إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 2 مايو 2015

الاستجابة لله والرسول

الاستجابة لله والرسول 
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (إنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيَّ يَجْمَعُ لِي النَّاسَ لِيَغْزُونِي، وَهُوَ بِنَخْلَةَ أَوْ بِعُرَنَةَ، فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ) .. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْعَتْهُ لِي-يعني صِفْهُ لي- حَتَّى أَعْرِفَهُ، قَالَ: (إنَّكَ إذَا رَأَيْتُهُ أَذْكَرَكَ الشَّيْطَانَ، وَآيَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَنَّكَ إذَا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ لَهُ قُشَعْرِيرَةً).

قَالَفَخَرَجْتُ مُتَوَشِّحًا سَيْفِي، حَتَّى دُفِعْتُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي ظُعُنٍ يَرْتَادُ لَهُنَّ مَنْزِلًا، وَحَيْثُ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ مَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقُشَعْرِيرَةِ، فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ، وَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُجَاوَلَةٌ تَشْغَلُنِي عَنْ الصَّلَاةِ، فَصَلَّيْتُ وَأَنَا أَمْشِي نَحْوَهُ، أُومِئُ بِرَأْسِي، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَيْهِ، قَالَ: مَنْ الرَّجُلُ؟، قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ سَمِعَ بِكَ وَبِجَمْعِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجَاءَكَ لِذَلِكَ، قَالَ: أَجَلْ، إنِّي لَفِي ذَلِكَ.

قَالَفَمَشَيْتُ مَعَهُ شَيْئًا، حَتَّى إذَا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ، فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ، وَتَرَكْتُ ظَعَائِنَهُ مُنْكَبَّاتٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآنِي، قَالَ: (أَفْلَحَ الْوَجْهُ)، قُلْتُ: قَدْ قَتَلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (صَدَقْتُ).

ثُمَّ قَامَ بِي، فَأَدْخَلَنِي بَيْتَهُ، فَأَعْطَانِي عَصًا، فَقَالَ: (أَمْسِكْ هَذِهِ الْعَصَا عِنْدَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ)،قَالَ: فَخَرَجْتُ بِهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا: مَا هَذِهِ الْعَصَا؟، قُلْتُ: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَهَا عِنْدِي، قَالُوا: أَفَلَا تَرْجِعُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَسْأَلَهُ لِمَ ذَلِكَ؟، قَالَ: فَرَجَعْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ أَعْطَيْتنِي هَذِهِ الْعَصَا؟، قَالَ: (آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فَقَرَنَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ، فَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَضُمَّتْ فِي كَفَنِهِ، ثُمَّ دُفِنَا جَمِيعًا.

لا إلهَ إلا اللهُ .. رجلٌ واحدٌ يخرجُ ليُجابِهَ جيشاً كاملاً ، لا لشيءٍ .. إلا لأنَ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ أمرَه بذلك.

إنَّ الحديثَ عن هؤلاءِ الرِّجالِ .. كأنَه حديثٌ عن الخيالِ .. ولكنَّها حقيقةُ الامتثالِ لقولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

هذه الاستجابةُ الغريبةُ عندَ الصَّحابةِ، هي التي جعلتْ منه جيلاً لا يُمكنُ اللِّحاقُ به، ولو قارَنا الفرقَ بيننا وبينَهم لوَجدنا البَوْنَ الشَّاسعَ في تحقيقِ قولِه تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا).

قرأ أبو طلحة الأنصاري سورة «براءة» حتى بلغ هذه الآية: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) (التوبة: 41) 
فقال: خفافاً وثقالاً: شباناً وكهولاً، ما سمع الله عذر أحد، وقال لبنيه: أي بني جهزوني .. جهزوني .. جهزوني (يعني للجهاد) 
فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبى بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات. فنحن نغزو عنك! قال: لا .. جهزوني .. فجهزوه بجهاز الحرب، فغزا في البحر، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها رضي الله عنه
.
اسمعْ معي لهذا الموقفِ .. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: (يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ) .. فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .. فماذا عسى أن تَصفَ العِباراتِ؟ .. هل هو الحبُّ؟ .. أو هيَ الطَّاعةُ؟ .. أو هو مَزيجٌ من العِباداتِ؟ .. كانَ يستطيعُ أن يأخذَ خاتمَه فيبيعَه أو يُعطيَهِ لامرأتِه ولا حرجَ عليه في ذلك .. ولكن لم تُطاوعَه نفسُه المؤمنةُ باللهِ تعالى ورسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .. أن يرفعَ شيئاً طرحَه رسولُ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.

وأما قَصَّةُ تحريمِ الخمرِ .. فماذا عسى أن تَبلُغَ الكلماتُ .. في وصفِ تلكَ النُّفوسِ الصَّالحاتِ .. فكلما قرأها المُسلمُ .. كلما رأى خَلَلَنا الظاهرَ في الاستسلامِ لأمرِ اللهِ تعالى .. فهؤلاءِ العربُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ليلاً ونهاراً .. قد امتلأتْ منها أجسامُهم .. وتشَّبعتْ منها دِماءُهم .. وأصبحَ كثيرٌ منها كما يُطلقُ عليهم في زَمانِنا من أهلِ الإدمانِ .. ينزلُ عليهم قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) .. فماذا حصلَ؟ .. وماذا كانَ؟ .. لم يتردَّدوا في الانتهاءِ عنْ شُربِها .. ولم يرفعْ أحدُهم الكأسَ بعدَ ذلك إلى فِيه .. ولم يحتاجوا إلى مجالسِ وَعظٍ وتذكيرٍ .. ولا جَلساتِ علاجٍ وتَخديرٍ .. يقولُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَأَبا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ، فَأَتَاهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ، قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ، فَاكْسِرْهَا، فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا، فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ) .. فهل تعلمونَ ما هو التفسيرُ العِلميُّ لهذا الفِعلِ؟ .. إنه الإيمانُ .. ولا شيءَ سِوى الإيمانِ.

عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: (لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلْنَاهُ، فَأَدْخَلْنَاهُ ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ .. إغماءةُ المَوْتِ .. وسكونُ الجوارحِ .. وخشوعُ البَصرِ .. وذُهولُ السَّمعِ .. والجَرحُ يَثعبُ دماً .. في نزيفٍ مُستَمرٍ، يقولُفَجَعَلْنَا نُنَادِيهِ نُنَبِّهُهُ وَجَعَلَ لا يَنْتَبِهُ .. يُنبِهونَه باسمِه فلا ينتَبِه .. يُنادونَه بأميرِ المؤمنينَ فلا يُجيبُ، فعرفوا أنَّهم أمامَ رُوحٍ، يحتاجونَ أن يُخاطِبوها بما كانتْ تَعيشُ من أجلِه .. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِنْ كَانَ لَيْسَ يَنْتَبِهُ، فَاذْكُرُوا لَهُ الصَّلاةَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الصَّلاةَ، الصَّلاةَ .. فرجعتْ روحُه إلى ذلك الجَسدِ، الَّذي كانتْ تَتلذَّذُ معَه في الصَّلاةِ، فَفَتَحَ عَيْنَهُ، فَقَالَ: (نَعَمْ، لا حَظَّ فِي الإِسْلامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ) .. انه الاستجابة لله والرسول ، لحي على الصلاة ، حي على الفلاح (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى).

قال رسول الله يوم خيبر: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه)) فدعا رسول الله علي بن أبي طالب فأعطاها إياه وقال: ((أحسن ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك)) فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: ((قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)). فانظر أيها المسلم كيف طبق علي بن أبي طالب أمر الرسول لما قال له: ((ولا تلتفت))، فلما ناداه لم يتلفت وأجابه.

وها هو حنظلة غسيل الملائكة  الذي كان حديث عهد بعرس، يسمع نداء الجهاد  من منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فينطلق ملبياً النداء مسرعاً مستجيباً لداعي الله، ولم يتمهل حتى يغتسل من جنابته، وينطلق نحو المعركة، لتكون نهايته السعيدة ويلقى الله شهيداً وهو جنب فتغسله الملائكة.

واسمعوا إلى هذه القصة لهذه الفتاة، فلقد كان الصحابي جُليبيب رجلاً قصيراً دميماً فخطب له رسول الله امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال الأنصاري: حتى استأمر أمها فقال النبي : ((فنعم إذاً))، فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر لها ذلك، فقالت: لا ها الله إذاً، ما وجد رسول الله إلا جليبيباً، وقد منعناها من فلان وفلان، وكانت الجارية في خدرها تسمع هذا الكلام، فلما أراد أبوها أن يذهب ليخبر رسول الله بما قالت أمها قالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله أمره، ثم تلت قول الله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ثم قالت: إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه، فكأنها جلّت عن أبويها وفرجت عنهما، وقالا: صدقت، فذهب أبوها إلى رسول الله فقال له: إن كنت رضيته فقد رضيناه، قال: فإني رضيته، فتزوجها فدعى لهما رسول الله وقال: ((اللهم صب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً)).
فكانت من أكثر الأنصار نفقة ومالاً.

عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله يقول هذه الآية، وإن أحب أموالي بيرحاء، وإنها صدقة لله ، وأرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله : ((بخ ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فوضعها أبو طلحة بين أقاربه وبني عمه.

عن صفية بنت شيبة قالت: " بينما نحن عند عائشة، قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة [  ] رضي الله عنها: "إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل؛ لما أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]. انقلب رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابة، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطِها المُرَحَّل، فاعتجرت به؛ تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات، كأن على رؤوسهن الغربان" (رواه أبو داود وغيره).

فهذه الآية نزلت بالليل، فلم ينتظرن حتى الصباح، بل شققن الثياب وصنعن الخمر وصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مختمرات، فرضي الله عنهنوسبحان الله، ما أطهرها من قلوب، وما أنقاها من نفوس!

وهذه قصة أم المؤمنين زينب بنت جحش وطاعتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زواجها من زيد بن حارثة مولى رسول الله، وهي السيدة الشريفة النبيلة القرشية، حيث أراد رسول الله أن يحقق المساواة الكاملة بين المسلمين بتزويجه مولاه زيدٍ من شريفةٍ من بني هاشم ليسقط تلك الفوارق الطبقية بنفسه وفي أسرته، [فخطبها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لزيدٍ، فقالت: لست بناكحته! فقال: " بلى فتزوجيه"، قالت: يا رسول الله أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحادثان أنزل اللهُ على رسوله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (36) (الأحزاب)، 
قالت: قد ارتضيته لي يا رسول الله ؟ قال: "نعم"! 
قالت: إذن لا أعصي رسول الله ، قد فتزوجته]، 
فقد نالت بقبولها أمرَ الرسول عزَّ الدنيا والآخرة؛ ولما قضى زيدٌ منها وطراً، ثم طلقها، زوجها الله من فوق سبعِ سماواتٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وهي زوجته في الآخرة، وما بعد ذلك من فضلٍ.

ولما دعاهم -عليه الصلاة والسلام- بعد غزوة أحد في اليوم التالي على الفور إلى الخروج مرة أخرى في غزوة حمراء الأسد، استجابوا له استجابة المؤمنين الصادقين، فخرجوا للغزو ودماؤهم لم تجف بعد، وجراحهم لم تبرد، وهم ناجون بشق الأنفس من الموت في معركة أمس، وهم لم ينسوا بعدُ هولها ومرارتها وشدة كربها وهمها، وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا، ولكنها إرادة الله؛ حتى يشعر المسلمون، وحتى تشعر الدنيا كلها بتلك الحقيقة العظيمة؛ حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء إلى نفوس أصحابها، ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها، عقيدة يعيشون لها وحدها، فلا يستبقون شيئًا من أنفسهم لا يبذلونه لها، خرجوا -رضوان الله عليهم- في استجابة سريعة، سعداء بتقديم أنفسهم لله، وبتلبية أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهذا أحدهم يقول: شهدنا أحدًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وأخي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي -أو قال لي-: أتفوتنا غزوة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكنت أيسر جراحًا منه، فكان إذا غلب حملته.
وفي ذلك جاء ثناء الله -عز وجل- عليهم: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ)، أي من بعد ما نزل بهم الضر وأثخنتهم الجروح، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 172-174]

الخطبة الثانية :
يقول خباب بن الأرت وهو يحكي صورة أحد المستجيبين لله والرسول عليه الصلاة والسلام ، ممن ترك المال والاهل والوطن :
هاجرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبتغي وجه الله فوجب أمرنا على الله، فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفيه يكفن فيه إلا نمرة، قال: فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من الأذخر.
ولقد وقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هذا الفتى، وهو مقتول مسجي في بردة، فقال والدموع تزدحم في عينيه: لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حلة، ولا أحسن لمة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة.
وعن عبيد بن عمير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف على مصعب وهو منجعف على وجهه، فقرأ هذه الآية (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) (الأحزاب: 23).
وهذا نموذج آخر من نماذج الاستجابة لله عز وجل : هي الاستجابة بالمال، يرويه لنا زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: لما نزل (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) (البقرة: 245، الحديد: 11) 
قال أبو الدحداح : فداك أبي وأمي يا رسول الله! وإن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال "نعم يريد أن يدخلكم به الجنة
قال : فإني قد أقرضت ربي قرضاً يضمن لي به ولصبيتي معي الجنة؟ قال "نعم" قال: ناولني يدك، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده. فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضاً لله تعالى. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك" قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: "إذن يجزيك الله به الجنة" فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فقال لها : يا ام الدحداح أخرجي الصبية فاني قد أقرضت ربي حائطي هذا 
فقالت أم الدحداح: ربح بيعك! بارك الله لك فيما اشتريت
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح". أي في الجنة
.
ايها الإخوة: لقد رأينا كيف كانت أحوال الصحابة في المبادرة والامتثال والسمع والطاعة لله ورسوله، وقد وعد الله المستجيبين له بالرضوان والجنان فقال تعالى: ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد 


فإذا ما غيرنا وجهتنا وحولنا أبصارنا للنظر في واقعنا -نحن المدللين المترفين- فإننا نخفي وجوهنا، ونسترها بأيدينا، ونتوارى أسفًا وخجلاً ونحن نقلب صفحات حياتنا بحثًا عن صور الاستجابة لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإذا بنا نجد أمورًا مؤسفة، نجد إيثارًا للدنيا واستحبابًا لها وتسارعاً إليها، نجد أعذارًا تافهة، وحججًا واهية، يحتج بها المفرطون على تفريطهم، وهي حجج كلها تدل على نفسٍ لا تريد أن تضحي أو تتعب أو تتحمل في سبيل الله.. نفس بخيلة على دين الله، نجد نكوصًا عن الاستجابة لأوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتثبيطًا من غير المستجيبين للمستجيبين، أو تعويقًا وإيذاءً لهم.

والسؤال المهم والكبير: لماذا نشاهد بعض المسلمين يعرفون ما حرم الله ولا يجتنبونه ويقيمون على المعصية راضين مرتاحين لم يستشعروا الخوف من الله، ولم يتفطنوا لوعيد الله وأليم عقابه، ولم يقتلهم غضب الله عليهم، فأين الامتثال والصبر عما حرم الله، ثم ما بالنا نشاهد بعض المسلمين يعلمون فضائل النوافل من الصلاة والأذكار قراءة القرآن والإحسان إلى الناس والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام.

ومع ذلك تجد البعض مفرطاً كل التفريط بالأجور العظيمة من فضل الله وجوده، فكيف الغفلة عن يوم الحسرات والشدائد والويلات يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، يوم يتمنى الواحد الحسنة الواحدة، يوم يفرق المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، ونحن اليوم في دار العمل ودار القبول ودار التوبة في حين أن أهل الأجداث في قبورهم مرهونين، يتمنى الواحد منهم أن يركع لله ركعة واحدة أو يتصدق بصدقة ليفتدي نفسه من عذاب الله، ولقد وقف المصطفى على أحد القبور فقال: ((من صاحب هذا القبر)) فقالوا: فلان. فقال الرسول : ((والذي نفسي بيده لركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم)).

أيها المسلمون: من منا يجهل أن الله بكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأنه لا تخفى عليه خافية، وأنه سبحانه أعلم بالإنسان من نفسه، يعلم سره ونجواه، وكلنا يعلم أن ما نهمل إنما هو يجري في ملك الله وتحت سلطانه وقهره وسمعه وبصره؟ فلماذا يعصي العبد ربه ويستديم الإصرار على الذنب وهو يعلم أنه ذنب، ويعلم أن الله يسخط عليه، ويعلم أن الله سيحاسبه ويسأله عما جنت يداه؟ ومن منا يجهل أن الأرزاق بيد الله وحده لا شريك له، والله عنده خزائن السموات والأرض، والله وحده هو الغني وحده دون سواه، ومن سواه من المخلوقين فقير ومحتاج؟ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ((ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها)). 
ونؤمن جميعاً أنه لن يستطيع أحد مهما بلغ من القوة والجبروت أن يمنع عن أحد رزقاً كتبه الله له، فلا معطي لما منع الله، ولا مانع لما أعطى الله، وقد تكفل الله بالرزق فكيف يشتكي المخلوق إلى المخلوق ويطلب منه الرزق ويشتكي إليه ويطيعه في معصية الله من أجل دراهم معدودات؟ 

الاستجابة لله وللرسول فيها الحياة: قال الله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " وعلى قدر الاستجابة تكون الحياة، فهي مراتب كلما زاد العبد في الاستجابة لله وطاعة أوامره كلما زاده الله هداية وتوفيقاً. وقد شبه الله المستجيب لنداء الله ورسوله بالحي، والذي لا يستجيب بالميت " إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ " 

الاستجابة علامة للإيمان. فأهل الاستجابة هم المؤمنون حقًا، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]؛ فقول أهل الإيمان [  ] إذا ما دعوا إلى الله ورسوله هو سمعنا وأطعنا، وقت النشاط والكسل، ووقت العسر واليسر، فحياتهم مبنية على الاستجابة لأمر الله ورسوله،
أما المنافقون فشعارهم ودينهم الصد عن سبيل الله ومخالفة أوامر النبي [  ] صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61].

الاستجابة سبب من أسباب إجابة الدعاء: فهي طريق لرضا الله تعالى، فتحقيق الإيمان وامتثال أوامر الله تعالى جعلها الله تعالى من شروط إجابة الدعاء فقال تعالى " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي " بفعل أوامره واجتناب نواهيه، عندها تكون إجابة دعوة الداع أرجى. 

واخيراً: 

المستجيب جزاه الجنة: فالناس على قسمين: مستجيب لربه، وجزاؤه الحسنى. وغير مستجيب، فجزاؤه النار كما قال الله تعالى: " لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ "



1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق