إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 24 سبتمبر 2020

يا أهل القرآن

 يا أهل القرآن  

الخطبة الأولى

معاشر الصالحين: إن أعظم ما تصرف إليه أعنة التأمل، ويميل به حب القلوب، كيف يتأمل "كتاب الله"؟ فلم تزل نفحاته تتعطر، ورشحات فضائله تتقطر، فطوبى لمن اشتغل به، وعاش بين أنواره وأسراره، يقتنص الفرص، ويحصل الفوائد، ترى على وجهه نور القرآن، وتحس من قلبه وكلامه، سكينة كلام الرحمن.

 لا يختم ختمة إلا ليبدأ أخرى، وهو بين افتتاحه وختمه يعيش في رياض يانعة، وحدائق ماتعة، يهب عليه من الوجد والسرور، ما يكاد القلب أن يطير معه حبا وشوقا وأنسا، فلا تسل عن لذته وفرحته، ومتعته وسلوته.

 إنها الجنة -أيها الأحباب- جنة الدنيا التي من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وإذا أردت أن تستيقن فتدبر قول الله (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[الحشر: 21].

 نعم -أيها الأحباب الكرام- لقد فعلها القرآن مع أناس طهرت قلوبهم، وصفت وشفت حتى انفطرت، وهي تتلقى آية من كتاب الله، أو تتفاعل مع سورة من سوره.

 أين نحن من هذه القلوب أيها الأحباب؟ أين خشوعنا؟ أين تأثرنا؟ أين بكائنا على أنفسنا؟ أين حزننا؟ على ماذا نحزن اليوم وبماذا نفرح أيها الأحباب الكرام؟

 إن مقاييس الفرح والحزن تختلف باختلاف الأفهام والعقول، وتتباين بتباين ما في القلوب والصدور، وهذا ينبني على أصلين عظيمين:

 الأول: نظرة المرء إلى هذه الحياة الدنيا الفانية، والثاني: نظرته إلى تلك الحياة الأخرى الباقية، فوفق هذين النظرتين يسعى المرء في هذه الحياة، ويروح ويجيء، ويقدم ويؤخر، ويعطي ويمنع، ويقدم أو يحجم، ويفعل ويترك.

 عباد الله: لا شك أن الكل إلى الموت صائر، وللقبر نازل وزائر، وإذا مات الإنسان انقطع عمله، وانمحى من الدنيا اسمه، ونسي ذكره ورسمه، وصار ماله لغيره، أما هو ففي القبر مسكنه، وتحت الأرض مدفنه، كان على ظهر الأرض يمشي ويتحرك، فصار في باطنه ما بهمن حراك، كان فوق الأرض وحوله أصحابه وخلانه، وأهله وأولاده، هذا يضاحكه، وذاك يمازحه، وآخر يؤنسه، فصار في قبره وحيدا، غريبا فريدا، حيث لا أنيس ولا جليس.

 كان فوق الأرض يأكل ما لذ وطاب، ويتمتع بالطعام والشراب، ويتجمل بأحسن الثياب، فصار في باطن الأرض تحت التراب، يتلذذ الدود بأكله، وتستمتع الهوام بلحمه، فبموت الإنسان ينسى، وبدفنه وقبره ذكره يمحى.

 لكن هناك من عباد الله من لا يزال يذكر، وعند ذكره يدعى له ويشكر، فيحيى اسمه بعد موته، ويبقى ذكره بعد دفنه، فمن هم؟

 إنهم الذين عمروا حياتهم بذكر الله وطاعته، الذين عكفوا على كتاب الله وحفظوه، وعملوا بهوعلموه، يحفظ الله له مقامهم، ويرفع ذكرهم في حياتهم وبعد موتهم.

 إذا ذكر الصالحون فأهل القرآن في مقدمتهم، ألم يقل الله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) [فاطر: 32].

 وإذا ذكر المجاهدون فأهل القرآن على رأسهم، ألم يقل الله (وَجَاهِدْهُم بِهِأي بالقرآن: (جِهَادًا كَبِيرًا)[[الفرقان: 52].

 فيا أيها الطالبون للآخرة، الراغبون في الحياة الأبدية السرمدية، الساعون في مرضاة رب البرية، يقول الله ربكم مخاطبا لكم: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 

 وشفاء لما في الصدور هو هذا القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشبهات الصادةعن الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِهو هذا القرآن: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].

 من متاع الدنيا ومناصبها وقصورها ونفوذها، فإن كل شيء يزول وتبقى تبعاته.

 أما القرآن فيشفع وترفع لصاحبه في الجنة درجاته.

 فهنيئا لأهل القرآن الذين أخلصوا لمولاهم، وعلى الأمة أن تعرف لهم المنزلة والمكانة، فإن فضلهم عظيم، وخيرهم عميم، كم من إنسان علموه، وكم من غافل بآية واحدة سمعها منهم من النار أعتقوه، حفظوه وقرؤوه، وأصلوا للناس معانيه، ووقفوا عن محاسنه، وحركوا بهالقلوب.

 

إنها دعوة للأمة للرجوع إلى القرآن، ومعرفة قدر أهله، دعوة إلى الشباب أن يعكفوا على حفظ كتاب الله، وأن لا يضيعوا زهرة الشباب في تتبع المسابقات الفارغة التافهة، دعوة للآباء والأمهات بأن يسعوا بكل ما يستطيعون إلى تحفيظ أبناءهم كتاب الله، فوالذي لا إله إلا هو إنهم أعظم استثمار، وأجل ما تصرف فيه الأعمار.

 وتأملوا معي هذا الحديث العظيم، عن عبد الله بن بريدة -رضي الله عنه- قال: كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعته يقول "إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب يقول لههل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول له: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأت نهارك، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، قال: فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ قالفيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلا " [رواه الإمام أحمد وحسنه الحافظ بن كثير].

وحق لهذين الوالدين أن يعجبا ويدهشا من هذا الإنعام العظيم الذي حصل عليهما من حيث لا يحتسبان، فعندما يكسى الوالدين حلتين عظيمتين من حلل الجنة يتساءلان: من أين لنا هذا وليس لنا فيما نعلم من العمل والطاعات ما يؤهلنا بالفوز بهذه الكرامة العظيمة؟! فيجابان: بتعلم أولادك القرآن، ليس بتعليمه المعازف والقيان.

 وعلى هذا فإن صاحب القرآن من أبر الناس بوالديه، .

 الخطبة الثانية:

 معاشر الصالحين: إن منزلة أهل القرآن عند الله منزلة عظيمة، يجعل كل إنسان يبذل الوسع من أجل اللحاق بركبهم، والانخراط في قوافلهم.

 عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم "يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا"[رواه أبو داوود].

 فيا لها من سعادة للحافظ المخلص "وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا فإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَاترى إلى أين يرتقي ويرقى؟!

 من فضائل القرآن: أنه يلبس تاج الكرامة، وحلة الكرامة، ويفوز بالرضا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَجِيءُ صَاحِبُ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ الْقُرْآنُ: يَا رَبِّ، حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ، زِدْهُ، يَا رَبِّ، ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، وَيُقَالُ لَهُاقْرَأْ وَارْقَهْ وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً" [رواه الترمذي وحسنه الألباني].

 في هذا الحديث عدة كرامات لحفاظ القرآن وهي: الإنعام عليه بتاج الكرامة، وحلة الكرامة، فهو يعرف بهما يوم القيامة بين الخلائق، وهما علامتان على كرامة لابسيهما، ومكانتهما عند الله -عز وجل-.

 وإذا كان العبد في الدنيا يفرح ويزهو ويفتخر إذا خلع عليه سلطان خلعة، أو منحه منحة، فما بالك بصاحب القرآن يوم القيامة إذا أنعم عليه مولاه خالق الخلق جميعا، ومالك الناس وإلههم، بهذه النعمة العظيمة، والمنزلة الرفيعة، وألبسها تاج الكرامة، وحلة الكرامة، على أعين الخلق أجمعين، وأعظم من ذلك كله رضوان الله؟!

 ثم يزاد على كل ذلك بكل آية حسنة، فضلا عن رفعة درجاته في الجنة، بعدد الآيات التي يحفظها من القرآن، وقد جاء في الآثار "أن ما بين الدرجة والدرجة في الجنة كما بين السماء والأرض".

 فهل يعي المسلمون فضائل حفظ القرآن، ويقبلون عليه برغبة ونهم، ويربون على ذلك أبنائهم؟!

 فمن أظلم ممن زهد في كتاب ربه، وأعرض عنه حفظا وفقها، وتلاوة ودراسة، وعملا.

 من الفضائل كذلك: أن حافظ القرآن مع السفرة الكرام البررة، عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة" [رواه البخاري].

 والسفرة الكرام البررة هم: الملائكة الذين شرفهم الله، بأن تكون بأيديهم الصحف المطهرة، 

 من الفضائل كذلك: أن حافظ القرآن مقدم في الدنيا والآخرة، عن عامر بن واثلة: أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ – أي من جعلته عليهم واليا – فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟! – كأنه ينكر عليه – قال: إنه قارئ لكتاب الله -عز وجل-، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" [رواه مسلم].  

وكما أعلى الله -تعالى- شأن حافظ القرآن في الدنيا، فقد أعلى شأنه في الآخرة، فهو أولى الناس بالتقدير حتى بعد موته، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين رجلين من قتلى أحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحدحتى في الدفن يقدم صاحب القرآن، ثم قال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"[رواه البخاري].

 

عن أنس بن مالك -رضي الله عنه– قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن لله أهلين من الناسقالوا: يا رسول الله من هم؟ قال "هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ".

 

فأكرم به من فضل، وأعظم بها من مكانه ومنزلة، يطمح إليها كل مؤمن، فلينتسب ما شاء لما يتمنى، ويرغب من أهل المال، أو الجاه، أو السلطة، أو المناصب، أو الشهرة، ولتجُد القواميس بكل وصف وسناء، فلن يأتي بأكمل، ولا أرقى مما وصف به حملة الكتاب، أهل الله وخاصته.

 

وحافظ القرآن من الذين أوتى العلم، فقد مدح الله الحفاظ في كتابه، ووصفهم بأنهم من العلماء، قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)[العنكبوت: 49].

 

وتكريم حافظ القرآن من إجلال الله وتعظيمه؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسطأي العادل [رواه أبو داود وحسنه الألباني].

 

ويقول ابن القيم جملة جميلة: "من استظهر القرآن -أي حفظ القرآنورأى أن أحد أفضل منه، فما قدر نعمة الله عليه".

 

فمن تجل الأمة اليوم؟! هل تجل أهل القرآن وتكرمهم وتنزلهم المنزل اللائق بهم؛ أم تجل وتكرم المطربين والمطربات، والممثلين والممثلات، وغيرهم؟!

 

والمرء مع من أحب يوم القيامة.

 

وحفظة القرآن المخلصون لا تحرقهم النار، وهذه غاية الغايات: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران: 185].

 

عن عقبة بن عامر قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لو كان القرآن في إيهاب ما أكلته النار" [رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني].

 

فلو صور القرآن وجعل في إيهاب، وهو وعاء من جلد، وألقي في النار، ما مسته النار، قال الإمام الطيبي معلقا على هذا الحديث، وهو كلام نفيس، قال: "وتحريره أن التمثيل وارد على المبالغة والفرض، أي ينبغي ويحق أن القرآن لو كان في مثل هذا الشيء الحقير -وعاء من جلد – الذي لا يؤبه به، ويلقى في النار ما مسته النار، فكيف بالمؤمن الذي هو أكرم خلق الله، وأفضلهم، وقد وعاه في صدره، وتفكر في معانيه، وواظب على قراءته، وعمل فيه بجوارحه؟ فكيف تمسه؟ فضلا عن أن تحرقها. هـ.

 

اللهم أصلح أحوالنا..

 

الخميس، 17 سبتمبر 2020

الأمن والاستقرار ضرورتان

 الأمن والاستقرار ضرورتان


الْحَمْدُ لِلَّـهِ المَلِكِ الْحَقِّ المُبِينِ؛ خَالِقِ الْخَلْقِ، وَمَالِكِ المُلْكِ، وَمُدَبِّرِ الْأَمْرِ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَلَا يُقْضَى شَأْنٌ إِلَّا بِحُكْمِهِ، يَفِرُّ الْخَلْقُ مِنْ قَدَرِهِ فَيَقَعُونَ فِي قَدَرِهِ، وَيُذْعِنُ لَهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ؛ تَسْلِيمًا بِقَدَرِهِ، وَرِضًا بِحُكْمِهِ، وَيَقِينًا بِحِكْمَتِهِ، وَإِيمَانًا بِعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، نَحْمَدُهُ فَـ﴿لَهُ الحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70]، 

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَظِيمُ الشَّأْنِ، كَرِيمُ الْفِعَالِ، الْكَبِيرُ المُتَعَالِي، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَلَّنَا عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَحَذَّرَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، وَعَلَّمَنَا أَحْكَامَ الدِّينِ، وَبَيَّنَ لَنَا فِقْهَ الْفِتَنِ، فَقَالَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَها تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَالْزَمُوا عِبَادَتَهُ، وَاحْذَرُوا مَعْصِيَتَهُ، وَاصْبِرُوا عَلَى ابْتِلَائِهِ، وَعُوذُوا بِهِ مِنَ الْفِتَنِ كُلِّهَا، ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، حَاضِرِهَا وَغَائِبِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ فَتَنَ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: 20]، 

وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَنَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِتَنِ الَّتِي تَشْغَلُ عَنِ الْعَمَلِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أَيُّهَا النَّاسُ: الْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ ضَرُورَتَانِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَيَاةِ، تَصْلُحُ بِهِمَا الْأَحْوَالُ، وَيَنْمُو الْعُمْرَانُ، وَتُقَامُ الشَّعَائِرُ، وَالْإِنْسَانُ -أَيُّ إِنْسَانٍلَا يَجِدُ هَنَاءً فِي عَيْشِهِ، وَطُمَأْنِينَةً فِي نَفْسِهِ إِلَّا بِأَمْنٍ وَاسْتِقْرَارٍ؛ فَالْخَوْفُ يُنَغِّصُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ، وَالِاضْطِرَابُ وَالتَّشْرِيدُ يَسْلُبُهُ مُقَوِّمَاتِ عَيْشِهِ.

وَلِأَهَمِّيَّةِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ المُؤْمِنِينَ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ، فَهُمْ آمِنُونَ مِنْ فَقْدِ نَعِيمِهَا، وَآمِنُونَ مِنْ كُلِّ مُكَدِّرٍ فِيهَا ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر: 45- 46]، وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى: ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ [الدخان: 51- 52]، 

وَهُمْ مُسْتَقِرُّونَ فِيهَا، لَا يَخْشَوْنَ خُرُوجًا مِنْهَا، وَلَا اضْطِرَابًا فِيهَا، وَنَعِيمُهُمْ فِيهَا مُسْتَقِرٌّ فَلَا يَخَافُونَ نَقْصَهُ وَلَا انْقِطَاعَهُ ﴿لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: 48]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى ﴿خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ [الفرقان: 76].

وَحِينَ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِإِسْكَانِ الْبَشَرِ الْأَرْضَ، بَسَطَ لَهُمْ فِيهَا الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ، وَسَخَّرَ مَا عَلَيْهَا لِلْإِنْسَانِ، فَلَا خَوْفَ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْبَشَرِ إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا يُشَرِّدُ الْبَشَرَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَلَا يُحْدِثُ الْفِتَنَ وَالْقَلَاقِلَ إِلَّا الْبَشَرُ. فَالْأَرْضُ آمِنَةٌ بِتَسْخِيرِ اللَّـهِ تَعَالَى كُلَّ مَا عَلَيْهَا لِلْبَشَرِ، وَمُسْتَقِرَّةٌ فَلَا اضْطِرَابَ فِيهَا إِلَّا مَا تُحْدِثُهُ الزَّلَازِلُ فِي أَجْزَاءٍ مِنْهَا؛ لِيَعْلَمَ الْبَشَرُ نِعْمَةَ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي اسْتِقْرَارِهَا وَعَدَمِ اضْطِرَابِهَا، وَيَشْكُرُوا رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ خِطَابُ اللَّـهِ تَعَالَى لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَهْبَطَهُ الْأَرْضَ: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [البقرة: 36]، وَالِاضْطِرَابُ فِي الْأَرْضِ يَنْفِي الِاسْتِقْرَارَ، وَالْخَوْفُ يَمْنَعُ المَتَاعَ.

وَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ قُدِّمَ فِيهَا الِاسْتِقْرَارُ عَلَى المَتَاعِ، وَالمَتَاعُ هُوَ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِالنَّاسُ مِنَ المَآكِلِ وَالمَشَارِبِ وَالمَرَاكِبِ وَالمَلَابِسِ وَالمَسَاكِنِ، وَكُلُّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا بِلَا اسْتِقْرَارٍ، فَكَانَ الِاسْتِقْرَارُ هُوَ الرُّكْنَ الْأَهَمَّ لِلْعَيْشِ فِي الْأَرْضِ، وَفَقْدُهُ يُؤَدِّي إِلَى فَقْدِ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي لَا اسْتِقْرَارَ فِيهَا يُفَارِقُهَا أَهْلُهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَوْ عَظُمَتْ خَيْرَاتُهَا، وَتَفَجَّرَتْ ثَرَوَاتُهَا، فَلَا قِيمَةَ لَهَا بِلَا اسْتِقْرَارٍ. وَالْأَرْضُ المُسْتَقِرَّةُ يُبَارَكُ فِي رِزْقِ أَهْلِهَا، وَيَهْنَئُونَ بِعَيْشِهِمْ فِيهَا، وَلَا يُبَارِحُونَهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُمْ يَجِدُونَ الِاسْتِقْرَارَ.

وَبِالْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ تَعْمُرُ الْأَرْضُ، وَيُقَامُ فِيهَا دِينُ اللَّـهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي تُسَبِّبُ الْخَوْفَ وَالِاضْطِرَابَ، وَتَسْلُبُ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ؛ تَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ، وَتُمَكِّنُ لِلْكُفْرِ وَأَهْلِهِ فِي الْأَرْضِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ﴾ [الأنفال: 39

وَبِالْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ تُقَامُ الشَّعَائِرُ، وَتُعْمَرُ المَسَاجِدُ، وَيَأْمَنُ السَّبِيلُ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالِاضْطِرَابَ مَانِعَانِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَمْ عُطِّلَتْ مِنْ جُمَعٍ وَجَمَاعَاتٍ بِسَبَبِ الِاضْطِرَابِ وَالْخَوْفِ، وَكُتُبُ التَّارِيخِ مَمْلُوءَةٌ بِأَخْبَارِ تَعَطُّلِ المَسَاجِدِ بِسَبَبِ الْفِتَنِ الَّتِي أُشْعِلَتْ بَيْنَ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَلمَّا دَخَلَ التَّتَرُ بَغْدَادَ فَأَثَارُوا فِيهَا الرُّعْبَ وَالْهَلَعَ، وَأَعْمَلُوا السُّيُوفَ فِي أَهْلِهَا تَعَطَّلَتِ الْجُمَعُ وَالْجَمَاعَاتُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.

وَبِالْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ يَزْدَهِرُ الْعُمْرَانُ، وَتُبْدِعُ الْعُقُولُ، وَتَنْتَشِرُ المَعَارِفُ وَالْعُلُومُ، وَأَقْوَى سَبَبٍ يُعِيقُ ذَلِكَ وَيُوقِفُهُ الْخَوْفُ وَالِاضْطِرَابُ؛ لِأَنَّ الْعُقُولَ المُبْدِعَةَ، وَالْأَيَادِيَ النَّاجِحَةَ تُفَارِقُ الْبُلْدَانَ المُضْطَرِبَةَ إِلَى حَيْثُ الْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ، فَلَا يَبْقَى إِلَّا أَهْلُ الْحَرْبِ وَالدَّمِ يُثِيرُونَ الذُّعْرَ فِي النَّاسِ.. 

وَكَانَ مِنْ مَكْرِ المُسْتَعْمِرِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا حُدُودَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُعَلَّقَةً بِخِلَافَاتٍ وَمَشَاكِلَ وَفِتَنٍ يُشْعِلُونَهَا مَتَى مَا أَرَادُوا، وَخَلَقُوا بُؤَرًا مُلْتَهِبَةً دَاخِلَ الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَاسْتَغَلُّوا الْخِلَافَ المَذْهَبِيَّ أَوِ الِاخْتِلَافَ الْعِرْقِيَّ لِإِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَنَشْرِ الِاضْطِرَابَاتِ، وَمُصَادَرَةِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِوَعَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَعْلَمُوا حِيَلَ أَعْدَائِهِمْ فِيهِمْ، فَيُفَوِّتُوا عَلَيْهِمْ فُرَصَ النَّيْلِ مِنْهُمْ.

وَبِذَهَابِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ تَسْتَوْحِشُ الْقُلُوبُ، وَتَنْتَشِرُ أَخْلَاقُ الْحَيَوَانِ فِي النَّاسِ، فَلَا تَطْرِفُ عَيْنُ الْقَاتِلِ مَهْمَا قَتَلَ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَأْبَهُ النَّاسُ لِمَنَاظِرِ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى وَالْجَوْعَى وَالمُتَأَلِّمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعِيشُ فِي دَوَّامَةِ الْفَوْضَى تَكْسُو الْفَوْضَى عَقْلَهُ وَقَلْبَهُ وَأَخْلَاقَهُ فَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَلَا بَيْنَ صَوَابٍ وَخَطَأٍ، وَلَا بَيْنَ ظَالِمٍ وَمَظْلُومٍ، نَعُوذُ بِاللَّـهِ تَعَالَى مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالْفِتَنِ وَالْقَلَاقِلِ، وَذَهَابِ الدِّينِ وَالْعُقُولِ، وَانْتِكَاسِ الْفِطَرِ وَالْأَخْلَاقِ.
إِنَّ أَمْنَ المُسْلِمِينَ وَاسْتِقْرَارَهُمْ مُسْتَهْدَفٌ مِنْ قِبَلِ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ لِإِثَارَةِ الْفِتَنِ وَالِاضْطِرَابَاتِ فِي أَوْسَاطِهِمْ، وَالسَّيْطَرَةِ الْكَامِلَةِ عَلَى بُلْدَانِهِمْ، وَنَهْبِ خَيْرَاتِهِمْ، وَوَقْفِ زَحْفِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَاتَتْ شَعَائِرُهُ تَنْتَشِرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْ أَرْجَاءِ المَعْمُورَةِ.

وَإِنَّ أَعْظَمَ مَا يَخْدُمُ الْأَعْدَاءَ المُسْتَعْمِرِينَ فِي مَآرِبِهِمْ إِحْدَاثُ الِاضْطِرَابِ وَالْفَوْضَى فِي أَوْسَاطِ المُسْلِمِينَ، وَالمُجَازَفَةُ بِأَمْنِهِمْ وَاسْتِقْرَارِهِمْ، وَاسْتِرْخَاصُ دِمَائِهِمْ.. وَهَذَا يَعُودُ وَبَالُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ. وَإِذَا ضَاعَ الْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ مِنْ بَلَدٍ، وَحَلَّ فِيهَا الْخَوْفُ وَالْفَوْضَى فَمِنَ الْعَسِيرِ جِدًّا إِرْجَاعُ الْأَمْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَسْتَمِرُّ حَالُ الْفَوْضَى سَنَوَاتٍ أَوْ عُقُودًا تَفْنَى فِيهَا أَجْيَالٌ، وَيَهْرَمُ خِلَالَهَا شُبَّانٌ.

فَالْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ لَا يُجَازِفُ بِهِمَا إِلَّا مَجْنُونٌ، وَلَا يَسْتَهِينُ بِأَمْرِهِمَا إِلَّا أَحْمَقُ مَخْذُولٌ، وَلَا يَسْعَى لِتَجْرِيبِ ضِدِّهِمَا إِلَّا جَاهِلٌ مَغْرُورٌ.

نَعُوذُ بِاللَّـهِ تَعَالَى مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَنَسْأَلُهُ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ

الخطبة الثانية : 
وَإِذَا كَانَ الْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ بِهَذِهِ الْأَهَمِّيَّةِ الْكَبِيرَةِ كَانَ لِزَامًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الْحِفَاظُ عَلَيْهِمَا، وَالسَّعْيُ فِي تَقْوِيَتِهِمَا، وَاجْتِنَابُ مَا يُؤَدِّي لِفَقْدِهِمَا.. وَأَعْظَمُ ذَلِكَ تَقْوَى اللَّـهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْتِزَامُ دِينِهِ، وَتَحْكِيمُ شَرْعِهِ، وَاجْتِنَابُ مَعْصِيَتِهِ، وَالْأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ فَإِنَّهُمَا صِمَامَا الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ.. وَاجْتِنَابُ كُلِّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ أَوْ تَأْجِيجِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَمْلِكُ أَمْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَلِجَ دَوَّامَةَ الْفِتْنَةِ، فَإِذَا سَعَى لَهَا بِرِجْلَيْهِ، وَوَلَجَ لُجَّتَهَا أَخَذَتْهُ إِلَى حَيْثُ لَا يُرِيدُ، وَلَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا.

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: كُلُّ مَنْ سَعَى بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ عَادَ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، فَالدَّمُ لَا يَزُولُ إِلَّا بِالدَّمِ، وَقَدْ قِيلَ: بَشِّرِ الْقَاتِلَ بِالْقَتْلِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. 

وَاسْتِهْدَافُ أَمْنِ المُسْلِمِينَ وَاسْتِقْرَارِهِمْ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ إِلَّا مَبْخُوسُ الْحَظِّ مَرْذُولٌ. وَمَنْ أَشْعَلَ فِتْنَةً تُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْأَمْنُ، وَيَزُولُ الِاسْتِقْرَارُ، بَلَغَتْهُ نَارُهَا فَأَحْرَقَتْهُ وَلَوْ ظَنَّ أَنَّهُ فِي مَأْمَنٍ مِنْهَا، فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسٍ الْعَمَلِ.

وَمِنْ أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ لُزُومُ الْجَمَاعَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ شَقِّ عَصَا المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا أَخْبَرَ عَنْ زَمَنِ الْفِتَنِ، وَكَثْرَةِ دُعَاةِ جَهَنَّمَ، سَأَلَهُ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَمَّا يَفْعَلُ إِنْ أَدْرَكَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّبِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُدَافَعَةِ المُنْكَرَاتِ بِالنَّصِيحَةِ وَالْأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّـهِ؟ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللهَ الَّذِي لَكُمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. 

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
فَكُلُّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ فَيَجِبُ اجْتِنَابُهُ، وَرَدْعُ مَنْ يَسْعَى إِلَيْهِ؛ حِفَاظًا عَلَى الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

حَمَى اللهُ تَعَالَى بِلَادَنَا وَبِلَادَ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، وَأَدَامَ عَلَيْنَا وَعَلَى المُسْلِمِينَ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.