إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 14 يوليو 2015

في ختام رمضان

( في ختام شهر رمضان )

فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ، وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا خَمْسَةُ أَيَّامٍ أَوْ سِتَة , فَسُبْحَانَ اللهِ مَا أَسْرَعَ مُرُورَه وَمَا أَعْجَلَ تَصَرُّمَه !
أَخِي الْمُسْلِمُ : انْتَهَى رَمَضَانُ وَسَوْفَ يَرْحَلُ بِمَا أَوْدَعْتَهُ مِنْ عَمَلٍ ! سَوْفَ يَرْحَلُ وَيَنْتَهِي إِمَّا شَاهِدٌ لَكَ أَوْ شَاهِدٌ عَلَيْكَ ، وَسَوْفَتَجِدُ أَيَّامَهُ وَلَيَالِيَهِ وَمَا عَمِلْتَ بِهَا مِنْ أَعْمَالٍ ، مَحْفُوظَةً فِي كِتَابٍ (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) .
فَاجْتَهِدْ يَا عَبْدَ اللهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ ، وَاغْتَنِمْ هَذِهِ اللَّحَظَاتِ ، وَتِلْكَ السَّاعَاتِ الْقَلِيلَةَ ،التِي سْوَفَ تَمُرُّ وَتَنْتَهِي وَلَنْ تَعُودَ .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ : اعْلَمُوا رَحِمَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ ، أَنَّهُ يُشْرَعُ لَنَا فِيخِتَامِ شَهْرِنَا ثَلاثَةُ أُمُورٍ : هِيَ (زَكَاةُ الْفِطْرِ , وَالتَّكْبِيرُ , وَصَلَاةُ الْعِيدِ)
فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ : فَهِيَ الصَّدَقَةُ التِي يُخْرِجُهَا الْمُسْلِمُونَ بِمُنَاسَبَةِ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَان .
وَهِيَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ , صَغِيرَاً كَانَ أَمْ كَبِيرَاً , ذَكَرَاً كَانَ أَمْ أُنْثَى , عَبْدَاً كَانَ أَمْ حُرَّاً . فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ , صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ , عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ , وَالذَّكَرِ وَالأنْثَى , وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
.وَتَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ , فَيُشْرَعُ إِخْرَاجُهَا حِينَئِذٍ , وَالأَفْضَلُ أَنْ تُخْرَجَ مَا بَيْنَ صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعِيدِ , وَيَجُوزُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ . وَلا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ , وَلا تَأْخِيرُهَا إِلَى مَا بَعْدَ صَلاةِ الْعِيدِ
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ : فَهِيَ التَّعَبُّدُ للهِ , وَالاتِّبَاعُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَطُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ , وَطُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَدٌّ لِجَوْعَتِهِمْ , فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ , طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ .

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَأَمَّا مِقْدَارُهَا ! وَمِنْ أَيِّ الأَشْيَاءِ تُخْرَجْ ؟ فَاسْتَمِعُوا لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ , حَيْثُ قَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ , أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ 
وَعَلَى هَذَا فَتُخْرَجُ مِنْ طَعَامِ النَّاسِ الذِي يَأْكُلُونَهُ عَادَةً , وَالْغَالِبُ عِنْدَنَا أَنَّ النَّاسَ يَأْكُلُونَ الأُرُزَّ أَوِ الْبُرَّ . فَيُخْرَجُ صَاعٌ مِنَ الأُرُزِّ أَوِ الْبُرِّ عَنْ كُلِّ شَخْصٍ . وَمِقْدَارُهُ بِالْوَزْنِ مِنَ الْبُرِّ الْجَيِّدِ : كِيلُوَّانِ وَأَرْبَعُونَ غرَامَاً , وَأَمَّا الأُرُزُّ فَهُوَ كِيلُوَّانِ وَنِصْفٌ تَقْرِيبَاً .
وَلا يُجْزِئُ إِخْراجُهَا فُلُوسَاً وَلا ثِيَابَاً وَلا سِوىَ ذَلِكَ , لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا السَّابِق
وَالأَصْلُ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يُخْرِجُ زَكَاتَهُ فِي الْبَلَدِ الذِي أَدْرَكَهُ الْعِيدُ فِيهِ , سَوَاءً أَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ الأَصْلِيِّيْنَ أَوْ مِنَ الْمُقِيمِينَ , لَكِنْ لَوْ أَخْرَجَهَا فِي بَلَدِهِ الأَصْلِيِّ جَازَ , لَكِنْ هَذَا خَلافُ الأَفْضَلِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْفَقِيرُ أَكْثَرَ مِنْ فِطْرَةٍ , وَيَجُوزُ تَقْسِيمُ الْفِطْرَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ فَقِيرٍ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : أَدُّوا زَكَاتَكُمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ , تَتَعَبَّدُونَ بِهَا لِرَبِّكُمْ , وَتَتَّبِعُونَ نَبِيَّكُمْ مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتُطَهِّرُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ مِمَّا قَدْ لَحِقَ صِيَامَكُمْ مِنَ الْخَلَلِ .

ثَانِيَاً : مِمَّا يُشْرَعَ لَنَا فِي آخِرِ هَذَا الشَّهْرِ : التَّكْبِيرُ !
قَالَ اللهُ تَعَالَى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَوَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّكْبِيرِ : التَّعْظِيمُ للهِ وَالتَّمْجِيدُ لَهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ وَيَسَّرَ مِنْ إِكْمَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَهَذَا التَّكْبِيرُ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ مُقَيَّدَاً بِالصَّلَوَاتِ !
فَـأَظْهِرُوا رَحِمَكُمُ اللهُ هَذِهِ الشَّعِيرَةَ الْعَظِيمَةَ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ وَالأَسْوَاقِ . وَارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ قَائِلِينَ : اللهُ أَكْبَرُ , اللهُ أَكْبَرُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ , اللهُ أَكْبَرُ , وَاللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْد .
وُيُشْرَعُ التَّكْبِيرُ حَتَّى لِلنِّسَاءِ , وَيَمْتَدُّ وَقْتُهُ مِنْ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى صَلاةِ الْعِيدِ , وَلا يُشْرَعُ بَعْدَهَا !
فَإِنَّ ثَالِثَ مَا يُشْرَعُ لَنَا فِي نِهَايَةِ الشَّهْرِ : صَلاةُ العِيدِ !
وَهِيَ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ , يَخْرُجُ الْمُسْلِمُونَ أَجْمَعُونَ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ , مُكَبِّرِينَ مُهَلِّلِينَ تَعَبُّدَاً للهِ وَاتِّبَاعَاً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَحُكْمُ صَلاةِ الْعِيدِ : وَاجِبَةٌ وُجُوبَاً عَيْنِيَّاً عَلَى الرِّجَالِ , وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ , فَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ : أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْعَوَاتِقَ , وَالْحُيِّضَ فِي الْعِيدَيْنِ , يَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ , وَيَعْتَزِلُ الْحُيِّضُ اَلْمُصَلَّى . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخَانِ ابْنُ بَازٍ وَابْنُ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُمَا اللهُ بِوُجُوبِهَا عَلَى الرِّجَالِ , وَعَلَى هَذَا فَلْيَحْذَرْ مِنْ عُقُوبَةِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ صَلاةِ الْعِيدِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ !
لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ النِّسَاءُ , بَلْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ بَلْ وَالْحُيِّضُ مَأْمُورَاتٍ بِالْخُرُوجِ ! فَكَيْفَ بِالرِّجَالِ الأَشِدِّاءِ ؟ فَلا يَحِلُّ لَهُمُ التَّخَلُّفُ عَنْهَا إِلَّا لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ .
وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ غَيْرَ مُتَطَيِّبَةٍ وَلَا مُتَزَيِّنَةٍ , وَعَلَى وَلِيِّ أَمْرِهَا مَسْؤُولِيِّةٌ فِي ذَلِكَ قَالَ اللهُ تَعَالَى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنْ سُنَنِ الْعِيدِ أَنْ يَأْكُلَ قَبْلَ خُرُوجِهِ تَمْرَاتٍ وَلْيَكُنَّ أَفْرَاداً , بِمَعْنَى : يَأْكُلُ ثَلاثَاً أَوْ خَمْسَاً أَوْ سَبْعَاً , لِأَنَّ هَكَذَا جَاءَتِ السُّنَّةُ عَنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ . وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ : وَيَأْكُلُهُنَّ أَفْرَادًا .
وَمِنْ سُنَنِ الْعِيدِ : أَنْ يَلْبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابَهُ , وَأَنْ يَتَنَظَّفَ وَيَتَطَيَّبَ , وَأَنْ يُخَالِفَ الطَّرِيقَ : فَيَذْهَبَ مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعَ مِنْ آخَرَ . 
وَمِنَ السُّنَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ : الاغْتِسَالُ, لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَنِ الصَّحَابِيِّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلَ إِذَا خَرَجَ لِلْعِيد .
الخطبة الثانية :
أيها المؤمنون ، نعم الله على عباده تترا، وفضله على عباده لا يحصى، ومن كرم الله وفضله ومنته أن يوفق عبده للإقبال عليه في أيام فاضلةٍ ميزها بمضاعفة الحسنات، وكثرة مغفرة السيئات، ورفعة الدرجات، والفوز بالجنات.. فما أعظم الفضل وما أوفر المنن، من ربنا الكريم الأكرم .. 
إلا أن كثيرا من الناس مع تعدد المشاغل، وكثرة الصوارف؛ تمضي عليه الأيام والليالي ولا يشعر بها، حتى تنقضي الأعمار، وتفوت مواسم الرحمة، ولمَّا تنته أعماله، ولا قضيت كل حاجاته.. فيضيع على نفسه شرف الزمان، و يخسر فضل رمضان.. أعاذنا الله وإياكم من حسرة التفريط والخسران .

تأملوا في شهركم كيف مضت ايامه لكأنها والله في غمضة عين وانتباهتها.. فيا ضيعة الأعمار تمضي هكذا ..!
ولذا كان لابد مع قرب عشر الأواخر من الانتهاء.. من وقفات محاسبة صادقة ، لعل قلبًا ينتبه من غفلته، وجسدًا يفيق من رقدته، فيتدارك ما مضى، ويدرك ما بقي .

فأما الوقفة الأولى: فمع الصيام، والشهر شهر الصيام .. سل نفسك يا عبدالله .. هل صمت حقًا وصدقًا على الوجه الذي أراده منك الله ..؟
هل نشدت تقوى الله في صيامك .. وتمثلت قول الله تعالى في آية الصيام {لعلكم تتقون}.
أ فــقد صام سمعك وبصرك وقلبك عن الحرام، أم تلطخت بشيء من الآثام !
أم هل قدّمتَ بين يدي صيامك أعمالًا وحسنات، وباقيات صالحات .. تشفع بها صيامك، وتدنيك من رحمة الرحيم الرحمن، {إن رحمت الله قريب من المحسنين} .

إن من الخذلان أن تبالغ في ظن الخير بنفسك وأن عملك خير من عمل غيرك .. وبعض الظن إثم !
ثم إياك أن يزين الشيطان لك بعض عملك فتقول: عملت وقرأت وتصدقت..! فمهما عملت ففي الناس من يعمل خيرًا من عملك، ولكن سل الله الرضى والقبول، فإن الشأن كل الشأن في أن يقبل الله منك، و{إنما يتقبل الله من المتقين} .

الوقفة الثانية: مع الوقت .. تأمل يا عبدالله في هذه الأيام كيف تمضي سراعًا، وتذهب تباعًا .. والغفلة هي الغفلة .! ارجع إلى نفسك فحاسبها .. كم قد ضيعت من الأوقات المباركات.. فخسرت من الحسنات المضاعفات ..؟ إنه شهر لا يُضِيع لحظاتِه، ولا يغفل عن بركاتِه إلا محروم

صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: "آمين آمين آمين" قيل: يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت: "آمين آمين آمين؟ فقال: "إن جبريل أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين. أخرجه ابن حبان.

ألا صدقًا مع النفس يا عبدالله.. كم سرق الجوال وبرامج التواصل والمحادثة من شريف وقتك، وأذهب من صفاء روحك وقلبك ! أما زلت لهفًا بالتغريد والقيل والقال.. والناس حولك ما بين تالٍ لكتاب الله، وقائم به ! أما صبر عنها ..! فإنما هي أيام وليال قليلة .. قللها رب العزة في كتابه ليستحثك على اغتنامها فقال: {لعلكم تتقون .. أيامًا معدودات}.. فالبدار يا أُخَيَّ قبل الفوت .
من فاته الزرع في وقت البدار فما ** تراه يحصد إلا الهم والندمـــــــــــــا
طوبى لمن كانت التقوى بضاعتَه ** في شهره، وبحبل الله معتصِــــــــــما

الوقفة الثالثة: مع القلب والروح. فكم نحتاج إلى الالتفات لقلوبنا، نجدد ما خلِقَ فيها من إيماننا، وفي الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ".

تأمل.. كم زادت أيام رمضان ولياليه في إيمانك، وكم أقصى من عصيانك ..! ما أثرُ آيات كتاب الله في روحك وقلبك .. وأنت تتلوها وتسمعها مرتلة في نهارك وليلك .. أم كم هي الدمعات التي ترقرقت من عينيك، خشيةً لله تعالى.. وخوفًا من عقابه.. ورجاءً في فضله وثوابه.. {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون .. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .. أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} .

وإنك إن لم تجد لذة للعبادة، ولا أثرًا لها في إيمانك وقلبك وجوارحك.. فاتهم إخلاصك وصدقك، واعلم أنها عبادة مدخولة، لأن الله شكور، يشكر من أقبل عليه صادقًا فيورثه لذة في قلبه، وأثرًا في جوارحه، و{لا يضيع أجر من أحسن عملا} .

ألا وإن من أعظم ما يعينك على صفاء قلبك وروحك الخلوة بالله تعالى، والاعتكاف في مساجد الله .. فإنها أنيس الصالحين، وسلوة العابدين، وسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين، وقال:"من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد أريت هذه الليلة يعني ليلة القدر- ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر" متفق عليه.

وكم في هذا الانقطاع عن الدنيا في ليال معدوداتٍ من إصلاح للقلوب، وتزكية للنفوس، ورياضة لها على طاعة الله -عزَّ وجلَّ-، والاجتهاد فيما يرضيه، والأُنس به دون خلقه ؟! وهو مظنة إدراك ليلة القدر وخيرها وفضلها، فإنها ليلة المنة العظمى .. {ليلة القدر خير من ألف شهر}، و" من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" والموفق من وفقه الله تعالى .
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ..
3

زكاة الفطر

زكاة الفطر
تعريفها : 
زكاة الفطر هي صدقة تجب بالفطر في رمضان ، وأضيفت الزكاة إلى الفطر لأنها سبب وجوبها . 
حكمتها ومشروعيتها :
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ . " رواه أبو داود 1371 قال النووي : رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ . 
قوله : ( طهرة ) : أي تطهيرا لنفس من صام رمضان ، وقوله  ( والرفث ) قال ابن الأثير : الرفث هنا هو الفحش من كلام ، قوله ( وطعمة ) : بضم الطاء وهو الطعام الذي يؤكل . قوله :  ( من أداها قبل الصلاة ) : أي قبل صلاة العيد ، قوله ( فهي زكاة مقبولة ) : المراد بالزكاة صدقة الفطر ، قوله ( صدقة من الصدقات ) : يعني التي يتصدق بها في سائر الأوقات . عون المعبود شرح أبي داود 
وقيل هي المقصودة بقوله تعالى في سورة الأعْلَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } ; رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ قَالا : " أَدَّى زَكَاةَ الْفِطْرِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلاةِ " أي صلاة العيد . أحكام القرآن للجصاص ج3 : سورة الأعلى 
حكمها :
الصَّحِيحُ أَنَّهَا فَرْضٌ ; لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ } . وَلإجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ . المغني ج2 باب صدقة الفطر 
وقت وجوبها :
فَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَهُوَ وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ، فَإِنَّهَا تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ . فَمَنْ تَزَوَّجَ ، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرَةُ . وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْغُرُوبِ ، لَمْ تَلْزَمْهُ .. وَمِنْ مَاتَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ  المغني ج2 : فصل وقت وجوب زكاة الفطر . 
على من تجب 
- زكاة الفطر تجب على المسلمين : عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . البخاري 1407 
-  تجب على المستطيع ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ شَوَّالٌ وَعِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ مَنْ يَقُوتُهُ يَوْمَهُ وَمَا يُؤَدِّي بِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَدَّاهَا عَنْهُمْ وَعَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلا مَا يُؤَدِّي عَنْ بَعْضِهِمْ أَدَّاهَا عَنْ بَعْضٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلا سِوَى مُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَتِهِمْ يَوْمَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ وَلا عَلَى مَنْ يَقُوتُ عَنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ . الأم ج2 باب زكاة الفطر
شروط وجوب صدقة الفطر 
-  يخرجها الإنسان المسلم عن نفسه وعمن ينفق عليهم من الزوجات والأقارب إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها هم ، لأنهم المخاطبون بها أصلاً . 
فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ . صحيح البخاري 1407 
يخرج الإنسان عن نفسه وزوجته - وإن كان لها مال - وأولاده الفقراء ووالديه الفقيرين ، والبنت التي لم يدخل بها زوجها . فإن كان ولده غنياً لم يجب عليه أن يخرج عنه ، 
ولا تجب عن الحمل الذي في البطن إلا إن يتطوع بها فلا بأس . 
وَإِنْ مَاتَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ قَبْلَ أَدَائِهَا ، أُخْرِجَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ .. وَلَوْ مَاتَ مَنْ يَمُونُهُ ، بَعْدَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ ، لَمْ تَسْقُطْ . المغني ج2. 
والخادم إذا كان له أجرة مقدرة كل يوم أو كل شهر لا يُخرج عنه الصدقة لأنه أجير والأجير لا يُنفق عليه .  الموسوعة 23/339 
- وفِي إخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْ الْيَتِيمِ : قَالَ مَالِكٌ رحمه الله : يُؤَدِّي الْوَصِيُّ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ الْيَتَامَى الَّذِينَ عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا . المدونة ج1 . 
مقدار الزكاة :
مقدارها صاع من طعام بصاع النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم 
لحديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ .. " رواه البخاري 1412 
والوزن يختلف باختلاف ما يملأ به الصاع ، فعند إخراج الوزن لابد من التأكد أنه يعادل ملئ الصاع من النوع المخرَج منه ... وهو مثل 3 كيلو من الرز تقريباً   
الأصناف التي تؤدى منها :
الجنس الذي تُخرج منه هو طعام الآدميين ، من تمر أو بر أو رز أو غيرها من طعام بني آدم . 
ففي الصحيحين من حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ  ( وكان الشعير يومذاك من طعامهم ) البخاري 1408 
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأَقِطُ وَالتَّمْرُ  . رواه البخاري 1414 . 
فتخرج من غالب قوت البلد الذي يستعمله الناس وينتفعون به سواء كان قمحا أو رزاً أو تمراً أو عدسا ... 
وأما إخراجها مالا فلا يجوز على الصحيح من اقوال العلماء
وقت الإخراج :
- تؤدى قبل صلاة العيد كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " أَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ . البخاري 1407 
ووقت الدفع له وقت استحباب ووقت جواز . 
فأما وقت الاستحباب فهو صباح يوم العيد للحديث السابق ، ولهذا يسن تأخير صلاة العيد يوم الفطر ليتسع الوقت لمن عليه إخراجها ، ويفطر قبل الخروج . 
كما يسن تعجيل صلاة العيد يوم الأضحى ليذهب الناس لذبح أضاحيهم ويأكلوا منها . 
أما وقت الجواز فهو قبل العيد بيوم أو يومين . ففي صحيح البخاري عن نافع قال : كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى أنه كان يعطي عن بنيّ وكان يعطيها الذين يقبلونها وكان يُعطون قبل الفطر بيوم أو بيومين . 
لمن تعطى :
تصرف زكاة الفطر إلى الأصناف الثمانية التي تصرف فيها زكاة المال وهذا هو قول الجمهور . 
إخراجها وتفريقها :
-  الأفضل أن يتولى الإنسان قسْمها بنفسه : ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَأَخْتَارُ قَسْمَ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِنَفْسِي عَلَى طَرْحِهَا عِنْدَ مَنْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ . 
- ويجوز أن يوكّل ثقة بإيصالها إلى مستحقيها وأما إن كان غير ثقة فلا ، 
ويجوز للفقير إذا أخذ الفطرة من شخص وزادت عن حاجته أن يدفعها هو عن نفسه أو أحد ممن يعولهم إذا علم أنها تامة مجزئة 
مكان الإخراج :
قال ابن قدامة رحمه الله : فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُهَا فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَالُهُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ 
الخطبة الثانية : 
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ، ما لا يجتهد في غيرها مسلم(1175) عن عائشة ومن ذلك انه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها البخاري (1913) ومسلم(1169) وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره " البخاري (1920) ومسلم (1174) زاد مسلم وجَدَّ وشد مئزره .
وقولها " وشد مئزره " كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد ، ومعناه التشمير في العبادات .
وقيل هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع . 
وقولهم " أحيا الليل " أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها . وقد جاء في حديث عائشة الآخر رضي الله عنها : " لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القران كله في ليلة ولا قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهرا كاملا قط غير رمضان" سنن النسائي (1641) فيحمل قولها " أحيا الليل " على أنه يقوم أغلب الليل . أو يكون المعنى أنه يقوم الليل كله لكن يتخلل ذلك العشاء والسحور وغيرهما فيكون المراد أنه يحيي معظم الليل .
وقولها : " وأيقظ أهله " أي : أيقظ أزواجه للقيام ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة ، ولكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل ، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال : " سبحان الله ماذا أُنزل الليلة من الفتن ! ماذا أُنزل من الخزائن ! من يوقظ صواحب الحجرات ؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " البخاري (1074) وفيه كذلك أنه كان عليه السلام يوقظ عائشة رضي الله عنها إذا أراد أن يوتر البخاري (952) .  لكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة .
وفعله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربه ، ومبادرته الأوقات ، واغتنامه الأزمنة الفاضلة .
فينبغي على المسلم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الأسوة والقدوة ، والجِدّ والاجتهاد في عبادة الله ، وألا يضيّع ساعات هذه الأيام والليالي ، فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات والموت الذي هو نازل بكل امرئ إذا جاء أجله ، وانتهى عمره ، فحينئذ يندم حيث لا ينفع الندم .
إخوة الإسلام فهاهى أيام رمضان تسارع مؤذنة بالانصراف والرحيل،
وهاهي أيام العشر تحل لتكون الفرصة الأخيرة لمن فرط في أول الشهر، أو لتكون التاج الخاتم لمن أصلح ووفى فيما مضى، إخوة الإيمان العشر الأخيرة من شهر رمضان سوق عظيم يتنافس فيه العاكفون، وموسم يضيق فيه المفرطون، وامتحان تبتلى فيها الهمم، ويتميز أهل الآخرة من أهل الدنيا.. طالما تحدث الخطباء، وأطنب الوعاظ، وأفاض الناصحون بذكر فضائل هذه الليالي.. ويستجيب لهذا النداء الحاني، والموعظة المشفقة قلوب خالط الإيمان بشاشتها، وآذان أصغت للمنادي واستقر في روعهما انه لا يريد إلا الخير ليس إلا.. فسلكت هذه الفئة المستجيبة طريق المؤمنين، وانضمت إلى قافلة الركع الساجدين، واختلطت دموع أصحابها بدعائهم في جنح الظلام، وربك يسمع ويجيب، ويجزي العاملين المخلصين، وما ربك بظلام للعبيد.
أما الفئة الأخرى فتسمع النداء وكأنه لا يعنيها، وتسمع المؤمنين يتضرعون لخالقهم، وكأنه ليس لهم حاجة إلا ملء البطون والتفكير في الفروج.. وياليت شعري والمأساة أعظم أن هؤلاء نائمون قائمون.. فهم في عداد النائمين إذ لم يشهدوا مع المسلمين صلواتهم ودعاءهم وهم في عداد القائمين المضيعين لأوقاتهم بالقيل والقال والسهر الذي لاطائل من ورائه ، ولا نفع يرجى من خلاله، إلا من رحم الله.
فهل يتأمل الشاردون في غبنهم، وهل يعيد المفرطون الحساب مع أنفسهم ومع خالقهم، ونحن بعد في مستهل هذه العشرة التي ضمنها الله تعالى ليلة : العبادة فيها خير من العبادة في ما يزيد على ثلاثة وثمانين عاما، وربك تعالى يقول : ((لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)) (القدر:3) .
وكم هي نعمة أن يتخفف المرء في هذا الشهر من الذنوب والأوزار التي لو كان لها جرم لما أطاق الإنسان حملها لثقلها، ولو كان للذنوب رائحة لزكمت الأنوف لشدة نتنها((ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والذي يحتسبون على الله قيام ليالي العشر لابد وأن يدركوا هذه الليلة، فهي في العشر الأواخر
وفي الليل سواء كان في رمضان أو غيره- ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله
شيئا من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، ذلكم هو وقت النزول الإلهي، ومنه الثلث الأخير من الليل، يقول المولى جل جلاله في هذه الساعة : هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟.. فأين أنت يا عبد الله عن هذا المورد العظيم، وإذا غلبتك نفسك في سائر العام أفلا تغلبها على الأقل في هذه الليالي والأيام .
اخوة الإيمان : إذا كان قيام الليل أعظم ما يرجى وأزكى ما يقدم في هذه العشر منحة قربات حري بالمؤمن أن يتقدم بها لمولاه في هذه الليالي والأيام الفاصلة.. فذكر الله على كل حال سياج من الشيطان ودرع واق للإنسان، ويكفي أن يعلم أن مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت.. ويرحم الله أمواتا رغبوا لأنفسهم الموت وهم بعد أحياء، ويرحم الله أمواتا إذا ذكرهم الناس ذكروا الله وإن كانوا أجداثا في قبورهم
فليس من مات فاستراح      بميت إنما الميت ميت الأحياء.
فلا تمت نفسك أخي المسلم بالغفلة عن ذكر الله وأنت بعد على قيد الحياة.
وبادر باغتنام هذه العشر لمزيد ذكر الله والأنس به ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) (الرعد : 28) .
ومن رحمة الله أن فضل الذكر عظيم وهو لا يكلف المرء عناء، وبإمكان المرء أن الله قائما أو قاعدا أو على جنبه. فلا يستحوذن عليكم الشيطان .
عباد الله حذار أن ينسيكم الشيطان ذكر الله والباري يقول في محكم التنزيل : ((اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) (المجادلة : 19) .
أيها المسلمون وثمة عبادة يحسن التذكير بها في كل حال، وهذه الليالي والأيام بالذات ميدان للاجتهاد فيها ألا وهي الدعاء.
إخوة الإيمان والدعاء هو سهام الليل يطلقها القانتون، وهي حبل ممدود بين السماء والأرض يقدره حق قدره عباد الله المخلصون هو الربح ظاهرا بلا ثمن، وهو المغنم في الدنيا والآخرة بلا عناء، هو التجارة الرابحة يملكها الفقراء كما يملكها الأغنياء على حد سواء، يتفاوت الناس في هذه العبادة بين مقل ومستكثر،بين حاضر القلب،وشارد الذهن، بين خاشع متأمل لما يقول وبين قاس القلب لا يتأثر ولايلين وهو طريق للفلاح في الآخرة،وهو سبب من أسباب السعادة في الدنيا بإذن الله ذلكم هو الدعاء، بل هو العبادة، كما قال عليه الصلاة والسلام : ((الدعاء هو العبادة)).
قال الله تعالى:(( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ )) (غافر :60).
فالآية في بدئها تسمية الدعاء، وفي نهايتها أطلق عليه العبادة، مما يؤكد لك أهمية الدعاء، وكونه هو العبادة.
وإذا كان الله يصف الراغبين عن الدعاء بالاستكبار كما في الآية السابقة، فاعلم أخي المسلم- إن ليس شيء أكرم على الله من الدعاء، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن
أترغب أن توصف بالعجز والكسل، وهل علمت أن المقصر في الدعاء من أعجز الناس بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء وأبخل الناس من بخل بالسلام ))
لقد أمر الله المسلمين بالدعاء ووعدهم بالاستجابة، وهل بعد ذلك من كرم، فال أكرم الأكرمين: (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )) .
وهل علمت أن صاحب الدعاء كاسب على كل حال إذا لم يدع بأثم أو قطيعة رحم، وتأمل جيدا هذا الحديث النبوي الشريف الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا أتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذا نكثر ( يعني من الدعاء ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) : الله أكثر ))
وحاصل ذلك أن الداعي لا يعدم أحد ثلاثة أمور، إما أن يستجاب دعوته عاجلا، أو تدخر له في القيامة، أو يدفع عنه من السوء مثلها.
وهذا أو ذاك لاشك فضل عظيم ومنة من الله يمتن بها على عباده الداعين .

1

عيد الفطر (٤)

الحمد لله ربّ العالمين حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحب ربّنا ويرضَى.
 الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون..
 الحمدُ لله العظيم رب العرش الكريم، هدانا للإيمان، ووفقنا لإدراك رمضان في العام، وسهَّلَ لنا قيام لياليه مع الأنام، فله الحمدُ أوَّلاً وأخيرًا، ظاهرًا وباطنًا.. اللهم لكَ الحمدُ بكلِّ نعمةٍ أنعمت بها علينا، لك الحمدُ بالأهل والمال والمعافاة، بسطتَ رِزقنا، وكبَتَّ عدُوَّنا، وأظهرتَ أمننا، وستَرْتَ عَيْبَنا، وجمعتَ فرقتَنَا، ومن كلِّ ما سألناكَ ربَّنا أعطيتنا، فلكَ الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما تحب وترضى.
 معاشر المؤمنين: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جلَّ وعلا-، فهي وصيتُهُ سبحانه للأوَّلين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131]. 
تقوى الله -جل جلاله- خيرُ زادٍ يُدَّخَرْ، قال تعالى: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197]، 
هي أفضل لباس يُزَيِّنُ ما بطن وظهر، قال تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْر) [الأعراف:26]، 
هي سببُ النجاة من البلاء والضُّر، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق2-3]، 
هي سببُ الخيرات والبركات، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض) [الأعراف:96].
 فاتقوا الله -عبادَ الله- واجعلوا التقوى شعارَكم، في الليل والنهار، في السر والعلانية، في السَّفر والحَضر، في الشباب والمشيب، في أنفسكم وأهليكم والناس أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوةُ المسلمون: اعلموا -رحمكم الله- أنَّ الدين عند الله الإسلام، فهو الدِّينُ الذي لا يقبلُ اللهُ دينًا سواه من الإنسِ والجِن سواء، هو النَّاسِخُ لكلِّ دينٍ قبله، وهو الحاكمُ على كلِّ شريعةٍ سواه، من ابتغى العزَّةَ في غير دينِ اللهِ أذَلَّهُ الله -عز وجل-، ومن ابتغى الهدايةَ في غيرِ منهجِهِ أضَلَّهُ وأخزاه، كما قال اللهُ تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِين) [آل عمران:85] .
 ثمَّ إنَّهُ لا فرقَ في هذا الدين بين عربي وأعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا طويل وقصير، ولا غنيّ وفقير، ولا وضيعٍ وَوَزير إلا بالتقوى، دِينٌ قيّمٌ قائمٌ على الحقائقِ والبراهين، لا على النَّسَبِ والعناوينْ، الناسُ فيهِ كلُّهم أمام التكليف والحساب سواء، لا يتميزون بأجناسٍ ولا ألوان، ولا مراتبَ ولا سلطان، إلا من أتى الله بقلب سليم وبرهن عليه بالعمل الصالح، قال -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع: "يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت". [صحيح الترغيب 2963].
 قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم عُبَيَّةَ الجاهلية وتعاظُمَهَا بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب". [صحيح الجامع: 7867]. ‌
 فالله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
 أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى واعرفوا فضله عليكم بعيد الفطر السعيد، وهو أول يومٍ من أيام الحج إلى بيته الحرام. وهذا العيد عظيم الشأن عند الله، ومما يدل على عظم شأنه أن الله قرنه بشعيرة عظيمة من شعائر الإسلام العامة التي لها جلالُها وروحانيتُها، وهي شهر رمضان؛ فجاء عيدُ الفطر مِسك ختامِه، وكلمة الشكر على تمامه.
 وهذا الربط الإلهي بين عيد الفطر وبين شعيرة الصيام دليل على أنه عيد ديني بكل ما شُرع فيه من سُنن، بل حتى ما ندب إليه الدينُ فيه من أمور ظاهرُها أنها دنيوية كالتجمل، والتحلي، والتطيب، والتوسعة على العيال، وإلطاف الضيوف، والمرح، واللهو.
 عيدٌ امتلأت القلوب به فرحًا وسرورًا، وازدانت به الأرض بهجة ونورًا، يومٌ يخرج المسلمون فيه بالأمصار إلى المصليات والمساجد مكبرين ومهللين ولربهم حامدين معظمين، وبنعمته مغتبطين، فلله الحمد رب العالمين.
 الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
 أيها الأحبة: عيدكم مبارك ،افرحوا بعيدكم أفراحًا كثيرة؛ فرحة بفضل الله ورحمته، وكريم إنعامه، ووافر عطائه، وفرحة بالهداية يوم ضلت فئام من البشر عن صراط الله المستقيم، ففرحنا أن هدانا يوم ضل غيرنا: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدةَ وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].

فأيُّ نعمةٍ أعظم، وأي منٍّ أمنُّ وأفضل مِنْ أن اللهَ هدانا للإسلام، فلم يجعلنا مشركين نجثو عند أصنامٍ أو حيوانٍ، ولا يهودَ نغدو إلى بيعة، ولا نصارى نروح إلى كنيسة، ولا ملحدين لا نلوي على شيء، وإنما اجتبانا على ملة أبينا إبراهيم ودين نبينا محمد -صلى الله وسلم عليهم أجمعين-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج:78].
 وللعيد فرحة ببلوغ شهر رمضان يوم تصرّمت أعمارٌ عن بلوغه.
 وللعيد فرحةٌ بتوفيق الله وعونه على ما يسر من طاعته، فقد كانت تلك الأيام الغرُّ أيامًا طويلة شديدةَ الحر، ومع ذلك يمضيها المؤمنون بالصيام متحملين ظمأَ الهواجر وألم الجوع ، ويقضون لياليَها الزُّهْرَ مستنزلين الرحمات والنفحات، قد اصطفت فيها جموعهم تُقَطْعُ الليل تسبيحًا وقرآنًا، فكم تلجلجت الدعوات في الحناجر، وترقرقت الدموع في المحاجر، وشَفّت النفوسُ ورقت حتى كأنما يعرج بها إلى السماء تعيش مع الملائكة، وكأنما تنظر إلى الجنة والنار رأي عين، في نعمة ونعيم لا يعرف مذاقها إلا من ذاقها. فَحُقَّ لتلك النفوسِ أن تفرحَ بعدُ بنعمة الله بهذا الفيض الإيماني الغامر.
 وللعيد فرحة بإكمالِ العِدةِ واستيفاءِ الشهرِ، وبلوغِ يوم الفطر بعد إتمام شهر الصوم، فلله الحمد على ما وهب وأعطى، وامتن وأكرم: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِما يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
 الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
 فهذا العيد -معاشر الأحبة- موسم الفضل والرحمة، وبه يكون الفرح ويُظهر السرور والبهجة،
 وشَرْعُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقريرُه إظهارُ الفرحِ وإعلانُ السرورِ في الأعياد، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ -صَلى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: "مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟!"، قَالُوا: كُنّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إِن اللّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ". رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني.
 قال أهل العلم: وجدَ القومَ يلعبون على حال من الترفيه البريء، فما استنكر لعبهم، ولكن استنكر توقيت اللعب باليومين، فقال: "قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ".
وفيه دليل على أن إظهار السرور في العيدين مندوب، وأن ذلك من الشريعة التي شرعها الله لعباده؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما خالفهم في تعيين الوقتين. وقد فُعِلَ أنواعٌ من مشاهد السرور والبهجة بالعيد بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقرها واحتفى بها. وقال في موقف: "إِن لِكُلّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا". رواه البخاري ومسلم. وقال في الآخر: "لَتَعْلَمُ يَهُودُ أَن فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيةٍ سَمْحَةٍ". رواه أحمد بسند قوي.
 الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد..
 إننا بحاجة إلى أن نجعل من هذا العيد فرصة لدفق الأمل في قلوبٍ أحبطها اليأس، وأحاط بها القنوط، وتبدّت فيها مظاهر اليأس في صور شتى،.
 فيا أمة الإسلام: أبشروا وأمّلوا ما يسركم، فعُمر الإسلام أطول من أعمارنا، وآفاق الإسلام أوسع من أوطاننا، وليست المصائب ضربة لازب، لا تحول ولا تزول، فقد حصر المسلمون في الخندق، وبعد سُنيّاتٍ فتحوا مكة، وسقطت بغداد، ثم بعد نحو ثلاثين سنة استعاد صلاح الدين بيت المقدس بعد أن استولى عليه النصارى أكثر من تسعين سنة، وبعد قرنين فُتِحت القسطنطينية، والله -عز وجل- لا يعجل لعجلتنا، ولا تتحوّل سننه لأهوائنا، فسنن الله لا تحابي أحدًا.
 اللهُ أكبرُ قُـولُوْهَا بِـلَا وَجَلٍٍ *** وزينوا القلبَ من مغزى معانيها
بها ستعلو على أفق الزمان لنا *** رايـات عز نسينا كيف نفديها
الله أكـبر ما أحلى النداءُ بها *** كأنه الـري في الأرواحِ يحيـها
 الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الأحبة: ها أنتم أولاء انتهيتم من موسم عظيم للطاعة، كم دعوتم فيه وكم أمنتم على دعاء وألححتم بآخر، وكم استغفرتم وكم بين يدي الله تملقتم تطلبون العفو والغفران عن كل ما سلف وكان.
 أقول لكم: أبشروا بما يسركم فإن الله سبحانه قريب مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، بل إن كرمه فوق ذلك فيبادر عباده الموحدين بالمغفرة.
  
أيها الإخوة، أيتها الأخوات، أيها الأبناء، أيتها البنات: أدعوكم في هذا اليوم العظيم ونحن على إثر عبادة عظيمة من هذا المنبر الحق ، أدعوكم -رجالاً ونساءً صغارًا وكبارًا- أن ترفعوا شعارًا في هذا العيد تبادرون به كلَّ ذي رحم، وكل جار وصديق ، أعلنوها: سامحتك لوجه الله تعالى القائل: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40]، سامحتك امتثالاً لأمر ربنا، سامحتك اقتداءً بقدوتنا، كفى قطيعة كفى تفرقًا وتشرذمًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم!!
 الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
 نعم معاشر الإخوة والأخوات: في العيد يُهدي الناسُ بعضُهم إلى بعض هدايا القلوب المُخلصةِ المُحِبة، وكأنما العيد روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها.
اذا اشتكي مسلم في الصين أرقني, وإن بكى مسلم في الهند أبكاني، 
ومصر ريحانتيوالشام نرجستي, وفي الجزيرة تاريخي وعنواني، 
وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من صلب أوطاني...
 الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الخطبة الثانية : 
اتق الله تعالى أختي المسلمة، واحفظي حدود الله وحقوق العباد، واعلمي أن أفضل زينة للمرأة التقوى والعفاف والصلاح، لا يغرنك ما يفعله بعض النساء من السفور والتبرج ورفع الصوت والبصر. حافظي على الصلوات، وإياك ومزاحمة الرجال في الأسواق والشوارع والحافلات، انتبهي إلى جلبابك فإنه رأس مال الحياء، تأكدي من أنه ساتر لجميع البدن، وأنه ليس لباس زينة يجلب الأنظار، وأنه واسع فضفاض غير ضيق ولا شفاف، وأنه غير مبخر بالعطور والروائح.
 حافظي على أحكام الطهارة والوضوء والغسل والعبادات، وتعلميها واسألي عنها، ولا يمنعنك الحياء أن تسألي عنها، فإن خير النساء من لم يمنعهن الحياء من تعلم أمور دينهن.
 بادري إلى قضاء أيام الصيام، ولا تتركيها حتى يأتي عليك رمضان، ونسأل الله تعالى أن يفتح على كل أخت مسلمة أبواب السعادة والراحة والهناء في الدنيا والآخرة، وأن يرزقهن الذرية الصالحة، والأزواج المؤمنين، والصبر والإيمان واليقين. إنه نعم المولى ونعم المجيب.

 وأتبعوا صيام رمضان بست من شوال؛ فقد حث على ذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله".
 ومن جاء مع طريق يشرع له أن يعود مع طريق آخر كما هي سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-.
 اللهم إن هؤلاء عبيدك أتوك راغبين بعفوك، اللهم لا تفض هذا الجمع إلا بمغفرة لجميع الذنوب، وحقق لكل واحد منا ما تمنى من خيري الدنيا والآخرة من غير إثم أو قطيعة رحم.
3