( الحرية بين المفهوم والواقع )
مظلومة هي كلمة “الحرية” في زماننا أيما ظلم، فهي تحمل الآن -زورًا- تبعة كثير من الموبقات والكبائر وتحمل على عاتقها -ظلمًا- ذنب العديد من الفواحش والمعضلات؛ فقد صار الطعن في الدين حرية! وزعزعة ثوابت المجتمع حرية! والزنا والفجور والفسوق والمجون حرية!…
ولقد انتهكت الأعراض باسم الحرية، واستشرت المنكرات باسم الحرية، وأُطل الأمر بالمعروف باسم الحرية، وتم التعدي على الحدود باسم الحرية… حتى لقد اشتكت الحرية إلى الله من ظلم الناس لها وتجنيهم عليها!
والحرية في الغرب -قدوة الليبراليين والعلمانيين- تحمل في طياتها كثيرًا من التناقضات، فبينما ينادون بالمساواة بين الأجناس والألوان والاندماج التام لجميع طوائف المجتمع تجدهم يسيئون معاملة الأقليات الدينية والملونين من أبناء الغرب، فلا تزال النظرة العنصرية سائدة في الغرب إزاء السود أو الآسيويين أو العرب، فضلاً عن التضييق على المسلمين على وجه الخصوص في ممارسة شعائرهم، والتضييقات الأمنية التي تحد من حريتهم في الذهاب والمجيء والسفر والأعمال، لذا فالحرية في الغرب حرية مغلوطة زائفة، تتوافق مع ما يحقق مصالح الطغمة الحاكمة دون نظر إلى حقوق الأقليات أو كرامتهم.
أما الحرية في الإسلام فهي محدودة بحدود الشريعة، تؤطرها وتسيِّجها بما يتوافق مع الطبيعة الإنسانية التي لا تطيق الحرية المطلقة ولا تطيق الكبت وقهر الحريات، فهي وسط بين نقيضين، وكذلك هو الإسلام وسط بين طرفين مذمومين، فإن الحرية الإسلامية بمعناها السليم تكرِّس للعبودية لله -تعالى- وحده وترفع الإنسان عن العبودية لكل ما سواه.
فالحرية الإسلامية في الاقتصاد مثلاً تحده بحدود المعاملات الشرعية، فترفع الإنسان عن العبودية للدولار والدوران في فلك المصلحة الاقتصادية بغض النظر عن مساوئها ومضارّها، فالإسلام جعل المال تابعًا لا متبوعًا، ووسيلة لتحقيق منافع الحياة لا غاية تتسابق إليها النفوس وتجهض في سبيلها المبادئ والقيم، وهو ما نراه في النظام الرأسمالي مثلاً الذي يتيح حرية التجارة والقروض الربوية وجميع أشكال المعاملات، في الوقت الذي لا يرى فيه بأسًا في احتلال الدول لبعضها بغرض التوسع الاقتصادي والسيطرة على المقدرات الاقتصادية للدول المحتلة، غاضًا طرفه عن حقوق هذه الدول في الاستقلال والحرية.
والحرية الإسلامية في الأبضاع والشهوات تضرب كذلك المثال الأسمى في المحافظة على حرمات الآخرين، فكما كفل الإسلام الحرية في الزواج مثنى وثلاث ورباع فإنه حرّم تعدي ذلك الحد، بل جعل كل نظرة أو لمسة تزيد عن ذلك الحد انتهاكًا لحرية الآخرين، وهذا ما يحفظ على الفرد نفسه ودينه وما يحفظ للمجتمع هيبته ونظامه الذي لا يستقيم إلا به.
أما انتشار الفواحش بحجة رضا الطرفين فإنه مؤذن بهلاك المجتمع قيميًّا وسلوكيًّا، وفتحٌ لباب لا يجر على الفرد نفسه سوى الوبال والدمار، فالنفس البشرية مفطورة على التطلع للمزيد، فإن لم توضع لها حدود في هذه المسألة على وجه الخصوص فلن ينتهي بها المطاف عند ممارسةٍ ما، وإنما كلما حققت تطلعها المبدئي ازداد شبقها وشغفها لممارسة المزيد، وهذا ممارس بالغرب بشكل لافت للنظر؛ فعند نشأة السينما في بداية القرن الفائت حظي ظهور النساء والفتيات في الإعلام الغربي بمعارضة الآباء والمفكرين في المجتمع، مؤيدين رؤيتهم بالسنن الفطرية في هذا الكون، ولكن أبى القائمون على هذه الصناعة إلا إقحام النساء فيها، وبالتدريج بدأ صناع السينما في الغرب يتطلعون إلى مزيد من المشاركة النسائية والتكشف والتبذل والانحلال حتى وصل الحال بهن إلى الظهور عاريات بشكل كامل وممارسة الرذيلة صراحةً على شاشات السينما.
وبعد ما احتل الغرب مركز القيادة للعالم المعاصر بسبب تفوقه المادي والعلمي، أخذ يزعم بصلف وكبرياء أن حضارته هي الحضارة وأن تطوره هو آخر مراحل التقدم البشري، وأخضع الدنيا لفكره ونظمه الاجتماعية عن رغبة وإعجاب حينا وعن رهبة وإرهاب أحيانا أخرى.
وفي ظل هذه الأوضاع انتقل المفهوم الغربي للحرية إلى العالم الإسلامي وقامت على أسسه كثير من حركات التحرر المعاصرة، تحذو حذو الغرب وتتأسى بنماذجه، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، وفهم هؤلاء أن الحرية هي العلمانية وفصل الدين عن الدولة ونبذ التشريع الإسلامي واستبداله بالقوانين الغربية.
وذهب هؤلاء إلى أن الحرية هي الإباحية والسفور. وصارت الحرية سبيلا إلى الإلحاد والطعن في الدين وإثارة الشك والشبهات في مسلماته والسخرية والاستهزاء بمقدساته. -وهو من أسوأ ما عرفه العالم الإسلامي ....فهل يرغب في هذه الحرية مسلم له مسحة من عقل وفي قلبه ذرة من إيمان؟
والخلاصة أن نماذج الحرية في الغرب فيها من المتناقضات والسوءات -بشهادة الغربيين أنفسهم- ما يجعلها غير صالحة للتأسي والاقتداء بها… فهل يعي المنبهرون بالغرب من المسلمين ذلك؟! هل يفيقون فيدركون أن الحرية بمعناها الغربي هي كائن خبيث غريب مهلك لا يلائم مجتمعنا ولا يناسبه؟! هل يعود المسلمون إلى دينهم وحريتهم المنضبطة بحدود إسلامهم؟! هل يخلع منحرفو المجتمعات الإسلامية ثوب الوصاية على عموم المسلمين بزعم قيادتهم إلى التحرر؟! هل يفهمون أنه ليس بعد الحرية بمفهومها الإسلامي القويم من حرية؟!… هذا ما نتمناه ونأمله.
الخطبة الثانية :
الحرية التي تدعوا إليها الحضارة الغربية المعاصرة اليوم حريَّة بهيميةٌ خرقاء تؤصِّل للفحش والمجون وسيطرة الشهوات؛ فللمرأة أن تخرج هناك عارية حمراء بلا لباس حتى يغطي سوأتها ولاحق لأحد أن يعترض عليها؛ لأنها حرة, ومن يعترض على ذلك يجازى باسم الحرية، وللرجال نفس الحق بل أنشئت هناك باسم الحرية أندية رسمية تسمى (أندية العراة), ولهم شواطئ خاصة باسمهم،
باسم الحرية للمرأة بل حتى للفتاة الصغيرة المراهقة أن تعاشر من تشاء من الرجال وليس لوليها ولا حتى أبوها أن يعترض عليها, تأتي بمن يزني بها على فراش أبيها وليس له إلا أن ينظر ويبارك أو العقوبة و السجن.
باسم الحرية الفردية أصبح من حق الرجل أن ينزو على الرجل بل يقنن ذلك رسميًا وباسم الحرية أصبح اللوطية يتفاخرون بفعلتهم القذرة ويعلنونها على الملأ ولهم حقوق نظامية ولهم مناصب عليا هناك، وفي المقابل هناك اكتفاء النساء بالنساء وأصبح للسحاقيات صوت عالي وحقوق يرعاها النظام.
هناك باسم الحرية يعيش الذكور والإناث كعيشة البهائم ينزو بعضهم على بعض حتى في الحدائق العامة وعلى أرصفة الشوارع
بل هناك باسم الحرية رجال تنزو على البهائم وبهائم تنزو على النساء وقد يكون ذلك أمام جمع من الناس.
هناك باسم الحرية كانت قنوات العهر والفجور التي تعرض العلاقة بين الرجال والنساء، وبين الرجال مع الرجال والنساء مع النساء وكل فريق منهم مع الحيوانات.
بل لم يسلم من ذلك حتى الأطفال فأصبحت هناك عصابات تتاجر في خطف الأطفال وإجبارهم على ممارسة الرذيلة بل وإعلان ذلك وترويجه بين الناس.
وقائمة مستنقع الرذائل التي غرقوا فيه والظلمات التي يتخبطون فيها طويلة.
أتدرون ما النتيجة؟ النتيجة إيدز وزهري وسيلان وضياع للأنساب وتفكك للأسر ومصائب عدة يدركها كل عاقل.
أولئك القوم يستمدون شريعتهم وحريتهم التي يسعون لترويجها بين المسلمين من عدو البشرية إبليس -أجارنا الله وإياكم من مكره- أخبرنا عن ذلك ربنا وحبيبنا وخالقنا جل جلاله بقوله (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف:27].
فالله أكبر متى يدرك فئامٌ من بني قومي ممن يدعون زورًا وبهتانًا لتحرير المرأة أنهم إنما يدعون لنبذ شريعة الرحيم الرحمان واتباع شريعة الشيطان.
نتيجة تلك الحرية الشيطانية نشرته منظمة اليونسكو ومنظمات حقوق المرأة في تقارير أخيرة لها حيث قالت "إن مافيا البغاء مجندةٌ أكثر من تسعة ملايين امرأة للدعارة والبغاء خمس وتسعون بالمئة منهن يعملن في ذلك مكرهات".
هل رأيتم -معاشر الأحبة في الله- كيف أن تلك الحرية هي حرية الفحش والزنا والخناوالموبقات, فالرجل والمرأة لهم مطلق الحرية لأن يتفننوا في ذلك, ولكن بمجرد أن تظهر بوادر ولو بسيطة للاتجاه نحو الطهر والعفاف إذا بالمجتمع ترتعد فرائصه خوفًا ويتدخل قمة الهرم السياسي لمنع الطهر والعفاف أو بوادره، عند العودة للطهر والعفاف تنتهي الحرية ويبرز تصحرها ووجهها الكالح، أما حرية الإسلام فهي تدع للرجل والمرأة الحرية في أن يبدع في نشر الخير والطهر والعفاف ولكن تنتهي حدودها بمجرد أن تظهر بوادر للفجور, ويضع الإسلام الحواجز المنيعة دون انتشار ذلك في المجتمع.
وإني أحذر من هذا المكان أمة الإسلام بأن أعداء الدين والفضيلة باتوا أكثر حرصًا من ذي قبل على جرنا لمستنقع رذيلتهم, وإنهم يحرصون على هذه البلاد -حرسها الله- على جهة الخصوص؛ لأنها البلد الإسلامي الوحيد الذي بقي ثابتًا وسيظل بإذن الله أمام تيارات الفحش والرذيلة, فتنبهوا لما يراد بكم وابنوا في بناتكم ونسائكم جُدرًا منيعة أمام طوفان الفجور العاتي، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور:19].
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا رحمني الله وإياكم أنه لا يمكن لعدو الملة والدين أن يبغي الخير لأمة الإسلام، والأمثلة العملية شاهدة على ذلك, فكم من دولة دخلوها بحجة رفع الضيم والجور عن أهلها وبشروهم بالسعادة والأمن و الرفاهية، فماذا كانت النتيجة؟ جعلوا أعزة أهلها أذلة، ونهبوا خيراتها، وانتشر الفقر والخوف والقتل في جنباتها, وأسوأ من ذلك أن الفتنة الطائفية بدأت تطل برأسها بعد أن كانت خامدة لسنين طويلة.
أيها الأحبة في الله: لنربي أنفسنا وبناتنا ونسائنا على الفطنة واليقظة وعدم الانخداع بالشعارات الجوفاء، لنغرس فينا وفيهم عقيدة راسخة كالجبال لا تتزعزع, وهي أن السعادة والأمن والرخاء هو في التقيد بشريعة الله, وأن الشقاء والضنك والذل والتخلف هو في البعد عنها، يوم أن تمسك بشريعة الله سلفنا الصالح رجالاً ونساء قادوا البشرية فأسعدوها ويوم بدأ التفلُّت من شريعة الله والتمرد عليها أصاب الأمة ما أصابها، وقد حذَّر الله الأمة من ذلك في كتابه يوم أن قال: (… فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طـه:123-124]
ولا يعني ذلك -أيها الأحبة في الله- التقوقعَ على النفس وعدم الاستفادة مما عند الآخرين، لا بل نأخذ ما عندهم من علم وتقنية وفوائد أخرى دون التخلي عن ديننا وقيمنا وأخلاقنا.