إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 12 مايو 2015

نعم الله على العبد وحمده عليها

( نعم الله على العبد وحمده عليها )
الخطبة الاولى : 
فيا أيها الإخوة، يقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "انظروا إلى من أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى مَن فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم" أخرجه الإمام مسلم-رحمه الله تعالى-هذه لفتةٌ عظيمةٌ، وفكرةٌ قويمةٌ، وتوجيهٌ سديدٌ، ورأيٌ رشيدٌ 
إنك يومَ تنظرُ إلى أحوالِ الناسِ، تجد أن بعضَهم قد أُصيبَ بإحباطٍ، وعاشَ في قلقٍ، وتلظَّى في نكدٍ، وبقي في شقاءٍ؛ بسببِ نظرِهم إلى مَن هم فوقَهم، وتطلّعِهِم إلى ما بأيدي غيرِهم، وظنِهِم أن أولئكَ هم السعداءُ بما في أيديهم، وأنهم هم الأشقياءُ المعدمون، فينعكسُ ذلك في نفوسِهِم، ويُقللُ من شكرِهِم لربهم، ومعرفتِهِم بأنفسهِم، ويؤثرُ في حياتِهم، ويُثَبِّطُ من سيرِهم
إنَّ الإنسانَ يستطيع أن يعيشَ سعيدًا، ويحيا غنيًا، ولو لم يكن لديه شيءٌ من مباهجِ الحياةِ وزينتِها؛ فالسعادةُ سعادةُ القلبِ، والبهجةُ بهجةُ النفسِ، وتمامُ النعمةِ في الدينِ، وكمالُ المِنةِ بالإيمانِ؛ والسرورُ بالحياةِ هو بحسنِ النظرِ إليها، وفنِّ التعايشِ معها، وأنْ يرضى المرءُ بالقليلِ، ويشكرَ على الكثيرِ، ولا يفرحَ كثيرًا بموجودٍ، ولا يحزنَ طويلا على مفقودٍ، وما مِنْ أحدٍ إلا وللهِ عليه مِنةٌ، وله عليه نعمةٌ، قال-سبحانه-: [قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ]،[أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)
فَلْيعلمِ المرءُ-مهما كان مكانُه وقلَّ إِمْكانُه-أن نِعمَ اللهِ-سبحانه-ومِنَنَهُ عليه عظيمةٌ لا تُحصى، قال-تعالى-: [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)
أليس منَ السعادةِ أنْ ينطلقَ المرءُ مِنْ بيتِهِ مُعافَىً في جسدهِ، سليمًا في عقلِه، متمتعًا بجوارحِه
ويَسعَدُ بانطلاقِ لسانِهِ، وقدرتِه على الكلامِ، وتحدثِهِ مع الآخرين، وإفصاحِهِ عن حاجتِهِ، وتعبيره عما يجيش في صدر
ويَسعَدُ بقدميْهِ السليمتينِ، ويديْهِ القويتينِ.
ويَسعَدُ بحسنِ تفكيرِهِ، ورجاحةِ عقلِهِ،
ويَسعَدُ بأولادِه، ببناتِه، بإخوانِه، بأخواتِه، بزوجتِه، بأُمِه، بأبيه، بأقاربِه، بجيرانِه، أليستْ هذه كلُّها سعادةً، وجميعُها سرورًا؟ 
إنك تمتلكُ الملايينَ، ولكنك لا تشعرُ بذلك، فإذا أردتَ أن تشعرَ به فانظُرْ إلى بصَرِك، هل تبيعُهُ بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ سمعَك بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ يديْكَ بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ قدميْكَ بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ أبناءَك أو عائلتَك بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ جهازَك الهضميَ، أو لسانَك، أو قلبَك السليمَ بملايينِ الريالاتِ؟ كلا، لنْ تفعلَ ذلك! إذًا أنت تملك أكثرَ من كنوزِ الدنيا وأموالِها، فأنتَ غنيٌّ ولست فقيرًا، وأنت سعيدٌ ولستَ شقيًا

لو أنَّ المرءَ يتفكَّرُ فيما وهبَه الله-سبحانه-من النِّعَمِ لما نغَّصَ حياتَه، وأتعبَ نفسَه في التفكيرِ البائسِ، والهمِّ القاتلِ، بالنظرِ فيما عندَ الآخرين
تاجرَ رجلٌ فأفلستْ تجارتُه، وتحمَّلَ ديونًا كثيرةً، فضاقتْ نفسُه، وتنغصَ عيشُه؛ وملأَ الحزنُ قلبَه، وسكنَ الغمُ فؤادَه، وأتعسَ القلقُ حياتَه، فخرجَ يمشي هائمًا على وجهِه، فرأى رجلا مبتورَ الساقينِ، راكبًا عربةٍ يحركُها بيديِهِ وهو يعبرُ الشارعَ، فلما اقتربَ منه ناداه بابتسامةٍ جميلةٍ على شفتيِه قائلا له: صباحُ الخيرِ، إنه صباحٌ جميلٌ، ويومٌ سعيدٌ أليسَ كذلك؟ يقولُ الرجلُ فخجلتُ من نفسي، واحتقَرتُ موقفي، واستعَدْتُ همتي، وقلت: الحمدُ للهِ أنَّ معي ساقينِ سليمتينِ، وأستطيعُ أنْ أمشيَ وأتنقلَ في حرية، إذًا لماذا الهمُ والقلقُ وأنا أمتلك هذه الثروة الكبيرة؟

فيجبُ على الإنسانِ-ليسعدَ بالحياة-أن يعددَ أشياءَه المباركةَ، وليس متاعبَهَ، وأن ينظرَ إلى مكاسبِه فيها، وليس إلى خسائرِه، بل حتى المصائبَ والكوارثَ يجبُ أن ينظرَ إلى الجانبِ الجيدِ الإيجابيِ فيها، فهي لا تخلو من ذلك، ولو لم يكن إلا أجرُ الصبرُ عليها، وثوابُ احتسابِها، لكفى به عزاءً، قال-تعالى-: [أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ)

كان-صلى الله عليه وآله وسلم-يربِطُ الحجارةَ على بطنِهِ من الجوعِ، ويمكثُ الشهرَ والشهرينِ لا يوقدُ في بيتِهِ نارٌ، ويخرجُهُ الجوعُ من بيتِهِ أحيانًا كثيرةً، وقُتِل أصحابُه، ومُزِّقَ بعضُ أتباعُه، وفقَدَ كثيرًا من أحبابه؛ حلَّتْ به الكوارثُ، ونزلتْ به المصائبُ، ولم يكن له مركبٌ فخمٌ، ولا قصرٌ فاخرٌ، ولا رصيدٌ كبيرٌ، ومع ذلك قال له الله-تعالى-: [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]، وقال:[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]، فأيُ نعمةٍ تلكَ وقدْ نامَ على الحصيرِ حتى أثَّرَ في جنبِهِ؟ إن النِّعَم إذًا لا يُنظَرُ فيها إلى الجوانبِ الماديةِ فقطْ؛ فهناك نِعَمٌ أجلُّ، ومِنَنٌ أكبرُ.

وقال-صلى الله عليه وآله وسلم-لما سُئلَ عن كثرةِ قيامِهِ حتى تفطَّرَتْ(تشققتْ)قدماه، قال: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا" رواه الإمامانِ البخاري ومسلم-رحمهما الله تعالى-، ولقد عاش -صلى الله عليه وآله وسلم-أسعدَ إنسانٍ، أسعَدَ نفسَه، وأسعد مَن حولَه، وهو لم يملكْ من حطامِ الدنيا شيئًا؛ فليستِ المِنةُ بالمالِ وحدَه والثراءِ أو الممتلكاتِ، فالإيمانُ بالله أعظمُ نعمةٌ، والحياةُ نعمةٌ، والجوارحُ والعافيةُ نعمةٌ، والعقلُ نعمةٌ، والتوفيقٌ للدينِ والخيرِ نعمةٌ.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحو في الصباح الباكر فيبحث هو وفاطمة عن شيء من طعام فلا يجدانه، فيرتدي فروًا على جسمه من شدة البرد ويخرج، ويتلمَّس ويذهب في أطراف المدينة، ويتذكر يهوديًا عنده مزرعة، فيقتحم عليٌّ عليه باب المزرعة الضيق الصغير ويدخل، ويقول اليهودي: يا أعرابيُّ، تعال وأخرج كل غَرْبٍ بتمرة (والغرب هَو الدلو الكبير)، أي يخرجه من البئر معاونة للجمل، فيشتغل على رضي الله عنه معه برهة من الزمن حتى تَرِمَ يداه ويكلَّ جسمه، فيعطيه بعدد الغروب تمرات ويذهب بها ويمر برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعطيه منها، ويبقى هو وفاطمة يأكلان من هذا التمر القليل طيلة النهار.

رُويَ أن عبدًا عبَدَ اللهَ خمسَ مئةِ سنةٍ، فيحاسبُ يومَ القيامةِ ويقول اللهُ-سبحانه-: أَدخلوا عبديَ الجنةَ برحمتي. فيقول: بل بعملي، فيقول اللهُ-سبحانه-: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعملِه، فوجدوا أنَّ نعمةَ البصرِ قد أحاطت بعبادتِهِ خمسَ مئةِ سنةٍ، وبقيةُ النِعَم صارت فضلا عليه وكرمًا من الله! فيقول اللهُ-سبحانه-: ادخلوا عبدي النارَ، فيُجَرُ إلى النارِ، فينادي: ربِّ برحمتِك أدخلني الجنةَ. فيقول: رُدوهفيُدخِلُهُ اللهُ الجنةَ برحمتِه.

وما الحياةُ؟ وما قيمتُها؟ وما الدنيا؟ وما أهميتُها؟ لو كانتْ تساوي عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى منها كافرًا شربةَ ماءٍ، فهي مرحلةٌ عابرةٌ، ورحلةٌ قصيرةٌ، لا تستحقُ أن ينغِّصَ الإنسانُ فيها نفسَه بالتحسرِ على ما فاتَ منها، والألمِ على مباهجِها؛ حرامُها عقابٌ، وحلالُها حسابٌ، وإنَّ الأكثرينَ في الدنيا هم الأقلونَ يومَ القيامةِ، إلا منْ قالَ بالمالِ هكذا وهكذا-بالصدقةِ ووجوهِ الخيرِ-أمامَهُ ومِنْ خلفِه، وعن يمينِه وعن شماله، وقليلٌ ما هم! [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].

إنَّ على المسلمِ ألا يُكَثِّرَ الهمومَ على نفسِه، فالدنيا لا تستحقُ ذلك، يجبُ أنْ يكونَ همُه الآخرةَ يومَ الوقوفِ على اللهِ، في ظلمةِ القبرِ، والنفخِ في الصورِ، في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ، هناك "يُؤتى بأنعمِ أهلِ الدنيا مِنْ أهلِ النارِ يومَ القيامةِ، فيُصبَغ في النار صَبغةً(غمسةً)، ثم يُقالُ: يا ابنَ آدمَ هل رأيتَ خيرًا قَطُ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قَطُ؟ فيقول: لا واللهِ يا ربِّ! ويؤتى بأشدِ الناسِ بؤسًا في الدنيا مِنْ أهلِ الجنةِ، فيصبغ في الجنة صبغة(غمسةً)، فيُقالُ له: يا بنَ آدمَ، هل رأيت بؤسًا قَطُ؟ هل مرَّ بك شدةٌ قَطُ؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤسٌ قَطُ، ولا رأيت شدةً قَطُ"، ويقول -صلى الله عليه وآله وسلم-: "قدْ أفلحَ منْ أسلمَ، ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعَه اللهُ بما آتاه" رواه الإمام مسلم-رحمه الله تعالى-فنسأله-تعالى-أن يجعلنا وإياكم والمسلمين من القانعين بما آتاهم، والشاكرين لنعمه، المعترفين بكرمه.

الخطبة الثانية
أما بعدُ: ففي الحديثِ المرويِ عنه-صلى الله عليه وآله وسلم-أنه قال: "منْ أصبحَ منكم آمنًا في سِرْبِه، معافًى في جسدِه، عندَه قوتُ يومِه، فكأنما حِيزتْ له الدنيا" رواه الترمذي وابن ماجه-رحمهما الله تعالى-.
قالَ هارونُ الرشيدُ-رحمه الله-لرجلٍ: عِظْنِي، فأرادَ الرجلُ أنْ يذكِّرَه بنعمِ اللهِ عليهِ، وكان الرشيدُ قد أُتي بماءٍ ليشربَه، وقدْ أمسكَه بيدِه، فقال له: يا أميرَ المؤمنينَ! لو حُبِسَتْ عنك هذه الشربةُ ومُنِعْتَ منها، أكنتَ تفديها بملكِك؟ قال: نعم، قال: فلو شربتَها، وحُبس عنك إخراجُها أكنتَ تفديها بملكِك؟ قال: نعم. قال: فما خيرَ في مُلكٍ لا يساوي شربة ماء؟.
وإنَّ هناك من النماذجِ العظيمةِ في تاريخِنا، ما يسلي النفسَ، ويُسعِدُ الخاطر، ويُثيرُ العَجَبَ مِنْ ناسٍ أيقنوا حقيقة النعم التي وُهِبُوها، والمِنَن التي مُنِحوها، فكانوا مِثالا في الشُكرِ، ونماذجَ في الصبر
عروةُ بنُ الزبيرِ-رضي اللهُ عنه-لما أصابه مرضُ الآكلةِ في رجلهِ، فنصحَه الأطباءُ ببترِ قدمِه فبترت، نظرَ إليها وهي مبتورةٌ فقالاللهُ يعلمُ أني ما مشيتُ بكِ إلى معصيةٍ، ثم مات أحبُّ أولادِه إليه في اليومِ نفسِه، فدعا الله قائلا: اللهم لك الحمدُ على ما قضيتَ، كان لي أربعةُ أطرافٍ فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثةً، وأعطيتَني أربعةً أبناءِ فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثةً، فلك الشكرُ على ما أعطيتَ، ولك الحمدُ على ما قضيتَ.
ومر ناسٌ برجلٍ يومَ معركةِ القادسيةِ بين المسلمين والفرس، وقدْ قُطعتْ يداهُ ورجلاهُ وهو يضحكُ، ويقول: [مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا]. 
ودخل رجلٌ على رجلٍ قدْ نزلتْ به بلوى عظيمةٌ، ومرضٌ شديدٌ، فقال له :كيف تجدُك؟ قال : أَجدُ عافيتَه أكثرَ مما ابتلاني به، وأَجدُ نعمَه عليَّ أكثرَ من أنْ أحصيَها، ثم بكى، وقال: أُسلي نفسي عن ألمِ ما بي بما وعد عليه ربي أهلَ الصبرِ، مِنْ كمالِ الأجورِ في مشهدِ يومٍ عسيرٍ.
مر ابراهيم بن أدهم على رجل ينطق وجهه الغم والحزن . فقال له : " أيها الرجل إني سائلك عن ثلاث فأجبني " .
قال الرجل : نعم .
قال ابراهيم : أيجري في هذا الكون شئ لا يريده الله ؟
قال : كلا .
قال : أينقص من رزقك شئ قدره الله ؟
قال : كلا .
قال : أينقص من أجلك لحظة كتبها الله لك في الحياة ؟
قال : كلا .
فقال ابراهيم : فعلام الهم إذا.
"أبو قلابة صاحب ابن عباس" كان من أعلم الناس بالقضاء وأشدهم منه فرارًا، وأشدهم منه فرقًا، قال أيوب السختياني عنه: ما أدركت بهذا المصر أعلم بالقضاء من أبي قلابة، ابتلاه الله بالضراء، فصبر واحتسب وتجمل، يروي حكايته ابن حبان (في الثقات) بسنده عن الأوزاعي، عن عبد الله بن محمد، قالخرجت إلى ساحل البحر مرابطًا وكان رباطنا يومئذ عريش مصر. قال: فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا بِبُطَيْحة، وفي البُطيْحة خيمة، فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه وثقل سمعه وبصره، وماله من جارحة تنفعه إلا لسانه، وهو يقول: "اللم أوزعني أن أحمدك حمدًا، أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا".
قال الأوزاعي: قال عبد الله: قلت: والله لآتينَّ هذا الرجل، ولأسألنَّه أنَّى له هذا الكلام، فهمٌ أم علمٌ أم إلهامٌ أُلهمه؟ فأتيتُ الرجل فسلمت عليه، فقلت: سمعتك وأنت تقول: "اللهم..... تفضيلا" فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها، وأي فضيلة تفضل بها عليك تشكره عليها؟
قال: وما ترى ما صنع ربي؟ والله لو أرسل السماء على نارًا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فأغرقتني، وأمر الأرض فبلعتني، ما ازددت لربي إلا شكرًا، لما أنعم علي من لساني هذا، ولكن يا عبد الله إذ أتيتني، لي إليك حاجة، قد تراني على أي حالة أنا، أنا لست أقدر لنفسي على ضُرٍّ ولا نفع، ولقد كان معي بنيٌّ لي يتعاهدني في وقت صلاتي، فيوضيني، وإذا جعت أطعمني، وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فتحسَّسه لي رحمك الله.
فقلت: واللهِ ما مشى خَلْقٌ في حاجة خلقٍ، كان أعظم عند الله أجرًا ممن يمشي في حاجةِ مثلك. فمضيت في طلب الغلام، فما مضيتُ غير بعيد، حتى صرت بين كثبان من الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه، فاسترجعت وقلت: أنى لي وجه رقيق آتي به الرجل؟ فبينما أنا مقبل نحوه، إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أتيته سلمت عليه، فرد علي السلام، فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى. قال: ما فعلت في حاجتي؟ فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟ قال: بل أيوب النبي. قلت: هل علمت ما صنع به ربه؟ أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى. قلت: فكيف وجده؟ قالوجده صابرًا شاكرًا حامدًا. قلت: لم يرضَ منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه؟ قال: نعم. قلت: فكيف وجده ربُّه؟ قال: وجده صابرًا شاكرًا حامدًاقلت: فلم يرض منه بذلك حتى صيَّره عَرَضًا لمار الطريق، هل علمتَ؟ قالنعم. قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: صابرًا شاكرًا حامدًا، أوجز رحمك الله. قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كُثبان الرمل، وقد افترسه سبع فأكل لحمه، فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر. فقال المبتلى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقًا يعصيه، فيعذبه بالنار. ثم استرجع، وشهق شهقة فمات، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عظمت مصيبتي، رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع، وإن قعدتُ، لم أقدر على خير ولا نفع. فسجَّيته بشملةٍ كانت عليَّ، وقعدت عند رأسه باكيًا، فبينما أنا قاعد إذ تهجم علي أربعة رجال، فقالوا: يا عبد الله، ما حالك؟ وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته، فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه، فعسى أن نعرفه. فكشفت عن وجهة، فانكبَّ القوم عليه، يقبلون عينيه مرة، ويديه أخرى، ويقول: بأبي عينٌ طالما غُضّت عن محارم الله، وبأبي جسم طالما كان ساجدًا والناس نيام. فقلتُ: من هذا يرحمكم الله؟ فقالوا: هذا أبو قلابة الجرمي، صاحب ابن عباس، لقد كان شديد الحب لله وللنبي صلى الله عليه وسلم.
فغسَّلناه وكفنَّاه بأثواب كانت معنا، وصلينا عليه ودفنَّاه. فانصرف القوم وانصرفتُ إلى رباط، فلما أن جَنَّ عليَّ الليل، وضعت رأسي، فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة، وعليه حُلَّتانِ من حُلَلِ الجنة، وهو يتلو الوحي: "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"، فقلتُ: ألست بصاحبي؟ قالبلى. قلت: أنى لك هذا؟ قال: "إن للهِ درجاتٍ لا تُنَال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، مع خشية الله عز وجل في السرِّ والعلانية".
والقصصُ كثيرةٌ عن أولئك العظماء الذين عرفوا حقيقةَ النعمةَ، وعظمةَ الصبرَ، وعِظَمَ الأجرِ، قال-تعالى-: [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ]، والمرادُ والقصدُ من هذا كلِه تنبيهُ الناسِ، الذين غفلوا عن شكرِ ربِهم، ونغَّصُوا حياتَهم، وأقلقوا أنفسَهم، وأرهقوا أفكارَهم، وجلبُوا الهمومَ والغمومَ إلى حياتِهم، بكثرةِ نظرِهِمْ إلى ما عندَ الآخرينَ، وتَطَلُّعِهِمْ لمَِا في أيدي غيرِهم، واعتبارِهم أنفسَهم محرومينَ أشقياءَ، مع أنَّ عندَهم مِنَ النِّعَمِ، ولديهم من المَلكاتِ والطاقاتِ، ما يجعلُهم يعيشونَ سعداءَ، ويَعُدونَ أنفسَهم أغنياءَ، و"ليس الغنى عن كثرةِ العرَضِ، ولكنَّ الغنى غنى النفسِ"؛ [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ].
لكَ الحمدُ يا مستوجبَ الحمدِ دائماً 
                   على كل حالٍ حمدَ فانٍٍ لدائمِ 
وسبحانكَ اللهمَّ تسبيحَ شاكرٍ 
                   لمعروفكَ المعروفِ يا ذا المراحمِ 
فكمٍ لكَ منْ سترٍ على كلِّ خاطيءٍ 
                   وكمْ لكَ منْ برٍ على كلِّ ظالمِ 
وجودكَ موجودٌ وفضلكَ فائضٌ 
                   وأنتَ الذي ترجى لكشفِ العظائمِ 
وبابكَ مفتوحٌ لكلِّ مؤملِ 
                   وبركَ ممنوحٌ لكلِّ مصارمِ 
فيا فالقَ الإصباحِ والحبِّ والنوى 
                   ويا قاسمَ الأرزاقِبينَ العوالمِ 
و يا كافلَ الحيتانِ في لجِّ بحرها 
                   ويا مؤنساً في الأفقِ وحشَ البهائمِ 
ويا محصيَ الأوراقِ والنبتِ والحصى 
                   ورملَ الفلاَ عدا وقطرَ الغمائمِ 
إليكَ توسلنابكَ اغفرْ ذنوبنا 
                   وخففْ عنِ العاصينَ ثقلَ المظالمِ 
وحببْ إلينا الحقَّ واعصمْ قلوبنا 
                   منَ الزيغِ والأهواءِ يا خيرَ عاصمِ 
ومنَّ علينا يومَ ينكشفُ الغطا 
                   بسترِ خطايانا ومحوِ الجرائمِ 
وصلَّ على خيرِ البرايا نبينا 
                   محمدٍ المبعوثِ صفوة ِ آدمِ
2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق