته أو في السوقمتكشفة متبذلة يمر بها الناس ، ينظرون إليها ، ويتسابقون للتمتع بزينتها ، وهو للأسف بجانبها يضحك بملء فيه كأن الأمر لا يعنيه .

إن الرجال الناظرين إلى النساء * مثل الكلاب تطوف باللحمان

إن لم تصن تلك اللحوم أسودها * أكلت بلا عوض ولا أثمان

أيها الأخوة الغيورون :ما هذا الداء ؟ ومن أين وصل إلينا هذا البلاء ؟

كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال ، والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم لفتياتهم ولفتيانهم هذا الغثاء من ابتكارات البث المباشر ، وقنوات السوء ، وصفحات الإنترنت الموبوءة.

أين ذهب الحياء ؟ وأين ضاعت المروءة ؟ أين الغيرة 
 

يا أهل الغيرة : كم خدشت من أعراض ، وكم هدمت من فضائل ، كم امتدت من أيد وأبصار ؟ كم تحدث الناس وتواطأ كلامهم على ذكر حوادث تستحي الألسنة من ذكرها ، وتستبشع الآذان سماعها ؟

روي عن علي رضي الله عنه انه قال : ألا تستحيون ألا تغارون ؟ فإنه بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج ( أي الأجانب ) في الأسواق .

يا أهل الغيرة : حسبنا الله من أناس يهشون للمنكر ، ويودون لو نبت الجيل كله في حمأةالرذيلة .

وحسبنا الله من فئات تود لو انهال التراب على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة .

وبئست المدنية ، مدنية هذا العصر ، التي جلبت روح التفسخ ، وأنتنت برائحة التحلل .

يا أهل الغيرة : لا عجب أن النساء ترجلت * ولكن تأنيث الرجال عجيب

الخطبة الثانية :

ومن أجل أن يكون المجتمع نظيفا أمر الإسلام بعدد من الأوامر والنواهي ، ليحفظ هذاالمجتمع طاهرا نقيا ، وتصبح مظاهر الغيرة فيه جلية واضحة ومن ذلك مايلي : 
أولا : فرض الله على المسلمات ستر المفاتن وعدم إبداء الزينة ، يقول تعالى : ( ولا يبدينزينتهن إلا ماظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) إلى قوله ( ولا يضربن بأرجلهنليعلم مايخفين من زينتهن ) وقال : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) 


ثانيا : حرم الإسلام كذلك الدخول على النساء لغير محارمهن كما حرم الخلوة بهن ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والدخول على النساء ، فقال رجل من الأنصار ، يارسول الله ، أفرأيت الحمو ؟ قال الحمو الموت ) والحمو أخو الزوج وما أشبهه من الأقارب .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم / فقام رجل فقال : يارسول الله ، امرأتي خرجت حاجة ، واكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال : ارجع فحج مع امرأتك ) رواه البخاري . 
تطهيرا لهذا المجتمع الفاضل ، فلا خلوة ولا ريبة ، حتى الجهاد يؤمر الرجل بتأجيله من أجل أن يحج مع امرأته . 


ثالثا : أوصى بالحياء فقال : ( الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ) وقال ( الحياء كلهخير ) وقال الله : ( فجاءت إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجرماسقيت لنا )


رابعا : الأمر بغض البصر ، قال تعالى ( قل للؤمنين يغضوا )


خامسا : أمر المرأة بخفض الصوت وغضه حتى لا يفتن به ضعيف الإيمان ( ولا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ) 


سادسا : حرص المجتمع على محاصرة أصحاب الشهوات ، ناشري الفساد في المجتمعات فقال تعالى : ( ان الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والاخرة ...) الآية 59 / الأحزاب


سابعا : أقام الحدود وشرع التعزيرات لحفظ الاعراض وصيانة الانساب وجعل حفظالاعراض مقصدا من مقاصد هذه الشريعة الغراء .

إن الغيرة خلق عربي أصيل ، ارتفع به الإسلام آفاقا عالية سامية ، وقمماً شامخة في ظل مجتمعات محافظة على كرامتها وشرفها وصيانة أعراضها .
ثم بدأت الأخلاق تتغير عند الكثيرين ، مع ضعف الوازع الديني وهجمة الغرب الشرسة ، حتى بدت المظاهر المنحرفة عجيبة في العلاقات الإجتماعية والأخلاقية .
ابتعد كثيرون عن الواقع النظيف وحتى غيرة أهل الجاهلية انحدرت وتلاشت في كثير من المجتمعات ، إذ أصبح الإختلاط شائعاً لا يُستغرب ولا يُستنكر .

كتب أحد المتأثرين بثقافة الإنحلال الغربي الأوروبي عن نفسه أنه زار إحدى الجامعات الألمانية ، ورأى هناك الأولاد والبنات مستلقين على الحشائش في فناء الجامعة . قال : " فقلت في نفسي : متى أرى ذلك المنظر في بلدي!!! اهـ

 

فيا عباد الله : ذكر العلامة ابن كثير .. رحمه الله .. في كتابه البداية والنهاية فقال : ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة ،، أي سنة 286هـ أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري فادعت على زوجها بصداقها فأنكره ، فجاءت ببينة تشهد لها فقالوا : نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا ، فلما عزموا على ذلك قال الزوج : لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه ، فأقر بما ادعت ، ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه ، وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر إليها قالت : هو في حل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة .

أيها المسلمون :إن كريم العرض يبذل الغالي والنفيس عن شرفه ، يصون عرضه بماله لا يدنسه ، فإذا ذهب العرض فلا بورك في المال الذي لا يصون العرض .

والمؤمن يحمي عرضه بدمائه ، ويرخص نفسه في سبيل الدفاع عن شرفه ، ومن فعل ذلك فمات بسببه فهو ممن بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة ، قال صلى الله عليه وسلم : " من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله وفي رواية دون عرضه فهو شهيد " رواه أصحاب السنن .

أيها المسلمون : إن طريق السلامة لمن يريد السلامة بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته ينبع من البيت والبيئة ، ولن تحفظ المروءة ويسلم العرض إلا حين يعيش الفتى وتعيش الفتاة في بيت محتشم محفوظ بتعاليم الإسلام وآداب القرآن ، بيت تختفي فيه المثيرات وآلات اللهوالمنكر ، بيت يتطهر من الاختلاط والأفعال المنكرة . ألا فاتقوا الله عباد الله ، وغاروا على حرمات الله ، يسلم لكم دينكم وعرضكم ، ويبارك لكم في أهلكم وذرياتكم .