إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 19 أكتوبر 2017

الغيرة على المحارم والأعراض

الغيرة على المحارم والأعراض

الخطبة الأولى
أما بعد فياعباد الله : في منتصف شهر شوال من الثانية للهجرة ، وبينما امرأة مسلمة ، تبيع جلباً لها بسوق بني قينقاع ( إحدى قبائل اليهود ) إذ ثارت ثائرة الحقد والضغينة في نفوس شرذمة من اليهود بالسوق ، فلما جلست إلى صائغ بالسوق جعل اليهود يراودونها على كشف وجهها ، فأبت الحرة وامتنعت ، فعمد أشقى أولئك القوم إلى طرف ثوبها ، فعقده إلى ظهرها ، وهي لم تشعر فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا منها ، فصاحت بالمسلمين ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فتطاير الخبر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فهب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فحاصروا أهل الغدر والخيانة ، حتى نزلوا على حكم المسلمين ، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام وهلك أكثرهم فيها .

عباد الله : لقد انتصر محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه لتلك المرأة من اجل خلق عظيم ، وخصلة كريمة ،خصلة وصفة زالت وللأسف حقيقتها من بعض النفوس ، وتنكرت لها قلوبهم ، فلم يعدلها أثر بالكلية ، وإن وجد لها أثر عند البعض فهو أثر ضعيف لا قيمة له ، ولا يجاوز الفؤاد .

أيها المسلمون : تلكم الصفة هي خلق الغيرة على المحارم .

الغيرة صيانة للأعراض ، وحفظ للمحرمات . 

الغيرة خصلة عظيمة ، وغريزة شريفة ، إنها مظهر من مظاهر الرجولة الحقة ، وهي وسيلة من وسائل نشر الفضيلة في المجتمعات المسلمة وغير المسلمة .

عباد الله : لئن أتت الجاهلية الحديثة ــ قبحها الله ــ بهدم صارخ للقيم ، وعداء سافر للفضائل ، ودعوة محمومة لنسيان الغيرة وجعلها من سقط المتاع ، فإن الجاهلية القديمة بالرغم مما فيها من كفر وضلال ، كانت في هذه الصفة أسعد حظاً ، وإلى الحق أكثر قرباً ، حيث جعلت للعرض مكانة عالية ، ومنزلة سامية يرخص في سبيلها كل غال ونفيس .

كان من عادة العرب إذا وردوا الماء أن يتقدم الرجال والرعاة ثم النساء ، فيغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن ، آمنات ممن يؤذيهن ، فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء فهو الغاية في الذل والمهانة .

كانوا على شركهم وكفرهم يشيدون بعفة النساء ووفائهن . ولقد كان كشف الستر بجارح النظرات ، وهتك الأعراض بخائنة الأعين ، وفضح الأسرار باستراق السمع يترفع عنه كل عفيف وما أجمل قول احدهم :

وأغض طرفي ان بدت لي جارتي .... حتى يواري جارتي مثواها

نحر أحد الجاهليين راحلة امرأته حين استغنت عنها ، غيرة وانفه أن يركب احد مكان امرأته.

إنهم لا يقبلون في مس العرض والقرب منه صرفا ولا عدلا ، ولقد رأى أحدهم رجلا ينظر إلى امرأته ، ويبدوا انه لمس منها خيانة فطلقها وأخرجها من بيته ، غيره وحماية لعرضه ، فلما عوتب في ذلك قال قولته المشهورة :

واترك حبها من غير بغض * وذاك لكثرة الشركاء فيه

إذا وقع الذباب على طعام * رفعت يدى ونفسي تشتهيه 

وتجتنب الأسود ورود ماء * إذا كان الكلاب ولغن فيه

أيها المسلمون : جاء الإسلام فحمد لأهل الجاهلية هذا الخلق الرفيع، هذبه وجعله شعبة من شعب الإيمان ، وخصلة من خصال الشرف والمروءة ، 
جعل الإسلام الغيرة من سمات المؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم :" المؤمن يغار والله أشد غيره " متفق عليه . وكيف لا تكون الغيرة سمة للمؤمن ، والمولى سبحانه متصف بها ويحبها من عبادة " إن الله يغار ، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله " رواه الشيخان .

يقول ابن القيم رحمه الله :" إذا ترحلت الغيرة من القلب ، ترحلت منه المحبة ، بل ترحل منه الدين كله " ا هـ .

عباد الله : لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس غيرة على الأعراض ، فاضحت مواقفهم مضرب المثل ، لأنهم فهموا الغيرة فهماً واضحاً ، فحموها مما يكدرها ويضعفها أو يزيلها ، 
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال يوماً لأصحابه إن دخل أحدكم على أهله ، ووجد ما يريبه أشهد أربعا ، فقام سعد بن معاذ متأثراً فقال : يا رسول الله : أأدخل على أهلي فأجد ما يريبني انتظر حتى أشهد أربعا ؟ لا والذي بعثك بالحق ! إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحن بالرأس عن الجسد ، ولأضربن بالسيف غير مصفح ، وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء ؟ وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟ قالوا : يا رسول الله لا تلمه ، فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء ، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته .. فقال صلى الله عليه وسلم : أتعجبون من غيرة سعد والله أنا أغير منه ، والله أغير مني .

يقول العلماء : إن قول سعد بن معاذ رضي الله عنه ليس رداً لقول النبي صلى الله عليه وسلم ولا مخالفة لأمره وإنما معناه الأخبار على حالة الإنسان عند رؤيته رجلاً عند امرأته ، واستيلاء الغضب عليه ، فإنه حينئذ يعاجله بالسيف وان كان عاصياًَ .

أيها الأخوة : من حرم الغيرة حرم طهر الحياة ، ومن حرم طهر الحياة فهو أحط من بهيمة الأنعام ، ولا يمتدح بالغيرة إلا الكرام الرجال وكرائم النساء ، وإن الحياة الطاهرة تحتاج إلى عزائم الأخيار ، وأما عيشة الدعارة فطريقها سهل الانحدار ، وبالمكاره حفت الجنة وبالشهوات حفت النار .

إن الأسف كل الأسف ، والأسى كل الأسى أن ترى هذه الخصلة الكريمة ، قد بدأت تتناقص في نفوس بعض الخلق ، حتى رضيت نفوسهم بكثير من المنكرات ، وألفت العديد من السيئات .

لقد جلبت لنا مدنية هذا العصر ما فيه ذبح صارخ للأعراض ، وواد كريه للغيرة ، أغان ساقطة ، وأفلام آثمة ، سهرات فاضحة ، وقصص داعرة ، ملابس خالعة ، وعبارات مثيرة ، وحركات فاجرة ، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد في صور وأوضاع يندى لها الجنين .

إن من يبصر ما وصل إليه حال بعض المسلمين والمسلمات من تكشف وعري في الأسواق والطرقات ، في الشواطئ والمنتجعات ، في المصائف والمنتزهات ، ليدرك إلى أي حد وصل إليه الحال ببعض المسلمين من ضياع للحشمة والعفة ، وفقدان للغيرة والرجولة .

ترى الواحد منهم يرى زوجته أو ابنته أو أخته ، وهي تكشف عن زينتها ، وترتدي ملابس فتنتها ، وتجوب الأسواق والشوارع ، ومنهم من تمشي معه زوجته أو ابنته أو أخته في سيارته أو في السوق متكشفة متبذلة يمر بها الناس ، ينظرون إليها ، ويتسابقون للتمتع بزينتها ، وهو للأسف بجانبها يضحك بملء فيه كأن الأمر لا يعنيه .

أيها الأخوة الغيورون :ما هذا الداء ؟ ومن أين وصل إلينا هذا البلاء ؟

كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال ، والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم لفتياتهم ولفتيانهم هذا الغثاء

أين ذهب الحياء ؟ وأين ضاعت المروءة ؟ أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئتها أجواء الفتنة ، وجرتهم إلى مستنقعات التفسخ جراً ، جلبت لهم محرضات المنكرات ، تدفعهم إلى الإثم دفعا ، وتدعهم إلى الفحشاء دعا ! 

يا أهل الغيرة :

كم خدشت من أعراض ، وكم هدمت من فضائل ، كم امتدت من أيد وأبصار ؟ كم تحدثالناس وتواطأ كلامهم على ذكر حوادث تستحي الألسنة من ذكرها ، وتستبشع الآذان سماعها ؟

روي عن علي رضي الله عنه انه قال : ألا تستحيون ألا تغارون ؟ فإنه بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج ( أي الأجانب ) في الأسواق .

يا أهل الغيرة : حسبنا الله من أناس يهشون للمنكر ، ويودون لو نبت الجيل كله في حمأةالرذيلة .

وحسبنا الله من فئات تود لو انهال التراب على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة .

ألا تباً لقوم هانت عليهم أعراضهم فاهملوها ، وتناقصت الغيرة في نفوسهم حتى نسوها . 

وبئست المدنية ، مدنية هذا العصر ، التي جلبت روح التفسخ ، وذهاب الغيرة..

يا أهل الغيرة : لا عجب أن النساء ترجلت * ولكن تأنيث الرجال عجيب
الخطبة الثانية :
ومن أجل أن يكون المجتمع نظيفا أمر الإسلام بعدد من الأوامر والنواهي ، ليحفظ هذاالمجتمع طاهرا نقيا ، وتصبح مظاهر الغيرة فيه جلية واضحة ومن ذلك مايلي : 
أولا : فرض الله على المسلمات ستر مفاتنهن وعدم إبداء زينتهن ، يقول تعالى : ( ولا يبدينزينتهن إلا ماظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) إلى قوله ( ولا يضربن بأرجلهنليعلم مايخفين من زينتهن ) وقال : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )

ثانيا : حرم الإسلام كذلك الدخول على النساء لغير المحارم.. كما حرم الخلوة بهن ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والدخول على النساء ، فقال رجل من الأنصار ، يارسول الله ، أفرأيت الحمو ؟ قال الحمو الموت ) والحمو أخو الزوج وما أشبهه من الأقارب .

وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم ، فقام رجل فقال : يارسول الله ، امرأتي خرجت حاجة ، واكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال : ارجع فحج مع امرأتك ) رواه البخاري . 

تطهيرا لهذا المجتمع الفاضل ، فلا خلوة ولا ريبة ، حتى الجهاد يؤمر الرجل بتأجيله من أجل أن يحج مع امرأته . 

ثالثا : أوصى بالحياء فقال : ( الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ) وقال ( الحياء كلهخير ) وقال الله : ( فجاءت إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجرماسقيت لنا )

رابعا : الأمر بغض البصر ، قال تعالى ( قل للؤمنين يغضوا )

خامسا : حرص المجتمع على محاصرة أصحاب الشهوات ، ناشري الفساد في المجتمعات فقال تعالى : ( ان الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والاخرة والله يعلم وانتم لا تعلمون.) الآية 59 / الأحزاب

سادساً : أقام الحدود وشرع التعزيرات لحفظ الاعراض وصيانة الانساب وجعل حفظالاعراض مقصدا من مقاصد هذه الشريعة الغراء .

إن الغيرة خلق عربي أصيل ، ارتفع به الإسلام آفاقا عالية سامية ، وقمماً شامخة في ظل مجتمعات محافظة على كرامتها وشرفها وصيانة أعراضها .
ثم بدأت الأخلاق تتغير عند الكثيرين ، مع ضعف الوازع الديني وهجمة الغرب الشرسة ، حتى بدت المظاهر المنحرفة عجيبة في العلاقات الإجتماعية والأخلاقية .

أيها المسلمون :إن كريم العرض يبذل الغالي والنفيس عن شرفه ، يصون عرضه بماله لا يدنسه ، فإذا ذهب العرض فلا بورك في المال الذي لا يصون العرض .

والمؤمن يحمي عرضه بدمائه ، ويرخص نفسه في سبيل الدفاع عن شرفه ، ومن فعل ذلك فمات بسببه فهو ممن بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة ، قال صلى الله عليه وسلم : " من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله وفي رواية دون عرضه فهو شهيد " رواه أصحاب السنن .

أيها المسلمون : إن طريق السلامة لمن يريد السلامة بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته ينبع من البيت والبيئة ، ولن تحفظ المروءة ويسلم العرض إلا حين يعيش الفتى وتعيش الفتاة في بيت محتشم محفوظ بتعاليم الإسلام وآداب القرآن ، بيت تختفي فيه المثيرات وآلات اللهوالمنكر ، بيت يتطهر من الاختلاط والأفعال المنكرة . ألا فاتقوا الله عباد الله ، وغاروا على حرمات الله ، يسلم لكم دينكم وعرضكم ، ويبارك لكم في أهلكم وذرياتكم .

3