إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 29 أكتوبر 2021

البكاء من خشية الله

( البكاء من خشية الله )

أما بعد أيها المسلمون:
فلا أكمل ولا أعظم، ولا أجمل ولا أكرم، مما امتدحه الله عز وجل في كتابه العزيز 
مدح الله من عباده أناس هم صفوة الخلق، فأصطفاهم بأحسن الصفات ونعتهم بأطيب النعوت.
هذه سورة مريم ابتدأها الله بالثناء على العبد الصالح، الرسول الكريم زكريا عليه الصلاة والسلام، ثم ثنّى بالثناء على ابنه العبد الصالح والرسول الكريم يحيى، ثم مدح مريم وابنها عيسى عليهم الصلاة والصلاة، ثم ذكر الخليل إبراهيم، ثم الكليم موسى، ثم الذبيح إسماعيل، ثم ذكر الصديق العلي إدريس ثم قال (أولئك الذين أنعم الله عليهم من ذرية أدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً).
نعم .. إنه ديدن أهل الدين وأهل الصلاح من النبيين والصديقين والصالحين، إنه تعظيمُ الله وتوقيرُه والبكاءُ عند ذكره شوقاً وحباً وخوفاً وطمعاً (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً * ويقولون سبحن ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً).
عباد الله:
البكاء من خشية الله وصف شريف، وخصلة حميدة، به وصف الله أنبياءه، والذين أوتوا العلم من عباده، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه"
كلما قوي الإيمان عظمت الخشية وازداد التوقير لله العلي الكبير، وأول الناس في ذلك وأولاهم به محمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هو أتقى الناس لله، وأخشى الناس لله، وأكثر الناس بكاءً من خشية الله.
ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ علي القرآن فقال: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ قال نعم: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ من سورة النساء حتى بلغ قول الله (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك فإذا عيناه تذرفان.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلى سُمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهو صوت القدر إذا اشتد غليانه.
وقد كانت تلك الحال حال تلاميذه رضي الله عنه وأرضاهم، ففي البخاري عن عائشة أن أبا بكر رضي الله عنه (ابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم ينظرون إليه ويعجبون! قالت عائشة: وكان أبو بكر رجلا بكَّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن).
وقال عبدالله بن شداد: كنت أسمع نشيج عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإني لفي آخر
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من القلب الذي لا يخشع، يقول ( اللهم إني أعوذبك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها). رواهمسلم
.
والله تبارك وتعالى يحب البكاء مِن خشيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرةٍ من دموعٍ في خشية الله، وقطرةِ دم تُهراقُ في سبيل الله... »، الحديث؛ رواه التِّرمذي، وصَحَّحه الألباني.
 

ــ والبكاء من خشية الله جُنَّةٌ من النار، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يَلِج النارَ رَجُلٌ بَكَى مِن خشية الله، حتى يعود اللَّبن في الضرع»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «عينانِ لا تَمَسُّهُما النارُ: عينٌ بكتْ مِن خشية الله، وعينٌ باتَتْ تحرُس في سبيل الله»؛ رواهما التِّرمذي، وصَححهما الألباني.

وقال رحمه الله في موضع آخر: إن في القلب قسوةً لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى ، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى، 
وذكر حماد بن زيد عن المعلى بن زياد أن رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذِبه بالذكر، وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار فما أُذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل
.
اللهم اهد قلوبنا وأصلح أحوالنا واجعلنا هداةً مهتدين.
فإن أفضل الدموع دموع الخلوات، قال صلى الله عليه وسلم وهو يَعُدّ السبعة الذين يظلهم الله: ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
فإذا خلوتَ بكتاب ربك، أو خلوتَ بمناجاته في ظلمة الليل، أو في الضحى والناس في غفلة ، فحرّك قلبك بذكر الله وبالثناء عليه وبدعائه، فإن القلب رافد العين، 
قال الحسن البصري: إن كان الرجل ليجلس المجلس من مجالس الذكر فتأتيه العبرة فيردُّها، فإن خشي أن تسبقه قام من مجلسه
.
وقال محمد بن واسع: إن كان الرجل ليقوم الليل عشرين سنة ويبكي من خشية الله ما تعلم امرأته عن ذلك.
وكان أحد أئمة الحديث يحدّث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم فإذا غلبه البكاء مسح أنفه بطرف عمامته وقال: ما أشدَّ الزكام .. ما أشدَّ الزكام.
وهذا لا يعني ذم الباكين من الأئمة والمأمومين، فقد بكى أمامَ الناس خيرُ الناس، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، لكنَّ المقصودَ الحثُ على تحري الإخلاص وإخفاء العمل الصالح وأثره، والله لا يضيع أجر المحسنين
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، وتقبل منا أعمالنا، واغفر لنا ذنوبنا، واجعلنا هداةً مهتدين
الخطبة الثانية : أيُّها المسلمون:
إلى الله المشتكى من حالنا، جفت عيوننا من دموع الخشية، وأصبحنا نصلي فلا نخشع، ونتلوا القرآن فلا نتأثر ولا نبكي، ونسمع المواعظ فلا نرق قلوبنا ولا نبكي، ونزور المقابر فلا نبكي، وندفن الموتى فلا نبكي.
 

ولو سألَ الواحدُ منَّا نفسَه: متى آخرُ مرةٍ دَمَعَتْ عيناه منَ خشية الله؟ لكان الجواب كاشفا عن إصابتنا بداء القسوة والغفلة.
وما ذاك عباد الله إلا بسبب:
ــ رُّكوننا إلى الدُّنيا، وغُرُورنا بزينتها وملذاتها، وكثْرة اشتغالنا بِفُضُولها.
ــ وبسبب غفلتنا عن ذكر الله وعن الدار الآخرة، فَقَلَّ ذِكْرُنا لمصيرنا وآخرتنا.
 
ــ وبسبب كَثْرة معاصينا وتَرَاكُم الذنوب على قلوبنا، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العبد إذا أذنبَ ذنبًا نُكِتَتْ في قلبه نُكتةٌ سوداء، فإنْ تابِ ونزعَ واستغفرَ صقل قلبه، وإن عاد زادتْ حتى تعلوَ قلبَه، فذلك الرَّان الذي ذَكَرَ الله في القرآن:﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾»؛ رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجَهْ، وحَسَّنَهُ الألباني.
 
ــ فيا عباد الله: لماذا تستمر قسوة قلوبنا؟ ألا يعظنا قول ربنا:﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ ألا يعظنا قولُه تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ... ﴾
 

ــ ما ابتلى الله عبدًا بعقوبة أعظم من قسوة القلب وقحوط العين.
قال ابن القيم رحمه الله: (ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى، فاعلم أن قَحْطَهَا إنما هو من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي) آهـ
 
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من القلب الذي لا يخشع كما في صحيح مسلم
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ، أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» الترمذي وحسنه وصححه يحيى بن معين والألباني.
وفي حديث ثوبان: «طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ»
 
وللسلف الصالح أحوال وأحوال مع الخشوع والبكاء، اقرؤوها في كتب الزهد والرقائق، فقد كانوا يخشعون ويبكون في الصلوات، ويبكون عند تلاوة الآيات، ويرِقُّون عند المواعظ، ويبكون خوفا من السابقة، وخوفا من سوء الخاتمة، ويبكون عند تذكر الآخرة، ويبكون شوقاً للقاء الله ولنعيم جناته، وخوفاً من النار والوقوف بين يديه.
فيا عباد الله: البكاء من خشية الله، عبودية محبوبة لله، قام مقامها السلف الصالحون، السابقون الأولون .
فاللَهُمَّ ارْزُقْنَا مَا رَزَقتَ عِبَادَكَ الصَّالِحِين مِنْ لِينِ القُلُوبِ وَالْخُشُوعِ وَالْبُكَاءِ وَالْخَشْيَةِ.

 

الخميس، 28 أكتوبر 2021

الأبراج والكهانة

 الأبراج والكهانة 

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 عبادالله: إِنَّ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ الْقَدِيمَةِ الْحَدِيثَةِ الَّتِي تُنَافِي الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَتُنَافِي التَّوْحِيدَ وَسَلَامَةَ الْمُعْتَقَدِ، إِتْيَانَ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ، 

وَمِنْهَا مَا يُسَمَّى فِي عَصْرِنَا الْحَالِيِّ بِالْأَبْرَاجِ، وَالَّذِي شَاعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى أَصْبَحَ فِي غَالِبِ الصُّحُفِ الْعَالَمِيَّةِ، وَلَهُ أَعْمِدَتُهُ الْيَوْمِيَّةُ، الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ، حَيْثُ يَأْتِي الْكُهَّانُ وَالْعَرَّافُونَ، 

وَيَتَنَبَّؤُونَ بِمَا سَيُصِيبُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَبْرَاجِ، وَالَّتِي وُزِّعَتْ عَلَى شُهُورِ السَّنَةِ، كَبُرْجِ الثَّوْرِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْحُوتِ، وَالْأَسَدِ، وَغَيْرِهَا، وَهَذِهِ الْأَبْرَاجُ مِنْ مَعَالِمِ وَأَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ بِإِبْطَالِهَا، وَوُجُوبِ الْكُفْرِ بِهَا، وَالْأَبْرَاجُ لَا يُصَدِّقُهَا إِلَّا جَاهِلٌ قَدْ طَمَسَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَلَوْ حَصَلَ عَلَى أَعْلَى الشَّهَادَاتِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْأَبْرَاجُ تُذَمُّ لِأُمُورٍ مِنْهَا:

أَوَّلًا: أَنَّهَا تُعَارِضُ التَّوْحِيدَ، وَتَجْعَلُ لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ، وَعِلْمُ الْغَيْبِ خَاصٌّ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَلَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ  بِأَنْ يَنْفِيَ عِلْمَ الْغَيْبِ عَنْ نَفْسِهِ، مَعَ أَنَّهُ خِيرَةُ خَلْقِ اللَّهِ، فَغَيْرُهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، 

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} 

لَكِنَّهُ مِثْلُ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ؛ إِلَّا مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}، فَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنِ ادَّعَى عِلْمَ الْغَيْبِ فَهَذَا مِنَ الْكُهَّا نِ.

ثَانِيًا: إِنَّ هَذِهِ الْأَبْرَاجَ تُصِيبُ النَّاسَ بِالْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ الْأَبْرَاجَ تَقُولُ إِنَّ الْمَوْلُودَ فِي بُرْجِ كَذَا يَتَّصِفُ بِكَذَا وَكَذَا، فَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ ثَابِتَةً لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، 

فَلَا يُمْكِنُ عِنْدَئِذٍ لِمَنْ يُصَدِّقُهَا أَنْ تَتَحَسَّنَ أَخْلَاقُهُ، أَوْ تَتَغَيَّرَ طِبَاعُهُ، فَيَجْعَلُونَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِمْ ضَحِيَّةً لِمُعْتَقَدَاتِهِمْ الْفَاسِدَةِ، فَيَصِفُونَهُ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْغَضَبِ، فَمَا ذَنْبُهُ أَوْ جَرِيرَتُهُ إِلَّا أَنَّهُ وُلِدَ فِي هَذَا الْبُرْجِ كَمَا يَدَّعُونَ، مَعَ أَنَّنَا نَجِدُ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ الَّتِي يَدَّعُونَهَا يُولَدُ فِي نَفْسِ الْيَوْمِ رَجُلٌ يَكُونُ مِنْ خِيرَةِ خَلْقِ اللَّهِ فِي دِينِهِ وَعَقْلِهِ وَحِلْمِهِ وَحَيَائِهِ، 

وَرَجُلٌ يُولَدُ فِي نَفْسِ الْيَوْمِ يَكُونُ مِنْ شَرِّ خَلْقِ اللَّهِ، وَقِمَّةِ الْحُمْقِ وَالْغَضَبِ وَالْجَهْلِ، وَهَذَا وَاقِعٌ وَمُشَاهَدٌ، فَهُمْ يُصِيبُونَ مَنْ يُصَدِّقُهُمْ بِالْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، وَيَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَدَّعُونَ لَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، 

وَمَا تَدْرِي -وَاللَّهِ- كَيْفَ يُصَدِّقُهُمْ بَعْضُ النَّاسِ، مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَ قَدْ كَذَّبَهُمْ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.

 ثَالِثًا: إِنَّهَا تُدَمِّرُ الْبُيُوتَ وَالْأُسَرَ، فَبَعْضُ النَّاسِ عِنْدَمَا تَحْدُثُ لَهُ مَشَاكِلُ مَعَ أَهْلِهِ يَقُولُ أَحَدُ الْمُتَضَرِّرِينَ: يَا لَيْتَنِي سَأَلْتُ عَنْ بُرْجِهِ قَبْلَ الِاقْتِرَانِ بِهِ، بَلْ هُنَاكَ زَوَاجَاتٌ فَشِلَتْ -وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً- بِسَبَبِ هَذَا الْمُعْتَقَدِ، بِسَبَبِ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلِمَ أَنَّ بُرْجَ زَوْجِهِ لَا يَتَوَافَقُ مَعَ بُرْجِهِ، 

وَمَنْ عَاشَ مَعَ النَّاسِ وَخَالَطَهُمْ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْجَاهِلِيَّةَ مَوْجُودَةٌ عِنْدَهُمْ، حَتَّى أُولِعَ بِهَذِهِ الْأَبْرَاجِ فِئَةٌ مِنَ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ الَّذِينَ نَشَؤُوا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَمَا اسْتَفَادُوا مِنْهُ، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ تُوأَدَ مَا دَامَتْ فِي مَهْدِهَا.

رَابِعَاً: إِنَّ هَذِهِ الْأَبْرَاجَ أَصْبَحَتْ تَتَدَخَّلُ فِي كُلِّ شُؤُونِ حَيَاتِهِمْ، حَتَّى فِي مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمْ مِنْ غِذَاءٍ، وَمَا يَضُرُّهُمْ، بَلْ وَتُحَدِّدُ نَوْعِيَّةَ الْأَصْدِقَاءِ لَهُمْ، 

وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ لِخِصَالٍ عَرَفُوهَا، أَوْ عَلِمُوهَا، وَإِنَّمَا لِاعْتِقَادَاتٍ جَاهِلَةٍ بَاطِلَةٍ اسْتَسْلَمُوا لَهَا. حَتَّى خَرَجَتْ لَهُمْ كُتُبٌ تُعْنَى بِذَلِكَ، وَتُحَدِّدُ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَهُ، بَلْ وَخَرَجَتْ أَقْوَالُهُمْ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي تُحَلِّلُ نَفْسِيَّاتِ أَصْحَابِ الْبُرْجِ الَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ بِهَذِهِ الْأَبْرَاجِ فَيَعْتَقِدُونَ مُعْتَقِدِيِهَا بِهَا، اعْتِقَادًا جَازِمًا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

خَامِسًا: إِنَّ هَذِهِ الْأَبْرَاجَ تَجْعَلُ الْأَبَ وَالْأُمَّ لَا يَسْعَوْنَ لِتَغْيِيرِ سُلُوكِ ابْنِهِمْ الْمَشِينِ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي بُرْجٍ هَذِهِ صِفَاتُهُ، حَتَّى أَصْبَحَ الْبَعْضُ مِنْهُمْ يَبْذُلُ جُهْدًا مَعَ الْأَطِبَّاءِ لِتَكُونَ وِلَادَةُ زَوْجَتِهِ مَعَ بُرْجٍ يَحْمِلُ الصِّفَاتِ الَّتِي يَرْغَبُونَ فِيهَا بِمَوْلُودِهِمْ، لَأَنَّ الْأَبْرَاجَ فِيهَا بَيَانٌ لِشَخْصِيَّةِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ، كَمَا يَدَّعُونَ.

سَادِسًا: إِن مِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الْأَبْرَاجِ -حَتَّى مِنَ النَّاحِيَةِ الْوَاقِعِيَّةِ- اخْتِلَافُ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ اخْتِلَافًا بَيِّنًا فِي أَسَمَاءِ الْأَبْرَاجِ،

فَعِنْدَ الْيُونَانِيِّينَ مُسَامَّيَاتُهَا مُخْتَلِفَةٌ عَنِ الصِّينِيِّينَ، وَالْأَسْمَاءُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَ مُنَجِّمِيِ وَكَهَنَةِ الْعَرَبِ -فِي الْغَالِبِ- هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَ الْيُونَانِيِّينَ. 

سابعاً : اخْتِلَافُ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ فِي دَلَالَاتِ هَذِهِ الْبُرُوجِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَسَمَاءِ الْبُرُوجِ، فَبَعْضُهُمْ جَعَلَ طَبَائِعَ الْمَوْلُودِ تَابِعَةً لِطَبِيعَةِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُسَمَّى بِهِ الْبُرْجُ. 

ثامناً : مُنَاقَضَةُ الْوَاقِعِ وَمُخَالَفَتُهَا لَهُ، فَعِنْدَ الْيُونَانِيِّينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ قَالُوا عَنِ الْمَوْلُودِ فِي بُرْجِ الْحَمَلِ، وَهُوَ أَوَّلُ بُرْجٍ عِنْدَهُمْ: يَكُونُ أَسْمَرَ اللَّوْنِ، طَوِيلَ الْقَامَةِ، صَعْبَ الْمِرَاسِ، سَرِيعَ الْغَضَبِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتُ الَّتِي اسْتَمَدُّوهَا مِنْ صِفَاتِ بُرْجِ الْحَمَلِ،

فِي حِينِ أَنَّ أَوَّلَ بُرْجٍ عِنْدَ الصِّينِيِّينَ هُوَ بُرْجُ الْفَأْرِ، وَجَعَلُوا الْمَوْلُودَ فِيهِ يَحْمِلُ صِفَاتِهِ، فَمَا نَدْرِي أَهَذَا الْمَوْلُودُ فِي أَوَّلِ بُرْجٍ سَيَحْمِلُ صِفَاتِ الْحَمَلِ أَمْ صِفَاتِ الْفَأْرِ؟! 

فَسُبْحَانَ مَنْ طَمَسَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ، فَلَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْعَقْلَ وَالدِّينَ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي تَحْدِيدِ صِفَاتِ النَّاسِ عَلَى مَعْرِفَةِ تَارِيخِ مِيلَادِهِمْ، وَبُرْجِهِمْ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ، 

وَإِنَّكَ لَتَعْجَبُ مِنْ تَضْيِيعِ فِئَةٍ مِنَ النَّاسِ لِدِينِهَا وَلِعَقْلِهَا فِيمَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، مَعَ تَضْيِيعِهَا أَوْقَاتًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَيُتَابِعُ أَبْرَاجًا بُنِيَتْ مِنْ غَيْرِ أَسَاسٍ سَلِيمٍ! 

أَلَا يَرَى هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ مَوَالِيدَ هَذَا الْيَوْمِ تَكُونُ أَلْوَانُهُمْ كَذَا، وَهُمْ يَرَوْنَ غَيْرَ مَا أَخْبَرَتْ الْأَبْرَاجُ، وَيَقُولُونَ هَذَا فِيهِ صِفَاتٌ غَيْرُ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
 
 إِنَّ فِي الِاعْتِدَادِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى هَذِهِ الْأَبْرَاجِ، وَفِي تَصْدِيقِهَا مُشَاقَّةٌ وَمُعَانَدَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}، 

وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ هُنَاكَ عَالِمًا لِلْغَيْبِ فِي الْأَرْضِ غَيْرَ اللَّهِ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ النُّجُومِ، حَيْثُ قَالَ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ))، 

وَقَالَ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، 

أَمَّا إِذَا أَتَاهُمْ -كَمَا يَدَّعِي- لِلتَّجْرِبَةِ، أَوْ التَّسْلِيَةِ، أَوْ لِلْمُزَاحِ، فَهَذَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَا قَالَ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً))، رَوْاهُ مُسْلِمٌ. 

فَعُقُوبَةُ مَنْ أَتَى هَؤُلَاءِ الْكُهَّانَ حِرْمَانُهُ مِنْ أَجْرِ صَلَاتِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَمَا اقْتَرَفَهُ مِنْ مُنْكَرٍ عَظِيمٍ يَخْسَرُ بِسَبَبِهِ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ الْعَظِيمَةَ، وَلَا يَعْنِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي، بَلْ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَى صَلَاتِهِ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَكُونُ قَدْ خَسِرَ بِهَذَا الْعَمَلِ الشَّنِيعِ أُجُورًا عَظِيمَةً، فَإِذَا كَانَتْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَكَيْفَ بِالْفَرَائِضِ؟ فَقَدْ خَسِرَ بِجُرْمِهِ هَذَا وَذَنْبِهِ الْعَظِيمِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، فالْأَمْرُ لَيْسَ بِهَيِّنٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، فَكَيْفَ يَدَّعِي مُسْلِمٌ أَنَّ هُنَاكَ شَرِيكًا لِلَّهِ؟!
 
 كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَبْرَاجَ تَجْعَلُ الْمُطَالِعَ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقٌ بِهَا، وَيَتَّكِئُ عَلَيْهَا وَيَعْتَمِدُ، قَالَ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ))، 

كَذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْمُعْتَقَدَاتِ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ طِبَاعِهِ السَّيِّئَةِ، واذا ناقشته في تغييره لطباعه تعذر انه من برج الثور او الجدي فلا ينفع فيه طب ولا تعليم ، فانا لله وانا اليه راجعون 

  
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
 
عِبَادَ الله؛ يَقُولُ الله: ((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ*تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ))، لَقَدْ أَقَامَ الشَّيْطَانُ لِوَاءَ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ بِعَمَلِهِ وَكُفْرِهِ، يَتَلَبَّسُ بِهمُ الشَّيْطَانُ، وَيَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِمْ، وَلِذَا بِعَمَلِهِ الشَّيَاطِيْن تَأْلَفُ هَذِهِ النُّفُوْس الخَبِيْثَةُ الَّتِيْ تَدَنَّسَتْ بِالْشَرِّ، وَرَضِيَتْ بِهِ، 

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَّل: ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ)) وَيَرْتَكِبُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ إِرْضَاءِ أَنْفُسِهِم الخَبِيْثَةِ، وَأَهْوَائِهِمْ الْدَّنِيْئَةِ، الْدَّجَلُ  وَالشِّرْكِيَّات، فَيُبَاشِرُونَ النَّجَاسَاتِ، وَيَأوُونَ إِلَى الأَمَاكِنِ المُسْتَقْذَرَةِ، 

وَيَكْرَهُونَ سَمَاعَ القُرآنِ، وَيَنْفرُونَ مِنْهُ، وَيَذْبَحُونَ الحَيَوَانَاتِ، ذَاكِرِيْنَ عَلَيهَا غَيْرَ اسمَ اللهِ عَزَّ وَجَّل، لَا يَتَطَهَّرُونَ وَلَا يَتَوَضَّؤُونَ، صِفَاتهِم الجَهْلُ وَالضَلَالُ، وَالكَذِب وَالبُهْتَان، لا يَرْتَقِي فِيْ سِحْرِهِ وَكِهَانَتِهِ مَا لَمْ يعبِّد نَفْسَهُ لِلْشَيْطَانِ، تَتَدَنَّسُ نَفْسهُ بِالْخُبثِ وَاَلفَسَادِ، وَتَتَلَذَّذُ بِالشَرِّ وَالبَلَاءِ، وَتَتَعَاظَمُ عِندَهُ الرَّغْبَةُ فِي الإِيْذَاءِ.

ويدخل في الكهانة : قراءة الفنجان وقراءة اليد والضرب بالرمل وأنواع من الكهانة انتشرت ، واستضافة المشعوذين في القنوات الفضائية في بداية كل عام وسؤالهم عن احداث السنة القادمة وتكهناتهم ، وكتابة الكتب في ذلك ، وتصدير هؤلاء الدجالين في المحطات والفضائيات وكسبهم بذلك أموال طائلة ...والى الله المشتكى 

الجمعة، 1 أكتوبر 2021

البكاء من خشية الله

 ( البكاء من خشية الله ) 

أما بعد أيها المسلمون:
فلا أكمل ولا أعظم، ولا أجمل ولا أكرم، مما امتدحه الله عز وجل في كتابه العزيز 
مدح الله من عباده أناس هم صفوة الخلق، فأصطفاهم بأحسن الصفات ونعتهم بأطيب النعوت.
هذه سورة مريم ابتدأها الله بالثناء على العبد الصالح، الرسول الكريم زكريا عليه الصلاة والسلام، ثم ثنّى بالثناء على ابنه العبد الصالح والرسول الكريم يحيى، ثم مدح مريم وابنها عيسى عليهم الصلاة والصلاة، ثم ذكر الخليل إبراهيم، ثم الكليم موسى، ثم الذبيح إسماعيل، ثم ذكر الصديق العلي إدريس ثم قال (أولئك الذين أنعم الله عليهم من ذرية أدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً).
نعم .. إنه ديدن أهل الدين وأهل الصلاح من النبيين والصديقين والصالحين، إنه تعظيمُ الله وتوقيرُه والبكاءُ عند ذكره شوقاً وحباً وخوفاً وطمعاً (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً * ويقولون سبحن ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً).
عباد الله:
البكاء من خشية الله وصف شريف، وخصلة حميدة، به وصف الله أنبياءه، والذين أوتوا العلم من عباده، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه"
كلما قوي الإيمان عظمت الخشية وازداد التوقير لله العلي الكبير، وأول الناس في ذلك وأولاهم به محمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هو أتقى الناس لله، وأخشى الناس لله، وأكثر الناس بكاءً من خشية الله.
ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ علي القرآن فقال: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ قال نعم: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ من سورة النساء حتى بلغ قول الله (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك فإذا عيناه تذرفان.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلى سُمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهو صوت القدر إذا اشتد غليانه.
وقد كانت تلك الحال حال تلاميذه رضي الله عنه وأرضاهم، ففي البخاري عن عائشة أن أبا بكر رضي الله عنه (ابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم ينظرون إليه ويعجبون! قالت عائشة: وكان أبو بكر رجلا بكَّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن).
وقال عبدالله بن شداد: كنت أسمع نشيج عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإني لفي آخر
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من القلب الذي لا يخشع، يقول ( اللهم إني أعوذبك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها). رواهمسلم.
والله تبارك وتعالى يحب البكاء مِن خشيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرةٍ من دموعٍ في خشية الله، وقطرةِ دم تُهراقُ في سبيل الله... »، الحديث؛ رواه التِّرمذي، وصَحَّحه الألباني.
 
ــ والبكاء من خشية الله جُنَّةٌ من النار، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يَلِج النارَ رَجُلٌ بَكَى مِن خشية الله، حتى يعود اللَّبن في الضرع»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «عينانِ لا تَمَسُّهُما النارُ: عينٌ بكتْ مِن خشية الله، وعينٌ باتَتْ تحرُس في سبيل الله»؛ رواهما التِّرمذي، وصَححهما الألباني.

وقال رحمه الله في موضع آخر: إن في القلب قسوةً لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى ، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى، 
وذكر حماد بن زيد عن المعلى بن زياد أن رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذِبه بالذكر، وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار فما أُذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل.
اللهم اهد قلوبنا وأصلح أحوالنا واجعلنا هداةً مهتدين.
فإن أفضل الدموع دموع الخلوات، قال صلى الله عليه وسلم وهو يَعُدّ السبعة الذين يظلهم الله: ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
فإذا خلوتَ بكتاب ربك، أو خلوتَ بمناجاته في ظلمة الليل، أو في الضحى والناس في غفلة ، فحرّك قلبك بذكر الله وبالثناء عليه وبدعائه، فإن القلب رافد العين، 
قال الحسن البصري: إن كان الرجل ليجلس المجلس من مجالس الذكر فتأتيه العبرة فيردُّها، فإن خشي أن تسبقه قام من مجلسه.
وقال محمد بن واسع: إن كان الرجل ليقوم الليل عشرين سنة ويبكي من خشية الله ما تعلم امرأته عن ذلك.
وكان أحد أئمة الحديث يحدّث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم فإذا غلبه البكاء مسح أنفه بطرف عمامته وقال: ما أشدَّ الزكام .. ما أشدَّ الزكام.
وهذا لا يعني ذم الباكين من الأئمة والمأمومين، فقد بكى أمامَ الناس خيرُ الناس، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، لكنَّ المقصودَ الحثُ على تحري الإخلاص وإخفاء العمل الصالح وأثره، والله لا يضيع أجر المحسنين
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، وتقبل منا أعمالنا، واغفر لنا ذنوبنا، واجعلنا هداةً مهتدين
الخطبة الثانية : أيُّها المسلمون:
إلى الله المشتكى من حالنا، جفت عيوننا من دموع الخشية، وأصبحنا نصلي فلا نخشع، ونتلوا القرآن فلا نتأثر ولا نبكي، ونسمع المواعظ فلا نرق قلوبنا ولا نبكي، ونزور المقابر فلا نبكي، وندفن الموتى فلا نبكي.
 
ولو سألَ الواحدُ منَّا نفسَه: متى آخرُ مرةٍ دَمَعَتْ عيناه منَ خشية الله؟ لكان الجواب كاشفا عن إصابتنا بداء القسوة والغفلة.
وما ذاك عباد الله إلا بسبب:
ــ رُّكوننا إلى الدُّنيا، وغُرُورنا بزينتها وملذاتها، وكثْرة اشتغالنا بِفُضُولها.
ــ وبسبب غفلتنا عن ذكر الله وعن الدار الآخرة، فَقَلَّ ذِكْرُنا لمصيرنا وآخرتنا.
 
ــ وبسبب كَثْرة معاصينا وتَرَاكُم الذنوب على قلوبنا، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العبد إذا أذنبَ ذنبًا نُكِتَتْ في قلبه نُكتةٌ سوداء، فإنْ تابِ ونزعَ واستغفرَ صقل قلبه، وإن عاد زادتْ حتى تعلوَ قلبَه، فذلك الرَّان الذي ذَكَرَ الله في القرآن:﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾»؛ رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجَهْ، وحَسَّنَهُ الألباني.
 
ــ فيا عباد الله: لماذا تستمر قسوة قلوبنا؟ ألا يعظنا قول ربنا:﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ ألا يعظنا قولُه تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ... ﴾
 
ــ ما ابتلى الله عبدًا بعقوبة أعظم من قسوة القلب وقحوط العين.
قال ابن القيم رحمه الله: (ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى، فاعلم أن قَحْطَهَا إنما هو من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي) آهـ
 
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من القلب الذي لا يخشع كما في صحيح مسلم
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ، أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» الترمذي وحسنه وصححه يحيى بن معين والألباني.
وفي حديث ثوبان: «طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ»
 
وللسلف الصالح أحوال وأحوال مع الخشوع والبكاء، اقرؤوها في كتب الزهد والرقائق، فقد كانوا يخشعون ويبكون في الصلوات، ويبكون عند تلاوة الآيات، ويرِقُّون عند المواعظ، ويبكون خوفا من السابقة، وخوفا من سوء الخاتمة، ويبكون عند تذكر الآخرة، ويبكون شوقاً للقاء الله ولنعيم جناته، وخوفاً من النار والوقوف بين يديه.
فيا عباد الله: البكاء من خشية الله، عبودية محبوبة لله، قام مقامها السلف الصالحون، السابقون الأولون .
فاللَهُمَّ ارْزُقْنَا مَا رَزَقتَ عِبَادَكَ الصَّالِحِين مِنْ لِينِ القُلُوبِ وَالْخُشُوعِ وَالْبُكَاءِ وَالْخَشْيَةِ.