عِبَرٌ وفوائِدُ من قِصَّةِ أصْحَابِ الكَهْف
أمَّا بعد: بَين أيدِينا قِصَّةٌ عَجِيبةٌ ذَكَرَها اللهُ تعالى في مُحْكَمِ كِتابِه, تَتَلَقَّها الأجيالُ المؤمِنَةُ جِيلاً بعد جِيل, ويَظهر فيها بِجلاءٍ ما تَفْعَلُه عقيدةُ التوحيدِ في نفوس المؤمنين؛ من التَّعالِي على الشَّهَوات, والإخلاصِ لِرَبِّ الأرضِ والسَّمَاوات,
قِصَّةُ فِتْيَةٍ في رَيْعانِ الشَّباب, وغَلَبَةِ الشَّهْوة, ومع ذلك أعرَضوا عن زَيفِ الدنيا الزائل؛ لَمَّا كَثُرَت المعاصي, ودَبَّ الشِّرْكُ, حتى انتصر له أهلُه بإجبارِ الناس عليه؛ كما أشار إليه قولُهم: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف: 20].
إنهم لا يَعْرِفون عندما يَعْتَزِلون قومَهم أين يَذْهبون, وكيف يَعِيشون, وأيُّ بُقعةٍ يَسْكنون؟!
ولا يَعْرِفون بلدًا مُوَحِّدًا يذهبون إليه, ولكنَّ الإيمانَ الذي ملأ قلوبَهم والهُدَى الذي أَكْرَمَهم اللهُ به؛ جَعَلَهم يَثِقُون بأنَّ اللهَ تعالى سَيَجْعَل لهم مَخْرَجًا؛ فاعتزَلوا الشِّرْكَ وأهلَه: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف: 16],
ولم يَخْطُرْ ببالِهم أنَّ اللهَ تعالى سَيَنْقُلُهم من زمانٍ إلى زمانٍ, ومن عصرٍ انْتَشَرَ فيه الشِّرْكُ, إلى عصرٍ أهلُه مُسلِمون: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} الكهف: 21].
رَفَعَ اللهُ تعالى شأنَهم, وأنْجاهم من الشِّرْكِ والمشركين, وجَعَلَهم قِصَّةً من قَصَصِ الإيمان تُتْلَى على مَرِّ الأزمان, فما أحْوَجَ الشبابَ المُسلِمَ وسائِرَ المسلمين إلى دراسةِ قَصَصِ القرآن, ففيها من الصَّفَحاتِ المُضِيئة, والمَواقِفِ الرَّائعة, والعِبَرِ والعِظَاتِ ما يُثَبِّتُ الفؤادَ، ويُرَطِّبُ الأكبادَ، ويُسَلِّي النُّفوسَ، ويَرْبِطُ على القلوبِ بِرِباطِ الإيمان.
ومِنْ أَجَلِّ فوائِدِ هذه القِصَّة: أهميَّةُ مُدارَسَةِ العقيدة، وعَرْضِها على العقول تقريرًا لها, وتذكيرًا بها, وتوصيةً بالثَّبات عليها؛ فَضْلاً عن تجديد الإيمانِ وزيادَتِه، وهي من التَّواصِي بالحَقِّ، وتَثْبِيته في النُّفوس، وتَرْسِيخِه في القُلوب.
ومِنْ أهَمِّ فوائِدِ هذه القِصَّةِ العَجِيبة: أنَّها مِنْ أبرَزِ الأدلة القرآنية على إمكانية الكرامات للصَّالحين, وهي دليلٌ واضِحٌ على حِفظِ اللهِ لأوليائه, ونَصْرِه لهم في كُلِّ زمانٍ ومكان.
وفيها: آياتٌ كثيرةٌ تدل على الله تعالى, وتُعَرِّفنا عليه, وتَعْرِضُ بعضَ صفاتِه وأفعالِه تبارك وتعالى,
وفيها: حُسْنُ الظَّنِّ بالله تعالى, وجَمِيلُ التوكُّلِ عليه, واليقينُ بوعْدِه, والرَّجاءُ بِفَرَجِه.
ومن الفوائِدِ والعِبَرِ: جوازُ الفِرارِ بالدِّين, والعُزْلَةِ حين تشتَدُّ الفِتَنُ, وقد خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم فارًّا بدينِه, وكذا أصحابه رضي الله عنهم, وهَجَروا أوطانَهم, وتركوا أرضَهم ودِيارَهم وأهاليهم وأولادَهم؛ رجاءَ السَّلامةِ بالدِّين, والنَّجاةِ من فِتْنَةِ الكافرين.
ويؤخذ منها أن المشروع للمسلم الابتعاد عن أماكن الفتن وأهلها وعدم التعرض لها والفرار الفرار منها وليس اليها
والناسُ يَختلِفون في مشروعية الاعتزال؛ فمَنْ كان قَوِيَّ الإيمانِ, يُؤثِّرُ في غيره دون أنْ يَتَأثَّرَ بهم؛ فالمُسْتَحَبُّ له أنْ يُخالِطَ الناسَ, ويُؤَثِّرَ فيهم بالخير ما استطاع. ومَن كان ضَعِيفَ الإيمان, ولا يُؤَثِّر فيهم, ويخشى على نفسِه الفِتنةَ بهم, وضَياعَ دِينِه وإيمانه؛ فالمُسْتَحَبُّ له اعتزالُهم.
ومِنْ فَوائِدِ القِصَّة: في قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}: دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لكل مسلم أن لا يغفلعن سِلاحِ الدُّعاء, مع مراعاة الأدب مع الله، وانتقاءِ العِبارات المناسبة, فلكل مقامٍ مَقال - وفي القرآن الكريم والسُّنة النبوية أدعيةٌ مباركة لها دلالَتُها وخواصُّها وآثارُها –
فقد الْتَمَسَ أهلُ الكهفِ أمرين مُهِمَّين, هما: "رحمةَ اللهِ بهم", و"إرشادَه لهم"، وفي طلبهم للرحمة مع الرَّشاد ما يدلُّ على أنهم ماضُونَ في طريق الحق, ثابتون عليه مهما كلَّفهم من تضحيات. وتتجَلَّى أهميةُ هذا الدعاء حين يواجهالمسلم المِحَنِ والابتلاءات, والفِتَنِ والعَقَبات
ومِنَ الفوائِد: أنَّ وَصْفَ أصحابِ الكهفِ بأنهم فِتْيَةٌ, وَصْفُ ثَناءٍ واسْتحسان, وهذا يوحي بأهمية مرحلةِ الشَّباب والفُتُوَّة, باعتبارها مَرْحَلَةَ عطاءٍ وحيويةٍ وبِناء. وحين ينشأُ الشَّابُّ في رحاب القرآن, ويَحْيَا حياةً إيمانية؛ فإنَّ جزاءه يوم القيامة أنْ يَنْعَمَ بِظِلِّ الرحمن, ومِنَ الذين «يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: شَابٌّ نَشَأَ فِي طاعَةِ اللَّهِ» رواه البخاري.
فهنيئاً لِشابٍ حافَظَ على شبابه, وصَرَفَه في طاعةِ ربِّهِ، ولا سيّمَا في مجتمعات شاعَتْ فيها فِتَنُ الشُّبُهاتِ، وتَأَجَّجَتْ فِتَنُ الشَّهَواتِ، فعجباً لِمَنْ يَحْفَظُ شبابَهُ في هذا التِّيهِ، يُصارِعُ أمواجَ الفِتَنِ، ويُجابِهُ أعاصِيرَ المِحَنِ, فيَصْمُد ويَثْبُت, ويَعْبُر هذه المرحلةَ الحاسِمَةَ سالِماً مُعافى..
ومن الفوائد - في قوله: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18: أن الله قد يقلّبك من حال الى حال دون أن تشعر ، وما ذلك الاّ لمصلحة لك وخير لا تعلمه ولا تشعر به ، ولكنه لطف الله الخفي ، ورحمته التي تتقلب فيها دون أن تشعر ، وعنايته التي تحيطك وترعاك وانت غافل عنها ..
الخطبة الثانية
الحمد لله ... أيها المسلمون .. مِنْ لَطائِفِ الفوائد: وَرَدَ ذِكْرُ كَلْبِهم في القِصَّة أربَعَ مَرَّات، وقد شَغَلَ هذا الكلبُ اهتمامَ بعضِ المُفَسِّرين والباحثين، فاستطردوا إلى الحديث عن اسْمِه ولَونِه, وقِصَّةِ لِحاقِهِ بهم! فاهتموا بتفصيلاتٍ لا فائدةَ منها, ولا ثمرةَ في البحث عنها، غير أنها تدلُّ على ثمراتِ الصُّحْبَةِ الطَّيِّبة, وعُمومِ نَفْعِها, وشُمولِ بَرَكَتِها، فهذا كَلْبٌ جاء ذِكْرُه في أشرفِ الكُتب؛ بمجرد سَيْرِه وراءَ الصالحين, وحِرصِه على مُلازَمَتِهم، ألا يدلُّ ذلك على شَرَفِ صُحْبَةِ الصالِحِين؟
ومِنَ الفوائِدِ المُهِمَّة: في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19].
الاشتغال بالمُهِمِّ دون غيرهِ، فقد يخوض بعض المسلمين في جَدَلٍ عقيمٍ حول مسائِلَ لا أهميةَ لها ولا ضَرورةَ للغوصِ فيها، بل يجب الالتفاتُ إلى واجباتِ الوقتِ, ومُراعاةِ الأولويَّات, وتجاوزُ الهامِشِيَّات, والمسائِلِ الفارِغَةِ التي لا نَفْعَ فيها, ولا خير.
ومِنَ الفوائِد: وجوبُ التّلَطُّفِ والرِّفْقِ في الحياة, والصِّلاتِ والمُعاملات مع الآخَرِين, ويدلُّ عليه قولُهم: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19]. ومع حرص أهل الكهف على التخفي, إلاَّ أن الله تعالى أعثر عليهم قومهم, وكشف أمرهم لهم بعد مئات السنين؛ لحكمة يريدها الله سبحانه, وفيه دليل عملي على البعث واليومِ الآخِر.
وهنا تَنْبِيهٌ مُهِم: فقد شَاعَ استدلالُ بعضِ مَنْ بَخُسَ حظُّه في العلمِ والهدايةِ بقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] على جوازِ بِناءِ المساجد على قبور الصالحين! وهذا مِنَ الجهلِ بمكان,فإنها حِكايَةٌ عن مقالة أهلِ الجَاه والسُّلطان – والغالِبُ عليهم الجهلُ - وهم يُرِيدون أنْ يُخَلِّدوا ذِكْرَى هؤلاء الفِتيةِ الذين ثَبَتَتْ لهم هذه الكرامة.
وجاء الخَبَرُ الصَّرِيحُ - في شَرْعِنا - بِحُرْمَةِ هذا الفِعْلِ, ولَعْنِ فاعِلِه, وهي أشَدُّ صِيَغِ التَّحريم؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» متفق عليه.
ولَمَّا أُخْبِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن كَنِيسَةِ الحَبَشَة, وما فيها مِنَ التَّصاوِير قال: «أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا, وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ, أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه البخاري ومسلم.
روى مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عُصم من الدجال"، وفي رواية عشر آيات من آخرها
و رغَب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في قراءتها كل جمعة، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين"