إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 31 أكتوبر 2019

أهمية النصيحة وادابها

أهمية النصيحة وآدابها ) 
الخطبة الأولى:
 الْحَمْدُ للهِ ربِّ العالمين، أرْسَلَ رُسُلَه مُبَشِّرينَ وَمُنذِرين، وَهُدَاةً نَاصِحين، سُبْحَانَه ضَمِنَ الفَوزَ وَالفَلاحَ للمُتَوَاصِينَ بالحقِّ وَالصَبْرِ بُغيَةَ الإصلاحِ، أَحْمَدُه تَعالى بِمَا هو لَه أهلٌ مِنَ الحَمدِ وأُثنِي عليه، وَأُومِنُ بِه وَأَتَوكَلُ عليه، مَنْ يَهدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه وَمَنْ يُضْللْ فَلا هَادِيَ له.
 وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خَيرُ مَنْ نَصَحَ وَوَجّه، وَأرشَدَ وَنَبَّه؛ فَهدى اللهُُ بِه الخَلقَ إلى الحَقِّ وَإِلى صِرَاطٍ مُستَقيمٍ، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنِ اهتَدَى بِهَدْيِهِ، وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
 أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : كُلُّ قَولٍ فِيه حَثٌّ عَلى صَلاحٍ ونَهْيٌ عَنْ فَسادٍ هو قَولٌ طَيِّبٌ سَدِيدٌ، وَكَلِمٌ نَافِعٌ مُفِيدٌ، وَكَلُّ مَا كَانَ كَذلِكَ فَهو نَصِيحَة؛ لأنَّ فِيه سَدّاً لِلخَلَلِ، وَعِلاجاً للأدْواءِ والعِلَلِ، كَمَا أَنَّ فِيه تَنْقِيةً لِلشَوَائِبِ، وَدَرْءاً لِلعُيوبِ وَالمَثَالِبِ، فَالنَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، مَعْنَاهَا حِيَازَةُ الخَيرِ لِلمَنْصُوحِ، وَقَدْ قِيلَ لَيْسَ فِي كَلامِ العَرَبِ كَلِمَةٌ أَجْمَعُ للخَيرِ فِي الدَّارَينِ مِنَ النَّصِيحَةِ، فَلا عَجَبَ إِذَا حَصَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  الدِّينَ فِي النَّصِيحةِ فَقالَ)  : “ الدِّينُ النَّصيحَة“. ) 
 فَفِي هَذا الحَصْرِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ وَبُرهَانٌ سَاطِعٌ عَلى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَشْمَلُ خِصَالَ الإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ، نَفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ جِبْريلَ عَليهِ السَّلامُ، حَيْثُ سَألَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  عَنْ هَذِه الثَّلاثَةِ فَأَجَابَه الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، ثُمَّ قَالَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  لأَصْحَابِه: “هَذَا جِبْرِيلُ أتَاكُم يُعَلِّمُكُم دِينَكُم“.
 عِبَادَ اللهِ :  حُقَّ للنَّصِيحَةِ أنْ تَتَبَوَّأَ هَذهِ المَنْزِلَةَ الرَفِيعَةَ وَالمَكَانَةَ الرَّاقِيَةَ المَنِيعَةَ، ولِمَ لاَ؟ وهيَ مُهِمَّةُ رُسُلِ اللهِ؟ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لِقَومِه ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [سورة الأعراف: 62].
 وَيَقُولُ سُبْحَانَه عَلى لِسَانِ هُودٍ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لِقومِه ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [سورة الأعراف : 68]، وَيَقُولُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ صَالحٍ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لِقَوْمِهِ ( لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [سورة الأعراف : 79]، وَيَقولُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَى لِسَانِ شُعَيبٍ-عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لِقَوْمِهَِقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) [سورة الأعراف : 93].
 إِنَّ النَّصِيحَةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ المُؤمِنِ عَلَى أَخِيهِ، فإِذَا طَلَبَها مِنْهُ ازْدَادَ هَذَا الحَقُّ تَحقِيقاً وتَأَكِيداً وَتَوثِيقاً، يَقُولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم “حَقُّ المُؤمِنِ عَلى المُؤمِنِ سِتٌ، وَذَكَرَ مِنْها: وَإِذَا استََنْصَحَكَ فِانْصَحْ لَه، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ “إِذَا استَنْصَحَ أَحَدُكُم أَخَاه فَلْيَنْصَحْ لَه“.
 إِنَّ نَصِيحَةَ الإِنْسَانِ لأَخِيهِ الإِنْسَانِ حِمَايَةٌ، وَحِفْظٌ وَوِقَايَةٌ، لأَنَّهَا قَدْ تُنْقِذُ المَنْصُوحَ مِنْ أَخْطَارٍ مُحْدِقَةٍ، وَكَوَارِثَ تَكَادُ تَكُونُ مُحَقَّقَة، وَقَدْ ذَكَرَ القُرْآنُ الكَرِيمُ نَصِيحَةَ رَجُلٍ لِمُوسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُفَكانَتِ النَّصِيحَةُ سَبباً فِي إِنْقَاذِ حَياةِ مُوسى مِمَّا أُرِيدَ لَه مِنْ قَتْلٍ، ثُمَ أُكِرمَ بِالرِّسَالةِ بَعْدَ ذَلِكَ، يَقُولُ اللهُ تَعالى ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [سورة القصص: 20]، فَكمْ لِلنَّصِيحَةِ مِنْ ثَمَرَاتٍ، وَكمْ لَها مِنْ خَيْرَاتٍ وَمُعْطَيَات؟ فلا تعجب حين نقول : أن النصيحة قد تكون سبباً للنجاة في الدنيا والاخرة ، وقد تكون نصيحة سوء تكون سبباً للهلاك في الدنيا والاخرة ..
 عِبَادَ اللهِ: إِنَّ النَّصِيحَةَ حَقٌّ مِنَ الحُقُوقِ المُتَبَادَلَةِ بَيْنَ الإِنْسَانِ وأَخِيهِ الإِنْسَانِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا لأَخِيهِ نَاصِحٌ مُوَجِّهٌ، مُرْشِدٌ مُنَبِّهٌ، والنَّصِيحَةُ تُوَجَّهُ مِنَ الكَبِيرِ إِلى الصَّغِيرِ ومِنَ الصَّغِيرِ إِلى الكَبِيرِ، يَنْصَحُ الأَبُ وَلَدَهُ ويَنْصَحُ الوَلَدُ أَبَاهُ، وعَلَى المَنْصُوحِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ النَّصِيحَةَ بِتِرْحَابٍ لاَ تَشُوبُهُ مَضَاضَة، حَيْث لاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ ولاَ غَضَاضَةَ، ولَقَدِ احتَضَنَ القُرْآنُ الكَرِيمُ نَمَاذِجَ مِنَ النَّصَائِحِ، مِنْهَا مَا كَانَ مِنَ الأَبِ لِوَلَدِه كَنَصَائِحِ لُقْمَانَ لابْنِهِ، وفِيهَا يَقولُ اللهُ تَعَالَى ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [سورة لقمان : 13].
 وكَنَصِيحَةِ يَعقُوبَ لِوَلَدِه يُوسفَ -عَلَيْهِما السَّلاَمُ- حِيِنَ قَصَّ عَلَيْه رَؤْيَا رَآهَا فَقَالَ يَعْقُوبُ -كَمَا حَكَاهُ القُرْآنُ الكَرِيمُ ) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [سورة يوسف: 5]، ومِمَّا جَاءَ ذِكْرُه فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ نَصِيحَةُ إِبْرَاهيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لأَبِيهِ، وقَدْ جَاءَ فِيِها قَوْلُ اللهِ تَعَالَى ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً، إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [سورة مريم : 41-42].
 ومِنَ النَّصِيحَةِ مَا كَانَ مِنَ الصَّاحِبِ لِصَاحِبِهِ، كَنَصِيحَةِ يوسفَ-عليه السلام- لِصَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ يُوسفَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [سورة يوسف : 39].
والنصح للكبار والصغار، قال النبي صلى الله عليه وسلم ناصحًا لابن عباس وهو صغير: «يا غلام، احفَظِ الله يحفظك» بل هذا له الاثر العظيم

عِبَادَ اللهِ:  إِنَّ نَصِيحَةَ الإِنْسَانِ لأَخِيهِ الإِنْسَانِ يَجِبُ أَنْ تَتَّسِمَ باللُّطْفِ والإِحْسَانِ، وإرْشَادِهِ إِلى مَا فِيهِ صَلاَحُهُ، وظَفْرُهُ ونَجَاحُهُ، ودَفْعُ الأَذَى والمَكْروهِ عَنْهُ مَا استَطَاعَ النَّاصِحُ إِلى ذَلِكَ سَبِيلا، ويَجِبُ أَنْ يَقْصِدَ مِنْ وَرَاءِ نَصِيحَتِهِ الحِفْظَ والصَّوْنَ، وتَقْدِيمَ العَوْنِ، وسَدَّ الخَلَلِ وَرَدَّ المَنْصُوحِ إِلى الحَقِّ إِنْ ضَلَّ، واسْتِنْهَاضَهُ مِنْ عَثْرَتِهِ إِنْ زَلَّ، كُلُّ ذَلِكَ بِلِينٍ ويُسْرٍ، لاَ عُنْفَ فِيه ولاَ عُسْرَ، فإِنْ كَانَتِ النَّصيحَةُ عَامَّةً فَيَجِبُ تَوَخِّي الحِيطَةِ والحَذَرِ فِي تَقْدِيمِها، بِحَيْثُ لاَ يَذْكُرُ فِيهَا اسْمَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، فإِنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّشْهِيرِ، الذي ضَرَرُه أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ بِكَثِيرٍ.
 ولَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-  إِذَا أَرَادَ نُصْحَ إِنْسَانٍ أَخْطَأَ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَولِه “ما بَالُ أقوامٍ يَفعلُونَ كَذَا وكَذا، رَغْمَ عِلْمِهِ التَّامِّ بِهَؤلاءِ الأَقْوَامِ، وإِنْ كَانتِ النَّصِيحَةُ خَاصَّةً فَمِنَ الأُمُورِ الضَّرُوريَّةِ الهَامَّةِ أَنْ تَكونَ فِي سِرِّيَّةٍ تَامَّةٍ، وقَدْ قِيلَ “مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرَّاً فَقَدْ نَصَحَهُ وزَانَهُ، ومَنْ نَصَحَهُ عَلاَنِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وشَانَهُ“. ... وقال الفضيل بن عياض: "المؤمن يَستر وينصح، والفاجرُ يَهتِك ويُعَيِّر"

قال الامام الشافعي : 
تعمدني بنصحك في انفرداي ... وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع .... من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري .. فلا تجزع إذا  لم تعط طاعة
 فاتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللهِ -، والتَزِمُوا بِآدَابِ النَّصِيحَةِ، خَشْيَةَ أَنْ تَنْقَلِبَ إِلى فَضِيحَةٍ.
ولِكَيْ تُؤْتِيَ النَّصِيحَةُ ثِمَارَهَا المَرْجُوَّةَ وفَوَائِدَهَا المَأْمُولَةَ يَجِبُ أَنْ تَتَّسِمَ بِالإِخْلاَصِ، لأَنَّهُ فِي كُلِّ شيءٍ قَاعِدَةٌ وأَسَاسٌ، وإِذَا خَلَتِ النَّصِيحَةُ مِنَ الإِخْلاَصِ كَانَتْ نَصِيحَةً شَيْطَانِيَّةً، فَالشَّيْطَانُ أَوَّلُ مَنْ نَصَحَ وَغَشَّ فِي نَصِيحَتِهِ، لَقَدْ قَالَ لآدَم وزَوْجِهِ ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [سورة الأعراف : 20-21].
فالبعض يحمل في قلبه حقد وغل وحسد وشماته ورغبة في الفضيحة ، فيلبس ذلك كله لباس النصيحة وهو كاذب والله يعلم ما يخفي وما يعلن
ومع الاخلاص ، يجب أن يكون هناك علم بما ينصح فلا ينصح بمنكر او بدعة او أمر شركي او بما يضر أخاه ، وكل ذلك بسبب الجهل وقلة العلم
وأن يختار الوقت المناسب والاسلوب المناسب و الله الله باللين والرفق والكلمة الطيبة ولا يشترط أن يكون الناصح كاملاُ في دينه ، فمن ذا الكامل منا ، فالعبد وإن كان مقصرا فلا يمنعه ذلك من النصيحة ، ولو لم ينصح الناس الاّ الكمّل ، فمن ذا ينصح الناس بعد محمد عليه الصلاة والسلام
الخطبة الثانية : 
وقد يقول البعض : ( أن من حسن اسلام المرء تركه ما  لايعنيه ) ونرد اختصاراً : ( لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لاخيه ما يحب لنفسه ) ، تركك ما لا يعينك لا يشمل أن ترى مسلم يتقحمالنار وتتركه في عمايته وضلاله دون نصحه ، وهل أنا وأنت نفهم هذا الحديث أكثر من أنبياء الله ورسله ؟ وهاهم نصحوا قومهم وأرشدوهم ولم يقولوا : ( من حسن اسلام المرء .. ) فلا يدخل عليك الشيطان من هذا الباب 
 إِنَّ مِنْ أَهَمِّ بَوَاعِثِ النَّصِِيحَةِ ودَوَاعِيها حُبَّ النَّاصِحِ لِلمَنْصُوحِ، ورَغْبَتَهُ فِي إِصْلاَحِ حَالِهِ، وسَلاَمَةِ مُسْتَقبَلِه ومَآلِهِ، ومِنْ هُنَا وَجَبَ عَلَى المَنْصُوحِ أَنْ يَسْتَقَبِلَ نَصِيحَةَ النَّاصِحِ الحَبِيبِ، بِصَدْرٍ مُنْشَرِحٍ رَحِيبٍ، بَلْ ولِسَانٍ شَاكِرٍ وثَنَاءٍ عَاطِرٍ، فَأَصْحَابُ القُلُوبِ السَّلِيمَةِ الفَسِيحَةِ لاَ يَتَبَرَّمُونَ ولاَ يَسْخَطُونَ مِنَ النَّصِيحَةِ، تقبل النصيحة ولو كانت مرّة  واعذر صاحبها وإن قسى عليك  اذا كان مخلصاً مشفقا -  واشكر له نصحه وان كانت عبارته ليست على ما يهواه قلبك ... النصيحة مرّة  في الغالب -  ولو خلطناها بكل عسل الدنيا ، الاّ عند اصحاب القلوب النقية 
ولأَهَمِّيَّةِ النَّصِيحَةِ ومَوقِعِها مِنَ الدِّينِ كَانَ أَصْحَابُ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-  يُبَايِعُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهَا تَمَاماً كَمَا يُبَايِعُونَهُ عَلَى إِقَامَةِ أَركَانِ الدِّينِ، يَقُولُ جَرِيرُ بنُ عبدالله  -رَضِيَ اللهُ عَنْه “بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  عَلَى إِقَامَةِ الصَّلاةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ“.
 وذِكْرُ المُسْلِمِ بِاعتِبَارِ الأَعَمِّ الأَغْلَبِ، وإِلاَّ فَالنُّصْحُ مَطْلوبٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ جِنْسٍ أَوْ عَقِيدَةٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ لِسَانٍ، وهُو أَيْضاً مَطْلوبٌ فِي شَتَّى المَجَالاتِ ومُخْتَلَفِ الحَالاتِ، ومِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ النُّصْحُ فِي البَيْعِ والشِّرَاءِ، فَمَنْ بَاعَ شَيْئاً مَعِيباً فَمِنَ النُّصْحِ الوَاجِبِ بَيَانُ العَيْبِ ووصْفُهُ، وتَوْضِيحُهُ وكَشْفُهُ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم “لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئاً إِلاَّ بَيَّنَ مَا فِيهِ، ولاَ يَحِلُّ لِمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِلاَّ بَيَّنَهُ“.
 ولَقَدْ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ إِذَا بَاعَ شَيْئَاً أَو اشْتَرَاه قَالَ لِصَاحِبِهِ “اعْلَمْ أَنَّ مَا أَخَذْنَا مِنْكَ أَحَبُّ إِلينَا مِمَّا أَعْطَينَاكَ؛ فَاخْتَرْ” – يُرِيِدُ بِذَلِكَ إِتْمَامَ الصَّفْقَةِ بِالتَّرَاضِي والنُّصْحِ-، ومَنِ اشْتَرَى شَيئاً فَمِنَ النُّصْحِ عَدَمُ ذَمِّهِ دُونَ حَقٍّ، بِقَصْدِ شِرَائِهِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، ومَنْ صَنَعَ شَيئاً فَمِنَ النُّصْحِ إِتْقَانُهُ، ومَنْ أُوكِلَ إِليْهِ أَيُّ عَمَلٍ مِنَ الأَعْمَالِ، فَمِنَ النُّصْحِ أَدَاؤُهُ دُونَ تَقْصِيرٍ وإِهْمَالٍ، ومِنْ أَنْوَاعِ النَّصِيحَةِ المَشُورَةُ، فَمَنِ استَشَارَ أَخَاهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ فَعَلى مَنِ استُشِيرَ أَنْ يَعلَمَ أَنَّهُ حُمَّلَ أَمَانَةً مَِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَاتِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلمالمُستَشَارُ مُؤْتَمَنٌ؛ فإِذَا استُشِيرَ فَلْيُشِرْ بِمَا هُوَ صَانِعٌ لِنَفْسِهِ“.
من فضائل النصيحة : أنها أمان من عذاب الله وعقابه؛ لأن ترك النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في جلبه، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» الترمذي وحسنه الالباني

وقال صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ وَأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ لَمْ يُغَيِّرُوهُ إِلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ ( .مسند الامام احمد وصححه الالباني


 فاتّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ -، وأَعطُوا النَّصِيحَةَ وتَقَبّلُوهَا مِنَ الغَيْرِ وان كانت ثقيلة على النفس والقلب ؛ فَهِيَ سَبِيلٌ لِلسَّعَادَةِ والخَيْرِ.

الخميس، 24 أكتوبر 2019

والله يعلم وأنتم لا تعلمون

( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) 
يا ابن آدم لو كُشِفَ لك عما في الغيب، لم تختر غير ما اختاره الله لك، فكم من إنسان ما أتاه الغيث والغوث إلا بعدما أرعد القدر وأبرق فوق رأسه، فالمحن قد تكون مِنحًا، واللَّفحات يعقُبها النفحات، والكتاب والسنة والتاريخ دُوِّنت فيها وقائع لا تعَدُّ ولا تُحصى مما ظاهِرُها العذاب، وباطنها الرحمة والرزق والعُلوّ.
عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ -رحمه الله- قَالَ: مَا مِنَ النَّاسِ إِلَّا مُبْتَلًى بِعَافِيَةٍ لِيَنْظُرَ كَيْفَ شُكْرُهُ؟ أو مُبتلىً بِبَليةٍ لِيَنْظُرَ كَيْفَ صَبْرُهُ؟. 
قد يُنعِمُ اللهُ بالبلوَى وإنْ عَظُمتْ        ويَبتلِي اللهُ بعضَ القومِ بالنِّعَمِ
هي وقفات وجيزة مع قوله تعالى: { كُتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ..والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) 
في هذه الآية عدَّة حِكمٍ وأسرارٍ ومصالحَ للعبدِ:
فإن العبدَ إذا علِم أن المكروهَ قد يأتي بالمحبوبِ، والمحبوبَ قد يأتي بالمكروهِ؛ لم يأمَنْ أن تُوافيَهُ المَضرَّةُ مِن جانبِ المَسرَّةِ، ولم يَيأسْ أن تأتيَه المسرَّةُ مِن جانبِ المَضرَّةِ؛ لعدمِ عِلمهِ بالعواقِب؛ فإن اللهَ يعلمُ منها ما لا يعلمُه عبدُه. . ومِن أسرارِ ذلك أنَّها تقتضي مِن العبدِ التَّفويضَ إلى مَن يَعلمُ عواقبَ الأُمور، والرِّضا بما يَختارُه له ويَقضيهِ له؛ لما يَرجو فيه مِن حُسنِ العاقبةِ.
ومِنها: أنَّه لا يقترحُ على ربِّه، ولا يَختارُ عليه، ولا يسألُه ما ليس له به عِلمٌ؛ فلعلَّ المضرَّةوالهلاك فيه وهو لا يعلمُ! فلا يختارُ على ربِّه شيئًا؛ بل يسألُه حُسنَ الاختيارِ له، وأَن يُرَضِّيَه بما يختارُه؛ فلا أنفعَ له مِن ذلك.
وهذا لا يمنع من الدعاء والطلب والرغبة والالحاح لكن لو لم يأتك ما دعوت وطلبت فلا تقنط ولا تجزع ولا تشك في رحمة الخالق سبحانه وتعالى ولا في برّه وعطاءه وكرمه 
ما أجملَ أنْ تضع هذه الآية نصب عينيك عندما تواجه أمراً تكرهه، فأنتَ لا تدري أين الخير هل هو فيما تحب أو فيما تكره، فلا تنظر إلى ظاهر الأمور وتغفل عمَّا تنطوي عليه من الحِكَم والفوائد.
حينما أصدر فرعون قراره بقتل من يولد لبني إسرائيل من الذكور، ووضع كل المحاذير حتى لا يفلت منهم أحد، وُلد موسى -عليه السلام- فقدَّر الله سبحانه وتعالى أن يولد هذا المولود، ويربى في نفس دار فرعون ، وينشأ على فراشه، ويُغذى بطعامه وشرابه، ثم يكون هلاكه في الدنيا والآخرة على يديه  لتصل الرسالة لجميع الخلق: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [يوسف: 21]
إخوة يوسف - عليه السلام - أرادوا قتله فلم يَمُت، أرادوا محوَ أثره فارتفع شأنه وعلا نجمه، أرادوا بيعَه مملوكًا فأصبح ملكًا، أرادوا أن يُزيلوا محبته من قلب أبيهم فما ازداد أبوهم إلا حبًّا وشغفًا به، وكأن الله تعالى يقول: { لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [النور: 11].
ويأتي موسى  إلى الخِضر - عليهما السلام - ويخرق الخضر السفينة، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون، ويقتل الغلام فالله يعلم وأنتم لا تعلمون، ويمنَع الرزق عن الأيتام ببناء الجدار، والله يعلم وأنتم لا تعلمون؛ لأن ما أخفاه الله من لطفه بعباده أعظم وأعظم.
ثمامة بن أثال  -رضي الله عنه- السيد في قومه يقع أسيرًا بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فيحدث له ما تسمع، فعن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: (( مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ ))  فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: (( مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ )) قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: (( مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ )) فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ))، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ، مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَا وَاللهِ، لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. ( البخاري )  
وهذه أمة سوداء يقع عليها الظلم الشديد فيكون ذلك سببا في نجاتها من الكفر، فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ العَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ فوَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ وَهُوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا فَخَطِفَتْهُ، قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الحُدَيَّاةُ فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، فَقُلْتُ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ، قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَسْلَمَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي المَسْجِدِ، فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، فَلاَ تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا، إِلَّا قَالَتْ:
وَيَوْمَ الوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا. . . أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الكُفْرِ أَنْجَانِي ( كان شراً ما حصل لها من الاتهام في نظرهم ، لكنه كان خيرا ً في عاقبته)
وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  ذهب ليَعتمر فتعترضه قريش بصُلحِ الحديبية، فلم تَحصل لهم العمرة وضاق بعض الصحابة بهذا الصلح، ولكن الله سمَّاه فتحًا فقال تعالى: { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } [الفتح: 27]
فعلم ما لم تعلموا، ما أجملَها من عبارة، وما ألطفَه من تقدير! وكما قال يوسف - عليه السلام -: { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } [يوسف: 100].
ومَن وقفَ مع كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقرأ التاريخ الصحيح لرأى من ذلك عجبا عجاباً ولكن هي إشارات وإلماحات. أسأل الله أن ينفع بها ويحيي بها قلوبنا ويشرح بها صدورنا وأن نكون على يقين بـ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) 
الخطبة الثانية : 
وماذا بعـــــــدُ  ،  إذا تم علمك بالله وصحت المعرفة به سبحانه  فلابد لك من أمور : 
الأمر الأول : الرضا بالله وعن الله : ومعناه يجمع أمرين: الرضا بقضاء الله وقدره، والرضا بشرعه وأمره
عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنه-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (( ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام رَسُولًا )). 
قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ -رحمه الله-: مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا؟ فَقَالَ: إِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ، فَيَقُولُ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي قَبِلْتُ. وَإِنْ مَنَعْتَنِي رَضِيتُ. وَإِنْ تَرَكْتَنِي عَبَدْتُ. وَإِنْ دَعَوْتَنِي أَجَبْتُ.
ومقتضى الرضا أن لا تعترض على الله تعالى لا في قضائه وقدره ولا في أمره ونهيه
قال الحسن البصري -رحمه الله-: لا تكرهوا النقمات الواقعة والبلايا الحادثة فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك ولرب أمر تؤثره فيه عطبك. 

الأمر الثاني: التفويض إلى الله في جميع الأمور
ما أحوجنا أن نتلبس بهذه الآية في كل أمورنا {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [غافر: 44]
 فقد علمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نستخير الله في جميع أمورنا، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ، يَقُولُ: (( إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ )). 
فلرُبَّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أَمْر تُحِبّهُ فيه عَطَبك، لذلك صدق من قال: مَا خَابَ مَنْ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنْ اسْتَشَارَ.
ففوِّض أمرك إلى الله في كل ما يَجري حولك ، وثق بوعد الله وأنه لا يخلف الميعاد ، فكل شيء يسير وَفْقَ تقديره - عز وجل - وهو يعلم ونحن لا نعلم، 
يعلم سبحانه وتعالى ما في أحكامه الشرعية من الخير والمصلحة للناس جميعاً ، ولكن الناس لا يعلمون
يعلم مافيه صلاحك فدلك عليه ويعلم مافيه ضررك فنهاك عنه ..تأكد وكن على يقين وثقة أن الله لا يأمرك الاّ بشيء فيه مصلحتك ولا ينهاك عن شيء الاّ فيه ضررك ...يعطيك الطبيب الاستشاري الدواء ( حبوب وشراب ودهانات ومراجعات واشعات ، ويأمرك بامور تفعلها تأكلها وتشربها ، وينهاك عن امور تجتنبها وتبتعد عنها من مأكولات ومطعومات ، بل لم منعك الماء لا متنعت ، ولو منعك من احب الاشياء إليك لاطعت ، فلا تراجعه بشيء وتستسلم لامره ونهيه  ودواءه وشرابه .. وعندما تُسأل عن هذا تقول : هو أعلم وهو طبيب وهو استشاري ..
وهذا علم بشر ، لا يعلم الاّ ما علمه الله وقد يُصيب ويُخطئ وانت في غاية الاستسلام له ..
فكيف بعلم الله ؟
علم الله شامل كامل محيط بكل شيء لا يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان سبحانه وتعالى 
يعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون 
يعلم السرائر وما في الضمائر وما تُخفي النفوس ، لا تخفى عليه خافية ، يعلم خائنة الاعينوما تخفي الصدور
إنّ علم الله أعظم مما وصفنا وأجلّ لا تدركه عقول البشر ولا تصل الى حقيقته وسعته ، واذاكان كذلك فينبغي للعبد ان يسلم لامر الله وشرعه وأمره ونهيه وأن ينقاد الى طاعته فإنه سبحانه يعلم من خلق ويعلم ما يصلحهم وما يضرهم وهو اللطيف الخبير