إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 14 يونيو 2015

فضل العشر الأواخر وليلة القدر

فضل العشر الأواخر وليلة القدر
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ، ما لا يجتهد في غيرها مسلم(1175) عن عائشة ومن ذلك انه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها البخاري (1913) ومسلم(1169) وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره " البخاري (1920) ومسلم (1174) زاد مسلم وجَدَّ وشد مئزره .
وقولها " وشد مئزره " كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد ، ومعناه التشمير في العبادات .
وقيل هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع . 
وقولهم " أحيا الليل " أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها . وقد جاء في حديث عائشة الآخر رضي الله عنها : " لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القران كله في ليلة ولا قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهرا كاملا قط غير رمضان" سنن النسائي (1641) فيحمل قولها " أحيا الليل " على أنه يقوم أغلب الليل . أو يكون المعنى أنه يقوم الليل كله لكن يتخلل ذلك العشاء والسحور وغيرهما فيكون المراد أنه يحيي معظم الليل .
وقولها : " وأيقظ أهله " أي : أيقظ أزواجه للقيام ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة ، ولكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل ، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال : " سبحان الله ماذا أُنزل الليلة من الفتن ! ماذا أُنزل من الخزائن ! من يوقظ صواحب الحجرات ؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " البخاري (1074) وفيه كذلك أنه كان عليه السلام يوقظ عائشة رضي الله عنها إذا أراد أن يوتر البخاري (952) .  لكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة .
وفعله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربه ، ومبادرته الأوقات ، واغتنامه الأزمنة الفاضلة .
فينبغي على المسلم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الأسوة والقدوة ، والجِدّ والاجتهاد في عبادة الله ، وألا يضيّع ساعات هذه الأيام والليالي ، فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات والموت الذي هو نازل بكل امرئ إذا جاء أجله ، وانتهى عمره ، فحينئذ يندم حيث لا ينفع الندم .
ومن فضائل هذه العشر وخصائصها ومزاياها أن فيها ليلة القدر ، قال الله تعالى : ( حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) سورة الدخان الآيات 1-6
أنزل الله القران الكريم في تلك الليلة التي وصفها رب العالمين بأنها مباركة وقد صح عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغيرهم أن الليلة التي أنزل فيها القران هي ليلة القدر.
وقوله " فيها يفرق كل أمر حكيم " أي تقدّر في تلك الليلة مقادير الخلائق على مدى العام ، فيكتب فيها الأحياء والأموات والناجون والهالكون والسعداء والأشقياء والعزيز والذليل والجدب والقحط وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة .
والمقصود بكتابة مقادير الخلائق في ليلة القدر  -والله أعلم - أنها تنقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ ، قال ابن عباس " أن الرجل يُرى يفرش الفرش ويزرع الزرع وأنه لفي الأموات " أي انه كتب في ليلة القدر انه من الأموات . وقيل أن المعنى أن المقادير تبين في هذه الليلة للملائكة .
ومعنى ( القدر ) التعظيم ، أي أنها ليلة ذات قدر ، لهذه الخصائص التي اختصت بها ، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر . وقيل : القدر التضييق ، ومعنى التضييق فيها : إخفاؤها عن العلم بتعيينها ، وقال الخليل بن أحمد : إنما سميت ليلة القدر ، لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة ، من ( القدر ) وهو التضييق ، قال تعالى : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) سورة الفجر /16 ، أي ضيق عليه رزقه .
وقيل : القدر بمعنى القدَر - بفتح الدال  - وذلك أنه يُقدّر فيها أحكام السنة كما قال تعالى : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) . ولأن المقادير تقدر وتكتب فيها .
فسماها الله تعالى ليلة القدر وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) البخاري ( 1910 ) ، ومسلم ( 760 ) .
وقد خص الله تعالى هذه الليلة بخصائص : 
1- منها أنه نزل فيها القرآن ، كما تقدّم ، قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . تفسير ابن كثير 4/529 . 
2-  وصْفها بأنها خير من ألف شهر في قوله : ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) سورة القدر الآية/3 
3- ووصفها بأنها مباركة في قوله : ( إنا أنزلنه في ليلة مباركة ) سورة الدخان الآية 3 .
4- أنها تنزل فيها الملائكة ، والروح ، " أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة ، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له " أنظر تفسير ابن كثير 4/531  والروح هو جبريل عليه السلام وقد خصَّه بالذكر لشرفه .
5- ووصفها بأنها سلام ، أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد أنظر تفسير ابن كثير 4/531 ، وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله عز وجل .
6- ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) الدخان /4 ، أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق ، وما يكون فيها إلى آخرها ، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير انظر تفسير ابن كثير 4/137،138 وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له ، ولكن يُظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو وظيفتهم " شرح صحيح مسلم للنووي 8/57 .
7- أن الله تعالى يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنبه ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقوله : ( إيماناً واحتساباً ) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه . فتح الباري 4/251 . 
وقد أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة ، وذكر فيها شرف هذه الليلة وعظَّم قدرها ، وهي قوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر . تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر . سلام هي حتى مطلع الفجر ) سورة القدر . 
فقوله تعالى : ( وما أدراك ما ليلة القدر ) تنويهاً بشأنها ، وإظهاراً لعظمتها . ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) أي : أي إحْياؤها بالعبادة فيها خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة ، وهذا فضل عظيم لا يقدره قدره إلا رب العالمين تبارك وتعالى ، وفي هذا ترغيب للمسلم وحث له على قيامها وابتغاء وجه الله بذلك ، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس هذه الليلة ويتحراها مسابقة منه إلى الخير ، وهو القدوة للأمة ، فقد تحرّى ليلة القدر . 
ويستحب تحريها في رمضان ، وفي العشر الأواخر منه خاصة جاء في صحيح مسلم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ ( والقبة : الخيمة وكلّ بنيان مدوّر ) عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ قَالَ فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ قَالَ وَإِنِّي أُرْيْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا الطِّينُ وَالْمَاءُ وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ . صحيح مسلم 1167
وليلة القدر في العشر الأواخر كما في حديث أبي سعيد السابق وكما في حديث عائشة وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) حديث عائشة عند البخاري 4/259 ، وحديث ابن عمر عند مسلم 2/823 ، وهذا لفظ حديث عائشة . 
وفي أوتار العشر آكد ، لحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر ) رواه البخاري 4/259 .
وفي الأوتار منها بالذات ، أي ليالي : إحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين ، وخمس وعشرين ، وسبع وعشرين ، وتسع وعشرين . فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر ، في الوتر ) رواه البخاري ( 1912 ) وانظر ( 1913 ) ورواه مسلم ( 1167 ) وانظر ( 1165 ) 
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) رواه البخاري ( 1917 - 1918 ) . فهي في الأوتار أحرى وأرجى إذن .
وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى ( أي تخاصم وتنازع ) رجلان من المسلمين ، فقال : ( خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ) البخاري ( 1919 ) . أي في الأوتار .
وليلة القدر في السبع الأواخر أرجى ، ولذلك جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام ، في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ) رواه البخاري ( 1911 ) ومسلم ( 1165 ) . ولمسلم : ( التمسوها في العشر الأواخر ، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغلبن على السبع البواقي .
وهي في ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون ، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر عند أحمد ومن حديث معاوية عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ) مسند أحمد وسنن أبي داود ( 1386 ) .  وكونها ليلة سبع وعشرين هو مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء ، حتى أبيّ بن كعب رضي الله عنه كان يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين ، قال زر ابن حبيش : فقلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال : بالعلامة ، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها . رواه مسلم 2/268 
لكن كونها ليلة سبع وعشرين أمر غالب والله أعلم وليس دائماً ، فقد تكون أحياناً ليلة إحدى وعشرين ، كما جاء في حديث أبي سعيد المتقدّم ، وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين كما جاء في رواية عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه كما تقدّم ، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) رواه البخاري 4/260) . 
ورجّح بعض العلماء أنها تتنقل وليست في ليلة معينة كل عام ، قال النووي رحمه الله : ( وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك ، ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها ) المجموع 6/450 .
وإنما أخفى الله تعالى هذه الليلة ليجتهد العباد في طلبها ، ويجدّوا في العبادة ، كما أخفى ساعة الجمعة وغيرها .
فينبغي للمؤمن أن يجتهد في أيام وليالي هذه العشر طلباً لليلة القدر ، اقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم ، وأن يجتهد في الدعاء والتضرع إلى الله .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال : قولي : ( اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ) رواه الإمام أحمد ، والترمذي (3513) ، وابن ماجة (3850) وسنده صحيح .
ثالثاً : اختصاص الاعتكاف فيها بزيادة الفضل على غيرها من أيام السنة ، والاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله تعالى ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف هذه العشر كما جاء في حديث أبى سعيد السابق أنه اعتكف العشر الأول ثم الوسط ، ثم أخبرهم انه كان يلتمس ليلة القدر ، وانه أريها في العشر الأواخر ، وقال : ( من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ) وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ، ثم اعتكف أزواجه من بعده متفق عليه ولهما مثله عن ابن عمر .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة .
وقال الأئمة الأربعة وغيرهم رحمهم الله يدخل قبل غروب الشمس ، وأولوا الحديث على أن المراد أنه دخل المعتكف وانقطع وخلى بنفسه بعد صلاة الصبح ، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف ، انظر شرح مسلم للنووي 8/68،69 ، وفتح الباري 4/277 . ويسن للمعتكف الاشتغال بالطاعات ، ويحرم عليه الجماع ومقدماته لقوله تعالى :  ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) سورة البقرة /177 .
ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها .
- الخطبة الثانية : 
العلامات التي تعرف بها ليلة القدر : 
العلامة الأولى : ثبت في صحيح مسلم من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من علاماتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شُعاع لها . مسلم ( 762 ) 
العلامة الثانية : ثبت من حديث ابن عباس عند ابن خزيمة ، ورواه الطيالسي في مسنده ، وسنده صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة طلقة ، لا حارة ولا باردة ، تُصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة ) صحيح ابن خزيمة ( 2912 ) ومسند الطيالسي .
العلامة الثالثة : روى الطبراني بسند حسن من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة بلجة " أي مضيئة " ، لا حارة ولا باردة ، لا يرمى فيها بنجم " أي لا ترسل فيها الشهب " ) رواه الطبراني في الكبير انظر مجمع الزوائد 3/179 ، مسند أحمد .
فهذه ثلاثة أحاديث صحيحة في بيان العلامات الدالة على ليلة القدر .
ولا يلزم أن يعلم من أدرك وقامها ليلة القدر أنه أصابها ، وإنما العبرة بالاجتهاد والإخلاص ، سواء علم بها أم لم يعلم ، وقد يكون بعض الذين لم يعلموا بها أفضل عند الله تعالى وأعظم درجة ومنزلة ممن عرفوا تلك الليلة وذلك لاجتهادهم . نسأل الله أن يتقبّل منا الصيام والقيام وأن يُعيننا فيه على ذكره وشُكْره وحُسْن عبادته . 
إخوة الإسلام فهاهى أيام رمضان تسارع مؤذنة بالانصراف والرحيل،
وهاهي أيام العشر تحل لتكون الفرصة الأخيرة لمن فرط في أول الشهر، أو لتكون التاج الخاتم لمن أصلح ووفى فيما مضى، إخوة الإيمان العشر الأخيرة من شهر رمضان سوق عظيم يتنافس فيه العاكفون، وموسم يضيق فيه المفرطون، وامتحان تبتلى فيها الهمم، ويتميز أهل الآخرة من أهل الدنيا.. طالما تحدث الخطباء، وأطنب الوعاظ، وأفاض الناصحون بذكر فضائل هذه الليالي.. ويستجيب لهذا النداء الحاني، والموعظة المشفقة قلوب خالط الإيمان بشاشتها، وآذان أصغت للمنادي واستقر في روعهما انه لا يريد إلا الخير ليس إلا.. فسلكت هذه الفئة المستجيبة طريق المؤمنين، وانضمت إلى قافلة الركع الساجدين، واختلطت دموع أصحابها بدعائهم في جنح الظلام، وربك يسمع ويجيب، ويجزي العاملين المخلصين، وما ربك بظلام للعبيد.
أما الفئة الأخرى فتسمع النداء وكأنه لا يعنيها، وتسمع المؤمنين يتضرعون لخالقهم، وكأنه ليس لهم حاجة إلا ملء البطون والتفكير في الفروج.. وياليت شعري والمأساة أعظم أن هؤلاء نائمون قائمون.. فهم في عداد النائمين إذ لم يشهدوا مع المسلمين صلواتهم ودعاءهم وهم في عداد القائمين المضيعين لأوقاتهم بالقيل والقال والسهر الذي لاطائل من ورائه ، ولا نفع يرجى من خلاله، إلا من رحم الله.
فهل يتأمل الشاردون في غبنهم، وهل يعيد المفرطون الحساب مع أنفسهم ومع خالقهم، ونحن بعد في مستهل هذه العشرة التي ضمنها الله تعالى ليلة : العبادة فيها خير من العبادة في ما يزيد على ثلاثة وثمانين عاما، وربك تعالى يقول : ((لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)) (القدر:3) .
وكم هي نعمة أن يتخفف المرء في هذا الشهر من الذنوب والأوزار التي لو كان لها جرم لما أطاق الإنسان حملها لثقلها، ولو كان للذنوب رائحة لزكمت الأنوف لشدة نتنها((ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والذي يحتسبون على الله قيام ليالي العشر لابد وأن يدركوا هذه الليلة، فهي في العشر الأواخر
وفي الليل سواء كان في رمضان أو غيره- ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله
شيئا من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، ذلكم هو وقت النزول الإلهي، ومنه الثلث الأخير من الليل، يقول المولى جل جلاله في هذه الساعة : هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟.. فأين أنت يا عبد الله عن هذا المورد العظيم، وإذا غلبتك نفسك في سائر العام أفلا تغلبها على الأقل في هذه الليالي والأيام .
اخوة الإيمان : إذا كان قيام الليل أعظم ما يرجى وأزكى ما يقدم في هذه العشر منحة قربات حري بالمؤمن أن يتقدم بها لمولاه في هذه الليالي والأيام الفاصلة.. فذكر الله على كل حال سياج من الشيطان ودرع واق للإنسان، ويكفي أن يعلم أن مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت.. ويرحم الله أمواتا رغبوا لأنفسهم الموت وهم بعد أحياء، ويرحم الله أمواتا إذا ذكرهم الناس ذكروا الله وإن كانوا أجداثا في قبورهم
فليس من مات فاستراح      بميت إنما الميت ميت الأحياء.
فلا تمت نفسك أخي المسلم بالغفلة عن ذكر الله وأنت بعد على قيد الحياة.
وبادر باغتنام هذه العشر لمزيد ذكر الله والأنس به ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) (الرعد : 28) .
ومن رحمة الله أن فضل الذكر عظيم وهو لا يكلف المرء عناء، وبإمكان المرء أن الله قائما أو قاعدا أو على جنبه. فلا يستحوذن عليكم الشيطان .
عباد الله حذار أن ينسيكم الشيطان ذكر الله والباري يقول في محكم التنزيل : ((اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) (المجادلة : 19) .
أيها المسلمون وثمة عبادة يحسن التذكير بها في كل حال، وهذه الليالي والأيام بالذات ميدان للاجتهاد فيها ألا وهي الدعاء.
إخوة الإيمان والدعاء هو سهام الليل يطلقها القانتون، وهي حبل ممدود بين السماء والأرض يقدره حق قدره عباد الله المخلصون هو الربح ظاهرا بلا ثمن، وهو المغنم في الدنيا والآخرة بلا عناء، هو التجارة الرابحة يملكها الفقراء كما يملكها الأغنياء على حد سواء، يتفاوت الناس في هذه العبادة بين مقل ومستكثر،بين حاضر القلب،وشارد الذهن، بين خاشع متأمل لما يقول وبين قاس القلب لا يتأثر ولايلين وهو طريق للفلاح في الآخرة،وهو سبب من أسباب السعادة في الدنيا بإذن الله ذلكم هو الدعاء، بل هو العبادة، كما قال عليه الصلاة والسلام : ((الدعاء هو العبادة)).
قال الله تعالى:(( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ )) (غافر :60).
فالآية في بدئها تسمية الدعاء، وفي نهايتها أطلق عليه العبادة، مما يؤكد لك أهمية الدعاء، وكونه هو العبادة.
وإذا كان الله يصف الراغبين عن الدعاء بالاستكبار كما في الآية السابقة، فاعلم أخي المسلم- إن ليس شيء أكرم على الله من الدعاء، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن
أترغب أن توصف بالعجز والكسل، وهل علمت أن المقصر في الدعاء من أعجز الناس بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((أعجز الناس من عجز عن الدعاء وأبخل الناس من بخل بالسلام ))
لقد أمر الله المسلمين بالدعاء ووعدهم بالاستجابة، وهل بعد ذلك من كرم، فال أكرم الأكرمين: (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )) .
وهل علمت أن صاحب الدعاء كاسب على كل حال إذا لم يدع بأثم أو قطيعة رحم، وتأمل جيدا هذا الحديث النبوي الشريف الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا أتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذا نكثر ( يعني من الدعاء ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) : الله أكثر ))
وحاصل ذلك أن الداعي لا يعدم أحد ثلاثة أمور، إما أن يستجاب دعوته عاجلا، أو تدخر له في القيامة، أو يدفع عنه من السوء مثلها.
وهذا أو ذاك لاشك فضل عظيم ومنة من الله يمتن بها على عباده الداعين .




1

فضل الصدقة

( فضل الصدقة ) 
الخطبة الأولى 
اعلموا ـ عباد الله ـ أن الصدقة باب للرزق فلا تغلقوه، وطريق للخير فلا تنكبوه، اطلبوا الرزق الواسع بها، فبها يبارك الله لك في رزقك القليل، 
والرسول الكريم يوجهنا: ((داووا مرضاكم بالصدقة)). ومن هنا جاء توجيه علي : (الصدقة دواء منجح)، فبها يصرف الله عنك البلاء، ويفتح عليك أبواب الخير والسعادة، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! 

فأنت بصدقتك أدخلت السرور والفرح على أهل بيت ضاقت بهم السبل واشتد عليهم الكرب، فجاءت صدقتك نورًا وأملاً يبدد ظلامهم الدامس ويأسهم القاتل، فالله سبحانه حقيق أن يبدد من حولك الظلمات، ويدخل على قلبك السعادة والأمل. فمن يُعطِ باليد القصيرة يُعطَ باليد المبسوطة، ويدك بالتأكيد هي اليد القصيرة، ويد مولاك سبحانه هي المبسوطة العظيمة.

استنزلوا الرزق بالصدقة، فقد فرض الله الزكاة تسبيبًا للرزق، فلا تبخل بحق الله في مالك، فهو الواهب وهو المانح، فإن مَنَعتَ مُنِعْتَ، فأي المنْعَيْن أشدّ؟! فإنّ لله في كل نعمة حقًا، فمن أداه زاده منها، ومن قصّر عنه خاطر بزوال نعمته.

الزكاة تحصين، والصدقة حفظ، والعطاء زيادة، والبذل سيادة. سوسوا إيمانكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء. استنزلوا الرزق بالصدقة، والمعنى: إذا افتقرتم وأعسرتم فتصدقوا بالقليل الذي تملكون، فإن الله يعطف الرزق عليكم بالصدقة، فكأنكم عاملتم الله بالتجارة، وإنها لتجارة رابحة، وها هنا أسرار لا تعلم.

فأين المتاجرون بالصدقات؟! أين المتاجرون بالبذل والإنفاق؟! أين المتاجرون بدفع الزّكوات؟! أين الذين يتاجرون في هذا كله مع الله؟! وهل يخسر تاجر يتاجر في تجارة مع الواسع العليم؟! مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261].

فاستنزلوا الرزق بالصدقة، فقهٌ ينبغي له أن يحيَا فينا، فيتبوأ مكانًا عليًا، ويتصدر فهمنا، ويحكم سلوكنا، ويتوّج عرش قلوبنا، حتى نتخلّص من شحّ نفوسنا وسوء ظننا. قال الله تعالى آمرًا نبيه: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [إبراهيم: 31]، 

ويقول جل وعلا: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [البقرة: 195]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم[البقرة: 254]. وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة: 267]، وقال سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: 16].

ومن الأحاديث الدالة على فضل الصدقة قوله : ((ما منكم من أحدٍ إلاّ سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) أخرجاه في الصحيحين. 
عباد الله، إن للصدقة فضائل وفوائد:
أولاً: أنها تطفئ غضبَ الله سبحانه وتعالى، كما في قوله : ((إن صدقة السّرّ تطفئ غضب الربّ تبارك وتعالى)) صححه الألباني في صحيح الترغيب. 
ثانيًا: أنها تمحو الخطيئة وتذهب نارها، كما في قوله : ((والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار)) صححه الألباني في صحيح الترغيب.
ثالثًا: أنها وقاية من النار، كما في قوله : ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)). 
رابعًا: أن المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة، كما في حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل امرئ في ظلّ صدقته حتى يقضى بين الناس)). وقد ذكر النبي أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) أخرجاه في الصحيحين. 
خامسًا: أن في الصدقة دواء للأمراض البدنية، كما في قوله : ((داووا مرضاكم بالصدقة)). يقول ابن شقيق: سمعت ابن المبارك وسأله رجل عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال: اذهب فاحفر بئرًا في مكان حاجةٍ إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ.
سادسًا: إن فيها دواء للأمراض القلبية، كما في قوله لمن شكا إليه قسوة قلبه: ((إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح على رأس اليتيم)) رواه أحمد. 
سابعًا: أن الله يدفع بالصدقة أنواعًا من البلاء، كما في وصية يحيى عليه السلام لبني إسرائيل التي أخبرنا بها رسول الله : ((وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم)) وهو في صحيح الجامع. 
فالصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض مقرون به لأنهم قد جربوه. 
ثامنًا: أن المنفق يدعو له الملك كلّ يوم بخلاف الممسك، وفي ذلك يقول : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)) أخرجاه في الصحيحين. 
تاسعًا: أن صاحب الصدقة يبارك له في ماله، كما أخبر النبي عن ذلك بقوله: ((ما نقصت صدقة من مال)) رواه مسلم. 
عاشرًا: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به، كما في قوله تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ[البقرة: 272]. ولما سأل النبيّ عائشة رضي الله عنها عن الشاة التي ذبحوها: ((ما بقى منها؟)) قالت: ما بقى منها إلا كتفها، قال: ((بقي كلها غير كتفها)) رواه مسلم. 
الحادي عشر: أن الله يضاعف للمتصدق أجره، كما في قوله عز وجل: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 18]، وقوله سبحانه: مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245].
الثاني عشر: أن صاحبها يدعى من باب خاصّ من أبواب الجنة، يقال له: باب الصدقة، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان))، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) أخرجاه في الصحيحين. 
الثالث عشر: أنها متى ما اجتمعت مع الصيام واتباع الجنازة وعيادة المريض في يوم واحد أوجب ذلك لصاحبه الجنة، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله: ((ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة)) رواه مسلم. 
الرابع عشر: أن فيها انشراح الصدر وراحة القلب وطمأنينته،. فالمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسح بها صدره، 
الخامس عشر: أنَّ النبَّي جعل الغنى مع الإنفاق بمنزلة القرآن مع القيام به، وذلك في قوله: ((لا حسد إلا في اثنين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل والنهار)). فكيف إذا وفق الله عبده إلى الجمع بين ذلك كله؟! نسأل الله الكريم من فضله. 
السادس عشر: أنَّ الصدقة مطهرة للمال، تخلصه من الدَّخن الذي يصيبه من جراء اللغو والحلف والكذب والغفلة، فقد كان النَّبي يوصي التّجار بقوله: ((يا معشر التجار، إنَّ هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع. 



عباد الله، أيها المسلمون، ما هي أفضل الصدقات؟
أولاً: الصدقة الخفية؛ لأنَّها أقرب إلى الإخلاص من المعلَنة، وفي ذلك يقول جل وعلا: إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتؤْتُوهَا الفُقَرَاءِ فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ [البقرة: 271]. 
ثانيًا: الصدقةُ في حال الصحة والقوة أفضل من الوصية بعد الموت أو حال المرض والاحتضار، كما في قوله : ((أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحُ تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان كذا)) أخرجاه في الصحيحين. 
ثالثا: بذل الإنسان ما يستطيعه ويطيقه مع القلة والحاجة؛ لقوله : ((أفضل الصدقة جهد المُقل، وابدأ بمن تعول)) رواه أبو داود، وقال : ((سبق درهم مائة ألف درهم))، قالوا: وكيف؟! قال: ((كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها)) رواه النسائي وهو في صحيح الجامع. 
رابعا: الإنفاق على الأولاد كما في قوله : ((الرجل إذا أنفق النفقة على أهله يحتسبها كانت له صدقة)) أخرجاه في الصحيحين، وقوله : ((أربعة دنانير: دينار أعطيته مسكينًا، ودينار أعطيته في رقبةٍ، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك)) رواه مسلم. 
خامسا: الصدقة على القريب، كان أبو طلحة أكثر أنصاريّ بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّبٍ. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: لَن تَنَالُواْ البِر حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إنَّ الله يقول في كتابه: لَن تَنَالُواْ البِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها ـ يا رسول الله ـ حيث شئت، فقال رسول الله: ((بخ بخ، مال رابح، وقد سمعت ما قلت فيها، إني أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله، فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. أخرجاه في الصحيحين. 
وقال : ((الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان؛ صدقة وصلة)) رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، وقال : ((أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وهو في صحيح الجامع. والرحم الكاشح هو القريب الذي يضمر العداوة ويخفيها.
سادسًا: الصَّدقة على الجار؛ فقد أوصى به الله سبحانه وتعالى بقوله: وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ الجُنُبِ[النساء: 36]، وأوصى النبي أبا ذر بقوله: ((وإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، واغرف لجيرانك منها)) رواه مسلم. 
سابعًا: النفقة في الجهاد في سبيل الله، سواء كان جهادًا للكفار أو المنافقين، فإنه من أعظم ما بُذلت فيه الأموال؛ فإن الله أمر بذلك في غير ما موضع من كتابه، وقدَّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في أكثر الآيات، ومن ذلك قوله سبحانه: انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَموَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41]، وقال سبحانه مبينًا صفات المؤمنين الكُمَّل الذين وصفهم بالصدق: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَم يَرتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، وقال : ((من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا)) أخرجاه في الصحيحين. 
ثامنًا: الصدقة الجارية؛ وهي ما يبقى بعد موت العبد ويستمر أجره عليه، لقوله : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم. 

الخطبة الثانية :

فيا من أنعم الله عليهم بالأموال، قدموا لأنفسكم من أموالكم ما تؤمّنون به مستقبلكم الحقيقي، واشتروا منازلكم في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء، في نعيم لا يَبِيد وقصر مَشِيد، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، وأقرضوا الله قرضًا حسنًا، فالله تعالى يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وساهموا في التجارة الرابحة مع الله عز وجل لعلكم تفلحون.

أيها المسلمون، لو قرأ أحدنا إعلانًا في جريدة أو صحيفة أو عُرِض عليه الاشتراك في مساهمة أو صفقة تجارية يكون ربحه فيها عشرة أو عشرين أو خمسين بالمائة لبذل النفس والنفيس ليشترك فيها، ولاجتهد أن لا تفوته هذه الفرصة، مع علمه أن الأمر مغامرة ومخاطرة، وأنه قد يربح وقد يخسر، ولكنه يتجاهل ذلك كله، ويغض الطرف عنه، ويصبّر نفسه، ويقنّعها بالمساهمة، كل ذلك من أجل حَفْنة من المال يحصلها وينميها، ثم لعله أن يدركه الموت قبل أن يذوق لها طعمًا أو يرى لها نتاجًا، ويكون عليه بعد ذلك حسابها وغرمها، ويكون لغيره من الورثة عائدها وغنمها.

فما بالنا ـ أيها الإخوة ـ نقرأ كثيرًا، ونُدعى بين فينة وأخرى إلى مساهمة لا مثيل لها في أرباحها الكثيرة وضماناتها التي لا تَتَخَلّف ولا تُخْلَف، إنها مساهمة يكون الربح فيها سبعين ألفًا في المائة، نعم إخوة الإيمان، سبعين ألفًا بالمائة، بل أكثر من ذلك بكثير، ثم لا نرى المساهمين فيها إلا قليلاً، أليس هذا غَبْنًا فاحشًا وخسارة فادحة؟! 
فإن الله سبحانه هو الذي ضمن لنا هذا الربح، وتكفّل لنا به، بل ودعانا إليه، ورغّبنا فيه، وهو الذي لا يخلف الميعاد، ألم يقل سبحانه في محكم كتابه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]؟! 

ألم يبلغنا قول الناصح الحبيب : ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تغدو مثل الجبل))؟!
فيا لها من أرباح عظيمة عظيمة! ويا له من كرم ما بعده كرم! يتصدق العبد بتمرة أو مثلها من كسب حلال فيقبلها الله تعالى ويربّيها له وينميها حتى تكون مثل الجبل، والله إنه لخير عظيم وفضل عميم، لا ينبغي لإنسان أن يسمع به ثم يزهد فيه، ولا لصاحب مال مهما قلَّ يبلغه هذا الفضل ثم يمسك ماله عن الإنفاق في سبيل الله، ولكنها ـ ورب الكعبة ـ نفوس بني آدم الضعيفة، والبخل والشح الذي أهلك من كان قبلنا.

واسمعوا ـ رحمكم الله ـ إلى ما ورد في خطر الشح والبخل لعلكم تتعظون، قال الله جل وعلا: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، 
وقال : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تَلَفًا))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((خلق الله جنة عدن بيده، ودلَّى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل)).

أفبعد هذا كله يهنأ إنسان أو يرضى أن يتصف بالبخل والشح، وأن يمسك ماله ولا ينفقه في وجوه الخير وأعمال البر؟! 
لا نظن ذلك يحصل من عبد تغلغل الإيمان في قلبه، وملأه حب الله ورسوله والدار الآخرة، ولكنه الشيطان ـ أبعده الله ـ يعد ضعاف الإيمان بالفقر ويخوفهم منه: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]. 
ألا فليتق الله من يخشى الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله، فإن الله عز وجل قد تكفل للمنفق في سبيله أن يرد إليه ماله، ويخلفه عليه، ويوفيه أجره غير منقوص، يقول تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، 

ويقول : ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلِم عبد مَظْلَمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)).

عباد الله : الساعي على المحتاجين كالمجاهدِ والعابد، قال : ((الساعِي على الأرملة والمسكينِ كالمجاهد في سبيلِ الله أو كالذي يصوم النّهارَ ويقوم اللّيل)) متفق عليه، وكان نبيّنا محمد أقربَ الناس إليهم، يتلمَّس أحوالهم، ويقضِي حاجاتِهم، يقول سهل بنُ حنيف رضي الله عنه: كان رسول الله يأتي ضعفاءَ المسلمين ويزورهم ويعودُ مرضاهم ويشهَد جنائزهم. رواه أبو يعلى، وكان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يكنَى بأبي المساكين؛ يحِبُّهم ويسكُن بجانبهم ويكثِر من الصدقة عليهم.

في مجالستِهم نماءُ المال وصفاءُ النفس وزهدٌ في الدنيا وتذكير بالنِّعم وشَحذٌ للهمم إلى الآخرة، في القُرب منهم تتفتَّح أبواب الرّزق، يقول عليه الصلاة والسلام: ((قال الله عز وجل: أَنْفِقْ أُنْفِق عليك)) رواه البخاري، وبهم تدفَع الآفاتُ والشرور، قال عليه الصلاة والسلام: ((هل تنصَرون وترزَقون إلا بضعفائكم؟!)) رواه البخاري، قال المناوي رحمه الله: "بسبَبِ كونِهم بين أظهرِكم، أو بِسبب رِعايَتِكم ذِمامَهم، أو ببَركة دعائهم".


أيها المسلمون، لقد كان نبيكم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ولا يخاف العَيْلَة، فلقد كان يؤتى بالذهب والفضة والنعم فيوزعها في يومه، 
عن أنس قال: ما سئل رسول الله على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيرًا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. 

وحدّث أبو ذر قال: كنت أمشي مع النبي في حَرّة المدينة فاستقبلنا أحد فقال: ((يا أبا ذر))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار إلا شيئًا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا))، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى، فقال: ((إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا))، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ((وقليل ما هم)) رواه البخاري.

ولقد خرج أبو بكر من جميع ماله لله، وخرج عمر من نصف ماله، ولما نزل قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قال أبو طلحة : إن أحب أموالي إلي بَيْرُحَاء، وإني قد جعلتها لله، فضعها ـ يا رسول الله ـ كيف شئت، فقال : ((بَخٍ بَخٍ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح))

قال : ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علَّمَه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته))،


اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك وبطاعتك عن معصيتك، اللهم قوِّ إيماننا وارفع درجاتنا وتقبل صلاتنا يا رب العالمين.

3