إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 14 أكتوبر 2022

عالم الملائكة

 ( عالم الملائكة )  

أما بعد:

 لقد أمر الله -تعالى- بالإيمان به، وقرن مع الإيمان به، الإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.

 هذه هي أركان الإيمان الستة التي لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن بها كلها.

 ومن أركان الإيمان التي قلَّ استشعار كثير من المسلمين له: الإيمان بملائكة الله الكرام البررة.

 الإيمان بملائكة الله الذين هم عباد مكرمون: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].

 الإيمان بملائكة الله الذين: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء: 20].

 الإيمان بملائكة الله الذين عظم الله خلقهم وقدرهم، وهم محيطون بنا في هذا المسجد، يستمعون الذكر، ويحصون على كل عبد الخير والشر؛ فلا يؤمن عبد حتى يستقر في قلبه الإيمان بوجودهم، لا كمن يقولون: إنهم قوى الخير الكامنة في الإنسان، وأن الشياطين قوى الشر الكامنة في النفس البشرية، منكرين بذلك وجودهم وحقيقتهم: (وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) [النور: 47].

 أيها الإخوة في الله: للإيمان بالملائكة متضمنات أربعة، هي في مجموعها ركائز ذلك الإيمان:

 أولاً: الإيمان بوجودهم، ثم بأسمائهم جملة وتفصيلاً، ثم بأوصافهم، ثم بأعمالهم الموكلة إليهم.

 أما وجودهم فلا يجادل في ذلك إلا ملحد مكابر، لتوافر النصوص قال سبحانه (وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا) [النساء: 136].

ولنعلم: أن ملائكة الله -عليهم صلوات الله وسلامه- خلق لا يحصون كثرة وعدداً، ها هو صلى الله عليه وسلم يسأل جبريل في حادثة الإسراء والمعراج عن البيت المعمور، عن كعبة السماء، ، فقال جبريل لنبينا -صلى الله عليه وسلم- لما سأله عليه الصلاة والسلام: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا البيت المعمور يصلي فيه.

وفي رواية: يطوف حوله كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم، كل يوم سبعون ألف ملك.

 فلا إله إلا الله، كم عدد ملائكة الرحمن؟ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر: 31].

 في صحيح مسلم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى يوم القيامة بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ملك يجرونها!".

 أتدرون كم عدد هؤلاء الملائكة الذين يجرون جهنم؟  أربعة آلاف وتسعمائة مليون ملك.

أيها المؤمنون: قال صلى الله عليه وسلم: "أطت السماء وحق لها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر". وفي رواية: "ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد لله -عز وجل-".

أما عن الإيمان بأسمائهم؛ فمنهم من قص الله علينا، ومنهم من لم يقصص، فمن صح وثبت من أسمائهم: جبريل -عليه أفضل الصلاة والسلام-، وهو أفضل وأعظم وأجل ملائكة الله على الإطلاق.

جبريل الموكل بالوحي، ينزل به من عند الله على من يشاء من عباده وأنبيائه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) [الشعراء: 193 - 194].

 وقد يقوم جبريل بغير ذلك من الأعمال، بغير الوحي، تنفيذاً لأمر من أوامر الله.

 وهو أجل الملائكة عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين.

 ومن الملائكة العظام: ميكائيل -عليه السلام-، وهو الملك الموكل بإنزال القطر من السماء، وإخراج النبات من الأرض.

 ملك عمله ووظيفته: إنزال القطر من السماء، وإنبات الأرض.

 وله أعوان من الملائكة يصرفون الريح والسحاب كما يشاء الرب -جل جلاله-.

ومن الملائكة المشهورة أسماؤهم: إسرافيل -عليه الصلاة والسلام-، وهو الملك الموكل بالنفخ في الصور، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا استيقظ من نومه لقيام الليل، قال:"اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلي صراط مستقيم.

ومن الملائكة: مالك -عليه السلام-، خازن جهنم: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) [الزخرف: 77].

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لما ناداه أهل النار، مكث ألف سنة، ثم قال لهم: (إِنَّكُم مَّاكِثُونَفما أشد البكاء، وما أطول النحيب.

 مالك لم يضحك قط منذ أن خلق الله النار، رأه النبي -صلى الله عليه وسلم- على صورة كريهة المرآة، وإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها، فقال جبريل وميكائيل لنبينا -صلى الله عليه وسلم- لما سألهما عنه، قالا "إنه مالك خازن جهنم" -أجارنا الله وإياكم-.

ومنهم: منكر ونكير، وهما اللذان يسألان العبد في قبره ويجلسانه.

أما غير هؤلاء ممن سبق ذكرهم من الملائكة بأسمائهم؛ فلم يثبت فيهم إلا آثار متفرقة لا يعتمد عليها؛ كتسمية: ملك الموت بعزرائيل، فهذا لم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهاروت وماروت.

أما رقيب وعتيد؛ فالصحيح أنه وصف للملكين اللذين يسجلان على العبد أعماله: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].

 الخطبة الثانية:

  فأوصاف الملائكة شي عظيم، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، خلقوا من نور: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم".

وقد أعظم الله خلق الملائكة؛ فهذا جبريل -عليه الصلاة والسلام- قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم "رأيت جبريل في صورتهأي على هيئته الحقيقية؛ لأنه يتشكل رأيته في صورته الحقيقية "له ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويلأي الأشياء المختلفة الألوان من الدرر واليواقيت.

 وأخبر المصطفى: أنه رأى جبريل منهبطاً من السماء، ساد عظم خلقه ما بين السماء والأرض.

 لك أن تعلم -عبد الله- أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن جبريل أدخل طرف جناح من أجنحته تحت قرى قوم لوط، خمس قرى فرفعها من تخوم الأرض، من قعورها وجذورها، حتى أدناها من السماء بمن فيها، حتى سمع أهل السماء نهيق حميرهم، وصياح ديكتهم  ...بطرف جناح من أجنحته عليه الصلاة والسلام.

 فكم هي قوة جبريل؟ وكم هي عظم خلقه ووصفه؟

 بل أحد حملة العرش، قال عنه صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، رجلاه في الأرض السفلى، وعلى قرنه العرش، وبين شحمة أذنه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة سنة، يقول الملك: سبحانك حيث كنت".

 لا إله إلا الله الخالق القادر المقتدر.وعظم المخلوق يدل على عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-.

 الحياء من ملائكة الرحمن وهي مع الانسان ترقبه وتسجل أعماله وتحصيها بإذن مولاها .. كم يستحي العبد من العبد مثله ولا يستحي من ملائكة ربه ...

الخميس، 6 أكتوبر 2022

بدعة المولد النبوي

 ( بدعة المولد النبوي ) 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّنَا فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ سَوْفَ نَتَكَلَّمُ عَنْ مَوْضُوعٍ لَوْلا الضَّرُورَةُ مَا تَكَلَّمْنَا فِيهِ، لِأَنَّ مِنْ طُرُقِ إِمَاتَةِ الْبَاطِلِ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ، 

وَلَكِنْ لَمَّا اخْتَلَطَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَانْتَشَرَتْ وَسَائِلُ التَّوَاصُلِ حَتَّى صَارَتْ فِي أَيْدِي الْجَمِيعِ، صَارَ انْتِشَارُ الْأَخْطَاءِ وَالْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ سَهْلًا وَسَرِيعًا، فَكَانَ لابُدَّ مِنَ الرَّدِّ وَالْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، 

وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ الشَّرْعِيِّ : الدَّفْعُ أَهْوَنُ مِنَ الرَّفْعِ، وَفِي الْمَثَلِ الطِّبِّيِّ: دِرْهَمُ وِقَايَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِنْطَارِ عِلَاجٍ، فَلا نُرِيدُ أَنْ نَسْكُتَ حَتَّى إِذَا انْتَشَرَ الشَّرُّ عَالَجْنَاهُ، بَلْ نُحَذِّرُ مِنْهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى عِلْمٍ وَدِرَايَةٍ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ خُطْبَتَنا هَذَا الْيَوْمَ عَنْ مَا يُسَمَّى [بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ]، وَهُوَ احْتِفَالٌ يُقَامُ يَوْمَ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ كُلَّ عَامٍ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَرَحًا بِيَوْمِ وِلادَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ تَكُونُ احْتِفَالاتٌ مِنْ بِدَايَةِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّل إِلَى نِهَايَتِهِ، وَذَلِكَ بِإِقَامَةِ مَجَالِسَ يُنْشَدُ فِيهَا قَصَائِدُ مَدْحِ النَّبيِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وِيَكُونُ فِيهَا الدُّرُوسُ مِنْ سِيرَتِهِ وَذِكْرِ شَمَائِلِهِ، وَيُقَدَّمُ فِيهَا الطَّعَامُ وَالْحَلْوَى.

وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّ مَحَبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعَهُ أَمْرٌ وَاجِبٌ بَلْ ضَرُورِيٌّ لِدِينِ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، وَلَكِنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُحَرَّمٌ وَلا يَجُوزُ.

وَنَرُدَّ عَلَيْهِمْ رَدًّا عَامًّا وَرَدًّا خَاصًّا، فَأَمَّا الْعَامُّ فَنَقُولُ: إِنَّهُ لا دَلِيلَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إِقَامَةِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، وَدِينُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى الدَّلِيلِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}، 

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 

فَنَقُولُ لَهُمْ : أَعْطُونَا دَلِيلًا صَرِيحًا مِنَ القُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ عَمَلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا تَقُومُونَ بِهِ مِنَ هَذِهِ الاحْتِفَالَاتِ السَّنَوِيَّةِ، وَقَطْعًا لَنْ يَجِدُوا دَلِيلًا مُسْتَقِيمًا.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَأَمَّا الشُّبَهُ التِي اسْتَدَلُّوا بِهَا فَنَعْرِضُ لِأَهَمِهَا وَنَرُدُّ عَلَيْهِ بِإِذْنِ اللهِ.

(أَوَّلًا) قَالُوا إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، قَالُوا: فَنَحْنُ نَمْتَثِلُ أَمْرَ اللهِ فَنَفْرَحُ بِمِيلادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَنَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ نَقُولَ أَيّْنَ هَذَا الْفَهْمُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ؟هَلْ فَعَلُوا كَمَا فَعَلْتُمْ؟ وَأَقَامُوا الْمَوَالِدَ كَمَا زَعَمْتُمْ؟ أَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ لا يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ، وَأَنْتُمْ الذِينَ سَبَقْتُمْ بِهَذَا الاسْتِنْبَاطِ الْعَجَيبِ؟ وَنَقُولُ: إِنَّ الْفَرَحَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ بِاتِّبَاعِ هَدْيِهِ وَالتَّمَسُّكِ بِسُنَّتِهِ، وَلَيْسَ بِالإِحْدَاثِ فِيهَا.

(ثَانِيًا) قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ (ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَهَذَا احْتِفَاءٌ وَاحْتِفَالٌ بِيَوْمِ مَوْلِدِهِ بِالصَّوْمِ.

وَنَرُدَّ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ الاحْتِفَالَ الذِي تُقِيمُونَ لا تَصْرِيحًا وَلا إِشَارَةً، بَلْ فِيهِ الْحَثُّ عَلَى صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ، فَلْنَصُمْ هَذَا الْيَوْمَ كُلَّ أُسْبُوعٍ طُوَالَ السَّنَةِ، وَلَيْسَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَقَطْ.

(ثَالِثًا) قَالُوا: إِنَّهُ حَدَثَ يَوْمَ مَوْلِدِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، فَمِنْهَا أَنَّ هَوَاتِفَ مِنَ الْجَانِّ بَشَّرَتْ أُمَّهُ لَيْلَةَ مَوْلِدِهِ، وَمِنْهَا: انْتِكَاسُ بَعْضِ الْأَصْنَامِ، وَارْتِجَاجُ إِيوانِ كِسْرَى وَسُقُوطُ شُرُفَاتِهِ، وَخُمُودُ نِيرَانِ الْمَجُوسِ وَغَيْضُ بِحَيْرَةِ سَاوَة، وَإِخْبَارُ الْيَهُودِ بِلَيْلَةِ مَوْلِدِهِ... قَالُوا فَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ يَوْمِ وَلادِتَهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَحْتَفِلُ بِهَذَا الْيَوْمِ.

وَنَرُدَّ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ قَدْ ذَكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ، فَاللهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، 

ثُمَّ عَلَى فَرْضِ صِحِّتَهَا فَلَيْسَتْ دَلِيلًا لِهَذَا الْعِيدِ الذِي تُقِيمُونَهُ، بَلِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَبْدَلَ أَعْيَادًا كَانَتْ الْعَرَبُ تُقِيمُهَا بِعِيدِ الْفِطْرِ وَعِيدِ الْأَضْحَى، وَلَمْ يَذْكُرْ عِيدَ مَوْلِدِهِ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ (قَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

 (رابعا)قَالُوا: إِنَّ النَّصَارَى يُقِيمُونَ عِيدًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَحْتَفِلُونَ بِيَوْمِ وِلادَتِهِ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُقِيمَ عِيدًا يَوْمَ وِلادَتِهِ.

وَنَحْنُ نَقُولُ: بِئْسَ مَنِ اقْتَدَيْتُمْ بِهِ، أَتَقْتَدُونَ بِالنَّصَارَى؟ فَهَلْ هُمْ أَهْلٌ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِمْ؟ بَلْ إِنَّ الاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ حَرَامٌ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ، فَهُوَ مِنْهُمْ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان.

(خَامِسًا) قَالُوا: إِنَّنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ نَتَذَكَّرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقْرَأُ سِيرَتَهُ وَنُعَلِّمُهَا النَّاسَ، وَهَذَا أَمْرٌ حَسَنٌ يَحُثُّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ.

وَنَرُدُّ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّكُمْ بِئْسَ الْأَتْبَاعُ إِذَا كُنْتُمْ تَغْفُلُونَ عَنْ نَبِيِّكُمْ طُولَ السَّنَةِ وَلا تَتَذَكَّرُونَهُ وَلا تَقْرَأُونَ سِيرَتَهُ إِلَّا فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَأَيُّ اتِّبَاعٍ هَذَا ؟ وَأَيُّ مَحَبَّةٍ تِلْكَ ؟

إِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ نَتَذَكَّرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ، فِي عِبَادَاتِنَا وَعَادَاتِنَا وَيَقَظَتِنَا وَمَنَامِنَا، أَلَسْنَا نَرْفَعُ اسْمَهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَشْرَ مَرَّاتٍ فِي الْأَذَانِ وَالإِقَامَةِ ؟ أَلَسْنَا نَتَذَكَّرُهُ حِينَ نَتَوَضَّأُ وَحِينَ نُصَلِّي ؟ لِأَنَّنَا نَتَوَضَّأُ وَنُصُلِّي عَلَى حَسَبِ هَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ، وَكَذَلِكَ نَدْخُلُ بُيُوتَنَا وَنُقَابِلَ أَهَالِينَا وَنَأْوِي إِلَى فُرُشِنَا حَسَبَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَالطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ! أَفَمِثْلُ نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ نُقِيمَ عِيدًا لِنَتَذَكَّرَهُ؟ أَمْ أَنَّهُ فِي حِيَاتِنَا وَيَقَظَتِنَا وَنَوْمِنَا وَيَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا ؟

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

(سَادِسًا) قَالُوا : إِنَّهُ وَرَدَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِمَشْرُوعِيَّةِ إِقَامَةِ الاحْتِفَالِ بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، وَهُمْ عُلَمَاءُ أَجِلَّاءُ، وَهُمُ الذِينَ يُؤْخَذُ مِنْهمُ الْعِلْمَ .

وَنَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ يُحْتَجُّ لَهُمْ وَلا يُحْتَجُّ بِهِمْ، فَكَلَامُ الْعَالِمِ لَيْسَ دَلِيلًا، بَلْ نَحْتَاجُ لِلدَّلِيلِ لِتَصْدِيقِ كَلَامِ الْعَالِمِ، 

ثُمَّ نَقُولُ : إِنَّ الْعَالِمَ مَهْمَا بَلَغَ عِلْمُهُ قَدْ يُخْطِئُ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مَأْجُورًا لِاجْتِهَادِهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ مُصِيبٌ، فَعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ، فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ. وَإِذَا حَكَمَ، فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 

ثُمَّ نَقُولُ: لَدَيْنَا عُلَمَاءُ أَكَبْرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الذِينَ قَالُوا بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَهُمْ قَادَةُ الْعُلَمَاءِ ، فَهَلْ قَالُوا بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ ؟ أَمْ أَنَّهُمْ يَجْهَلُونَهُ وَأَنْتُمْ الذِينَ تَعْرِفُونَهُ ؟

أَلَا فَاتَّقُوا اللهَ وَاحْذُرُوا مُخَالَفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا خَطَرٌ وَمَهْلَكَةٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتِغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ.

يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ النَّجَاةَ والْفَلاحَ هُي فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْحَذَرِ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ آخِرِ وَصَايَا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) رَوَاهُ التَّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِي.

وَإِنَّ هَذَا الاحْتِفَالَ وَهَذَا الْعِيدَ بِالْمَوْلِدِ النَّبَوَيِّ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ فِي دِينِ اللهِ، حَيْثُ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَلا التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَهُ أَهْلُ  الْبِدَعِ بَعْدَ 300 سَنَةٍ مِنَ الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ، فَأَقَامَهُ الرَّافِضَةُ الْعُبَيْدِيُّونَ حِينَ اسْتَولَوْا عَلَى بِلادِ مِصْرَ، وَمِنْهَا انْتَشَرَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ مَشْرُوعًا أَوْ وَاجِبًا، وَهُوَ فِي الْوَاقِعِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالةٌ

عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم

 فعسى ان تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراً كثيرا )

الخطبة الأولى:

فيا أيها الناس: إن الله -سبحانه- اختص بعلم الغيب، فلا يعلم أحد مافي الغد إلا الله، كما قال سبحانه (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)[النمل:65]، 

والبشر أجمع لا يعلمون إلا الظواهر، وعليها يقيسون مصالحهم ومضارهم، وقد يقايس العبد ويتجه نحو ما فيه العطب له وهو لا يشعر؛ لأنه لا يعلم ما في الغيب؛ ولهذا بين الله لنا هذا الأمر في آيات من كتابه؛ ليتعلق المسلم بربه، ولا يعتمد على نفسه؛ فقال سبحانه (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].

فمن خلال هذه الآية يتبين للمرء أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وأن الأمر بيد الله؛ فكان لزاما على العبد أن يتعلق بربه، ولا يعتمد على نفسه الضعيفة التي لا تعلم شيئا.

أيها المؤمنون: نحن في هذه الحياة نسير على قدر الله، الذي خطه لنا بعلمه الأزلي -سبحانه-، وهو -جل وعلا- لطيف بعباده؛ يقدر لهم الخير، ويصرف عنهم الشر؛ بقدر تعلقهم به وتوكلهم عليه، 

والدنيا مليئة بالمحن والبلايا والشرور والفساد، والمسلم مطلوب منه أن يعمل جهده في تلك الأمور حسب طاقته وكما أمُر، ويعلم أن لله حكمة في تقدير الأمور، 

ولو كانت الأمور في ظاهرها تنبؤ بالشر والفساد؛ ففي ثنايا المحنة تخرج المنحة، وكم قصة وقعة وحادثة مرت على العبد تبين له معنى هذه الآية فيها جليا!.

فالعبد يعمل بما أمُر، ويثق بالله أنه ناصرٌ دينه معزٌ أوليائه؛ كما قال سبحانه(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)[المائدة:105].

 ففي هذه الآية يأمر سبحانه عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير جهدهم وطاقتهم، ومخبرا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فسادُ من فسد من الناس، سواء كان قريبا منه أو بعيدا، 

قال ابن عباس عند تفسير هذه الآية "يقول تعالى: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده، إذا عمل بما أمرته به".

وروى أبو عيسى الترمذي في سننه من حديث أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ 

فقال: أية آية؟ 

قلت: قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ

فقال: أما -والله- لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام؛ فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم

قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منهم أو منا؟ قال: "بل أجر خمسين منكم" (ابن باز الفوائد العلمية من الدروس البازية ٢/٤٨٢ جيد في الجملة، الشوكاني الفتح الرباني ٨/٣٧٨٤ صحيح ثابت).

 عباد الله: إن المسلم مأمور بالعمل بما أمر، وأن يدعو إلى الخير وينهى عن المنكر، ولا يلتفت لكثرة الفساد؛ فإنه لا يضره، طالما أنه على الخير منكرا للشر، فيصبر على ذلك حتى يعلي الله أمره،  

 الخطبة الثانية 

فيا أيها الناس: إن الحوادث التي تقع أمامنا توضح لنا معنى قوله -تعالى(فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء:19]، ولعلنا نمر على بعض منها:

قصة إلقاء أم موسى لولدها في البحر، ظاهر القصة الشر المحض؛ فإلقاء موسى عليه الصلاة والسلام في البحر معناه الهلاك المتحقق، ولولا أن الله ربط على قلبها لما ألقته، فلم تكن تعلم ماذا ينطوى وراء ذلك الإلقاء من الخير للأمة في زمنها، 

التقطه آل فرعون الذين إن وجدوه سيقتله، وكأنه تحد من الله لهم، فألقى الله محبة عليه؛ فكل من رآه أحبه وتعلق قلبه به؛ كما قال سبحانه (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)[طه:39]، 

فعاش وتربى في قصر فرعون الذي أراد قتله؛ فعندئذ يتضح لنا معنى قوله: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء:19]، وصدق ربنا(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].

 وتأمل في قصة يوسف -عليه الصلاة والسلام- تجد أن هذه الآية منطبقةٌ تمام الانطباق على ما جرى ليوسف وأبيه يعقوب -عليهما الصلاة والسلام-.

 فقد قدر الله على يوسف عليه الصلاة والسلام الإلقاء في الجب وأن يباع كالعبد، ويسجن، ثم يرى الملك تلك الرؤيا التي أخرجت يوسف، وأنقذ الله الناس ببركة يوسف، وكيف رد الله والدي يوسف له وإخوانه، مقرين بفضله ومكانته، وصدق الله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].

 وتأملوا في قصة الغلام الذي قتله الخضر بأمر الله -تعالى-؛ فإنه علل قتله بقوله (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)[الكهف:80-81].

 إذا رزقت بالولد، ذكرا أو أنثى فالله هو المقدر للخير لك، وهو أعلم بما ينفعك وما يضرك؛ فلا تكره الذكر أو الانثى؛ بل احمد الله على العطية، وقل الخيرة فيما اختار الله، وحتى لو لم ترزق بذرية و كنت عقيما فاحمد الله، وقل (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء:19]، 

وكما قال سبحانه: (ِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [الشورى:49-50].

وفي الصحيحين لما مات زوج أم سلمة: أبو سلمة -رضي الله عنهما-، تقول أم سلمة -رضي الله عنها-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها؛ إلا أخلف الله له خيرا منها". قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!

وفي الواقع قصص كثيرة جداً، رجل فاتته الطائرة لما نام في المطار ولم يشعر، فلما أفاق إذا بالطائرة قد أقلعت، وفاتته الرحلة، فضاق صدره، وندم ندماً شديداً، ولم تمض دقائق على هذه الحال التي هو عليها حتى أعلن عن سقوط الطائرة، واحتراق من فيها بالكامل! عندها علم هذا الرجل معنى قوله (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء:19]