الخطبة الأولى
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل, فاتقوا الله رحمكم الله, فالتقوى من التوقي, ومن يتقِ الله يقه, واعلموا أن الأجل دون الأمل, فبادروا الأجل بالعمل, فإنه لا عمل بعد الأجل, والآخرة باقية والدنيا فانية, فقدموا أمر الآخرة على أمر الدنيا, ولا تأخذكم في الله لومة لائم,
أيها المسلمون: منذ ظهرت الحضارات الإنسانية وميزان القوى لا يستقر على حال, أمم تكون في الصدارة ثم تمسي فإذا هي في ذيل القائمة, وأخرى لم تكن شيئًا مذكورًا فإذا هي تترقى في أوج العظمة وقمم المجد, إنها أيام الله يداولها بين الناس, هذا التداول بإذن الله وأمره ، يخضع لسنن من الله شتى, ولن تجد لسنة الله تبديلاً .
لا مفر من سنن الله العاملة في التاريخ, فهي لن تحابي أحدًا أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم.
ومن منظور هذه السنن وبتأمل هذه النواميس شاء الله سبحانه أن يجعل بيت المقدس مسرى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام , ومنطلق المعراج إلى السماء في رحلة نبينا عليه الصلاة والسلام , ولأمر حكيم شاء سبحانه أن يجعل بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى منذ فرضت الصلاة في العهد المكي وثمانية عشر شهرًا من العهد المدني, وهو ما يزيد على نصف سني البعثة المحمدية, ثم لأمر حكيم وحكمة عظيمة تسلم العبقري الملهم الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس من دون سائر المدائن التي فتحها الله على المسلمين.
إنه التمييز الواضح والخصوصية الخاصة والإعلان الصريح لما لهذه المدينة المقدسة من منزلة كبرى في دين الإسلام وتاريخ المسلمين.
للمسجد الأقصى وقصة الإسراء خبر خاص, وسورة كاملة في قلب مصحفنا .
إنها سورة الإسراء سورة بني إسرائيل في آياتها ودلالاتها وكنوزها, بسم الله الرحمن الرحيم: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير( , رباط قرآني محكم بين هاتين المدينتين المقدستين, واتصال ديني وثيق بين مكة المكرمة والقدس الشريف, ورباط مقدس بين أشرف بقعتين فيهما الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى, رباط إلهي وثيق وما وصله الله لا ينقطع,
بيت المقدس ربوة مباركة ذات قرار ومعين, أرض مقدسة, قبلة الأمة وبوابة السماء وميراث الأجداد, ومسئولية الأحفاد, معراج محمدي, وعهد عمري, دار الإسلام, إلى مسجدها تشد الرحال, ومن قبله تشد الأبدان والنفوس والأفئدة, فتحه المسلمون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بست سنوات, وحكموه قروناً طويلة ثم احتله الصليبيون تسعون عامًا فأخرجهم صلاح الدين رحمه الله, وهذه الأيام يحتله يهود, ولن يخرجوا والله إلا بصلاح الدين.
حكم المسلمون هذه المدينة المباركة هذه الأحقاب الطويلة, فما هدموا بيتًا لساكن ولا معبدًا لمتعبد, التزموا بتعالم دينهم, احترموا كل ذي عهد وعقد وذمة, وفاءً للعهد العمري
لقد تضمن العهد العمري حرية المعتقد وحرية السكنى وحرية التنقل, وهو عهد منذ أكثر من ألف وأربع مائة سنة, لم يكن متأثرًا بشعارات حقوق الإنسان المنافقة في عصرنا, ولكنها كانت تطبيقًا لمنهج الإسلام في التعامل الراقي المخلص مع أهل الأديان الأخرى.
لقد أصبح القدس الشريف وسكانها من مختلف الديانات في حماية المسلمين يحافظون عليها ويدافعون عنها وعن من فيها, هذا حديث أهل الإسلام وهذا حكمهم وهذا تاريخهم هذا حديثنا وهذا حكمنا, وهذا تاريخنا.
أما اليوم فبيت المقدس يجري فيه ما لم يحدث على أيدي أي غزاة في تاريخ البشرية كلها في تاريخ المقدس, ولم يجرِ ذلك في تاريخ المقدس الممتد آلاف السنين لم يفعل غازٍ أو محتل مثلما فعله ويفعله اليهود اليوم, وليس بعد شهادة التاريخ من شهادة, وليس من رأى كمن سمع على ما تشاهدون في هذه الأيام بل في هذه الساعات, احتلوا القدس الشريف منذ أكثر من ثلاثين عامًا فأحرقوا المسجد الأقصى, ونسبوا ذلك إلى معتوه مختل العقل, وكأن المجانين لا يخرجون إلا على مقدسات المسلمين!! أما أعمال الحفر والهدم والتخريب حول المسجد فهي متواصلة منذ أن وطأت أقدامهم ولا تزال,
انبعث باعث منهم ليحصد المصليين من المسلمين وهم يصلون في مسجد الخليل فقتلهم وهم ركع سجود, ومنذ أيام أطلقت النار على المصليين وهم في رحاب المسجد الأقصى, ليسقط العديد من القتلى والجرحى, هدمت الأبنية والآثار الإسلامية في سعي دائم وحثيث لإزالة المعالم وتغير الهوية, , جرائم عدوانية أسالت الدماء ورسخت الكراهية وبعثت الأحقاد وأعادت أجواء الحرب, زرع للحقد الأسود في مدينة الإيمان والسلام والأرض المباركة,
اعتداءات وانتهاكات في صور فظيعة تجعل من حق المظلوم أن يستخدم كل سلاح ممكن لحماية نفسه, مظلوم احتلت أرضه يقابل جيشًا مدججًا بكل أنواع الأسلحة والآليات الفتاكة, يقاتله أطفال وشباب أحداث ليس لهم حيلة إلى العصي والحجارة والصراخ ليدافعوا عن أنفسهم ومقدساتهم وأرضهم ومنازلهم,
كل يدعي التسامح وكل يزعم الديمقراطية, وكل يتشبث بحقوق الإنسان في هذا القرن, قرن التحضر وقرن المدنية, قرن المواثيق الدولية, والقرارات الأممية, ولكن العمل والواقع والأرض والتاريخ هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه, دماء تراق وحصد للأرواح من المدنيين العزل في أماكن العبادة وفي الشوارع وفي الطرقات والساحات العامة, بل صواريخ وقنابل داخل المنازل والشقق, وحرب من الأرض والبحر والسماء, يتحدثون عن السلام بألسنتهم ويباشرون الحرب في خططهم واستعدادتهم وأفعالهم, أفعال شنيعة وتجاوزات رهيبة, لا تثير لدى الجهات الدولية القائمة على رعاية المواثيق الدولية والقيمة على رعاية حقوق الإنسان وحاملة لواء الديمقراطية والمسئولة عن الأمن الدولي والاستقرار العالمي لا تثير لديها أي تحرك أو تصرف منصف.
بل إن هؤلاء اليهود الصهاينة لم يسئلوا عن جريمة ارتكبوها ولم تحجب عنهم مساعدة طلبوها, ولم يتأخر عنهم مدد سألوه, ولم يوجه إليهم لوم ولا عتاب في جرم اقترفوه.
بل لقد توافد كبار ساسة العالم من أجل أسراهم, وبعثت التعازي من أجل قتلاهم, أما إخواننا في فلسطين فلا بواكي ، أين العدل؟ وأين الإنصاف؟ وأين حقوق الإنسان من شعب يعيش منذ أكثر من ستين عامًا في احتلال وفي مخيمات وفي ملاجئ؟ والملايين منه يعيشون في التشريد والشتات, شعب فلسطين حياته كلها خوف وتعذيب واعتقال تهدم البيوت وتغلق المدارس بل تغلق المخازن والمتاجر لتسد عنهم أبواب الرزق القليلة, تجويع وبطالة, استيلاء على الأرض وتحكم في مصادر المياة, بل تحكم في نبرات الحياة, محتل يلاحق من يشاء ويتهم من يشاء, ويقتل من يشاء ويعتقل من يشاء, ينشئ المستوطنات ويقيم الحواجز ويبني الأسوار ويغلق المدن والطرق ثم يزعم أنه يريد السلام.
أيها المسلمون: عندما تنعدم الخيارات أمام المظلوم وتضيق المدائن بشعب مقهور فإن كل سلوك متوقع وكل سياسات يمكن فهمها, , ليسا طرفين متكافئين جيش إحتلال مسلح ضد شعب أعزل, القتلى والضحايا في طرف والقاتل والجلاد الذي يطلق النار في طرف آخر, قاتل ومقتول, وجلاد وضحية, إن مشاهدة هذه المناظر ومتابعة الأحداث تقطع الأمل في الرغبة الجادة في السلام,
إن القوة والقهر والظلم لا يمكن لها أن تنشىء حقًا أو تقيم سلامًا, إن العدوان لا يولد إلا العدوان
أيها المسلمون إن ما يجري في بيت المقدس وفلسطين المحتلة امتحان شديد لأمة الإسلام, أمة الإسلام أمة عطاء, تجود ولا تبخل, في تاريخها المشرق الطويل قدمت ما يشبه المعجزات وهي اليوم تعيش مفترق طرق خطير يحيط بها وبقدسها وبأجزاء محتلة من ديارها,
أمة محمد , أمة الإسلام وأمة الجهاد, وأمة عزة, لا تعجز بإذن الله أن تجد لنفسها مخرجًا بتوفيق الله وعونه من أزمتها وعطبها الحضاري, والقدس والأرض المباركة أغلى وأثمن وأكبر من أن تترك لمفاوضات أو لمساومات.
أيها الأخوة: إن قضية بيت المقدس وقضية فلسطين لا تنفصل البتة عن قضية الإسلام كله, إنها ليست أرضًا فلسطينية أو عربية فحسب بل إنها قبل ذلك وبعده أرض المسلمين جميعا , تفدى بالأرواح والمهج, وإذا ضعف الإسلام في نفوس الاتباع, ضعفت معه روابط الحقوقوالفداء في قضاياه كلها, ويوم يترسخ الإيمان ويصفو المعتقد وتسود الشريعة وتعلو الشعائر, ستحيا كل القضايا وسيتحقق كل مطلوب.
فيجب أن يعي المسلمون ويعلنوا أنه لا سبيل لاستخلاص الحقوق واستنقاذ المغتصبات في أي مكان وعلى أي أرض إلا حين يعتصمون بحبل الله, ويكونون جميعًا ولا يتفرقون, يصطفّون عبادًا لله إخوانًا يجمعهم نداء واحد, لا نداء غيره: يا مسلم يا عبد الله, والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الخطبة الثانية :
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله رحمكم الله, واعلموا أن بيت المقدس والأرض المباركة في خطر عظيم, والعمل من أجل إنقاذها وتطهيرها فريضة شرعية وواجب ديني يستنهض عزم أبناء امة الاسلام وبذل كل الجهود والوسائل لإحقاق الحق, ونصرة القضية.
في نصوص الكتاب والسنة ربط متين صريح للأرض المقدسة والأرض المباركة بأصلها الأصيل, وهو الإسلام, فهو مستقبلها, وبه حياتها, ولن يتم لها أمر أو يعرض لها شأن إلا من خلال دين محمد عليه الصلاة والسلام , إن هذا الربط يعطي لقضية القدس والأرض المحتلة ولكل قضايا الأمة إطارًا رحبًا وعمقًا عميقًا لا يتحقق من خلال نظرة إقليمية أو دعوة قومية.
مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس هي سر القوة التي جابت خيولها العالم.
أيها المسلمون إن الذي ينظر إلى القضية بمنظار القرآن لن يخدع أبدًا, فالقرآن الكريم يقول: ( أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ) , ويقول: ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين )
, ومن يتزود بزاد القرآن فلن يضعف أبدًا ( لا يقاتلونكم جميعًا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى ) , ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم .)
ومن يتعامل مع قضاياه على هدي القرآن فلن يضل أبدًا ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) ) ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) , ) ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ,( ومن صدق بما في القرآن فلن يتنازل عن حق أبدًا. ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرًا .)
لكن مع الأسف أيها المسلمون إذا كان الإسلام في عقول بعض المسلمين وكتاباتهم وإعلامهم لا يستحق أن يحظى منهم بتفكير او باهتمام بل إذا كانت العقيدة عند بعضهم أهون من الأرض, والشريعة أرخص من التراب, فهيهات أن تنتصر القضية أو يتنزل نصر.
يا هؤلاء, لا عودة للحق قبل العودة الصحيحة للإسلام, إن من سنن الله أن العاقبة للمتقين, وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون, ولكن من سننه أيضًا إذا تخلى أهل الإيمان عن إيمانهم فإنه يستبدل قومًا غيرهم ويأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم
.
أيها المسلمون: النصر قادم لا محالة, بنا أو بغيرنا, ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) , ودين الله منصور بنا أو بغيرنا ( إن لا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضروه شيئًا والله على كل شيء قدير) , والحق سيعلو على أيدينا أو أيدي غيرنا ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم .) والباطل سيزهق بجهودنا أو بجهود غيرنا ولكن لماذا لا يطلب المسلم الخير لنفسه؟ لماذا لا يكون لبنة في طريق النصر وسهمًا من سهام الحق وأداة لإزهاق الباطل.