إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 28 يوليو 2022

فاتحة شهور العام

 فاتحة شهور العام  

عباد الله: ها قد أطل عام جديد، بدايته شهر حرام ونهايته شهر حرام، طابت غرته وبورك في سائر أيامه وأوقاته وأزمانه، فشهر محرم من الأشهر الحرم، 

قال الحسن: إن الله عز وجل افتتح السنة بشهر حرام، واختتمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان، ولا أعظم عند الله من محرم، 

وقد رغب الشارع سبحانه في صيامه تطوعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصيام بعد رمضان: شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". رواه مسلم. 

والصومُ حين يقعُ في شهرٍ حرامٍ فإن الفضلَ يقترِنُ فيه بالفضلِ، فيتأكَّدُ فعلُه بشرفِه في ذاتِه، وبشرفِ زمانِه.

واليوم العاشر من المحرم، والمسمى «عاشوراء»، يوم مشهود في تاريخ الإسلام، وله فضل بما وقع فيه من حدث عظيم، وهو إنجاءُ نبيِّ الله وكليمه موسى بن عمران، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، 

فقد نجَّاه الله تعالى من عدوه الذي تولَّى بركنه، واعتز بجنده، وعزم أمره على قتل كليم الله وإبادة من آمن معه من بني إسرائيل، ومازال يطارده في البر حتى وصل سِيف البحر، فكان البحر من أمامه وفرعون وجنده من خلفه بغياً وعدواً، 

وعند اشتداد الكرب يكون الفرج العظيم، فأوحى إليه ربه: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾، وأمره تعالى أن ﴿اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾.

وهكذا يكون نصر الله لأنبيائه عند اشتداد الكرب، واستشعار الهلاك، تحقيقاً لوعده وما جرت به سنته التي أشار إليها جل شأنه بقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.

موسى عليه السلام هو نبيُّ الله وكليمُه، اصطنعه على عينه، فحُقَّ على كل مؤمن أن يشكر المولى سبحانه على نصره وهلاك عدوه الذي قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، 

وقد كان أول الشاكرين سيدَ الخلق محمد بن عبدالله عليه صلوات الله وسلامه، الذي جعل هذا اليوم يومَ شكرٍ لله تعالى بصيامه، وتذكر حدثه العظيم، 

وقال لليهود الذين خالفوا نهج التوراة، وكابروا في اتباع ما وصَّى به موسى وعيسى، وما أُنزل في كتبهم من الإيمان بالنبي المبعوث آخر الزمان، وهو سيدنا محمد، عليه وعلى رسل الله أجمعين الصلاة والسلام، قال لهم: «نحن أولى بموسى منكم»،

لأن موسى أخوه في الرسالة والديانة، فالأنبياء أولادُ عَلَّات، دينهم واحد، وهو الإسلام، وشرائعهم مختلفة، ولذلك أمره ربه سبحانه أن يقتفي هدي الأنبياء قبله ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾.

ومن الوفاء لكليم الله، عليه السلام، أن أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نتأسَّى به في هذا الشكر، فحثنا على صيام هذا اليوم، وبيّن لنا فضيلة الصوم فيه، 

كما روى مسلم من حديث أبي قتادة، رضي الله عنه، قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: «يكفر السنة الماضية»، 

وكم للصيام من فضل في سائر العام «فمن صام يوماً في سبيل الله، بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً»، 

لأن الصوم من أفضل العبادات، وهي العبادة التي قال عنها الحق سبحانه: «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، والمسلم الحريص لا يفرط في أجر كهذا وقد منَّ الله تعالى عليه بإدراكه.

إن هذا الشهر العظيم يذكر باستشعار نعم الله تعالى على عباده وأنها تقابل بالشكر؛ فموسى عليه السلام قابل نعمة إنجاء الله له ولقومه وإهلاك عدوه فرعون وجنده بالصوم شكرا لله تبارك وتعالى.

والمسلم يتميز بعقيدته ودينه، فحين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود يصومون عاشوراء، ورأى أنه عمل صالح المؤمنون أولى به، هم بصيام التاسع، حتى لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وهكذا يربينا الإسلام على التميز والاعتزاز بديننا، حتى لا يقع المسلم في حمأة التشبه بغير المسلمين فينسلخ من شخصيته وأصالته.

والمسلم في يوم عاشوراء، يتبع ولا يبتدع، فلا يستحب فيه سوى صيامه وصيام يوم قبله، ومما أحدث فيه من البدع والمحدثات، نعي الحسين رضي الله عنه على المنابر والمجالس مع إظهار التحزين والنياحة وأسوأ من هذا سب الصحابة الكرام وقذف أمهات المؤمنين وسادات المؤمنين، وغيرها مما لم يأذن به الله ولم يسنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عمل به أحد من صحابته رضي الله عنهم أجمعين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية:

عباد الله : على أعتابِ عامٍ مضى، يقِفُ أولو الألبابِ وقفةَ اعتبارٍ وادِّكار، يتفكّرونَ في سرعةِ انقضائِه وكأنّه ساعةٌ من نهار، ويعتبرونَ بما جرى فيه من مِحنٍ ومِنَحٍ وأقدار، 

لقد رحلَ من أعمارِنا، وذَهبَ مِن سِنِيِّ آجالِنا، فانقضتْ لذّاتُه، وبقيتْ تبعاتُه، ودَنَتْ من المرءِ نهايتُه ووفاتُه، 

فليست الغبطةُ بتوالي السّنينَ وزيادةِ الأعمار، إنّما الغبطةُ بما كسبْنا فيها من الحسناتِ وما تركْنا فيها من الآثار، 

إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأعوامِ نَقْطَعُهَا * وَكُلُّ عامٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ. 

فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا * فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرانُ فِي العَمَلِ. 

فقصّروا الأمَل، وأصلحوا العمل، واحذروا مَغَبَّةَ الأجل، وليكنْ عامُنا الجديد، مُشرقًا بصدقِ التّوبةِ وحُسنِ الإنابة، 

يقولُ عليه الصّلاةُ والسّلام: اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ. 

عبادَ الله، إنَّكم في آجالٍ منقوصة، وأعمالٍ محفوظة، والموتُ يأتي بغتةً (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) 

كم ودّعْنا في العامِ الماضي من عزيزٍ وقريبٍ وحبيب، سبقونا إلى القبور، وتركوا الدُّورَ والقصور، فاللهمّ لا تَحرمْنا أجرَهم ولا تفتنّا بعدَهم واغفرْ لنا ولهم، 

فخذوا من سرعةِ تعاقُبِ الليالي والأيّام، وتَصرُّمِ الشّهورِ والأعوام، واعظًا لحقيقةِ دنياكم وأنّها إلى زوال، ولن يبقى لكم منها إلا ما أودعتموه فيها من صالحِ الأعمال. 

فالسّعيدُ من طالَ عمُرُه وحَسُنَ عملُه، ومَنْ كانَ يومُه خيرًا من أمسِه، وغدُه خيرًا من يومِه، ولا يكونُ ذلك إلا بمحاسبةِ العبدِ نفسَه محاسبةَ الشّريكِ الشّحيحِ لشريكِه، 

قالَ الحسنُ البصريُّ رحمَه الله: المؤمنُ قوّامٌ على نفسِه، يُحاسبُ نفسَه للهِ عزَّ وجلّ، وإنّما خَفَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على قومٍ حاسبوا أنفسَهم في الدّنيا، وإنّما شَقَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على قومٍ أخذوا هذا الأمرَ من غيرِ محاسبة، فلا تلقى المؤمنَ إلا يُعاتبُ نفسَه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردتُ بشَرْبَتي؟ والفاجرُ يَمضي قُدُمًا لا يعاتبُ نفسَه. 

فاتقوا اللهَ رحمَكم الله، واشكروا ربَّكم حيثُ أفسحَ في آجالِكم، وأمدَّ في أعمارِكم، وحاسِبُوا أنفسَكم فإنّكم عن دنياكم قريبًا راحلون، وبينَ يدي اللهِ موقوفون، وعن أعمالِكم محاسبون، قَالَ عمرُ بنُ الخطّابِ رضيَ اللهُ عنه: حَاسِبُوا أَنفُسَكُم قَبلَ أَن تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَعمالَكم قَبلَ أَنْ تُوزَنَ عليكم، فَإِنَّهُ أَهوَنُ عَلَيكُم فِي الحِسَابِ غَدًا أَن تُحَاسِبُوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ، وَتَزَيَّنُوا لِلعَرْضِ الأَكبَرِ، يَومَئِذٍ تُعرَضُونَ لَا تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ.