إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 26 يوليو 2019

الحج على الأبواب

( الحج على الابواب ) 
الْـخُطْبَةُ الأُولَى:
 أمَّا بَعْدُ… فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.               
عبادَ اللهِ، إِنَّ منْ فضلِ اللهِ علَى عبَادِهِ وَنِعَمِهِ؛ أَنْ جَعَلَ لَـهُمْ مَوَاسِمَ عَظِيمَةً لِلْطَاعَاتِ، تُقَالُ فِيهَا العَثَرَاتُ، وَتُـجَابُ فِيهَا الدَّعَوَاتُ؛ شَرَّفَهَا عَلَى غَيْرِهَاكَذَلِكَ شَرَّفَ أَمَاكِنَ عَلَى غَيْرِهَا؛ وَقَدِ اجتمعتْ فِي الْـحَجِّ فضيلَةُ الزَّمانِ والْمَكَانِ؛ فَهُوَ مَغْنَمٌ للطَّائِعِينَ وَمَيْدَانٌ لِلْمُتَنَافِسِينَ.
عبادَ اللهِ، إِنَّ الأمةَ الإسلاميةَ عَلَى بابِ مَوْسمٍ عظيمٍ؛ أَلَا وَهُوَ الحَجُّ إِلَى بيتِ اللهِ الْـحَرَامِ، الَّذِي فَرَضَ اللهُ علَى عِبَادِهِ حَجَّهُ، فَقَالَ تَعَالَىوَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران: 97]، ولقولهِ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، في الحديثِ الطويلِ الذي رواهُ مسلمٌ “يأيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا، وَالْحَجُّ ركْنٌ مِنْ أركانِ الإِسْلَامِ، الَّتِي بُنِيَ علَيْهَا، وَفَرْضُ عَيْنٍ بالإجماعِ، ومعلومٌ مِنَ الدينِ بالضرورةِ.  
إِنَّ القلوبَ الْمُؤْمِنَةَ لَتَسْتَجِيبُ لأمرِ اللهِ تَعَالَى بالحجِّ إِلَى بيتِهِ؛ شَوْقًا إِلَى مغفرتِهِ، قَالَ تَعَالَى)  وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27].
 إِنَّ القلوبَ المؤمنةَ لَتَنْطَلِقُ شوقًا إِلَى هَذَا البيتِ؛ تحقيقًا لدعاءِ الخليلِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ) فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم: 37]، فقلوبُ المؤمنينَ تَهْوِي إِلَى ذلكَ البيتِ العظيمِ، الذي أُقِيمَ علَى التَّوحيدِ مِنْ أَوَّلِ لحظةٍ، فَمَا أَنْ أَذَّنَ الخليلُ بالحجَّ -بَعْدَمَا فَرَغَ مِنْ إِقَامَتِهِ عَلَى الأساسِ الَّذِي كُلِّفَ بِإِقَامَتِهِ عَلَيهِ- إِلَّا وجُموعُ المؤمنينَ تأتِي إليهِ مُلّبِّيَةً، يَتَقَاطَرُونَ مِنْ كُلِّ فّجٍّ: رِجَالًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ يَسْعُونَ، وَرُكُوبًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ.
 وَمَا يَزَالُ وَعْدُ اللهِ يَتَحَقَّقُ مُنْذُ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ -علَيْهِ السلامُ- إلى اليومِ والغَدِ، ولَا تَزالُ أفئدةُ الناسِ تَهْوَي البيتَ الْحَرَامَ، وتَهْفُو إِلَى رُؤْيتِهِ، والطَّوافِ بِهِ، مَا بَيْنَ غَنِيٍّ قَادِرٍ، يَجِدُ الظَّهْرَ فَيَرْكَبُهُ، وفَقِيرٌ لَا يَجِدُ إِلَّا قَدَمَيْهِ. إِنَّ مَلَايِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَقَاطَرُونَ مِنْ فِجَاجِ الأَرْضِ البَعِيدةِ؛ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اِسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ.
 ومنافِعُ الحجِّ كثيرةٌ، لَا تُعَدُّ وَلَا تُـحْصَى؛ فَهُوَ مَوْسِمٌ تَلْتَقِي فِيهِ الدُّنْيَا والآخرةُ، وَمَوْسِمُ عبادةٍ تصفُو فيهِ الأرواحُ، وهِيَ تَسْتَشْعِرُ قُرْبَـهَا مِنَ اللهِ فِي بَيْتِهِ الْـحَرَامِ.
إِنَّ الْـحَجِيجَ لَا يَزَالُوا يَتَوَافَدُونَ مِنْ كُلِّ فِجَاجِ الأرضِ: القَاصِي مِنْهَا، وَالدَّانِي. وَحَنَاجِرُهُمْ تَـجْأَرُ بِإجَابَةِ التَّوْحِيدِ ونداءِ الإخلاصِ، لبيكَ اللهمَّ لبيكَ، لبيكَ لَا شَرِيكَ لكَ لبيكَ. يُـجِيبُونَ دَاعِيَ التوحيدِ بإعلانِ التوحيدِ. إنَّ هذِهِ الجموعَ الْمُلَبِّيَةَ الْمُسْتَجِيبةَ؛ تَأِتي مُنْضَوِيَةً تحتَ رايةِ العقيدةِ، تتوارَى في ظِلِّهَا فوارقُ الأجناسِ، وَتَـمَايُزُ الأَلوَانِ وتباعُدُ الأوطانِ.
عِبَادَ اللهِ، جَعَلَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا لِلْحَجِّ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَيْسَ لِغَيْـرِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-،  سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: “إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ” قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:”الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:”حَجٌّ مَبْرُورٌ“.مَتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْـحَجُّ الْمَبْـرُورُ هُوَ الَّذِي لَا يُـخَالِطُهُ إِثْـمٌ، وَلَا رِيَاءٌ، وَلَا سُـمْعَةٌ، وَلَا رَفَثٌ، وَلَا فُسُوقٌ، قَالَ تَعَالَىالْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197].

 وَقَالَ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ “مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ” (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

فَعَلَى مَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى حَجِّ بَيْتِ اللهِ الْـحَرَامِ، أَنْ يَتَزَوَّدَ فِي حِجِّهِ بِـخَيْـرِ الزَّادِ؛ أَلَا وَهُوَ زَادُ التَّقْوَى، فَهِيَ زَادُ الْقُلُوبِ وَالأَرْوَاحِ، مِنْهَا تَقْتَاتُ، وَمِنْهَا تَتَقَوَّى، وَعَلَيْهَا تَسْتَنِدُ فِي الوُصُولِ وَالنَّجَاةِوَمِنَ التَّزَوُّدِ بِالتَّقْوَى: رَدُّ الْمَظَالِـمِ إِلَى أَصْحَابِـهَا، وَالتَّحَلُّلُ مِنْ أَهْلِهَا، وَمِنْ زَادِ التَّقْوَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى حِجِّهِ أَطْيَبَ مَالِهِ، فَعْنْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، “ أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِالْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، وَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)،   ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَمِنْ أَعْظَمِ الْغَبـْنِ أَنْ يَـحُجَّ الْـحَاجُّ بـمَالٍ مُـحَرَّمٍ، مِنْ مَالٍ رَبَوِيٍّ، أَوْ رِشْوَةٍ، أَوْ مَالٍ أَكَلَهُ مِنْ يَتِيمٍ أَوْ مِسْكِينٍ، فَهُوَ لَا يَنَالُ بِسَبَبِهِ مِنْ حِجِّهِ إِلَّا نَصَبًا وَتَعَبًا، قَالَ الإِمَامُ أَحْـمَـدُ، رَحِـمَهُ اللهُ:
إِذَا حَجَجْتَ بِـمَالٍ أَصْلُهُ سُحْتٌ *** فَمَا حَجَجْتَ وَلَكِنْ حَجَّتِ الْعِيـرُ
لَا يَقْبَلِ اللهُ إِلَّا كُلَّ طَـيِّــبَـةٍ *** مَا كُلُّ مَنْ حَجَّ بّــيْــتَ اللهِ مَبْـرُورُ
فَعَلَى مَنْ نَوَى الْـحَجَّ أَنْ يُـخْرِجَ النَّفَقَةَ مِنْ خَيْـرِ مَالِهِ، وَأَنْ يَتَزَوَّدَ لِـحِجِّــهِ بِرُفْـــقَـــةٍ صَالِـحَةٍ، رِفْقَةٍ يُعِينُونَكَ عَلَى التَّقْوَى، يُذَكِّرُونَكَ بِرَبِّكَ وَبِالدَّارِ الآخِرَةِ، فِيهِمْ مَـحَاسِنُ الشِّيَمِ، وَمَكَارِمُ الأَخْلَاقِ.
 أَوْصَى عَلْقَمَةُ اِبْنَهُ فَقَالَ: “اِصْحَبْ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ إِنْ صَحِبْتَهُ زَانَكَ، وَإِنْ خَدَمْتَهُ صَانَكَ، وَإِنْ سَأَلْتَهُ أَعْطَاكَ، وَإِنْ لَـمْ تَسْأَلْهُ اِبْتَدَاكَ، اِصْحَبْ مَنْ لَا تَأْتِيكَ مِنْهُ الْبَوَائِقُ، وَلَا تَـخْتَلِفُ مِنْهُ عَلَيْكَ الْـخَلَائِقُ، وَلَا يَـخْذُلْكَ عِنْدَ الْـحَقَائِقِ”.
 فَاِحْرِصْ -رَحِـمَكَ اللهُ – عَلَى أَنْ تَصْحَبَ مَنْ فِيهِ حُسْنُ الصُّحْبَةِ لِمَنْ صَحِبَ.
قَالَ مُـجَاهِدٌ –رَحِـمَهُ اللهُ  “صَحِبْتُ اِبْنَ عُمَرَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَخْدُمَهُ، فَكَانَ يَـخْدُمُنِـي أَكْثَرَ“.
فَحُجَّ – يَا عَبْدَ اللهِ – بِرِفْقَةِ أُولِي الْـهِمَمِ الْعَالِيَةِ، أَهْلِ التَّوَاضُعِ وَالْـخُضُوعِ، وَالتَّذَلُّلِ وَلِـيـنِ الْـجَانِبِ، وَاِجْتَنِبْ أَهْلَ: الْمِرَاءِ وَالْـجَدَلِ، وَالْـجَبَـرُوتِ وَالْقَسْوَةِ، وَالتَّعَاظُمِ وَالتَّفَاخُرِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم
الخطبة الثانية:
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ فِي الْـحَجِّ مِنَ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ مَا يَـجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا وَأَجَلِّهَا، مَوْقِفُ عَرَفَةَ؛ فَهُوَ عُمْدَةُ الْـحَجِّ؛ فَعَلَى صَعِيدِ عَرَفَاتَ، يَـجْتَمِعُ جُـمُوعُ الْـحَجِيجِ فِي مَنْظَرٍ مَهِيبٍ، مُتَجَرِّدِينَ مِنَ كُلَّ سِـمـَةٍ إِلَّا سِـمَةَ الإسلامِ، لَا يـُمَيَّزُ فَرْدٌ عَنْ فردٍ، وَلَا قَبِيلةٌ عَنْ قَبِيلَةٍ، وَلَا جِنْسٌ عَنْ جنسٍ، لباسُهُمْ وَاحِدٌ، وَشِعَارُهُمْ وَاحِدٌ، لَــبَّــيْــكَ اللهُمَّ لَــبَّــيْــكَ، تَكْبِيـرٌ وَتَـهْلِيلٌ. فتُسْكَبُ الْعَبَـرَاتُ، وَتُقَالُ الْعَثَرَاتُ، وتُسْتَجَابُ الدَّعَوَاتُ، وَتُغْفَرُ السَّيِّــئَاتُ؛ مـَحْرُومٌ – وَرَبِّي – مَنْ لَمْ يَتَذَوَّقْ طَعمَهُ وَلَوْ مَرَّةً فِي حَيَاتِهِ، مَشْهَدٌ جليلٌ، لَا يَعْرِفُ عَظَمَتْهُ إِلَّا مَنْ وَقَفَهُ.
فلِلهِ ذاكَ الموقفُ الأعظمُ الَّذِي *** كموقفِ يومِ العَرْضِ بلْ ذاكَ أعظمُ
ويدْنُو بهِ الجبّارُ جَلَّ جلالُــهُ *** يُباهِي بهمْ أمْلاكَه فهو أكــرَمُ
يقولُ عِبادِي قدْ أتونِي مَحَبَّــةً *** وَإنِّي بهمْ بَرٌّ أجُودُ وأرْحَــمُ
فأشْهِدُكُمْ أنِّي غَفَرْتُ ذنُوبَهُــمْ ***  وَأَعْطيْتُهُمْ ما أمَّلوهُ وأنْعِـــــمُ
فبُشراكُمُ يا أهلَ ذَا الْـمَوقِفِ الَّذِي *** بِهِ يَغفرُ اللهُ الذنوبَ ويَرحمُ
فكمْ مِن عتيقٍ فيه كَمَّلَ عِتقـهُ *** وَآخَرُ يَسْتسعَى وربُّكَ أرْحَمُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- قَالَ “مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟” (رواهُ مسلمٌ).
قَالَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-،  لِـمَنْ سَأَلَهُ عَنْ أَجْرِ وقوفِهِ “وَأَمَّا وَقُوفُكَ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَيَقَوُلُهَؤُلَاءِ عِبَادِي جَاءُوا شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي، وَلَمْ يَرَوْنِي، فَكَيْفَ لَوْ رَأُونِي، فَلَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ رَمْلِ عَالِجٍ، أَوْ مِثْلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، أَوْ مِثْلُ قَطْرِ السَّمَاءِ ذُنُوبًا غَسَلَهَا اللَّهُ عَنْكَ، وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ، فَإِنَّهُ مَذْخُورٌ لَكَ، وَأَمَّا حَلْقُكَ رَأْسَكَ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَسْقُطُ حَسَنَةً، فَإِذَا طُفْتَ بِالْبَيْتِ، خَرَجْتَ مِنْ ذُنُوبِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ” (رَوَاهُ عَبْدُ الرَّازَقُ بسندٍ صحيحٍ).
فكيفَ يفرطُ مسلمٌ، لَمْ يُؤَدِّ فرضَهُ، بيومِ المُباهَاةِ ؟فالمحرومُ مَنْ حُرِمَهُ، وقدْ أَوْسَعَ اللهُ لَهُ في رِزْقِهِ، ونَسَأَ لَهُ في أَجَلِهِ، وَلَا يَغْدُو إِلَى بيتِ رَبِّه مَعَ كمالِ صِحَّتِهِ وعَافِيَتِهِ.
وعلى مَنْ وقَفَهُ أنْ يَستَشْعِرَ هَيبتَهُ، خَطَبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ بعرفةَ فقالَ “إِنَّكُمْ قَدِ جِئْتُمْ مِنَ القريبِ والبعيدِ، واَضْنَيْتُمْ الظَّهْرَ، وأَخْلَقْتُمْ الثِّيَابَ، وليسَ السابِقُ اليومَ مَنْ سَبَقَتْ دَابَّتُهُ ورَاحِلَتُهُ، وإِنَّمَا السَّابِقُ مَنْ غُفِرَ لهُ، وفِي روايةٍ: “وتَكَلَّفْتُمْ مِنَ المؤونةِ مَا شَاءَ اللهُ“.
وقفَ حكيمُ بنُ حِزَامٍ -رضي اللهُ عنهُ- عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؛ فَأَعْتَقَ عَبِيْدَهُ، فضَجَّ النَّاسُ بالبكاءِ والدعاءِ يقولونَ : هَذَا عَبْدُكَ قَدْ أَعْتَقَ عَبِيدَهُ، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ فَأَعْتِقْنَا.
رأَى الفُضَيلُ بكاءَ الناسِ بعرفةَ فقالَ : أَرَأَيْتُمْ لَو أَنَّ هَؤُلَاءِ صَارُوا إِلَى رَجُلٍ فَسَأَلُوهُ دِرْهَـمًا، أَكَانَ يَرُدُّهُمْ ؟ قَالُوا: لَا وَاللهِ، قَالَ: وَاللهِ، لَلْمَغْــفِرَةُ عِنْدَ اللهِ أَهْوَنُ مِنْ إِجَابَةِ رَجُلٍ بِدَانِقٍ، ثُـمَّ أَنْشَدَ:
فَعَلَى مَنْ وَقَفَ هَذَا الْمَوْقِفَ أَنْ يَسْتَغِلَّهُ فِي الدُّعَاءِ، وَأَلَّا يُفَرِّطَ فِي دَقَائِقِهِ وَلَا فِي ثَوَانِيهِ؛ فَهِيَ سُوَيْعَاتٌ مَعْدُودَاتٌ. أَسْأَلُ اللهَ أَلَّا يَـحْرِمَنَا أَجْرَهَا.
   عِبَادَ اللهِ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ؛ فَلَمْ يَـحُجْ، وَهُوَ قَادِرٌ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَـخْذُولٌ، وَلِنَفْسِهِ ظَالِـمٌ مُبِينٌ.

 

الخميس، 18 يوليو 2019

حرص النبي عليه الصلاة والسلام على هداية الخلق

( حرص النبي عليه الصلاة والسلام على هداية الخلق ) 
المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن جماع الخير الذي أوتيه ظاهر في خلقه صلى الله عليه وسلم.
هذا الخلق الذي أثنى عليه ربه به، وعظمه، يقول الله سبحانه وتعالى ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4].
وخلقه صلى الله عليه وسلم مجموعة من الصفات كملها له ربه، ورباه فأحسن تربيته. هذه الأخلاق ذاتُ صلة عظمى بمنهجه الدعوي 
 فكل من تأمل سيرته وجده قد تضلع بالحرص على هداية الخلق للحق والخير في جملة من شمائله، وأخلاقه الكاملة التي استحق عليها الثناء من الله سبحانه وتعالى ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4].
 يقول الله - عز وجل-: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
 فالله يمتن على عباده بأن بعث فيهم هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أنفسهم، الذي من أوصافه أنه حريص عليكم، يحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان ويكره لكم الشر، ويسعى في تنفيركم عنه.
 فهذه الآية تدل على اتصافه بهذه الصفات المشعرة بغاية الحرص، وغاية الشفقة علينا، وهذا يعظم المنة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قوياً في إرادة الخير، راغباً رغبةً ملحة في إيصاله للناس يحدوه أمله، وتدفعه رحمته في إيصال النفع التام للخلق بحياتهم حياة طيبة في الدنيا ودخولهم الجنة في الآخرة، قوي الرغبة في دفع الضر عن الناس.
 ومن عجيب أمر الخلق، حرصه على هدايتهم، وإعراضهم عن ذلك، ولذلك قال الله - عز وجل-: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف:103].
وقوله تعالى﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ﴾ [الكهف:6].
 والباخع المهلك. أي: مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم) [أضواء البيان:3 /201-202].
ولنا أن نتساءل أي قلب كبير هذا الذي يحزن، بل يبالغ في حزنه، فينهى عن هذا الأمر شفقة عليه، لماذا يحزن؟ ولمن يحزن؟ هل حزنه على أناس طيبين خيرين قدموا له العون والمساعدة؟!!
 إن العجب ليأخذ بالإنسان عندما يعلم بأن حزنه صلى الله عليه وسلم كان على أناس ما علموا بوسيلة تدخل الأذى والشر إليه إلا سعوا إليها بكل حرص، وتعاونهم واتفاقهم على قتله من هذا القبيل، وهنا التناقض هم حريصون على أذيته بل قل قتله، وهو حريص على نفعهم، حزين عليهم. أي قلب كبير هذا دلوني على قلب مثل قلب محمد صلى الله عليه وسلم!!
 وأكد صلى الله عليه وسلم على حرصه على الخلق وإبعادهم عن كل ما يحميهم من النار حين قال: " مثلي ومثلكم، كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي " [مسلم ].
 وفي رواية: " مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه، فيتقحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني تقحمون فيها "[ مسلم ].
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني، واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني، وكذب ما جئت به من الحق " [مسلم ].
 قال النووي -رحمه الله- على هذا الحديث: ( باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم. )
 قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا النذير العريان" قال العلماء أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب المخافة، نزع ثوبه وأشار به إليهم، إذا كان بعيداً منهم؛ ليخبرهم بما دهمهم، وأكثر ما يفعل هذا ربيئة القوم وهو طليعتهم ورقيبهم.
 قالوا: وإنما يفعل ذلك؛ لأنه أبين للناظر وأغرب وأشنع منظراً، فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو) [شرح النووي على صحيح مسلم:15 /48].
 وأما سيرته فهي كلها قامت على الحرص على الخلق وحمايتهم من كل أذى يلحق بهم في الدنيا والآخرة. وفي التعرض لبعض تلك المواقف والمواضع من سيرته ما يوضح هذا الأمر.فمن ذلك:
صعوده صلى الله عليه وسلم على الصفا للدعوة إلى الله تعالى:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي:" يا بني فهر، يا بني عدي " لبطون قريش؛ حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج، أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش. فقال: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي، تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟!فنزلت﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ [المسد: 1، 2] [البخاري].
 حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه أبو طالب:
فعن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب:" يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة؛ حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله تعالى فيه﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 113]الآية [البخاري].
 حرصه على هداية أمته:
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ [إبراهيم: 36] وقال عيسى عليه السلام ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: " اللهم أمتي، أمتي " وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد عليه الصلاة والسلام - وربك أعلم - فسله ما يبكيك. فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال- وهو أعلم - فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. [مسلم ].
 قال النووي - رحمه الله -: (هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد منها: بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته واعتنائه بمصالحهم واهتمامه بأمرهم، ، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة زادها الله تعالى شرفا بما وعدها الله تعالى بقوله: (سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها، ) [شرح النووي على صحيح مسلم:3/78-79].
 حرصه صلى الله عليه وسلم تبليغ الخير حتى للصغار
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي:" يا غلام! إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فلتسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك،لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف"[مسند أحمد بن حنبل].
 حرصه صلى الله عليه وسلم على دعوة الناس من غير قريش
فعن ربيعة بن عباد الديلي - رضي الله عنه - قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت يقول: " أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " إلا أن وراءه رجلاً أحول وضيء الوجه ذا غديرتين يقول: أنه صابئ كاذب. فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله، وهو يذكر النبوة قلت: من هذا الذي يكذبه؟ قالوا: عمه أبو لهب.[مسند أحمد بن حنبل].
 وعن ربيعة بن عباد الديلي- رضي الله عنه - يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس بمنى في منازلهم، قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: " يا أيها الناس إن الله عز وجل يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً " قال ووراءه رجل يقول: هذا يأمركم أن تدعوا دين آبائكم. فسألت من هذا الرجل، فقيل: هذا أبو لهب. [مسند أحمد بن حنبل].
 ذهابه إلى منازل الناس خاصة في أيام الموسم
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ ومنازلهم من مني " من يؤويني، من ينصرني؛ حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة " فلا يجد أحدا ينصره ولا يؤويه؛ حتى أن الرجل ليرحل من مضر أو من اليمن إلى ذي رحمه فيأتيه قومه، فيقولون له: أحذر غلام قريش لا يفتننك، ويمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل يشيرون إليه بالأصابع؛ حتى بعثنا الله من يثرب،. [المستدرك على الصحيحين ج2/ص681].
 حرصه صلى الله عليه وسلم على دعوة غير المسلمين في المدينة: فعن أنس - رضي الله عنه- قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حماراً فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك.[البخاري ].
 قال النووي - رحمه الله -: (وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم والصفح والصبر على الأذى في الله تعالى، ودوام الدعاء إلى الله تعالى، وتألف قلوبهم ). [شرح النووي على صحيح مسلم:12/159].
 دعوته صلى الله عليه وسلم لغلام يهودي: فعن أنس رضي الله عنه قال كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال: " له أسلم " فنظر إلى أبيه، وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:" الحمد لله الذي أنقذه من النار " [البخاري ].
الخطبة الثانية : 
 حرصه صلى الله عليه وسلم على عدم المشقـّة في التكاليف الشرعية
ففي الصلاة: لما فُرضت الصلاة على أمته خمسين صلاة، استشار موسى عليه الصلاة والسلام، فقال موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُراجع ربّه حتى خفف الله عن هذه الأمة فصارت خمس صلوات.
وعن عائشة قالت: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى فقال: " إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي " [مسلم].
 ولما صلى في رمضان، وصلى رجال بصلاته، ترك القيام في الليلة الثالثة أو الرابعة، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها. متفق عليه.
 وفي الحجلما قال صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " [مسلم].
 وبخصوص بنساء أمتهقال عليه الصلاة والسلام:" إني لأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوّز في صلاتي؛ كراهية أن أشق على أمـِّـه" [البخاري ].
 لقد كان حريصا على تبيان الحق والخير للناس حتى وهو يجود بنفسه صلى الله عليه وسلم:
فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: كانت عامة وصية رسول صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه:" الصلاة، وما ملكت أيمانكم "[سنن ابن ماجه].
وعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصةسوداء حين اشتد به وجعه، قالت: فهو يضعها مرة على وجهه، ومرة يكشفها عنه، ويقول: " قاتل الله، قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحرم ذلك على أمته. [مسند أحمد بن حنبل].
 حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته يوم القيامة:
قال صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض - ثم ذكر مجيئهم إلى الأنبياء - فقالفيأتونني فأقول أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع فأقول: يا رب أمتي، أمتي الحديثرواه البخاري ومسلم.
 ودعوى الأنبياء يومئذٍ: اللهم سلم، سلم.