إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 26 مارس 2021

( حديث الفتى ، أحل لي الزنا )

 ( حديث الفتى ، أحل لي الزنا 

أما بعد:

بينما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي حبيبهم، يتلقون الإيمان، ويحفهم الطهر، إذ يقبل ذلك الشاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول بكل صراحة: يا رسولَ اللهِ ائذنْ لي بالزِّنا!..

يا لفظاعة الطلب، ويا لغرابة الموقف! أما القوم، فأقبلوا عليه وزجروه وقالوا: مه مه!

وأما الرؤوف الرحيم بأمته فقال له: (ادنُهْ) فدنا منه قريبًا فجلس..

ثُمَّ بدأ يحاوره بكل هدوء غقَالَ لَه: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟"،

يفكر الرجل، يتصور الموقف..

ثم يقول استبشاعا واستنكارا:

لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ".

ثم قَالَ له: "أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، فقَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ".

ثم قَالَ له: "أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، فقَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ".

ثم قَالَ له: "أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، فقَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ".

ثم قَالَ له: "أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، فقَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ".

ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم يدَه عليه وقال: اللهمَّ اغفرْ ذنبَه وطهِّرْ قلبَه وحصِّنْ فرْجَهُ.

ثم كانت النتيجة كما تقول الرواية: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيءٍ.

جاء منكسر القلب، أسير الشهوة، فلم يخرج من عنده صلى الله عليه وسلم إلا وقد استؤصل الداء، وتحرر القلب، وعاد العقل إلى صوابه..

فما الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم في نفس هذا الشاب، حتى استطاع أن يجتث تلك المشكلة من جذورها في دقائق معدودة؟!

إن في هذا الحديث نبراسا للمعلمين والمربين والآباء والأمهات، يرشدهم إلى وسائل التعامل مع الشباب، وطرق احتوائهم والتأثير فيهم..

فانظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يفيض بعاطفته على هذا الشاب، ويغمره بمشاعر الرأفة، ولمسات الحنان، فلم يعنفه، ولم يزجره، بل قال له (ادنه) فدنا منه قريبا، ثم جلس، ثم حاوره بكامل اللطف والهدوء، ثم وضع يده عليه، وأرسل الدعوات الصادقة له وهو يسمعها..

فما أحوج الشباب اليوم إلى مثل هذه العاطفة التي تأسر قلوبهم، وتغنيهم عن التنقيب عنها في مراتع الفحش والرذيلة..

ثم انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يوقظ في الشاب رصيد الفطرة، ويسقي فيه بذرة الخير، ويحاوره حوارا عقليا ليرسخ فيه بشاعة الأمر، وفداحة الطلب، فيستيقظ من الغفلة، وتعود الأمور في عقله إلى نصابها، فيزنها بالميزان الصحيح..

وقد كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهي الأمر من البداية، ويعلن رفضه لتحليل الحرام، ولكنه استخدم هذا الأسلوب الناجع، ليكون امتناع الشاب امتناعا ذاتيا عن كامل الاقتناع والاطمئنان، وبذلك يكون أرسخَ في الطهر، وأبعدَ عن وساوس الشيطان..

وكم نحن والله بحاجة إلى مثل هذه الحوارات مع شبابنا وفتياتنا، نفتح لهم قلوبنا، ونصغي لهم بأسماعنا، خصوصا في هذا الزمان الذي نرى فيه شبابنا يتخطفهم شياطين الإنس والجن، فإن لم يجدوا عندنا صدورا رحبة، وآذانا صاغية، فالشياطين لهم بالمرصاد..

وإن من أعجب ما في هذا الحديث هو إحساس الشاب بالأمان التام وهو يقف أمام رسول الأمة، ورئيس الدولة، ويطلب هذا الطلب الفاحش بتحليل كبيرة من الكبائر..

فبالله عليكم كيف سيكون له هذا الأمان لولا معرفته السابقة بأنه بين يدي صاحب ذلك الصدر الرحب، والقلب الطيب، الذي غمرهم برحمته ورأفته ولينه، والذي قال الله فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)..

إن التعاملَ الحسن، والقربَ من الناس وكسبَ قلوبهم، يكسر حواجز الخوف والهيبة، ويفتح صفحات الصدق والصراحة، وبذلك تُجتث كثير من المشاكل قبل أن تتضخم وتتفاقم..

وإن أعظم سبل علاج المشكلات هو أن تتجه إلى من بيده ملكوت كل شيء، ومن بيده القلوب يقلبها كيف يشاء، وهذا ما فعله الحبيب صلى الله عليه وسلم حين وضع يده عليه وقال: (اللهمَّ اغفرْ ذنبَه وطهِّرْ قلبَه وحصِّنْ فرْجَهُ)، فتحول ذلك القلب بمشيئة الله واستجابته، وصار الزنا أبغض شيء إليه بعد أن كان أحب شيء إليه، كل ذلك بدعوة صادقة منه صلى الله عليه وسلم..

فصلى الله على المعلم الأكمل، والمربي الأفضل وجمعنا به في جنات الفردوس..

ورضي الله عن معاوية بن الحكم إذ يقول في موقف فيه بعض الشبه من موقفنا: " فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه؛ فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني"..

الخطبة الثانية:

ومما يؤخذ من القصة  : حرص الرسول أن يبتهل إلى الله بصلاح هذا الشاب ، فقال : اللهم اغفر ذنبه ، وطهِّر قلبه ، وحصِّن فرجه !

ونلحظ من هذا الموقف وهذا الدعاء ، هو سماع الشاب لهذه الدعوات ، فلا شك بأنك عندما تسمع أحدا يدعو لك ، أن هذا مؤشراً لمحبتك وقبولك من لدن الآخر ، فماذا نتصور حينما يسمع منا المخطئ بالدعوات الزاكيات الطيبات !!

لا شك أن هذا مؤثر في الفتى ، ومؤثر في قلوب ابناءنا وبناتنا وشباب المسلمين عندما ندعو لهم ...

وكذلك مما يستفاد منها : أن لا تحكم على ظواهر الناس قبل  ان تنظر في مخابرهم ، فهذا شاب يجاهر أمام اطهر البشر وهو النبي عليه الصلاة والسلام ، وأمام خير القرون وهو الصحابة ، وفي اطهر البقاع وهو المسجد ، ويُطالب بتحليل ما حرم الله من كبيرة من الكبائر ، ومع ذلك ، كان في داخله قلب نقي ونفس سوية تحتاج الى توجيه ودعوات صادقة لكي تتغير وتتبدل وينصلح حالها ، فلا نيأس من شبابنا اليوم ولا نوليهم ظهورنا ، ففي دواخلهم نفوس طيبة وقلوب نقية ، لكن تحتاج الى لمسة حانية ودعوة صادقة ، وحوار راقي يزيح عنهم القلق الذي يعيشونه والاضطرابات التي تعصف بنفوسهم ، والهداية بيد الله 

 

ومما نستفيده من هذا الحديث يا عباد الله، أنه لا محاباة في الحق، فإن الرفق بالناس والرأفة بهم لا يعني تحليل الحرام لهم، ولا التهوين من شأنه، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ولا تبديل لكلمة الله وشرعه..

وكم نجد في واقع الناس اليوم من يستجيب لضغوطات الواقع، وعموم البلوى، فتجده يستجيب لأهواء النفوس، ويستمع لكلام أهل الباطل، فيقع في تحليل الحرام أو التهوين من شأنه، ويدعي بذلك أنه يسلك سبيل الرفق والتيسير..

والتيسير الحقيقي هو ما جاءت به الشريعة السمحة، لا ما ضغط علينا به الواقع..

الشريعة التي وضعها الحكيم العليم سبحانه، والذي هو أرحم بعباده وأعلم بهم من أنفسهم، كما قال سبحانه: (أَلَا یَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ)

والرفق بالناس هو أن نعلمهم محاسن هذه الشريعة، ونقربهم منها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، لا أن نطوعها ونكيفها على شهواتهم وأهوائهم..

وبذلك يصلح لهم الدين والدنيا، وتُحقق لهم السعادة الكاملة في الدارين، بالحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم الأبدي والنجاة في الآخرة..

تلك هي الرحمة الحقيقية، وذلكم هو أعظم الرفق وأعلاه..

(هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲۚ مِّلَّةَ أَبِیكُمۡ إِبۡرَٰهِیمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ مِن قَبۡلُ وَفِی هَـٰذَا لِیَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِیدًا عَلَیۡكُمۡ وَتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَوَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِیرُ)

اللهم اغفر ذنوبنا، وطهر قلوبنا، وحصن فروجنا..

اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها، وما بطن..

الخميس، 11 مارس 2021

شهر شعبان

 ( شهر شعبان ) 

الخطبة الأولى 

أما بعد:

إن المؤمن ليتقلب في هذا الزمان، ويمد الله له في الأجل، وكل يوم يبقاه في هذه الدنيا هو غنيمة له ليتزود منه لأخرته، ويحرث فيه ما استطاع ويبذر فيه من الأعمال ما استطاعته نفسه وتحملته. 

وها قد مضى أيها الأحبة شهر رجب، ونحن على وشك دخول شعبان والناس عنه غافلة. ولنا مع هذا الشهر المبارك وقفات ننظر فيها حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال سلف الأمة، الذين أمرنا بالاقتداء بهم، مع ذكر بعض فضائله وأحكامه. 

 

عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله: ( لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال ( ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم )) [رواه النسائي]. 

 

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله يصوم ولا يفطر حتى نقول: ما في نفس رسول الله أن يفطر العام، ثم يفطر فلا يصوم حتى نقول: ما في نفسه أن يصوم العام، وكان أحب الصوم إليه في شعبان، [رواه الإمام أحمد]. 

 

ومن شدة محافظته صلى الله عليه وسلم على الصوم في شعبان أن أزواجه رضي الله عنهن، كن يقلن أنه يصوم شعبان كله، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شهر غير رمضان، فهذه عائشة رضي الله عنها وعن أبيها تقول: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان. [رواه البخاري ومسلم]. 

 

وفي رواية عن النسائي والترمذي قالت: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صياما منه في شعبان، كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله ) 

 

وهذه أم سلمة رضي الله عنها تقول: (( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان )). ولشدة معاهدته صلى الله عليه وسلم للصيام في شعبان، قال بعض أهل العلم: إن صيام شعبان أفضل من سائر الشهور، وإن كان قد ورد النص أن شهر الله المحرم هو أفضل الصيام بعد رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل )) [رواه مسلم].

 

ومن الحكم في الإكثار من صيام شعبان: ما تضمنه حديث أسامة بن زيد المتقدم ذكره وفيه قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ فبين له صلى الله عليه وسلم سبب ذلك فقال له: ((ذاك شهر يغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان)) وماذا أيضا؟ قال: ((وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)). 

 

إن هذا الحديث تضمن معنيين مهمين: 

أحدهما: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان. 

 

وثانيهما: أن الأعمال ترفع وتعرض على رب العالمين، فأما كون شعبان تغفل الناس فيه عنه، فإن ذلك بسبب أنه بين شهرين عظيمين، وهما الشهر الحرام رجب، وشهر الصيام رمضان، فاشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولا عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان لأن رجب شهر محرم، وهذا ليس بصحيح، فإن صيام شعبان أفضل من صيام رجب للأحاديث المتقدمة. 

 

وفي قوله: ((يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان)) ولذلك قال أهل العلم: وهذه لفتة فتنبه لها يا عبد الله قالوا: هذا فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، ولذا كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم فضل القيام في وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر كما قال: ((إن افضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل)) 

 

والأجور المترتبة على الاشتغال بالطاعات وقت غفلة الناس كثيرة ومتنوعة، فتعرضوا لنفحات الله، أيها الأحبة، وتلمسوا مرضاته. 

ثم اعلم يا عبد الله أن إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فيه فوائد: 

 

إن فعلك لهذه الطاعة يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لاسيما الصيام، فإنه سر بين العبد وربه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء، وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان، فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما في سوقه، ويظن أهل سوقه أنه أكلها في بيته. 

 

الفائدة الثانية في إحياء وقت غفلة الناس بالطاعات أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس إن كان على السنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الأجر على قدر النصب)). 
 

والسبب في أن الطاعات في وقت غفلة الناس شاقة وشديدة على النفوس، هو أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم، كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين لهم، فسهلت الطاعات، وتأمل كيف أن كثيراً من الناس يشق عليهم الصيام في غير رمضان: فإذا جاء رمضان سهل عليهم الصيام ولم يجدوا مشقة في صيامه، وذلك لأن الناس من حولهم يؤدون هذه العبارة الجليلة، والناس كأسراب القطا يتبع بعضهم بعضا، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( الناس أشبه بأهل زمانهم منهم بآبائهم. )

 

وأما إذا أكثرت غفلة الناس تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المتيقظين والطالبين لمهر الجنة تشق عليهم طاعاتهم ، لقلة من يقتدون بهم في هذه الأوقات المغفول عنها، ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم في حال الغرباء في آخر الزمان: ((للعامل منهم أجر خمسين منكم – أي من الصحابة – إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون)) [وفي مسلم] ((فطوبى للغرباء)) 

ولهذا جاء في صحيح مسلم أيضا من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العبادة في الهرج كالهجرة إلي)) وعند الإمام أحمد بلفظ: ((العبادة في الفتنة كالهجرة إلي)) وسبب ذلك أن الناس في وقت الفتن تستولي عليهم الغفلة، ويتبعون أهوائهم ولا يرجعون إلى دين، وينشغلون عن عبادة ربهم بهذه المحدثات والمضلات من الفتن ..

ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القران، ليحصل التأهب لتلقي رمضان وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن، 

ولذلك فإن السلف كان يجدّون في شعبان، ويتهيأون فيه لرمضان قال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء. 

 

وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القران،

قال أبو بكر البلخي: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع، 

 

 

الخطبة الثانية 

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)) [رواه الطبراني وابن حبان وهو حديث صحيح]. 

ولنا مع هذا الحديث الذي يتعلق بالنصف من شعبان أربع وقفات مهمة: 

 

الأولى: أن الله يغفر فيها لكل عباده إلا المشرك فتفقد نفسك يا عبد الله، وفتش باطنها، فلعلك أن تكون مبتلى بشيء من هذه الشركيات المنتشرة في الأمة، ولا تظنن بنفسك خيرا بل فاتهمها في جانب الله وفي تقصيرها، ولا تقل أني بريء من الشركيات، ولا يمكن أن أقع فيها، ويكفى أنني أعيش في بلد التوحيد، فإن هذا غرور وجهل منك، إذا كان أبو الأنبياء وإمام الحنفاء خليل الرحمن يخشى على نفسه الشرك، بل يخشى على نفسه وعلى بنيه عبادة الأصنام، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ( واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام) وقد بين إبراهيم ما يوجب الخوف من ذلك فقال: ( رب انهن أضللن كثيراً من الناس. ) 

 

قال إبراهيم التيمي: من يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به، 

 

الوقفة الثانية: خطورة الشحناء والبغضاء بين الناس، وأن الله لا يغفر للمتشاحنين، والشحناء هي: حقد المسلم على أخيه المسلم بغضا له لهوى في نفسه، لا لغرض شرعي وسبب ديني، فهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، 

 

كما في صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (( تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: انظروا هذين حتى يصطلحا ))، 

 

الوقفة الثالثة: إحياء بعض الناس لليلة النصف من شعبان، وبعضهم يصليها في جماعة ويحتفلون بأشياء وربما زينوا بيوتهم، وكل هذا من البدع المحدثة التي لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحبه ولا تابعوهم، وهم الحجة لمن أراد سواء السبيل 

 

وما ثبت في هذه الليلة من فضل هو ما قدمناه من أنك يجب عليك أن تحقق التوحيد الواجب، وتنأى بنفسك عن الشرك، وأن تصفح وتعفوا عمن بينك وبينه عداوة وشحناء ، أما إحداث البدع في هذه الليلة فإن أهلها هم أولى الناس بالبعد عن رحمة الله، وأن ينظروا هم حتى يتوبوا من بدعتهم.