إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 20 يونيو 2019

الثبات على الدين

( الثبات على الدين ) 
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَمُلاَزَمَةَ صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ، وَالمُدَاوَمَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالحَذَرَ مِنَ الوُقُوعِ فِي المَعَاصِي وَالمُحَرَّمَاتِ دَلِيلُ صِدْقِ الإِيمَانِ، وَثَمَرَةُ الهِدَايَةِ، وَسَبَبُ حُصُولِ الخَيرَاتِ، وَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ، وَالوُصُولِ إِلَى أَعْلَى المقَامَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَتَحْقِيقِ الكَرَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَبِهِ يَحْصُلُ اليَقِينُ، وَمَرْضَاةُ رَبِّ العَالَمِينَ، وَيَجِدُ المُسْلِمُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، وَطُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ، وَرَاحَةَ البَالِ، وَبَرْدَ اليَقِينِ؛ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22
إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ هُوَ الرُّجُولَةُ الحَقَّةُ، وَالانْتِصَارُ العَظِيمُ فِي مَعْرَكَةِ الطَّاعَاتِ وَالأَهْوَاءِ، وَالرَّغَبَاتِ وَالشَّهَوَاتِ؛ وَهُوَ الضَّمَانُ -بِإِذْنِ اللهِللحُصُولِ عَلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الثَّابِتُونَ المُسْتَقِيمُونَ أَنْ تَتَنَزَّلَ عَلَيهِم المَلاَئِكَةُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِتَطْرُدَ عَنْهُمُ الخَوفَ والحَزَنَ، وَتُبَشِّرَهُم بالجَنَّةِ، وَتُعْلِنَ وَقُوفَهَا إِلَى جَانِبِهِم في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَولِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32].
مَا أَجْمَلَ الطَّاعَة إِذَا أُتْبِعَتْ بِالطَّاعَةِ! وَمَا أَعْظَمَ الحَسَنَة وَهِي تَنْضمُّ إِلَى الحَسَنَةِ لِتُكَوِّنَ سِلْسِلَةً مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي تَرْفَعُ العَبْدَ إِلَى الدَّرَجَاتِ العُلَى، وَتُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ! وَمَا أَتْعَسَ المَرْء وَأَقَلَّ حَظّهِ مِنَ الإِسْلاَمِ أَنْ يَهْدِمَ مَا بَنَى، وَيُفْسِدَ مَا أَصْلَحَ، وَيَرْتَدَّ إِلَى حَمْأَةِ المَعْصِيَةِ وَظُلْمَةِ الكُفْرِ، بَعْدَ أَنْ ذَاقَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلاَوَةَ الطَّاعَةِ!.
وَلَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- فِي صَلاَتِهِ "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِرواه النسائيُ وَأحمدُ والترمذيُّ وسندُهُ قويٌّ. 
قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : واللهِ مَا المُؤْمِنُ بالذِي يَعْمَلُ الشَّهْرَ أو الشَّهْرَينِ، أو عَامًا أَو عَامَينِ، لاَ وَاللهِ! مَا جُعِلَ لِعَمَلِ المُؤْمِنِ أَجَلٌ دُونَ المَوتِ. ثُمَّ قَرأَ قَولَ الحَقِّ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىوَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].
وَإِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلُزُومَ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ عَزِيزٌ وَعَظِيمٌ، لاَ سِيَّمَا مَعَ فَسَادِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ المُغْرِيَاتِ، وَتَتَابُعِ الشَّهَوَاتِ، وَكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ، وَضَعْفِ المُعِينِ، وَكَثْرَةِ الفِتَنِ التِي أَخْبَرَ عَنْهَا المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- بِقَولِهِ "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَو يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَارواه مسلم.
وَالنَّفْسُ الثَّابِتَةُ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى تَحْتَاجُ إِلَى المُرَاقَبَةِ التَّامَّةِ، وَالمُلاَحَظَةِ الدَّائِمَةِ، وَالأَطْرِ عَلَى الحَقِّ وَالعَدْلِ، وَالبُعْدِ عَنْ مَوَاطِنِ الهَوَى وَالمُجَاوَزَةِ وَالطُّغْيَانِ؛ 
وَمَدَارُ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنْهَجِهِ وَطَاعَتِهِ عَلَى أَمْرَينِ عَظِيمَينِ: حِفْظُ القَلْبِ، وَحِفْظُ اللِّسَانِ؛ فَمَتَى اسْتَقَامَا اسْتَقَامَتْ سَائِرُ الأَعْضَاءِ، وصَلَحَ الإِنْسَانُ في سُلُوكِهِ وحَرَكَاتِهِ وسَكَنَاتِهِ، ومَتَى اعْوَجَّا وَفَسَدَا فَسَدَ الإِنْسَانُ، وضَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ جَمِيعًا.
وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ"، وَعِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ"
وَإِنَّ للثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ، وَالاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرْعِهِ، أَسْبَابًا وَأَخْلاَقًا، مَتَى مَا أَخَذَ بِهَا المُسْلِمُ وَتَخَلَّقَ بِهَا وَحَرِصَ عَلَيهَا ثَبَّتَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى دِينِهِ، وَعَصَمَهُ مِنَ الحَورِ بَعْدَ الكَورِ، وَالضَّلاَلِ بَعْدَ الهُدَى.
فَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الأَسْبَابِ الإِيمَانُ الصَّادِقُ باللهِ تَعَالَى، وَالاعْتِصَامُ بالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِهِمَا عِلْمًا وَعَمَلاً؛ فَإِنَّهُمَا النُّورُ وَالضِّيَاءُ اللَّذَينِ يُهْتَدَى بِهِمَا فِي الظُّلُمَاتِ، وَيُرْجَعُ إِلَيهِمَا عِنْدَ المُلمَّاتِ، وَيُعْتَصَمُ بِهِمَا وَقْتَ الفِتَنِ، مِصْدَاق مَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُذَكِّرُ أُمَّتَهُ بِهِ قَائِلاً "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَينِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِرواه مالكٌ والحاكمُ بسندٍ حسنٍ.
فَالاعْتِصَامُ بالقُرْآنِ، وَقِرَاءَتُهُ، وَحِفْظُهُ، وَمُدَارَسَتُهُ، وَالقِيَامُ بِهِ، مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ؛ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيهِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ، وَزِيَادَةِ الإِيمَانِ؛إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
وَلِمُعَالَجَتِهِ لأَمْرَاضِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ؛ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) [الإسراء:82]، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى القَصَصِ الحَقِّ الذِي يُسَلِّي المُؤْمِنِينَ وَيُبَشِّرُهُم بالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَيُبَيِّنُ عَاقِبَةَ المُجْرِمِينَ المُكَذِّبِينَ المُحَارِبِينَ للهِ وَرُسُلِهِ وَالمُؤْمِنِينَ عَبْرَ التَّأْرِيخِ؛وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120].
وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى كَثْرَةُ العِبَادَةِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالمُدَاوَمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَلَو قَلَّتْ، وَالاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ، وَالحَذَرُ مِنَ المَعَاصِي وَالمُبْتَدَعَاتِ، وَالاسْتِجَابَةُ للهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وَالانْتِهَاءُ عَمَّا الله عنه ورسوله، وَالعَمَلُ بِمَا يُوعَظُ بِهِ المَرْءُ مِنْ خِلاَلِ آيَاتِ القُرْآنِ وَنُصُوصِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِمَّا يُقَوِّي اللهُ تَعَالَى بِهَا قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ، لِتُصْبِحَ ثَابِتَةً رَاسِخَةً، لاَ يُزَعْزِعُهَا إِرْجَافُ المُرْجِفِينَ، وَلاَ تَهْوِيلُ المُبْطِلِينَ؛ وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد:17
وَعَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-، فَذَلِكَ قَولُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَولِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِرواه مسلمٌ والبخاريُّ مختصرًا. وَقَالَ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَمَّا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَيُثَبِّتُهُم بِالخَيرِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَفِي الآخِرَةِ فِي القَبْرِ.
وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَالاطْمِئْنَانُ إِلَى خِيرَتِهِ للعَبْدِ، وَأَنَّ الخَيرَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ، وَالشَّرَّ فِيمَا صَرَفَهُ عَنْهُ؛ ) وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]، وَالثِّقَةُ بِنَصْرِ اللهِ تَعَالَى وَوَعْدِهِ لِعِبَادِهِ ؛  وَعَدَمُ الاغْتِرَارِ بالبَاطِلِ وَكَثْرَةِ أَهْلِهِ وَشَوكَتِهِم فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا تَحْتَ قَهْرِ اللهِ وَقُوَّتِهِ؛ ) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران:196-197]، وَمَعْرِفَةُ زَيفِ البَاطِلِ وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ مَهْمَا عَلاَ وَارْتَفَعَ، فَلاَ يَسْتَوِي مَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَولاَهُ وَنَاصِرَهُ مَعَ مَنْ كَانَ إِبْلِيسُ مَولاَهُ وَقَائِدَهُ.
وَبِمِثْلِ هَذَا كَانَ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- يُثَبِّتُ المُسْلِمِينَ عَلَى الحَقِّ فِي أَشَدِّ الظُّرُوفِ، وَأَصْعَبِ المَواقِفِ، فَالصَّحَابَةُ يُعَذَّبُونَ أَشَدَّ العَذَابِ وَهُمْ مُسْتَضْعَفُونَ مُطَارَدُونَ مُشَرَّدُونَ، قِلَّة يُنَكِّلُ بِهِمُ المُشْرِكُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ يَتَنَزَّلُ القُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ يُبَشِّرُ المُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَهَزِيمَةِ المُشْرِكِينَ.. وقد صدق عليه الصلاة والسلام ونصر الله عباده المؤمنين الصابرين الثابتين..
وَمِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى الدُّعَاءُ وَالإِلْحَاحُ عَلَى اللهِ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ حَتَّى المَمَاتِ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَكْثَرَ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، فَقَالَتْ لَهُ زَوجُهُ أُمُّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهُ لَيسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَينَ أُصْبُعَينِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ؛ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَرواه الترمذيُّ وأحمدُ وسندُهُ حسنٌ.
وَمِنْ وَسَائِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ المُدَاوَمَةُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ الصِّلَةُ العُظْمَى بِاللهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَعَهُ فَمَعَهُ الفِئَةُ التِي لاَ تُغْلَبُ، وَالحَارِسُ الذِي لاَ يَنَامُ، وَالهَادِي الذِي لاَ يَضِلُّ. وَتَأَمَّلْ -أَخِي المُسْلِمُ- كَيفَ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الذِّكْرَ بِالثَّبَاتِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي مَوقِفٍ مِنْ أَشَدِّ المَواقِفِ وَأَخْطَرِهَا؟! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45].
وَعَلَى المُسْلِمِ البَاحِثِ عَنِ الثَّبَاتِ وأَسْبَابِهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مُرَافَقَةِ الصَّالِحِينَ، وَالالْتِفَافِ حَولَ العُلَمَاءِ الرَّبَانِيِّينَ العَامِلِينَ، وَالدُّعَاةِ الصَّادِقِينَ الذِينَ يُثَبِّتُونَ النَّاسَ عِنْدَ الفِتَنِ، وَيُؤَمِّنُونَهُم فِي أَزْمِنَةِ الخَوفِ وَالرَّهْبَةِ، وَيُكْثِرَ مِنْ مُجَالَسَتِهِم، فَإِنَّ مُلاَزَمَتَهُم وَمُجَالَسَتَهُم تَزِيدُ الإِيمَانَ، وتُثَبِّتُ الأَقْدَامَ عَلَى طَرِيقِ الرِّحْمَنِ.
وَهَا هُوَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ -رضي الله عنهيَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْيَومُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَومُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الأَيدِيَ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. رواه الترمذيُّ وابنُ ماجه وأحمدُ وسندُهُ صحيحٌ.
وَلاَ يُنْسَى مَوقِفُ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ ثَبَتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُذَكِّرًا النَّاسَ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى الذِي أَخْبَرَ عَنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَحِينَ ثَبَتَ عَلَى الحَقِّ فِي وَجْهِ المُرْتَدِّينَ وَحَارَبَهُم، حتَّى نَصَرَ اللهُ بِهِالدِّينَ، وَقَمَعَ فِتْنَةَ الرِّدَّةِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَوَاقِفِ الصَّالِحِينَ فِي تَثْبِيتِ الذِينَ آمَنُوا فِي الفِتَنِ وَشَدِّ أَزْرِهِم عِنْدَ المِحَنِ مَا وَقَعَ للإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِمَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ الذِي نَصَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ دِينَهُ فِي فِتْنَةِ القَولِ بِخَلْقِ القُرْآنِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ لَمَّا صَارَ إِلَى رَحْبَةِ طَوقٍ بِالشَّامِ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّكَ وَافِدُ النَّاسِ، فَلاَ تَكُنْ شُؤْمًا عَلَيهِم، وَإِنَّكَ رَأْسُ النَّاسِ اليَومَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُجِيبَهُم إِلَى مَا يَدْعُونَكَ إِلَيهِ! فَيُجِيبُوا فَتَحْمِلَ أَوزَارَهُم يَومَ القِيَامَةِ، وَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ اللهَ فَاصْبِرْ عَلَى مَا أَنْتَ فِيهِ، فَإِنَّهُ مَا بَينَكَ وَبَينَ الجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ تُقْتَلَ. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: فَكَانَ كَلاَمُهُ مِمَّا قَوَّى عَزْمِي عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الامْتِنَاعِ عَنْ ذَلِكَ الذِي يَدْعُونَنِي إِلَيهِ.
وَهَكَذَا يَكُونُ دَورُ الأَخْيَارِ وَالصَّالِحِينَ فِي تَثْبِيتِ المُسْلِمِينَ عِنْدَ الفِتَنِ، وَتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِم وَنُفُوسِهِم عِنْدَ المِحَنِ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ.
 الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَنِ اقْتَفَى.
أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. ثُمَّ اعْلَمُوا -رَعَاكُمُ اللهُ- أَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى هُوَ حَقِيقَةُ الإِسْلاَمِ؛ فَإِنَّ الإِسْلاَمَ فِي حَقِيقَتِهِ إِيمَانٌ باللهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ اسْتِقَامَةٌ وَثَبَاتٌ عَلَيهِ حَتَّى المَمَاتِ.
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الإِيمَانِ، وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَقُوَّةِ النَّفْسِ، وَرَبَاطَةِ الجَأْشِ، وَالتَّأَسِّي بِأَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ عَلَيهِمِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، الذِينَ ضَرَبُوا أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ وَأَصْدَقَهَا فِي الثَّبَاتِ عَلَى الدِينِ، وَتَبْلِيغِ رِسَالاَتِ اللهِ تَعَالَى، رُغْمَ مَا نَالَهُم مِنَ الأَذَى، وَمَا لَحِقَهُم مِنَ العَذَابِ وَالضَّرَرِ، مِمَّا سَطَّرَهُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى قُرْآنًا يُتْلَى إِلَى يَومِ القِيَامَةِ فِي صَبْرِ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَثَبَاتِهِم عَلَى دِينِ اللهِ وَتَبْلِيغِ رِسَالاَتِهِ.
وَإِنَّ عَلَى المُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الثَّبَاتِ سِيَّمَا فِي هِذَا العَصْرِ؛ عَصْرِ التَّحَدِّيَاتِ وَالفِتَنِ وَالمُغْرِيَاتِ، فَبِالثَّبَاتِ يَعِيشُ المُسْلِمُ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ ثَابِتَ الأَرْكَانِ، عَظِيمَ القِيَمِ، مُحَقِّقًا أَسْمَى غَايَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَإِنَّ عَلَيهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلاَقِ الثَّابِتِينَ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الصَّبْرُ، فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى التَّحَصُّنِ بِالعِلْمِ الشَّرْعِيِّ؛ فَإِنَّهُ يَجْلُو العَمَى، وَيُبَدِّدُ الشُّبُهَاتِ، وَيَقُودُ صَاحِبَهُ إِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ الذِي لا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلاَ الْتِبَاسَ، وَأَنْ يَتَأَسَّى بِمَوَاقِفِ الصَّالِحِينَ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ مَعَ شِدَّةِ العَذَابِ الذِي لَحِقَهُمُ.
حَدَّثَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا كَانَتْ اللَّيلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَونَ وَأَولاَدِهَا، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَينَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَونَ ذَاتَ يَومٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى -يَعْنِي المِشْطُ- مِنْ يَدَيهَا، فَقَالَتْبِسْمِ اللهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَونَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لاَ، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ.
فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلاَنَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيرِي؟! قَالَتْنَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَولاَدُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِعَلَينَا مِنْ الْحَقِّ.
قَالَ: فَأَمَرَ بِأَولاَدِهَا فَأُلْقُوا بَينَ يَدَيهَا وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي؛ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ؛ فَاقْتَحَمَتْ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -عَلَيهِ السَّلاَمُ-، وَصَاحِبُ جُرَيجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَونَ. رواه أحمدُ بإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
اللهُ أَكْبَرُ! مَا أَعْظَمَ إِيمَانِ هَذِهِ المَرْأَةِ! وَمَا أَشَدَّ ثَبَاتِهَا! لَقَدْ كَانَتْ تَعِيشُ فِي قَصْرِ المَلِكِ مُكَرَّمَةً مُعَزَّزَةً، فَأَخْرَجَهَا الإِيمَانُ، وَمَلَكَ عَلَيهَا أَمْرَهَا، وَفِي سَبِيلِ اللهِ يَسْتَرْوِحُ المُؤْمِنُونَ العَذَابَ، وَيُوَاجِهُوَن الطُّغَاةَ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَلْطُفُ بِهِم، وَيُثَبِّتُهُم عَلَى الحَقِّ بِالكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ العَادَاتِ، وَيُكْرِمُهُم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64].
وَلَقَدْ قَالَ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَينِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَو عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِرواه البخاريُّ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.


الجمعة، 14 يونيو 2019

بعد رمضان

( بعد رمضان ) 
ها هو رمضان قد مضى وتصرمت أيامه، ربح فيه الرابحون وخسر من عظمت موبقاته وآثامه، فيا أيها الرابح هنيئًا لك، و يا أيها الخاسر ما أجهلك، ولا نعلم من الرابح فنهنئه، ومن الخاسر فنعزيه، لكن الله يعلمهم، فعلم الغيوب إليه سبحانه

كنا في أيام... في صلاة، وقيام، وتلاوة، وصيام، وذكر، ودعاء, وصدقه، وإحسان، وصلة أرحام ! . ذقنا حلاوة الإيمان وعرفنا حقيقة الصيام، وذقنا لذة الدمعة، وحلاوة المناجاة في الأسحار!! كنا نُصلي صلاة من جُعلت قرةُ عينه في الصلاة، وكنا نصوم صيام من ذاق حلاوته وعرف طعمه, وكنا ننفق نفقه من لا يخشى الفقر, وكنا .. وكنا .. مما كنا نفعله في هذا الشهر المبارك الذي رحل عنا!. 

رحلت يا شهر رمضان، يا شهر العتق من النيران، يا شهر الصدقة والإحسان، يا شهر الصيام والقيام، يا شهر الفضل والإنعام، يا شهر الخشوع والسجود والركوع، يا شهر القرآن والغفران، يا شهر الحسنات وإقالة العثرات، يا شهر التسبيح والتراويح، 

ماذا استفدنا من رمضان ؟وها نحن ودعنا رمضان المبارك ... ونهاره الجميل ولياليه العطرة، وودعنا شهر القرآن والتقوى والصبر والجهاد والرحمة والمغفرة والعتق من النارفماذا جنينا من ثماره ؟! هل تحققنا بالتقوى ... وتخرجنا من مدرسه رمضان بشهادة المتقين؟! هل تعلمنا فيه الصبر والمصابرة على الطاعة، وعن المعصية؟! هل ربينا فيه أنفسنا على الجهاد بأنواعه؟! هل جاهدنا أنفسنا وشهواتنا وانتصرنا عليها؟! هل غلبتنا العادات والتقاليد السيئة؟! هل ... هل ... هل...؟! أسئلة كثيرة .. وخواطر عديدة .. تتداعى على قلب كل مُسلم صادق .. يسأل نفسه ويجيبها بصدق وصراحة .. ماذا استفدت من رمضان ؟ من الذي استفاد من رمضان؟ 

عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [أخرجه: البخاري ومسلم ، وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [أخرجه البخاري  و مسلم وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [أخرجه البخاري  ، ومسلم 

فمغفرة الذنوب لهذه الأسباب الثلاثة، كل واحدٌ منها مكفرٌ لما سلف من الذنوب، وهي صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، 

احذروا من العٌجبِ والغرور وألزموا الخضوع والانكسار للعزيز الغفارلنحذر العجب والغرور بعد رمضان! فلربما حدثتكم أنفسكم أن لديكم رصيد كبير من الحسنات. أو أن ذنوبكم قد غُفرت فرجعتم كيوم ولدتكم أمهاتكم. فما زال الشيطان يغريكم والنفس تلهيكم حتى تكثروا من المعاصي والذنوب. ربما تعجبكم أنفسكم فيما قدمتموه خلال رمضانفبعض الناس اجتهدوا فعلاً، صاموا وحفظوا جوارحهم، وختموا القرآن وبعضهم أكثر من مرة، وعملوا عمرة في رمضان، وصلوا قيام رمضان كله من أوله إلى آخره، لم يخرموا منه يوماً أو ليلة، وفعلوا ما فعلوا من الصدقات وقدموا ما قدموا، وجلسوا في المساجد من بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس، وبعد الصلاة يقرءون القرآن، وقبل الصلاة ينتظرون الصلاة، حصلت عبادات كثيرة، 
فقد يصاب بالغرور وبالعجب، وتمتلئ نفسه تيهاً وفخراً، ولكن آية من كتاب الله تمحو ذلك كله، وتوقفه عند حده، وتبين له حقيقة الأمر وهي قول الله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6أتمن على الله؟ أتظن أنك عندما فعلت له هذه الأشياء تكون قد قدمت له أشياء عظيمة؟ تظنها كخدمة من خدمة البشر؟ {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] لا تمن على الله بعملك، لا تفخر، لا تغتر، لا تصاب بالعجب {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] وتتخيل أن أعمالك كثيرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضات الله تعالى لحقره يوم القيامة» صحيح الجامع , ، فإنه لو قارنه بنعمة واحدةٍ من النعم كنعمة البصر أو غيره، لصار هذا قليلاً لا يساوي شيئاً. ولذلك فإن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم، وإنما يدخلونها برحمة الله تعالى، 

لا تكونوا كالتي نقضت غزلها!! إخوتي الأحبة في الله: إن كنتم ممن استفاد من رمضان ... وتحققت فيكم صفات المتقين، فصُمتم حقاً، وقُمتم صدقاً، واجتهدتُم في مجاهدة أنفسكم فيه، فاحمدوا الله واشكروه واسألوه الثبات على ذلك حتى الممات. وإياكم ثم إياكم ... من نقض الغزل بعد غزله. إياكم والرجوع الى المعاصي وترك الطاعات والأعمال الصالحة بعد رمضان، فبعد أن تنعموا بنعيم الطاعة ولذة المناجاة ... ترجعوا إلى جحيم المعاصي والفجور!!

ولمَّا سُئِل بشر الحافي رحمه الله عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضانُ تركوا، قال: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان!" 
مظاهر نقض العهد : ولنقض العهد مظاهر كثيرة عند الناس فمنها
تضييع الناس للصلوات مع الجماعة: فبعد امتلاء المساجد بالمصلين في صلاة التراويح التي هي سُنه، نراها قد قل روادها في الصلوات الخمس التي هي فرض ويُكّفَّر تاركها 

الانشغال بالأغاني والأفلام .. والتبرج والسفور .. والذهاب إلى الملاهي والمعاكسات!! 
ومن ذلك التنافس في الذهاب إلى المسارح ودور السينما والملاهي الليلية فترى هناك مأوى الشياطين وملجأ لكل رذيلة وما هكذا تُشكر النعم .. وما هكذا نختم الشهر ونشكر الله علىّ بلوغ الصيام والقيام، وما هذه علامة القبول بل هذا جحود للنعمة وعدم شكر لهاوهذا من علامات عدم قبول العمل والعياذ بالله لأن الصائم حقيقة يفرح يوم فطرة ويحمد ويشكر ربه على إتمام الصيام .. ومع ذلك يبكي خوفاً من ألا يتقبل الله منه صيامه كما كان بعضالسلف يبكون ستة أشهر بعد رمضان يسألون الله القبول 
هل قُبِل صيامنا وقيامنا أم لا ؟ إن الفائزين في رمضان، كانوا في نهارهم صائمون، وفي ليلهم ساجدون، بكاءٌ خشوعٌ، وفي الغروب والأسحار تسبيح، وتهليل، وذكرٌ، واستغفار، ما تركوا باباً من أبواب الخير إلا ولجوه، ولكنهم مع ذلك، قلوبهم وجله وخائفة ...!! لا يدرون هل قُبلت أعمالهم أم لم تقُبل؟ وهل كانت خالصة لوجه الله أم لا؟ 

خوف السلف من عدم قبول العمل: - فقد كان السلف الصالح يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم. - فلقد كان السلف الصالحون يحملون همَّ قبول العمل أكثر من العمل نفسه، قال تعالى :{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. هذه هي صفة من أوصاف المؤمنين أي يُعطون العطاء من زكاةٍ وصدقة، ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر وهم يخافون أن لا تقبل منهم أعمالهم

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً من العمل، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] فمن منا أشغله هذا الهاجس!! قبول العمل أو رده، في هذه الأيام؟ ومن منا لهج لسانه بالدعاء أن يتقبل الله منه رمضان؟ من علامات قبول العمل:
أن ترى العبد في أحسن حال من حاله السابق 
أن ترى فيه إقبالاً على الطاعة {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ.. } [ابراهيم: 7]. أي زيادة في الخير الحسي والمعنوي ... فيشمل الزيادة في الإيمان والعمل الصالح .. فلو شكر العبدُ ربهُ حق الشكر، لرأيته يزيد في الخير والطاعة .. ويبعد عن المعصية، والشكر ترك المعاصي 
الحسنه بعد الحسنه فإتيان العبد بعد رمضان بالطاعات، والقُربات والمحافظة عليها دليل على رضى الله عن العبد، وإذا رضى الله عن العبد وفقه إلى عمل الطاعة وترك المعصية 
انشراح الصدر للعبادة والشعور بلذة الطاعة وحلاوة الإيمان، والفرح بتقديم الخير، حيث أن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوءه سيئته
التوبة من الذنوب الماضية من أعظم العلامات الدالة على رضى الله تعالى 
الخطبة الثانية : 
ومما يعين على الاستمرار على الطاعةعلى المسلم أن يلزم نفسه بقدر من العبادات يستطيع أن يداوم عليه ولو كان قليلاً، فإنه سيكون كثيرًا بالمداومة عليه، وسيكون محببا إلى رب العزة. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله؟ قال: «أحب الأعمال إلى الله أَدْوَمُها وإِنْ قَلَّ» [أخرجه البخاري (5/2373، رقم 6100)، ومسلم (1/541، رقم783

من الوسائل التي تعينه على ذلك: 1- الصيام المسنون: مثل: صيام (الاثنين، الخميس)، (عاشوراء)، (عرفه)، (ستة أيام من شوال) وغيرها، عن أبى أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال كان كصوم الدهر» 

قيام الليل: وقيام الليل مشروع في كل ليله: وهو سنة مؤكدة حث النبي صلى الله عليه وسلم على أدائها فعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم مطردة للداء عن الجسد» [أخرجه الطبراني في الأوسط (3/311، رقم 3253)، و الحاكم (1/451، رقم 1156)

قراءة القرآن: وقراءة القرآن وتدبره ليست خاصه برمضان: بل هي في كل وقت، فلا بد أن تمتع بصرك، وأن تسعد قلبك وبصيرتك بالنظر يومياً في كتاب ربك تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9

الاستغفار والشكر: فإنهما ختام الأعمال الصالحة, (كالصلاة، والحج، والمجالس)، وكذلك يُختم الصيامُ بكثرة الاستغفار . كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقةوقال عمر بن عبد العزيز في كتابه: "قولوا كما قال أبوكم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، 

وقولوا كما قال نوحٌ عليه السلام: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]، 

وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، 

وقولوا كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، 

وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87

صيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع وعملٍ صالح له شافع، كم تخرق من صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، 

أكثروا من شكر الله تعالى أن وفقكم لصيامه، وقيامه. فإن الله عز وجل قال في آخر آية الصيام {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [البقرة :185]،
المداومة على الذكر والدعاء: أن يكون دائم الذكر للرحيم الرحمن، قال الله تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}ولتلهج ألسنتنا في بيوتنا ومجتمعاتنا بذكر الله. فعن أبى موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مثل البيت الذى يذكر الله فيه والبيت الذى لا يذكر الله فيه مثل الحى والميت» [أخرجه البخاري. فالذاكر لله حي ولو حبست منه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء. وادعوا الله أن يثبتك على الطاعة بعد رمضان.