إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 15 أغسطس 2015

المنافقون وخطرهم على المجتمع

( خطر المنافقين على المجتمع الاسلامي ) 
الخطبة الاولى : 
أيها الناس: من رحمة الله تعالى بنا، وإحسانه إلينا، وتعليمه إيانا أن بين لنا حقيقة أعدائنا من إخواننا، ووضح لنا من يمكر بنا ممن ينصح لنا، وأمرنا بموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، ولم يترك ذلك لعقولنا واجتهاداتنا، وإلا لضللنا وانحرفنا؛ فربنا جل في علاه ذكر في كتابه المنزل أن البشر فريقان: الرسل وأتباعهم، والشياطين وأولياؤهم، ولا فريق غير هذين الفريقين.
وأتباع الرسل عليهم السلام هم من آمنوا بهم وصدقوهم واتبعوا شرائعهم، وهم في هذا الزمن أتباع خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به اعتقادا وقولا وعملا، ولم يخرجوا عن شريعته، ولا كرهوا شيئا من دينه، ولا استدركوا على حكم من أحكامه، بل آمنوا وأذعنوا وسلموا وانقادوا [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {النور:51}
 وأما الفريق الآخر فهم أعداء الرسل عليهم السلام، الذين كذبوهم، أو رفضوا شيئا من شرائعهم، أو استدركوا على ما جاءوا به من أحكام، وهم بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم المشركون، وكفار أهل الكتاب اليهود والنصارى، والمنافقون وهم الزنادقة والمرتدون، وهؤلاء كلهم يدٌ واحدة على المؤمنين، بعضهم أولياء بعض، ومن تولاهم من المؤمنين فهو منهم كما جاء ذلك صريحا في القرآن الكريم. 
  المتأمل للتاريخ يدرك أن أعظم المصائب التي حلت بالمسلمين أفراداً ومجتمعات ودولاً، إنما حلّت بهم عن طريق النفاق والمنافقين.
أيها المسلمون، لقد افتتح ابن سلول طريق النفاق ثم سارت فيه من بعده أفواج المنافقين عبر التاريخ، وفي عصرنا الراهن لا تخطئ العين ملامح العلمنة والنفاق الظاهر المتظاهر مع الكفار في القضايا الكبرى من قضايا المسلمين، 
ولايزال المسلمون يرون صوراً من النفاق في أماكن شتى سلخها المنافقون لصالح الكافرين عن هويتها الإسلامية وبنيتها الاعتقادية ، فيخطئ من يظن أن النفاق الذي أفاض القرآن في الحديث عنه وأسهب في التحذير منه كان يمثل مرحلة تاريخية انقضت بدخول الناس في دين الله أفواجاً.

إن القرآن الكريم الذي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بجهاد المنافقين سيظل يُتلى إلى يوم الدين بقول الله تعالى: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَـاهِدِ الْكُفَّـارَ وَالْمُنَـافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73]، والآية تدل على أن النفاق سيظل موجوداً وسيظل محسوساً ملموساً من أشخاص وهيئات ودول تُرى فيهم آيات النفاق.

قال ابن القيم رحمه الله: "فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من عَلم له قد طمسوه، وكم من لواءٍ له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها ، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون".

أيها المسلمون، لقد كان للنفاق دور بارز في إسقاط الخلافة العباسية في حادثة من أبشع حوادث التاريخ ذكرها بتفاصيلها وآلامها الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية ( قصة الوزير ابن العلقمي ) 

هكذا النفاق، يقوض أركان الدول إذا لم يُنتبه له، وهذه أحد حيل المنافقين في التخريب والإفساد وهو إدخال العدو إلى داخل الدولة المسلمة، والتمكين له بالعبث داخل المجتمع المسلم، حتى ينهار ذلك المجتمع أو تسقط تلك الدولة.

وإدخال العدو للبلد قد يكون حسياً، كما فعل ابن العلقمي وذلك بإدخاله مباشرة بقضّه وقضيضه ليمارس هو الإفساد والقتل مباشرة، والقضاء على المسلمين بسرعة. أو يكون معنوياً فيكون القتل بطيئاً وذلك بإدخال فكره وثقافته وترويجها بين الناس ونشرها عن طريق الطابور الخامس، وهم المنافقون والشهوانيون والعلمانيون، فيقومون هؤلاء بتهيئة الجو وخلخلة الثوابت والأسس حتى يتحلل المجتمع تدريجياً ويتمكن العدو مما يريد بطريقة غير مباشرة، لعب فيها النفاق دوراً بارزاً وكبيراً.

إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدّاً، لأنهم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في الحقيقة، يُخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.

المنافقون هم أولياء الكافرين، أعداء المؤمنين، يمكرون بهم، ويدلون على عوراتهم، ويطعنون في دينهم، ويتصلون بأعدائهم، وقد جاء في القرآن ما يدل على أنهم لا يريدون الخير بالمؤمنين، ويتربصون بهم الدوائر، ويفرحون بمصابهم، ويحزنون لنصرهم، ويريدون الكفر لهم، قال الله تعالى في المنافقين [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا] {آل عمران:120} وتتلخص حقيقة المنافقين في قول الله تعالى [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ] {المنافقون:4}.

إن منافقي زماننا هذا لا يخرجون عن أوصاف المنافقين المذكورين في القرآن؛ فهم يكرهون شريعة الله تعالى وينفرون من التحاكم إليها [وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ] {النور:48} .

لقد حذّر القرآن الكريم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة، فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم".

ومما يوجب مزيد الحذر من المنافقين أنهم كثيرون منتشرون في بقاع الأرض، كما قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، ، 

انه لا فارق بين نفاق الأمس ونفاق اليوم من حيث الجوهر، أما الظروف فقد اختلفت، فالنفاق بالأمس البعيد أيام تمكين الدين كان ذُلاً يستخفي، وضعفاً يتوارى ، وخضوعاً مقموعاً يمثله عمالقة أقزام ،  حيات وعقارب موطوءة تكاد ألاّ تنفث السم إلاّ وهي تلفظ الحياة.
كان تمكين الدين وقتها يمكّن المؤمنين من جهاد أولئك الأسافل باليد واللسان والقلب وبإقامة الحدود، فلا يُرى أحدهم إلاّ وهو محاصر مكدود، أو محدود مجلود.
أما اليوم، فالنفاق صرح ممرد، وقواعد تتحرك، وقلاع تُشيّد، إنه اليوم دولة بل دول ذات هيئات وأركان، إنه أحلاف وتكتلات وكيانات، بل معسكرات ذات قوة وسلطان، سلطان سياسي واقتصادي وإعلامي وثقافي، يمارس الضرار في كل مضمار
وأخيراً ما هو الموقف الشرعي تجاه المنافقين ؟ يتمثل ذلك في أمور:
أولاً: النهي عن موالاتُهم والرُكون إليهم 
ثانياً: زجرُهم ووعظُهم: 
ثالثاً: عدم المجادلة أو الدفاع عنهم
رابعاً: جهادُهم والغلظةُ عليهم 
خامساً: تحقيرُهم وعدم تسويدُهم: فعن بريدة مرفوعاً: ((لا تقولوا للمنافق سيّد، فإنه إنّ يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل)).
سادساً: عدم الصلاة عليهم 

الخطبة الثانية : 

فإذا كان واقع المسلمين اليوم في أكثر الأحوال لا يسمح بجهاد المنافقين بإقامة الحدود أو الإغلاظ عليهم لكف شرهم، فلا أقل من تعويض ذلك بجهادهم باللسان وما يقوم مقامه من كل وسيلة ترُدُّ ما يستطاع من كيدهم للدين، وإلا فإن ذلك النفاق سيظل يتوحش ويطغى حتى يهدد بهدم معالم الإيمان والدين في كل بلاد المسلمين.

إن الحرب بين المسلمين والغرب حرب مستمرة منذ عقود طويلة، واليوم ناب عنهم فيها منافقون علمانيون أصبحوا يحاربون الدين وأهله تارة باسم الحرب على الرجعية، وتارة على أعداء التقدمية، وتارة ضد المتطرفين والظلاميين والأصوليين، وأخيراً استقر اصطلاح المجرمين على تسمية الحرب ضد الإسلام بالحرب على الإرهاب موافقة لأسيادهم، وإلا فأين الغرب وحلفاؤهم من التحدث عن الإرهاب اليهودي في فلسطين، والإرهاب الهندوسي في كشمير، والإرهاب البوذي في مينمار، بل الإرهاب النصراني الغربي في االعراق وسوريا وغيرها من بلدان المسلمين.

هل كان بإمكان الغرب أن يقوم بهذه الحرب لوحده لولا وجود مخلصين له في الداخل؟ هل يستطيع الغرب وأمريكا أن تعلن وتنفذ بهذه الجرأة والشراسة والشمول لولا استنادها إلى مواقف أكثر جراءة وشراسة وشمولاً من المنافقين. وإلا فمن للغرب بالتدخل المباشر في الأحوال الداخلية لكثير من الدول في صوغ مناهجها والتحكم في إعلامها وتوجيه الرأي العام بها ومحاصرة الدعوة والإصلاح فيها ؟ ومن للغرب أن يجعل البلدان الإسلامية أرضاً مستباحة للأغراض العسكرية والاقتصادية والثقافية والمخابراتية وغيرها. إنهم المنافقون..الذين يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسماءنا ولكنهم يهاجمون ديننا وعقديتنا وثوابتنا ..

بين موقفين : تسهيل افتتاح فصول لمدارس تحفيظ القرآن الكريم في المدارس العامة ، وهدم آخر مصلى لاهل السنة في طهران 
وقد انتصر الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم- إمام وخطيب المسجد الحرام- للوزير واصفاً مَن عارضوه بسبب فتح فصول لتحفيظ القرآن الكريم بمدارس التعليم العام، بأن خصومتهم مع دين الله، لا مع مَن أقرها.
وقال الشيخ الشريم : الذين كرهوا إقرار تحفيظ القرآن بالمدارس إنما خصومتهم مع دين الله، لا مع مَن أقرها؛ فقد قال سلفهم (… لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).
فيما نفى الشيخ عبد الرحمن السديس عن الوزير تخبطه، قائلًا: "لم يكن عزام يتخبط في تيسير حفظ القرآن وتعميمه؛ بل هو من خير ما فعل. وقد جعل الله في فعله كشفًا لأستار بعض المنافقين ممن لم يطق السكوت".




2

الاستعداد للموت

( الاستعداد للموت ) 

عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - ومن تقوى الله أن نتَّقي اليوم الذي نرجع فيه إلى الله، كما قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281].

أيها الإخوة المؤمنون:
هناك حقيقةٌ يتَّفق عليها المؤمن والكافر، والبَرُّ والفاجِر، والعالِم والجاهل، كلُّ عاقلٍ متَّفقٌ ومُجمِعٌ عليها، ألا وهي حقيقة الموت.

الموت لا يختلف فيه أحدٌ؛ الكلُّ مُوقِنٌ به، الكلُّ مُقِرٌّ ومُصدِّقٌ به، كفر الناس بالله، وكفروا باليوم الآخِر، وكفروا بما بعد الموت، وكفر بعضهم بما في الحياة، 
ولكنَّ الموت ذاته لا يكفر به أحدٌ، ولا ينكره أحدٌ، ولا يتجاوزه أحدٌ أبدًا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، فلذلك يقول الله - سبحانه وتعالى –: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185].

كل نفسٍ منفوسةٍ، من آدميٍّ أو جنِّيٍّ أو حيوان بأنواعه، الحيوان كله؛ بل والملائكة وكل مخلوق: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27].

هذا أمرٌ كلُّنا نؤمن به، لكننا - أيها الإخوة - مع تصديقنا، مع يقيننا، مع رؤيتنا المشاهَدة كل يوم - نشهد حَمْلَ جِنازةٍ، نصلِّي على جِنازةٍ، نعزِّي صاحبَ جِنازةٍ، لكن ليس الأمر في التأكيد على وجود الموت، وإنما: هل نحن نعلم متى يأتي هذا الموت؟

الكل يوقن أنه ميِّتٌ، وأن مَنْ حوله من الناس ميِّتٌ، وأنَّ كلَّ مَنْ على وجه الأرض - بل ومَنْ في السماء، ما عدا ربِّ العالمين - كلهم ميِّتٌ، فأذا علمنا ذلك؛ فنحن لا ندري متى يكون هذا الموت، لا ندري متى يكون هذا الموت؛ قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34].

لذلك؛ فإن الأنسان يجب أن يكون مستعدًّا لهذا الموت، يجب أن يكون متذكِّرًا له، يجب أن يكون متهيئاً لأن ينتقل من هذه الحياة إلى الدار الآخِرة، يلقى الله وهو راضٍ عنه، يحبُّ لقاء الله فيحبُّ اللهُ لقاءَه كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أحبَّ لقاء الله؛ أحبَّ اللهُ لقاءَه، ومَنْ كره لقاء الله؛ كره اللهُ لقاءَه))؛ قالت عائشة: يا رسول الله، كلُّنا يكره الموت - لا أحد يبحث عن الموت؛ بل نحن نعالِج من أجل أن يتأخَّر الموت، نحن نبني ونزرع ونعمل ونصارع من أجل أن نهرب من الموت – قال: ((ليس الأمر كذلك يا عائشة، ولكن المؤمن يعرف ما له عند الله؛ فيحبُّ لقاء الله؛ فيحبُّ الله لقاءه، والكافر يكره لقاء الله؛ فيكره الله لقاءه)).

ليس الكافر فقط، ولكن الفاجر، ولكن المذنب، ولكن الواقع في معصية الله، ولكن المقصِّر في طاعة الله - كلهم يكرهون لقاء الله؛ لأنهم غير مستعدين لذلك اللقاء! يريدون أن تطول الأعمار، وإذا ماتوا أن يُردُّوا إلى الدنيا ليستدركوا ما فاتهم فيها!!

قال سليمان بن عبدالملك لأبي حازم: "يا أبي حازم، ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وأخربتم آخِرتكم، فأنتم تكرهون الانتقال من العمار إلى الخراب".

وهذا أمرٌ منطقيٌّ، لو أنَّ إنسانًا بنى داره الجديدة، وأثَّثها بأفخر أنواع الأثاث، ووضع فيها كلَّ مقوِّمات الحياة، واستقرَّ فيها، فتهدَّمت داره القديمة، وعشَّشت فيها العنكبوت، وامتلأت بالغبار، وتشققت جدرانها، ثم جيء له وقيل: هيا انتقل من دارك المؤثَّثة إلى تلك الدار القديمة المشقَّقة المهدمة المليئة بالغبار؛ فهل يحب أن ينتقل إليها؟! كلا والله، لا يريد، ولا يحب أن ينتقل إليها!!.

إذًا فعلينا أيها الإخوة إن أردنا أن نكون محبِّين إلى لقاء الله، علينا أن نعمر الدار التي نحن منتقلون إليها، لذلك يجب أن نستعد للموت.
تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَأِنَّكَ  لا  تَدْرِي        إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَبِيتَ إِلَى الْفَجْرِ

فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ  عِلَّةٍ        وَكَمْ مِنْ سَقِيمٍ عَاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ

نحن نعلم، ونرى بأعيننا، ونسمع كل يومٍ؛ أن فلانًا قد مات من غير مرض، أن فلانًا مات بالجلطة القلبية فجأةً، نام فلم يستيقظ من يومه، فجأةً خرج إلى عمله ولم يعد إلى بيته، وإنما عاد إلى المقبرة، فجأةً مات بالذبحة الصدرية، مات بالجلطة، مات، مات، مات... أنواعٌ وأشكالٌ من موت الفُجأة، لا يحسب الإنسان حسابها.

يخرج وهو يأمل الآمال العريضة، يأمل الآمال الطويلة، يفكر ويخطط لحياة طويلة وسنوات مديده، فإذا به ليس بينه وبين الموت إلا دقائق معدودة، وهذا من حكمة الله؛ أن حجب عنَّا موعد الموت، حتى يظهر الموقِن بما وراء الموت، والذي لا يوقن بالموت وما وراء الموت، الذي لا يوقن بالجنة ولا بالنار، ولا بالقبر وعذابة، ولا بالحشر وما فيه.

إذًا يا أيها الأخوة:
هذا حال الناس، وهذا الذي مات موت الفجأة، مات بالذبحة أو الجلطة، مات بحادث السيارة، إن كان هو عمرو أو سعيد أو عبدالله اليوم، فأنا أو أنت غدًا أو بعد غد، ليس بعيدٌ على أحد، وليس قريبٌ من أحد.

كلنا - والله - لا يدري متى هذا الموت، لذلك وجب علينا أن نتذكر الموت؛ هكذا يأمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نتذكَّر الموت؛ لأن الموت أعظم واعِظٍ يعظ الإنسان، أبلغ من المواعظ البليغة، والخطب الفصيحة، والكلام الطويل العريض.

الموت أعظم واعظٍ، وكفى بالموت واعظًا؛ لذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اكثروا من ذكر هادم اللذات))، وهادم اللذَّات الموت.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت النبي عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار فقال: يا نبي الله! من أكيس الناس وأحزم الناس؟ قال{ أكثرهم ذكراً للموت، وأكثرهم استعداداً للموت، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة } [الطبراني وحسنه المنذري].
وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقا
ما زال يلهج بالرحيل وذكره *** حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه مستيقظاً متشمراً *** ذا أهبة لم تلهه الآمال


نعم، اذكروه أيها الإخوة، وتذكَّره أخي في كل وقت، إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وكن في الدنيا كأنك غريب، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادِفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)).

وعندما كان – صلى الله عليه وسلم - يدفن أحدًا من أصحابة، كان يلتفت إلى الأحياء، إلى المشيِّعين حول القبر ويقول: ((أي إخواني، لمثل هذا اليوم فاستعدوا، أي إخواني، لمثل هذا اليوم فاستعدوا، أي إخواني، لمثل هذا اليوم فاستعدوا)).

هكذا يأمرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن نذكر الموت، وأن نستعد للموت.

إذاً فيا أيها الإخوة، يا من طال رجاؤهم، وطال اغترارهم بهذه الحياة الدنيا:
تذكروا مَنْ مشيَ إلى المقابر، مَنْ يمشي على رِجْلَيْه ولكنه مشى على ظهور الناس، مشى في تلك الآله الحدباء:

كُلُّ ابْنُ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُ        يَوْمًا عَلَى  آلَةٍ  حَدْبَاءَ  مَحْمُولُ
وهذا الإنسان - كما قلتُ - قد يكون أنا أو أنت، اليوم أو غدًا، فلنحسن الأعمال إذًا، لنصل إلى ذلك الوقت، إلى تلك المرحلة، لنواجه تلك الحقيقة ونحن مستعدون لها، حتى لا نأسف كما يأسف المقصِّرون، ولا نطلب المهلة فلا تكون هناك مهلة.

نسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يرزقنا اليقظة والتذكُّر والاستعداد، إنه سميعٌ مجيبٌ.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.




الخطبة الثانية

أيها الإخوة المؤمنون:
اتقوا الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].

لنتَّقِ الله - أيها الإخوة - ومن تقواه أن نكون مستعدِّين للقائه، قال الله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9-11].

إذًا لا تُلْهِنا أموالنا، لا تُلْهِنا أولادنا، لا تُلْهِنا دنيانا، لا تُلْهِنا كلها عن الله، لا تُلْهِنا عن الاستعداد للقاء الله، لا تُلْهِنا عن الاستعداد لذلك اليوم العظيم، يوم يهجم الموت ذلك الهجوم الذي لا يدفعه أحدٌ.

تخطَّى حرس الملوك، قفز أسوار الحصون المنيعة، تعدَّى إلى ألمع الناس وأعزِّهم، فما ترك أحدًا، وما حال دونه ودون مَنْ يطلبه أحدٌ، كم من مَلِكٍ، كم من أميرٍ ورئيس في الأزمنة الماضية وفي هذا الزمان، وأنتم تعلمون كم نقلت لنا الأخبار أن الرئيس الفلاني أو الملك الفلاني مرض وسُفِّر إلى الخارج، وتجمع عليه أمهر الأطباء، وعملوا جادِّين، يتسابقون مع الموت، يريدون أن يردُّوا عنه هذا الموت؛ فهل استطاعوا؟

أين فلان وفلان وفلان من الذين اختير لهم أمهر الأطباء؟ هل استطاعوا أن يردُّوا عنه هذا الموت؟! كلا والله، والله لن يستطيعوا، والله لن يقدروا على ذلك، لذلك لا تلهينا أموالنا، لا تلهينا أنفسنا، لا يلهينا أولادنا وذرارينا ومساكننا عن الاستعداد لهذا الموت وذلك الرحيل، عن الأخذ بأسباب النجاة يوم نرجع إلى ربِّ العالمين، انظر حال هؤلاء المقصِّرين العاصين المذنبين؛ بل حتى الطائعين أيضًا، لأنهم يريدون أن يزدادوا من الخير؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100].

هذا هو الحال، فلما لا تعمل صالحًا الآن؟ لما تنتظر العمل الصالح يوم الموت؟

مازلت في زمن الإمكان، فَقُمْ اعمل واستعد وتهيَّأ، أما إذا نزل، أما إذا جاء، أما إذا انتهى الأجل؛ فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، لا يمكن أن تُؤخَّر دقيقةً، ولا أن تُقدَّم عن وقتك دقيقةً واحده.

لذلك يكون الاستعداد من اليوم؛ فكيف نستعد أيها الإخوة؟

نستعد بأنواعٍ من الاستعدادات؛ منها:

أن نستعدَّ بتطهير النفس من أنواع الشِّرك بالله - عزَّ وجلَّ - لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((مَنْ لقيَ الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومَنْ لقِيَه يشرك به شيئًا دخل النار)). إذا فلنحرص على طرد الشِّرك وإزالته من نفوسنا.

والشِّرك أنواعٌالرِّياء من الشِّرك، العمل من أجل الدنيا من الشِّرك، الرَّجاء في غير الله من الشِّرك، دعاء غير الله من الشِّرك، الاعتماد على غير الله من الشِّرك، شركٌ قلبيٌّ، وشرك قوليٌّ وشرك عمليٌّ، وشركٌ أصغر، وشركٌ أكبر، ولا ينجوا النجاة التامة، ولا يأمن الأمان الكامل - إلا ذلك الذي لم يُلْبِس إيمانه بأي نوعٍ من أنواع الشِّرك: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

وكذلك أيها الإخوة نطهِّر القلب من جميع الأمراض؛ من أمراض الحقد، من أمراض الحسد، من أمراض الكِبْر، من الغش على عباد الله.

أمراضٌ كثيرةٌ تعتري القلب وتتناوبه من كل مكان، ولم ينجُ إلاَّ مَنْ سلم من هذه الأمراض: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، سليمٌ من جميع تلك الأمراض، وأعظمها مرض  الشِّرك بالله سبحانه وتعالى.

وعلينا أن نستعد نستعد بالتوبة النَّصوح من جميع ذنوبنا، ومن جميع سيِّئاتنا، ومن جميع تقصيرنا في طاعة ربِّنا، نتوب إلى الله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17، 18].

التوبة - يا عباد الله - من أعظم أنواع الاستعداد للموت، حتى تلقى الله وهو راضٍ عنَّا، فترضى عنه ويرضى عنك - سبحانه وتعالى.

والنوع الرابع من الاستعدادأمر يخصُّنا، يخصُّ أبنائنا وبناتنا، يخصُّ مَنْ وراءنا، يخصُّ الناس الذين نتعامل معهم، ألا وهو الوصية.

أيها الإخوة:
هذه الفريضة التي كتبها الله علينا ونحن عنها غافلون، وكم من مشاكل ترسَّمت بين الوَرَثَة بسبب إغفالها، لأن مورثهم لم يوصِ؛ فصار بعضهم يأكل  مال بعض، وبعضهم يعتدي على بعض، وبعضهم يُحرَم من حقوقه، كم من إنسان له ديون عند إنسان، فيموت ذاك الإنسان ولا يوصي، فينكر وَرَثَته ديون الآخَرين؟! كم من إنسان له مال، وهذا المال أصبح حقٌّ للوَرَثَة، فلم يوصِ، فيضيع المال، فيتسبب في حرمان وَرَثَته من حقِّهم؟كم من إنسان يريد أن يتصدَّق، يريد أن يقف شيئًا من أمواله، يريد أن يقدِّم له  شيئًا، أن يجعل له صدقةً جاريةً تنفعه بعد الموت، فيغفل ويخاف، يخاف أن يوصي؟!

إن هذا لهو من الغفلة العظيمة؛ يخاف أن الوصية تقرِّب الموت، أنَّ الوصية تطوي الأجل، أن الوصية نذير شؤم وفأل غير حسن!! كل هذا من الجهل ومن الغفلة، لذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما حقُّ إمرءٍ مسلمٍ له شيءٌ يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده))؛ لا يَحِقُّ للرجل له دينٌ عند أحدٍ، أو عليه ديونٌ لأحدٍ، إلا ويوصي، يكتب ذلك ويضعة عند رأسه كما قال عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما -: "فما بِتُّ ليلتيْن منذ أن سمعت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ووصيتي مكتوبة عند رأسي)).

اكتب هذه الوصية، ولو لم يكن فيها إلا عشرة ريالات لفلان، أو عشرة ريالات عند فلان، أو صدقة كذا للمسجد الفلاني أو المشروع الفلاني، فإن ذلك لا يقرِّب أَجَلاً، ولكن يُبْعِد الفِتَن، ويزيل المشاكل، ويجعل الإنسان عاملاً بوصيَّة ربِّ العالمين، وبهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم.

2

اغاثة المسلمين وحرمة الدماء المعصومة

( اغاثة المسلمين وحرمة الدماء المعصومة )
فاتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في أهليكم، واتقوا الله في أموالكم وأولادكم ) واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون

أيها المؤمنون، يقول ربكم عز وجل: [قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ].

قال المفسرون: أي إن الله جلَّ وعلا يوسِّع هذا الرزقَ على من يشاء من عباده، ويضيّق على من يشاء، وليس في بسطه دليل على رضاه، ولا في تضييقه دليل على سخطه، ولكنه الابتلاء بالنعم والنقم، بالخير والشر، باليسر والعسر.

ثم إن الله تعالى يبتلي عباده بالقِلَّة.. ليمتحن صبرَهم وعفتَهم، ويبتلي آخرين بالكثرةِ واليُسر.. لينظر كيف يعملون في مال الله الذي استخلفهم فيه.

أجل أيها المؤمنون؛ إنه من عظيم حكمة الله -عز وجل- أنْ يرزق أناساً دون أناس، وأنْ يشبعَ جارٌ دون جاره، وأخٌ دون أخيه، وجيلٌ دون الذي يليه، وشعبٌ دون شعب.. ليمتحنَ اللهُ هذه القلوب، ليبتلي ما فيها من الرحمةِ والإيمان.. والثقةِ بما عند الله عز وجل .. 

وإنَّ مما ابتلينا به، ونخافُ على أنفسنا من تبعاته يوم القيامة.. هذه الأموالُ التي بين أيدينا، هذا الرزقُ الذي يأتينا عفواً صفواً.. ونحن أوفرُ ما نكونُ راحةً وأمناً واستقراراً.. بينما نسمع ونرى كيف يعيشُ المسلمون من حولنا، شعوبٌ تمزقها الحروب، وأخرى يفتك بها الفقرُ والمسغبةُ والجهل والوباء والبرد

أيها المسلمون... هل أتتكم أنباءُ الجوعِ الفاتك والبردِ القارس الذي يطوي المسلمين في مخيمات اللاجئين السوريين في دولٍ شتى؟

هل سمعتم بالأمة المسلمة هناك.. التي تذوب تحت وطأة القهر والجوع والبرد والألم والحسرة؟.

إخوان لكم يستغيثون منذ أشهر، حينما أجهدهم العوزُ، وألح عليهم الفقر؛ فهزلت أبدانهم، واصفرَّت وجوههم، وعدتْ عليهم الأمطارُ والعواصفُ الثلجية، فهدمت الملاجئ البائسة، وملأت الطرقات وحلاً وطيناً. ثم اجتاحهم البرد والصقيع والثلج.. فدخل بقايا الخيام، وبات بين العظام، تئن منه الجسوم، وتذهل منه الحلوم، كلُّ ذلك وهم يستصرخون إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها، ويستصرخون العالم المتحضر.. ولا رجع ولا أثر... ليسجلَ التاريخُ بمدادٍ من العارِ وفاةَ عدة أطفال بسبب البرد.. وقبل ذلك وفاةَ الكرامة والنخوة والشهامة في قلوب بني يعرب، فلا نامت أعين العملاء والجبناء والبخلاء.
أيها الكرام... إننا نريدُ إجابةً لسؤال محزن وكبير.. ولكن من سدنةِ الإعلام، وحملةِ الأقلام:

لماذا يتباكى العالمُ على ضحايا أعاصير الغرب؟ ومسلموا الشامِ لا بواكي لهم؟! وقتلى المسلمين لا بواكي لهم..

لماذا تهمي سحائبُ الجود العربي والخليجي.. لإغاثة دولة متجبرة متكبرة، ملأت الدنيا ظُلماً وجَوراً، وروَّت أرضَنا بدماء أبنائنا، ثم إذا استغاث الضَّعَفَةُ والمساكينُ والأبرياءُ من المسلمين.. لا تمتد إليهم يدُ رحمة، ولا يلينُ لهم قلب، ولا تَسُحُّ عليهم عين؟

ألم يكن لأنينِهم صدى؟ ألم يبلغنا نحيبُهم؟ ألم نسمع شكواهم؟
فجائعُ الدهرِ أنواعٌ منوعةٌ ** وللزمانِ مسرّاتٌ وأحزانُ 
وللحوادثِ سلوانٌ يسهّلها ** وما لما حلَّ بالإسلامِ سُلوانُ
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم ** قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ
ألا نفوسٌ أبيّاتٌ لها همم ** أما على الحق أنصارٌ وأعوانُ
لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ ** إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ

في يوم القيامة.. يقول الله جل جلاله.. كما في الحديث القدسي: «يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني!! فيقول: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه. أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟!...». 

فأين مدَّعو حقوق الإنسان؟ أين هم عن ملايين البشر في الداخل السوري وفي مخيمات اللاجئين؟ يفريهم الجوع، وتفتك بهم الأمراض؟!.
وأين مدَّعو حقوق الإنسان.. عن مأساة المسلمين في غزة.. حيث الحصار الخانق من الجيران الأقربين.. نقص في الغذاء والكهرباء.. حتى أقيمت بعض العمليات الجراحية على ضوء مصابيح الجوالات.


وأين مدَّعو حقوق الإنسان.. عن مأساة وكارثة المسلمين في بورما.. حيث تقطع أوصالهم تقطيعاً.. بالفؤوس والحراب.. 
ومن فرَّ منهم.. فإنما يفر إلى الموت جوعاً ومسغبة في مساكن يُطلق عليها مجازاً مخيمات.. وهي إلى الحظائر أقرب..

فأين عن هؤلاء المسلمين جميعاً.. مدَّعو حقوق الإنسان..
ألا ويلٌ ثم ويلٌ.. لقطاعِ الطرق.. ومغاليقِ الخير.. ومفاتيحِ الشر.. الذين عرقلوا عملَ الجمعيات الخيرية، وخنقوا أموالها، وحاصروا وفودَها، والتي كانت تكفُّ عنا بعضَ اللائمة، وتعفينا من بعض المسؤولية، 
واليوم.. وبعد أن شنشن عليها أهلُ العلمنة والنفاق، لم يعد لنا سفراء إلى إخواننا.. يحملون لهم مشاعرَنا.. وبعضَ ما تسخو به نفوسُنا.
أليس هناك من يحتسبُ أجره على الله.. ويخرجُ إلى الضعفة المساكين، ويقول لهم: إن إخوانكم هناك ما نسوكم.. ولم يتجاهلوا مصيبتكم..


أترى.. سيخرج إليهم المنافقون الذين حاربوا جمعيات الخير ومؤسسات الإغاثة؟ 
أم سيخرج إليهم دهاقنةُ الإعلام الكاذب الذين اتسعت إنسانيتهم لأعدائنا، ولكنها ضاقت عن إخوة التوحيد وأشقاء الإسلام؟ 
ناحتْ أقلامهم على كل عدو ومبتدع وكافر، ولكنها خرستْ وضعفتْ إزاء أمةٍ مسلمةٍ أخمدتها الحروبُ والمسغبةُ والبأساء.
أيها المؤمنون بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عيه وسلم نبياً ورسولاً... انفذوا إلى إخوانكم المسلمين بأي وسيلة، وأنقذوهم وأغيثوهم، فإنهم يموتون قهراً من تخاذل المسلمين، ويموتون مسغبةً وجوعاً وبرداً، كلّ ما وصلَهم هو الفُتاتُ مما لا يسمن ولا يغني من جوع.
هؤلاء المساكين.. لن يغيثَهم المراؤون ولا أهلُ المصالح، ليس لهم بعد الله.. إلا أهلُ الصدقِ الذين يقولون: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا).

أجل أيها المسلمونأطعموهم، فكلكم جائع إلا من أطعمه الله، واكسوهم فكلكم عارٍ إلا من كساه الله، وفي الحديث: (أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم، وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً). 

وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ( إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها، أعدها اللهُ تعالى لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناسُ نيام) 

أيها الناس: إن من وراءكم يوماً عبوساً، وعقبة كؤوداً، لا ينجو منها إلا من اقتحمها [فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ]. 

فيومُ الجوعِ والمسغبةِ والفقرِ الشديد الذي يمر بإخواننا هناك.. هو فرصةُ الخائفين من النار، والمشفقين من عذاب الله، هو بابُ النجاة من العذاب.
فاستدفعوا عذابَ الله بالصدقة، واستجلبوا رضاه بالإحسان، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ].
وصدق الله: [إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ].

وتذكروا انَّ هذا واجبنا تجاه إخواننا.. لا نقوم به فضلاً ولا منةً ولا تكرماً.. بل هو بعضُ الواجب، وعسى الله أن يعفو عن تقصيرنا وخذلاننا لإخواننا.. والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واعلموا أن لمبادرات الخير في الإسلام شأناً عظيماً، فديننا.. يشيد بالمبادرين الذين يفتحون أبوابَ الخير أمام الناس، ويدلونهم عليه، وينصبون من أنفسهم قدواتٍ ونماذجَ إحسانٍ تُحتذى

عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله عليه الصلاة والسلام في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النِّمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله عليه الصلاة والسلام لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب، فقرأ شيئاً من القرآن ثم قال: (تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة)، فقال: فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت يده تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيتُ وجهَ رسول الله يتهلل كأنه مُذْهَبَة، فقال عليه الصلاة والسلام : ( من سن في الإسلام سنةً حسنة.. فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً.. كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً).

فبادروا -رحمكم الله- إلى إنقاذ مُهجٍ مسلمة، ليس لها إلا أهلُ الصدق والإيمان، وسارعوا إليها قبل أن تسبقكم عصاباتُ الرافضة وجيوش التنصير.

ولله درُّ مسلمٍ موّحدٍ.. شمر وجدَّ في عون وغوث إخوانه المسلمين.

وشكر الله لكل من واساهم، وخفف مصابَهم، وفرّج همهم، ونفّس كربتهم. [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]. [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ].
زادكم اللهُ من خيره العظيم، ووسّع عليكم من فضله العميم.
وجعل لكم رزقاً داراً.. وعيشاً ساراً.. ومرداً غيرَ مخزٍ ولا فاضح.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين..
فتوبوا إليه واستغفروه إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:
يا أهلَ ايمان هي واللِه رسالةٌ بليغةٌ في تعظيمِ أمرِ الدماءِ، فإذا كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام قد عَظَّمَ دمَ محاربٍ قال: لا إله إلا الله ، والقرائن تدل على أنه قالها متعوِّذاً ، فكيف بدم امرئٍ يُتيقن في إسلامه وتوحيده .
فلا يَستخفُّ بأمرِ الدماءِ إلا من تاه في لججِ الضلالِ والآثام.
لا إنذارَ أشدُّ وأعظمُ على من له قلب، من هذا النذيرِ الإلهي:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.
لقد عظَّم الإسلامُ أمرَ الدماءِ حتى كانت الدنيا بما فيها أهونَ عند الله من سفكِ دمٍ امرئٍ مسلم. رواه الترمذي وغيره.
والله سبحانه أخبر أنَّه لا يحب الفساد، وأنه لا يصلح عمل المفسدين، وأنَّ أعظمَ الفسادِ استباحةُ الدماءِ المعصومة، { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا }.
وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث ِعبادةَ بنِ الصامتِ ، أن النبي قال : «مَنْ قَتَلَ مؤمناً، فَاغْتَبَطَ بِقَتْلِه ـ أي فرح ـ لم يَقْبل الله منه صَرفا ولا عَدلا».
وعند مسلم في صحيحه:«.... وَمَن خَرَجَ عَلى أُمَّتي يَضرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَها، لا يَتَحَاشى مِنْ مؤمِنها ، ولا يَفي بِعَهدِ ذِي عَهدِها ، فَلَيْسَ مِني ، وَلَسْتُ منه».
وقبل أن يُودِّع النبي عليه الصلاة والسلام هذه الدنيا بأشهر أكَّدَ في حجَّة الوداعِ وقرَّر: «إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ».
بل إنَّ كلَّ الذنوبِ يُرجى أنْ يغفرَها اللهُ إلا الشركَ ومظالمَ العباد ( لانه لابد فيها من القصاص يوم القيامة )، وأعظمُ الظلمِ قتلُ الأنفسِ المعصومة، ولذا كان من عدل الله سبحانه أنَّه أول ما يُقضى بين الناسِ في الدماء.
قال ابن حزم : لا ذنبَ بعد الكفرِ أعظمَ من تأخيرِ الصلاةِ عن وقتِها، ومن قتلِ امرئٍ مسلمٍ بغيرِ حق.
فقضيةُ حرمةِ الدماءِ محسومةٌ، والنصوصُ فيها صريحةٌ، والتأويلاتُ مهما كانت مرفوضة، ولا يزيغ عن هذا إلا هالك.
وإذا تقرَّر هذا فيبقى السؤالُ الأهم:
لماذا كان أهلُ المسالكِ الغاليةِ يَسترخصونَ أمرَ الدماءِ رغمَ ما فيها من الوعيد الشديد؟
والجواب : أنَّ الاستخفافَ بالدماءِ لا يُولَدُ فجأةً ، بل يَبْدأُ بمقدماتٍ ، فهو يبدأ بالتأويلِ المنحرفِ ، ثم التنظيرِ المُتَعَسِّفِ ، ثم التكفيرِ الناسِفِ ، ثم بعد ذلك يَهُونُ أمرُ القتلِ .
التأويلُ المنحرفُ الذي قال عنه ابنُ عمرَ في وصف الخوارج : انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين.

3