إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 27 مايو 2021

البخل داء دوي

 ( البخل داء دوي ) 

الخطبة الأولى

عباد الله: حديثنا اليوم عن صفة ذميمة, وخلة قبيحة كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ منها ويأمر أصحابه أن يستعيذوا منها .. إذا وجدت في إنسان أخفت جميع محاسنه، وإذا غابت عنه غابت عن الناس مساوئه.. نعم: إنها صفة البخل وأعوذ بالله من البخل.

قال الماوردي رحمه الله: " قد يحدث عن البخل من الأخلاق المذمومة – وإن كان البخلُ ذريعةً إلى كل مذمة – أربعةُ أخلاق ناهيك بها ذمًّا وهي: الحرص والشره، وسوء الظن ومنع الحقوق، وإذا آل البخيلُ إلى ما وصفنا من الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير موجود, ولا صلاح مأمول" اهـ.

وحسب البخل أن الله ذمه وتوعد أهله بالعقوبات العاجلة والآجلة؛ قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[آل عمران:180], 

وقَالَ عليه الصلاة والسلام : " ثلَاثَةٌ يُبْغِضُهُمْ اللهُ: الْفَخُورُ الْمُخْتَالُ, وَأَنْتُمْ تَجِدُونَ فِي كِتَابِ اللهِ {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ},  وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ, وَالتَّاجِرُ الْحَلَّافُ » أخرجه الإمام أحمد.

عباد الله: إن البخيل لا يبخل إلا على نفسه، فهو حارم لنفسه من الخيرات والمسرات، طاعة لهواه وما تمليه عليه نفسه من سوء الظن بالله. {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ }[محمد: 38].

ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتعوذ من البخل وهو أكرم الخلق: عن أنس t قال: كنت أسمعه كثيراً يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, والعجز والكسل, والبخل والجبن وضلع الدين, وغلبة الرجال» متفق عليه, 

وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : " إن هم خيروني بين أن يسألوني بالفحش, أو يبخلوني فلست بباخل» أخرجه مسلم. ‌

أيها المسلمون: البخلُ داءٌ عضال، بل هو من شرُّ الأدواء، خاصةً إذا تمكن من قلب صاحبه,والبخيلُ ليس بجديرٍ أن يكون سيداً في قومه. 

عن جابر رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام :  " مَن سيدكم يا بني سلمة؟ - قومٌ من الأنصار - قلنا: جدُّ بن قيس على أنَّا نبخله!! – أي نراه بخيلاً –قال عليه الصلاة والسلام «وأي داءٍ أدوى من البخل»؟! أي: وأي عيبٍ أقبح من البخل؟! بل سيدكم عمرو بن الجموح, وكان رضي الله عنه جواداً ممدحاً.

قال ابن القيم رحمه الله: " والسخي قريب من الله تعالى ومن خلقه ومن أهله, وقريب من الجنة, وبعيد من النار, والبخيل بعيد من خلقه, بعيد من الجنة, قريب من النار فجود الرجل يحببه إلى أضداده, وبخله يبغضه إلى أولاده".

تغطَّ بأثواب السخاء فإنني *** أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه

أيها المؤمنون: إن البخيل خازن لماله, وحارس عليه حتى يتقاضاه منه الورثة رغمًا عن أنفه.

قال ابن مفلح رحمه الله: "عجبًا للبخيل المتعجل للفقر الذي منه هرب، والمؤخر للسعة التي إياها طلب، ولعله يموت بين هربه وطلبه، فيكون عيشه في الدنيا عيش الفقراء, وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء، مع أنك لم تر بخيلًا إلا غيره أسعد بمالِهِ منه لأنه في الدنيا مهتم بجمعه، وفي الآخرة آثم بمنعه، وغيره آمن في الدنيا من همه، وناجٍ في الآخرة من إثمه".

فلنعلم – عباد الله - أنه ليس لنا من أموالنا إلا ما أنفقنا في هذه الدنيا، وما سواه فللورثة،

أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام «يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاثٌ: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهبٌ, وتاركه للناس». ‌

إذا كُنْتَ جَمَّاعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا .. فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ

تُؤَدِّيهِ مَذمُومًا إِلَى غَيْرِ حَامِدٍ .. فَيَأْكُلَهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ

إن من تدبر هذا عمل لآخرته, وقدم لنفسه قبل فوات الأوان، فما أسرع نسيان الأحبة لك بعد موتك فإن باكيك سرعان ما يسلو، وكأنك لم تُخلق, فتصدق قبل أن تموت, وكن جواداً بمالك لضيفك وأقربائك.. قبل أن يحال بينك وبين ذلك.

فلا الجودُ يُفني المالَ قبل فنائهِ *** ولا البخلُ في مالِ الشحيحِ يزيدُ

عباد الله : كم جمع الإنسان من الأموال، وهو يؤمل أن يعمل بها ويبني بها ويفاخر بها، واخترمته المنية قبل ذلك كله، 

دخل الحسن البصري على عبد الله بن الأهتم يعوده فقال: يا أبا معمر كيف تجدك قال: أجدني والله وجعًا، ولا أظنني إلا لُمّ بي، ولكن ما تقولون في مائة ألف في هذا الصندوق لم تؤد منها زكاة, ولم يوصل منها رحم؟ قال الحسن: ثكلتك أمك فلمن كنت تجمعها؟ قال كنت والله أجمعها لروعة الزمان, وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة، فقال الحسن: انظروا هذا البائس أنى أتاه الشيطان، فحذره روعة زمانه, وجفوة سلطانه عما استودعه الله إياه, وعمره فيه، إن يوم القيامة ذو حسرات، وإن أعظم الحسرات غداً أن يرى أحدكم ماله في ميزان غيره، أو تدرون كيف ذاكم؟ رجل آتاه الله مالاً وأمره بإنفاقه في صنوف حقوق الله فبخل به فورثه هذا الوارث، فهو يراه في ميزان غيره، فيا لها من عثرةٍ لا تقال, وتوبةٍ لا تنال.

إِذَا جَادَتِ الدُّنيَا عَلَيكَ فَجُدْ بِهَا .. عَلَى النَّاسِ طُرًّا إِنَّهَا تَتَقَلَّبُ

فَلَا الجُودُ يُفْنِيهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ .. وَلَا البُخلُ يُبقِيهَا إِذَا هِيَ تَذهَبُ

أقول قولي هذا وأستغفر الله..

الخطبة الثانية

أيها المؤمنون: فرق بين السخاء والتبذير، فإن حد السخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن يوصل ذلك إلى مستحقه بقدر الطاقة، 

والتبذير: إنفاق المال في غير حقه,

والسخاء من فعل العظماء,

والتبذير من فعل السفهاء,

وليس الكريم السخي من يدعو لوليمته الأغنياء, ويمنع منها الفقراء. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «شَرُّ الطعامِ طعامُ الوليمة، يُدعى له الأغنياءُ، ويُترك المساكين » رواه البخاري ومسلم.

قال ابن القيم رحمه الله: "وللسخاء حد فمن وقف على حده كان كريمًا، وكان للحمد مستوجبًا، ومن قصر عنه كان بخيلاً, وكان للذم مستوجبًا".

وما نراه اليوم من ولائم الفخر والخيلاء مما يصنعه بعض الأغنياء ومقلدو الأغنياء بمناسبة وبغير مناسبة .. تالله إنه ليس له علاقةٌ بالكرم, وإنما هو تبذيرٌ وإسراف, ليس فيه بين العقلاء اختلاف.. فمتى يرعوي هؤلاء, وينركون صنيع السفهاء؟!

قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31],

وقال عليه الصلاة والسلام : «كلوا، وتصدّقوا، والبَسُوا، في غير إسراف ولا مَخيلة» رواه البخاري.

ألا فاتقوا الله – عباد الله – وكونوا كمن أثنى عليهم ربهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [الفرقان: 67].

 

الجمعة، 21 مايو 2021

النصر والمستقبل لهذا الدين

 ( النصر والمستقبل لهذا الدين ) 

أيها المسلمون : اتَّقوا اللهَ حقَّ التَّقوى ، فبها تَسْمُو الضَّمائِرُ ، وتُقْبَلُ الشَّعِائِرُ ، وبها النَّجاةُ يومَ تُبْلى السَّرائِر ( ثمَّ نُنَجِّي الَّذينَ اتَّقوا ونَذَرُ الظَّالمينَ فيها جِثِيِّا)

إخوة الإيمان : تَمُوجُ الأرضُ بالتَّقلباتِ والتَّغَيُّراتِ ، وتُبَاغِتُ الأيامُ أهلَها بالغِيَرِ والمُفاجَآتِ ، تَقَلُّبَاتٍ متبيانة ، وأحوالٍ مُتَغايرةٍ ، عَزِيزُ يَشْقَى ، ومُسْتَضْعَفٌ يَرْقَى وأَمْنٌ وخَوْفٌ يَتَقَلَّبانِ ، واضْطِرَابٌ وتَوَجُّسٌ مِنْ مُسْتَقْبلٍ مَسْتُورٍ ، والإنسانُ يُخَطِّطُ ويُريدُ ، واللهُ يَحْكُمُ ما يُريدُ .

فما أَحْوَجَنا ونحنُ نَرى ذلك .... أنْ نَرْتَبِطَ بالقرآنِ المبينِ ، ونُوردَ القلوبَ مواعِظَ ربِّ العالمينَ ، لتُشْحَنَ النفوسَ بِنَبَضَاتِ اليَقِينِ ، يَقينٌ بوعدِ اللهِ الملكِ الجبَّار ، المدبِّرِ القهَّارِ ، ومَنْ أوفى بعهدِه مِنَ اللهِ ، ومَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً .

وإذا تَجذَّرَتْ شَجَرةُ اليقينَ في قِيْعَانِ القُلوبِ أَوْرَثَتْ طَمَأْنِيْنَةً ، وأَشْرَقَتْ نوراً ، لِيُحْرِقَ هذا النُّورُ كلَّ ظلامٍ دَامسٍ صَاغَه اليَأْسُ ، ونَسَجَه التَّشَاؤُمُ .
يقولُ الحقُّ جلَّ جلالُه وتقدَّسَتْ أسماؤُه واعداً ومؤكِّداً : (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].

نعم ... يَغْلِبُ أَمْرُ اللهِ وإنْ سَخِطَ النَّاسُ وكرِهُوا ، يَنْفُذُ أَمْرُ الواحدِ الأَحد وإنْ أَبَى الخَلْقُ وأَنِفُوا ، فَمَشِيَةُ اللهِ نَافِذَةٌ ، وأَمْرُ اللهِ ماضٍ، ربٌّ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ , وما يُريدُه حتماً سيكون (فعَّالٌ لما يريد ) .
وقديماً قالَ الأَعْرابيُّ حينَ رأى نِقْمَةَ اللهِ على أصحابِ الفيلِ :
أَيْنَ الْمَفَرّ وَالْإِلَهُ الطّالِبُ *** وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَ الْغَالِبُ

( ومن يُغالِبِ اللهَ يُغْلَبْ) ، قالهَا اليهوديُّ حُيَيُّ بنُ أَخْطَب ، حينَ رأى بعينِه الموتَ والعطب .

نَقِفُ مع هذا الوعدِ الرَّبَّاني مَنْ وَحْيِّ حَجَّةِ الوداعِ فقط ، ففي هذه الحَجَّة النَّبويَّةِ من المواقفِ والمشاهدِ ما تَقِفُ له النُّفوسُ خاضعةً خاشعةً ، مُسْتَشْعِرَةً قولَ بَارِيْهَا : (واللهُ غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكثرَ النَّاس لا يَعلمونَ 

• المشهد الأول : 
هو مَنظرُ تلك الجموعِ ، والأُلُوفِ المُؤَلَّفَةِ ميمِّمَةً شَطْرَ المدينةِ ، تَحُطُّ رِحَالها في أرضِ طَيْبَة الطَّيِّبة ، تَتَحيَّنُ خروجَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمِ لهذه الرِّحلةِ التَّاريخيَّة ، فعاشتْ تلك الجموعُ أياماً من الإيمان والطمانينيَّة ، ثم خرجتْ تلك الوفودُ وهم آمنونَ والمدينة هادئةٌ راخِيَةٌ , وكأنَّ تلك الدِّيارَ لم تَشْهدْ يوماً ما حِصاراً شَديداً مريراً ، زاغت فيه الأبصارُ ، وبلغت منه القلوبُ الحناجرَ .

كأنَّ تلك المدينةَ لم تَكنْ يوماً ما أرضَ حربٍ واضطراب ، حتى نَجَمَ النِّفاقُ وعلا صوتُه ، وقال قائلُه : مُحَمّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ .

فإذا بهذه القريةِ المَكْرُوبَةِ ، الخائفِ أَهْلُها ، تُصْبِحُ القريةَ الآمِنَةَ التي تؤمُّها القبائلُ من أنحاءِ الجزيرة ، وتجتمعُ فيها الوفودُ على اختلافِ أجناسِهم وألوانِهم ، وصدق الله، ومن أصدق من الله قيلاً واللهُ غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكثرَ النَّاس لا يَعلمونَ

• المشهد الثاني :
هو مَشْهدُ أبي بكرٍ الصِّديقَ حين يُهَيِّئ راحلتَه ويَضَعُ فيها الزادَ والمتاعَ ، له ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليكون لَصِيقَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلةِ المباركةِ ، فإذا هو يَسير مع صاحبِ الأَمْسِ الذي خَرجَ هو وإيَّاهُ مُسْتَخْفِينَ من أَعْيُنِ قريشٍ ، هاربينَ من شَريعةِ الظُّلمِ ، التي اسْتَبَاحَتْ دمَ خَيْرِ رَسُول .
ها هو اليومَ يسيرُ مع صاحبِه بِزَامِلَةٍ واحدة ، قد وطِّئت لهما الأرض ، وحفَّتْهُم الجموعُ ، يَمُرُّونَ بِنَفْسِ الفِجَاجِ والجبال ، والوهاد والسهال .
أَمَا لو نَطَقَتْ تلك الجماداتُ لرَوَتْ عَظِيمَ الفَرْقِ بين هذا السَّفَرِ وذاك المَسِيْرِ . 
إنَّه أَمْرُ اللهِ الغالبُ ولُطْفُه الخَفِيِّ : ( واللهُ غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكثرَ النَّاس لا يَعلمونَ 

• المشهد الثالث : 
مَنْظَرُ دخولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلمَ ساحةَ الكعبةَ ضُحى ، وليس في هذه السَّاحةِ صَنَمٌ ، ولا يُعظَّمُ فيها وثن ، ولا يَطُوفُ بها عُريان.
هذه السَّاحة التي طالما كانت مَسْرَحاً للتَّعذيبِ البَدني والنفسي ، ففيها رُميَ سلا الجَزُورِ على ظَهْرِه ورأْسِه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد .
وفيها بُصِقَ في وجهِهِ ، وخُنِقَ بِمجامعِ رِدَائِه
في هذا الفَنَاء كانتْ تَرْمُقُه الأَعْيُنُ لِتُؤْذِيَهُ وتَلْمِزَهُ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ شِدادٍ .
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبى أَشَدُّ مَضَاضَةً ** على المرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهنَّدِ


ها هو رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ يَدْخُلُ أَشْرَفَ وأَطْهَرَ بِقاعَ الأرضَ ، وقد قرَّت عينُه بمعالمِ التوحيد ، والجموعُ تَحُفُّهُ ، والعُيون تَرْمُقُه ، والمُهَجُ تَفْدِيْهِ ، والكُلُّ يُدَقِّقُ في قولِه وفعلِه ليستنَّ به ، فسبحان من (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا(

• المشهد الرَّابع :
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على جبلِ المَرْوَةِ ، قد أَنْهى عمرةَ الحجِّ ، فأَمَرَ النَّاسَ بِفَسْخِ حَجِّهم إلى عمرةٍ إلا من ساقَ الهديَ ، فجعل النَّاسُ يسألونه عن المناسك ، 

فتقدَّمَ رجل فسأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ مُتْعَتَنا ، لعامِنا هذا أمْ لأَبَدِ الأَبَدِ؟ فشبَّك رسولُ الله عليه وسلم أصابعَهُ واحدةً في أُخرى وقال : لا ، بل لأَبَدِ الأَبَدِ ، 

ثم جعلَ الرجلُ ذاتُه يسألُ مرةً أخرى ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يُجيبه أمامَ الجموع .


هذا الرجلُ هو سُراقة بنُ مالكٍ الجُعْشُمِيُّ ، الذي كان قبل عَشْرِ سِنينَ يَركضُ خلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم شاهراً رُمْحَهُ ، يُريدُ أنْ يَفوزَ بجائزةِ قريش، في قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، 

فإذا هو اليوم يقفُ خَلْفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولكن لا لِيَقْتُلَهُ ، أو يأْسُرَهُ ، وإنَّما ليتعلمَ منه أمرَ دينه ،وما ينفعه في آخرته ، وصدق الله ،ومن أصدق من الله حديثا : (واللهُ غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكثرَ النَّاس لا يَعلمونَ 

الخطبة الثانية :

المشهد الخامس :  
ها هو رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْرَغُ من أعمالِ الحج في اليومِ الثَّالثِ عَشَرَ ، فيَخْرُجُ مِنْ مِنَى لم يبقَ عليه من الأنساكِ إلا طوافُ الوداعِ ، فلم يَذْهبْ إلى البيتِ العتيقِ ، وإنَّما نَزَلَ خَيْفَ بَنِي كِنَانةَ ، في مكانٍ يُسمَّى المُحَصَّب ، فصلَّى به الظُّهر والعصرَ والمغربَ والعشاء ، لقدِ اختار المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم هذا المكان بالأخصِّ؛ لأنَّه المكانُ الذي اجتمعتْ فيه قريشٌ، قبلَ أكثرَ مِن ثلاثِ عَشْرَةَ سَنة، وتعاقدُوا وتعاهَدُوا على ميثاقِ الظُّلم والعُدْوانِ،ومُقاطعةِ بني هاشمٍ وبني المطَّلب، فلا يُبايعونهم ولا يُناكحونهم حتى يُسلموا إليهم محمدًا، كل ذلك جهدًا منهم ليُطفئوا نورَ الله تعالى.
فها هو هذا الرجلُ المطلوبُ يَنزِلُ ذاتَ المكانِ ، وقد أظهرَه اللهُ ، ونَصَرَهُ ، وأعزَّه ، وأتمَّ عليه النِّعمةَ ، (واللهُ غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكثرَ النَّاس لا يَعلمونَ 

إخوة الإيمان : ما أحوجنا أن نَسْتَشْعِرَ ونَسْتَصْحِبَ هذا اليقينَ ، في زمنٍ تَتَقاطَرُ علينا فِتَنُ الشَّهواتِ ، وتَتَخَطَّفُنا شُهُبُ الشُّبهاتِ ، أنْ نَتواصى ونتذاكرَ هذا الوعدَ الربانيَّ الذي لا يُخْلَفُ ، لِتَمْتَلِئَ القلوبُ برداً وسلاماً أمامَ كلِّ اضْطِرابٍ وارْتِيابٍ .

فالله تعالى غالبٌ على أمرِه ، كَتبَ في الزَّبورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكرِ : أنَّ الأرضَ يَرِثُها عبادي الصالحون ، (كَتبَ اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي) ، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51، (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:173] .

أنزلَ سبحانه معجزةَ كتابه ، وتكفَّلَ بحفظه ، وشَرَعَ الشَّرائِعَ الخَاتِمَةِ ، وتكفَّلَ بإظهارِها على جميعِ الأديان ، (ليظهره على الدِّين كلِّه ) هذا وعد الله ، ومن أوفى بعهده من الله.
فأبشروا يا أهل الإسلام ... فدينُ اللهِ منصور ، ورايةُ الإسلامِ لن تنكَّس ، ولنْ يقفَ في وجْهِ رسالةِ محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ عليه الصلاة والسلام  دولٌ ولا امبراطوريات ، فضلاً عن أحزابٍ وأفرادٍ صعاليك ، قال عليه الصلاة والسلام : (بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ والدِّين ، وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصرِ وَالتَّمْكِينِ


كم تألب على هذا الدِّينِ من أَلْفٍ وأُلُوفٍ من أمثالِ أبي لهبٍ ، وابنِ سبأٍ ، وابنِ سلول ، فَنَفَقُوا وذَهَبُوا ، وبقي هذا الدِّين وما ذهب .
يا ناطحَ الجبلِ العالي لِيَثْلِمَهُ *** أَشْفِقْ على الرأسِ لا تُشْفِقْ على الجبلِ

ومن مؤكِّدات غلبة أَمْرِ اللهِ : أنَّ هذا الإسلامَ يَنْتَشِرُ ، وأنوارَ رسالةِ محمدٍ تتمدَّدُ يمنةً ويَسْرةً في أرجاءِ المعمورة ، وإنْ تَزَنْدَقَ مُتَزَنْدِقٌ أو ارْتَدَّ مُنافقٌ فَتَيَقَّنُوا أنَّ مكانَه مِئاتٌ بل أُلوفٌ يَدخلون في دينِ اللهِ أفواجاً.

أُمتكم يا أهلَ الإيمان ... قَدَرُهَا أنْ يُتَعَاقَبَ عليها الأذى ، ويتمالئَ عليها العِدَاء ، قَدَرُها أنْ تكونَ أكثرَ أُمَمِ الأرضِ تعرضاً للظُّلم والبلاء ، وسرِّح الفِكْرَ في مَسَاربِ التاريخِ ، أو أرسلِ الطَرْفَ في الواقعِ المعاصرِ لترى أنَّ المصائبَ تُصَبُّ على أهلِ الإسلام صبَّاً ،ورُغْمَ ذلك فهذه الأمَّة لا تَزِيْدُها المِحَنُ إلا عودةً للدِّين ، والتجاءً للهِ ربِّ العالمين .