إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 29 أبريل 2021

فضل العشر الاخيرة من رمضان

 ( فضل العشر الاخيرة من رمضان ) 

أما بعد:

عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ومراقبته في السر والعلانية، والغيب والشهادة، ثم اعلموا - رحمكم الله - أن الله تعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص: 68].

 والمراد بالاختيار هنا: هو الاصطفاء والاجتباء، فالله جلّ وعلا لكمال حِكْمته وقُدرته، ولتمام علمه وإحاطته - يختار من خلقه ما يشاء، ما يشاء من الأوقات والأمكنة والأشخاص، فيخصهم سبحانه وتعالى بمزيد فضله وجزيل عنايته، ووافر إنعامه وإكرامه، وهذا - بلا ريب - من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وهو من أبين الأدلة على كمال قدرته وحِكْمته، وأنه جلّ وعلا يخلق ما يشاء ويختار، وأن أزمّة الأمور بيده، فلله الأمر من قبل ومن بعد، يقضي في خلقه بما يشاء، ويحكم فيهم بما يريد؛ ﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الجاثية: 36 - 37].

 عباد الله: وإن مما خصَّ الله عزّ وجل من الأوقات بمزيد تفضيله، ووافر تكريمه شهر رمضان المبارك؛ حيث فضله - سبحانه وتعالى - على سائر الشهور، والعشر الأواخر من لياليه؛ حيث فضَّلها على سائر الليالي، وليلة القدر؛ حيث جعلها لمزيد فضلها وعظيم مكانتها لديه خيرًا من ألف شهر، وفخَّم أمرها وأعلى شأنها، ورفع مكانتها عندما أنزل فيها وحيه المبين وكلامه الكريم، وتنزيله الحكيم هدًى للمتقين، وفُرْقانًا للمؤمنين، وضياءً ونورًا ورحمة؛ ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الدخان: 3 - 8]، 

 فما أعظمها من ليلة، وما أجلها وما أكرمها، وما أوفر بركتها، ليلة واحدة خير من ألف شهر، وألف شهر - عباد الله - تزيد على ثلاثة وثمانين عامًا، فهي عمر طويل لو قضاه المسلم كله في طاعة الله - عزّ وجل - فليلة القدر وهي ليلة واحدة خير منه، وهذا فضل عظيم وإنعام كريم

 عباد الله: وفي هذه الليلة الكريمة المباركة يكثر تنزل الملائكة؛ لكثرة بركتها وعِظم خيرها، فالملائكة يتنزَّلون مع تنزل البركة والخير والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، وفي حِلَق الذكر، 

وهي سلام حتى مطلع الفجر؛ يعني: أنها خير كلّها، ليس فيها شر إلى مطلع الفجر، وفي هذه الليلة الكريمة المباركة ﴿ يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]؛ أي: يقدر فيها ما يكون في تلك السنة بإذن الله العزيز الحكيم، والمراد بالتقدير؛ أي: التقدير السنوي، وأما التقدير العام في اللوح المحفوظ، فهو متقدم على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما صحت بذلك الأحاديث، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ليلة القدر أنه قال: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه)).

 عباد الله: وليلة القدر هي قَطْعًا في شهر رمضان المبارك؛ لقول الله تعالى:﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، وهي أرجى ما تكون فيه في العشر الأواخر منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((تحرَّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان)).

 وطلبها في أوتار العشر آكد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث يبقين أو سبع يبقين أو تسع يبقين))، وأرجى ليلة من تلك الليالي هي ليلة سبع وعشرين؛ لقول كثير من الصحابة: إنها ليلة سبع وعشرين؛ منهم: ابن عباس، وأُبَيّ بن كعب، وغيرهما.

من فضلها : أن الله تعالى يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنبه ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقوله : ( إيماناً واحتساباً ) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه . فتح الباري 4/251 .

 عباد الله: والحكمة من إخفائها وعدم تعيينها في النصوص هو أن يجتهد المسلمون في جميع العشر بطاعة الله جلّ وعلا بالتهجُّد وقراءة القرآن والإحسان، وليتبين بذلك النشيط والمجد في طلب الخيرات من الخامل الكسلان، ولأن الناس لو علموا عينها، لاقتصر أكثرهم على قيامها دون سواها، ولو علموا عينها ما حصل كمال الامتحان.

إن الواجب علينا أن نحرص تمام الحرص على طلب هذه الليلة المباركة؛ لنفوز بثوابها ولنغنم من خيرها، ولنحصل من أجورها، فإن المحروم عباد الله مَن حُرِم الثواب، ومن تمرُّ عليه مواسم المغفرة، ويبقى محمَّلاً بذنوبه؛ بسبب غفلته وإعراضه وعدم مبالاته.

 طوبى لمن نال فيها سبق الفائزين، وسلك فيها بالقيام والعمل الصالح سبيل الصالحين، وويل لمن طرد في هذه الليلة عن الأبواب، وأغلق فيها دونه الحجاب، وانصرفت عنه هذه الليلة وهو مشغول بالمعاصي والآثام، مخدوع بالآمال والأحلام، مضيع لخير الليالي وأفضل الأيام، فيا عظيم حسراته ويا شدة ندامته.

 من لم يربح في هذه الليلة الكريمة ففي أي وقت يربح، ومن لم ينب إلى الله في هذا الوقت الشريف، فمتى ينيب، ومن لم يزل متقاعدًا فيها عن الخيرات، ففي أي وقت يعمل.

اجتهدوا - رحمكم الله - في طلب تلك الليلة الشريفة المباركة، وتحروا خيرها وبركتها بالمحافظة على الصلوات المفروضة، وكثرة القيام وأداء الزكاة، وبذل الصدقات وحفظ الصيام، وكثرة الطاعات واجتناب المعاصي والسيئات، والندم والتوبة من الذنوب والخطايا، والإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن، ويستحب للمسلم أن يكثر فيها من الدعاء؛ لأن الدعاء فيها مستجاب، وليتخير من الدّعاء أجمعه؛ روى الترمذي، وابن ماجه بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها، قال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعفُ عنِّي))، فإن هذا الدعاء عظيم المعنى عميق الدلالة، وهو مناسب لهذه الليلة غاية المناسبة، فهي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، ويقدر فيها أعمال العباد لسنة كاملة حتى ليلة القدر الأخرى، فمن أعطي في تلك الليلة العافية، وعفا عنه ربُّه، فقد أفلح غاية الفلاح، ومن أعطي العافية في الدنيا وأعطيها في الآخرة فقد أفلح، والعافية لا يعدلها شيء؛ 

روى الترمذي في سننه عن العباس بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله - عزّ وجل - قال: ((سل الله العافية))، فمكثت أياما، ثم جئت، فقلت: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله، فقال لي: ((يا عبَّاس، يا عمّ رسول الله، سل الله العافية في الدنيا والآخرة))، 

فأكثروا عباد الله من سؤال الله العفو والعافية، ولا سيَّما في هذه الليالي الشريفة الفاضلة، واعلموا أن الله تبارك وتعالى عفو غفور؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى: 25]، فلم يزل سبحانه وتعالى ولا يزال بالعفو معروفًا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفًا، وكل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه.

 اللهم اشملنا بعفوك وأدخلنا في رحمتك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو العافية في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنَّا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنَّا.

 الخطبة الثانية :  عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله - عزّ وجل - والاجتهاد في طاعته والسعي في التقرُّب إليه بما يحب من صالح الأعمال، ولا سيَّما - عباد الله - ونحن نعيش هذه الأيام الفاضلة والليالي الكريمة، نعيش أوقات شريفة، نعيش العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك.

 عباد الله: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص هذه العشر بالاجتهاد في العمل أكثر من غيرها، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، وفي الصحيحين عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، شد مئزره وأحيى ليله وأيقظ أهله.

وقولها : " وأيقظ أهله " أي : أيقظ أزواجه للقيام ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة ، ولكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل ، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال : " سبحان الله ماذا أُنزل الليلة من الفتن ! ماذا أُنزل من الخزائن ! من يوقظ صواحب الحجرات ؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " البخاري (1074) وفيه كذلك أنه كان عليه السلام يوقظ عائشة رضي الله عنها إذا أراد أن يوتر البخاري (952) .  لكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة .

وفعله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربه ، ومبادرته الأوقات ، واغتنامه الأزمنة الفاضلة .

وهذا شامل بالاجتهاد فيها بكل طاعة وكل عبادة تقرِّب إلى الله جلّ وعلا بقراءة القرآن الكريم، والإكثار من ذكر الله تعالى والصلاة والاعتكاف والصدقة، وبذل الخير وصلة الأرحام، والإحسان إلى عباد الله، وغير ذلك من الأعمال الصالحات، والطاعات المقربة إلى الله جلّ وعلا وقد كان صلوات الله وسلامه عليه يتفرَّغ في هذه العشر لتلك الأعمال، فينبغي علينا الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، كما ينبغي - عباد الله - العناية بإيقاظ الأهل والأولاد، العناية بإيقاظ الأهل والأولاد وحثهم وتشجيعهم؛ ليشاركوا المسلمين في إظهار هذه الشعيرة، ويشتركوا معهم في الأجر، ويتربوا على طاعة الله وعبادة الله.

 ومن العبادات المشروعة في هذه العشر :  الاعتكاف ، والاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله تعالى ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف هذه العشر كما جاء في حديث أبى سعيد  أنه اعتكف العشر الأول ثم الوسط ، ثم أخبرهم انه كان يلتمس ليلة القدر ، وانه أريها في العشر الأواخر ، وقال : ( من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ) وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ، ثم اعتكف أزواجه من بعده متفق عليه ، ومن لم يستطع العشر كلها ، يعتكف ولو يوم ولو ساعات ..

عباد الله: قد غفل بعض الناس عن هذه الليالي ، لا يحترمون هذه الليالي ولا يعرفون حرمتها ومكانتها عند الله،، وهذا من الحِرْمان الواضح والخسران المبين، أن تأتي هذه الليالي المباركة، وتنتهي وبعض الناس في غفلة معرضون، لا يهتمون لها ولا يعظمونها ، يسهرون الليل كله أو معظمه في مالا فائدة فيه ، ويعطلون هذه الليالي عمّا خصصت له، وبعضهم ربما شغل هذه الليالي الشريفة الفاضلة المباركة بارتكاب الخطايا والآثام، والوقوع في المعاصي والذنوب، ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 

هاهي أيام العشر تحل لتكون الفرصة الأخيرة لمن فرط في أول الشهر، أو لتكون التاج الخاتم لمن أصلح ووفى فيما مضى، إخوة الإيمان العشر الأخيرة من شهر رمضان سوق عظيم يتنافس فيه العاكفون، وموسم يضيق فيه المفرطون، وامتحان تبتلى فيها الهمم، ويتميز أهل الآخرة من أهل الدنيا.. طالما تحدث الخطباء، وأطنب الوعاظ، وأفاض الناصحون بذكر فضائل هذه الليالي.. ويستجيب لهذا النداء الحاني، والموعظة المشفقة قلوب خالط الإيمان بشاشتها، وآذان أصغت للمنادي.. فسلكت هذه الفئة المستجيبة طريق المؤمنين، وانضمت إلى قافلة الركع الساجدين، واختلطت دموع أصحابها بدعائهم في جنح الظلام، وربك يسمع ويجيب، ويجزي العاملين المخلصين، وما ربك بظلام للعبيد.

 

الخميس، 22 أبريل 2021

خصائص امة محمد عليه الصلاة والسلام

 ( خصائص امة محمد عليه الصلاة والسلام ) 

الخطبة الأولى:

تمرُّ أمةُ الإسلام اليوم بمرحلةٍ تاريخيَّةٍ غير مسبُوقة؛ حيث تتوالَى الأحداثُ الضِّخام والمُتغيِّراتُ السريعة التي تدَعُ الحليمَ حيران. ويزدادُ كيدُ الأعداء وتربُّصُهم، مما جعلَ اليأسَ والوهَنَ يسرِي في قلوبِ كثيرٍ من أبناءِ الأمة، ودبَّ إلى بعضِهم الحُزنُ والشعورُ بالإحباطِ والعجزِ، وهم يرَون مكرَ الحاقِدين وقوَّتهم وجلَدَهم، ويُشاهِدون صُورَ القتل والدمار والتشريد، مع تلبُّسِ نفَرٍ من أبناءِ الأمة بأفكارِ غريبة عن ديننا وشرعنا 

 حتى تكوَّنَت عند فِئامٍ من الناسِ صُورةٌ قاتِمةٌ كئيبةٌ لحالِ الأمة الإسلامية ومُستقبلِها، وأحاطَت بهم خيالاتُ الوهمُ المُحبِط والهزيمة النفسيَّة.

 ولقد حذَّرَنا الله - سبحانه وتعالى - في آياتٍ كثيرةٍ من الوقوع في حالةِ الوهَن هذه، والشعورِ باليأسِ والحُزن؛ حيث قال - سبحانه -: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139]، وقال - سبحانه -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) [آل عمران: 146]، 

وأخبرَنا - سبحانه وتعالى - أن سُنَّته التي لا تتبدَّلُ، وعادتَه التي لا تتغيَّر أنه يُديلُ على عبادِه المُؤمنين بالابتِلاء والضَّعفِ، ثم تكونُ لهم العاقِبةُ والنصرُ والتمكينُ، ويُهلِكُ أعداءَهم ببأسِه الشديد وعذابِه المُهِين.

 أيها المسلمون: نحن أمَّةُ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - من شرقِها إلى غربِها لا يجوزُ لها أن تيأَسَ ولا أن تبتَئِس، ولا ينبغي لها أن تقعَ فريسةَ الإحباطِ واليأسِ المُهلِك الذي يشُلُّ تفكيرَها ويُعطِّل طاقاتِها وقُدراتِها، ويُفقِدُها الأملَ والرجاءَ بسببِ ما يفعلُه الكائِدُون والطُّغاةُ المُجرِمون، وبسبب ما تُشاهِدُه وتسمَعُه كلَّ يومٍ من مشاهِد الأسَى والألَمِ والقتلِ، التي تُساهِمُ وسائلُ الإعلام المُختلفة والتواصُل الاجتماعيُّ مُساهمةً فاعلةً في نشرِها، لتزيدَ من مُعاناةِ المُسلمين إرجافًا وإرهابًا وإضعافًا.

 نعم، لا يجوزُ أن تشعُر الأمةُ باليأسِ وقد بشَّرَها الله تعالى بالعزَّة والنصرِ والتمكين، وخصَّها بخصائِصَ كُبرى وفضائِلَ عُظمَى ليست لأحدٍ من الأُمَم، مما يجعلُها تفتخِرُ بتكريمِ الله لها، وتُباهِي الأُممَ، وترفعُ الرأسَ عاليًا، وهي التي اختارَها الله واصطفاهَا، فتبوَّأَت عنده - سبحانه - شرفًا عظيمًا، ومكانةً وفضلاً.

 وليعلَمَ الناسُ كلُّهم أن هذه الأمة المُحمديَّة هي التي يُحبُّها الله ويُعلِي قدرَها، وهي الأمةُ المنصُورةُ شرعًا وقدرًا، عاجلاً أم آجِلاً، وأن ما أصابَها من بلاءٍ ومِحنةٍ، وتسليطِ الأعداءِ، ونقصٍ في الأموال والأرزاقِ، إنما هو تمحيصٌ ورِفعةٌ وتربيةٌ لها، لتقومَ بما وكلَها الله - سبحانه وتعالى - به، (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) [آل عمران: 140].

 وثبتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - في "مسند الإمام أحمد" أنه قال: «بشِّر هذه الأمةَ بالسَّناءِ والدِّينِ والرِّفعةِ والنصرِ والتمكينِ في الأرضِ».

هذه الخصائصُ الشريفةُ للأمة المُحمديَّة ثابتةٌ بنُصوص القرآنِ والسنَّة، وهي كثيرةٌ ومُتنوِّعة، وإن أعظمَها قدرًا وأثرًا: أن جعلَ الله مُحمَّدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو نبيَّها ورسولَها، فهو أعظمُ الرُّسُل وأجلُّهم، وأمَّتُه أعظمُ الأُمم قدرًا ومنزلةً ومكانةً، وهي وإن كانت آخرَ الأُمم عددًا، إلا أنها تأتي أولَ الأُمم يوم القيامة، وهي خيرُها وأكرمُها على الله - سبحانه -.

 هذه الأمةُ المُحمديَّةُ المُبارَكة هي أمةُ الوسَط والعدل، جعلَها الله شاهِدةً وحاكمةً على الأُمم، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143].

  وهذه الأمةُ المُباركةُ اختارَ الله لها دينَ الإسلام ورضِيَه لها، وهو أعظمُ الأديان يُسرًا وسماحةً ومحاسِنًا، ورفعَ عنها - سبحانه وتعالى - الحرجَ في العبادات والمُعاملات، (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [الحج: 78].

ووضعَ الله - سبحانه - عن هذه الأمةِ الأغلالَ والآصارَ والرهبانيَّةَ الشديدةَ التي كانت على الأُمم قبلَنا.

 ومن عنايةِ الله بهذه الأمةِ ورعايتِه لها: أنه يبعَثُ لها على كلِّ رأسِ مائةِ سنةٍ من الحُكَّام، والعلماءِ، والمُصلِحين من يُجدِّدُ لها دينَها، ويُذكِّرُها بما اندرَسَ من أُصول الملَّة والشريعةِ. أما غيرُنا من الأُمم فلا يأبَهُ الله بهم، فلذلك وقعُوا في التحريف والتبديلِ والضلال.

 أمة الإسلام:

 وبسببِ قِصَر أعمارِ أفرادِ هذه الأمة - فهي ما بين الستِّين إلى السبعين في الغالِب - قبِلَ الله منها القليلَ من العمل، وأثابَها عليه الثوابَ الكثيرَ المُضاعَفَ الذي تفوقُ به الأُممَ قبلَنا الأطولَ أعمارًا؛ كالأُجور المُضاعفَةِ المُرتَّبة على الصلاةِ والحجِّ، وقراءة القرآن، وليلة القدر، وصيام النوافِل، والصلاة في الحرمين الشريفين وفي المسجِد الأقصَى، وغير ذلك.

 ومن تمامِ حفظِ الله لهذه الأمةِ والعنايةِ الإلهيَّةِ بها: أنه - سبحانه - حماها من الهلاكِ العام بالغرق أو بالسنين والقَحط، ولن يُسلِّطَ الله على هذه الأمة عدوًّا من غيرها فيتمكَّن منها ويستبيحَ أصلَها وجماعتَها، ولو اجتمعَ عليها من بأقطارِها.

 وحفِظَ - سبحانه وتعالى - هذه الأمةَ من عذابِ الاستِئصال، وليس عليها عذابٌ في الآخرة، إنما عذابُها في الدنيا بالفتن والزلازِل والمصائِب.

 وقضَى الله - سبحانه وتعالى - أن تكون الكعبةُ البيتُ الحرام قيامًا للناسِ، وأمانًا لهم، وهُدًى للعالمين، وجعلَ مسجِد نبيِّها - صلى الله عليه وآله وسلم - منارةً للعلمِ والنور، وتكفَّل الله بالشام وأهلِها، وأورثَ - سبحانه - هذه الأمة المسجِد الأقصَى وبيتَ المقدِس، وجعلَه حقًّا مشروعًا لها، وفتحَ - سبحانه وتعالى - للأمة كنوزَ الأرضِ وخيراتِها، وجعلَها تَفيضُ بالنِّعَم الظاهرة والباطِنة، فهي أمَّةٌ مُبارَكةٌ كثيرةُ الخيرات، كالغَيثِ لا يُدرَى أولُه خيرٌ أم آخرُه.

الخطبة الثانية :

 ومن آثارِ هذا التيسير والسماحَة: أن الله - سبحانه وتعالى - تجاوزَ عن هذه الأمة ما حدَّثَت بها أنفُسُها، ووسوسَت به صُدورُها، ما لم تكلَّم أو تعمَل، ، ويسَّر لها أمرَ طهارتها وعباداتها، وفضَّلها بالتيمُّم، وجعلَ لها الأرضَ مسجدًا وطهورًا، وخفَّف عنها الصلاةَ؛ فهي خمسٌ في الفعلِ وخمسُون في الأجر، وجعلَ صُفوفَها في الصلاةِ كصُفوفِ الملائِكةِ، وفضَّلَها وخصَّها بالتأمين خلفَ الإمام، والسلام، وصلاةِ العِشاء فلم يُصلِّها أحدٌ من الأُمم قبلَنا.

 وهدانا - سبحانه - إلى يوم الجُمعة، وأضلَّ عنه الأُمم الأُخرى، وأكرمَنا بالغداءِ المُبارَك "السَّحُور" الذي هو فصلُ ما بيننا وبين صيامِ أهل الكتاب، وأحلَّ للأمَّةِ الغنائِم التي حرَّمها على الأُمم قبلَنا، ونصرَها ونصرَ نبيَّها - صلى الله عليه وآلهوسلم - بالرُّعب، فما تزالُ الأُمم تهابُ أمَّةَ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتُجلُّها، لما وضعَ الله لها من المكانة والهَيبَة في قلوبِ الخلقِ.

وجعلَ - سبحانه وتعالى - مرضَ الطَّاعون إذا أصابَ أحدًا من هذه الأمة رحمةً وشهادةً، بينما كان هذا المرضُ عذابًا ورِجزًا على من كان قبلَنا، كما ثبتَ في "مسند الإمام أحمد": قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الطاعونُ كان عذابًا يبعثُه الله على من يشاءُ، وإن اللهَ جعلَه رحمةً للمُؤمنين».

 ليست هذه الخصائِصُ والفضائِلُ للأمةِ في الدنيا فقط؛ بل كذلك لهم خصائِصُ في الآخرة؛ فهي أولُ الأُمم التي يُبدأُ بها في الحسابِ أمام الله - سبحانه وتعالى -، وحوضُ نبيِّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - أعظمُ أحواضِ الأنبياء وأكثرُها وُرودًا.

 وتتميَّزُ هذه الأمةُ يوم القيامة بأنَّهم غُرٌّ مُحجَّلُون من آثار الوُضوء، سِيماهم في وُجوهِهم من أثر السُّجود، وهذه الأمةُ المُبارَكة أولُ الأُمم مُرورًا على الصِّراط، وأسبَقُ الناسِ دخولاً إلى الجنة 

 ونبيُّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الذي يشفعُ الشفاعةَ الكُبرى للناسِ في الموقِفِ الأكبر، بعد أن يعتذِرَ عنها الأنبياءُ - عليهم صلواتُ الله وسلامُه -.

ونبيُّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الذي يستفتِحُ بابَ الجنة، ولا تُفتحُ الجنةُ إلا له - عليه الصلاة والسلام -، ويدخلُ الجنةَ من هذه الأمة سبعُون ألفًا بلا حسابٍ ولا عذابٍ، مع كلِّ ألفٍ سبعُون ألفًا. وفي روايةٍ صحيحةٍ: مع كلِّ واحدٍ سبعُون ألفًا.

وأهلُ الجنة مائةٌ وعشرون صفًّا، ثمانُون صفًّا من هذه الأمة المُبارَكة، وأربعون من سائِر الأُمم.

 والمُسلمُ من هذه الأمة يغفِرُ الله له ذنوبَه بالتوبة والاستِغفار بلا واسِطةٍ ولا قرابينَ للبشر، وإذا ماتَ المُسلمُ على شهادةِ التوحيدِ دخلَ الجنةَ، وإذا لقِيَ اللهَ بقُرابِ الأرضِ خطايا وهو لا يُشرِكُ به شيئًا لقِيَه - سبحانه - بقُرابها مغفرة.

 فخيريَّةُ هذه الأمة حقٌّ ثابتٌ، ولا يجوزُ أن يتَّخِذَ البعضُ مما ذُكِر من الفضائلِ مُتَّكأً لمزيدٍ من الخُمول والضَّعفِ والتخاذُل، فإن للنصر أسبابًا وللتمكين أسبابًا، كما أن لنزول العذاب والعقاب أسبابًا، وتلك سُنَّةُ الله الجارِيةُ التي لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ.

الخميس، 15 أبريل 2021

( فضائل الصدقات )

 ( فضائل الصدقات )

الخطبة الأولى 

اعلموا ـ عباد الله ـ أن الصدقة باب للرزق فلا تغلقوه، وطريق للخير فلا تنكبوه، اطلبوا الرزق الواسع بها، فبها يبارك الله لك في رزقك القليل، 

 

فأنت بصدقتك أدخلت السرور والفرح على أهل بيت ضاقت بهم السبل واشتد عليهم الكرب، فجاءت صدقتك نورًا وأملاً يبدد ظلامهم الدامس ويأسهم القاتل، 

 

فالله سبحانه حقيق أن يبدد من حولك الظلمات، ويدخل على قلبك السعادة والأمل. فمن يُعطِ باليد القصيرة يُعطَ باليد المبسوطة، ويدك بالتأكيد هي اليد القصيرة، ويد مولاك سبحانه وتعالى هي اليد العظيمة المبسوطة .

 

استنزلوا الرزق بالصدقة، فقد فرض الله الزكاة تسبيبًا للرزق، فلا تبخل بحق الله في مالك، فهو الواهب وهو المانح، فإن مَنَعتَ مُنِعْتَ، فأي المنْعَيْن أشدّ؟! فإنّ لله في كل نعمة حقًا، فمن أداه زاده منها، ومن قصّر عنه خاطر بزوال نعمته.

 

الزكاة تحصين، والصدقة حفظ، والعطاء زيادة، والبذل سيادة. سوسوا إيمانكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء. 

 

استنزلوا الرزق بالصدقة، والمعنى: إذا افتقرتم وأعسرتم فتصدقوا بالقليل الذي تملكون، فإن الله يعطف الرزق عليكم بالصدقة، فكأنكم عاملتم الله بالتجارة، وإنها لتجارة رابحة، وها هنا أسرار لا تعلم.

 

فأين المتاجرون بالصدقات؟! أين المتاجرون بالبذل والإنفاق؟! أين المتاجرون بدفع الزّكوات؟! أين الذين يتاجرون في هذا كله مع الله؟! 

 

وهل يخسر تاجر يتاجر في تجارة مع الواسع العليم؟! مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261].

 

 

ومن الأحاديث الدالة على فضل الصدقة قوله : ((ما منكم من أحدٍ إلاّ سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) أخرجاه في الصحيحين. 

 

عباد الله، الصدقة : تطفئ غضبَ الله سبحانه وتعالى، كما في قوله : ((إن صدقة السّرّ تطفئ غضب الربّ تبارك وتعالى)) صححه الألباني في صحيح الترغيب. 

 

الصدقة : تمحو الخطيئة وتذهب نارها، كما في قوله : ((والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار)) صححه الألباني في صحيح الترغيب.

 

الصدقة : وقاية من النار، كما في قوله : ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)). 

 

المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة، كما في حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل امرئ في ظلّ صدقته حتى يقضى بين الناس)). وقد ذكر النبي أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) أخرجاه في الصحيحين. 

 

الصدقة دواء للأمراض البدنية، كما في قوله : ((داووا مرضاكم بالصدقة)). يقول ابن شقيق: سمعت ابن المبارك وسأله رجل عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال: اذهب فاحفر بئرًا في مكان حاجةٍ إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ.

 

الصدقة : فيها دواء للأمراض القلبية، كما في قوله لمن شكا إليه قسوة قلبه: ((إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح على رأس اليتيم)) رواه أحمد. 

 

الصدقة : يدفع الله يدفع بها أنواعًا من البلاء، كما في وصية يحيى عليه السلام لبني إسرائيل التي أخبرنا بها رسول الله : ((وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم)) وهو في صحيح الجامع. 

 

فالصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض مقرون به لأنهم قد جربوه. 

 

أن المنفق بالصدقة يدعو له الملك كلّ يوم بخلاف الممسك، وفي ذلك يقول : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)) أخرجاه في الصحيحين.

 

صاحب الصدقة يبارك له في ماله، كما أخبر النبي عن ذلك بقوله: ((ما نقصت صدقة من مال)) رواه مسلم.

 

لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به، كما في قوله تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ [البقرة: 272]. ولما سأل النبيّ عائشة رضي الله عنها عن الشاة التي ذبحوها: ((ما بقى منها؟)) قالت: ما بقى منها إلا كتفها، قال: ((بقي كلها غير كتفها)) رواه مسلم.  

 

الصدقة : أن صاحبها يدعى من باب خاصّ من أبواب الجنة، يقال له: باب الصدقة، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان))، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) أخرجاه في الصحيحين. 

 

الصدقة مطهرة للمال، تخلصه من الدَّخن الذي يصيبه من جراء اللغو والحلف والكذب والغفلة، فقد كان النَّبي يوصي التّجار بقوله: ((يا معشر التجار، إنَّ هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع.  

 الخطبة الثانية :

 

 

 

فيا من أنعم الله عليهم بالأموال، قدموا لأنفسكم من أموالكم ما تؤمّنون به مستقبلكم الحقيقي، واشتروا منازلكم في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء، في نعيم لا يَبِيد وقصر مَشِيد، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، 

 

وأقرضوا الله قرضًا حسنًا، فالله تعالى يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وساهموا في التجارة الرابحة مع الله عز وجل لعلكم تفلحون.

 

ألم يبلغنا قول الناصح الحبيب : ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تغدو مثل الجبل))؟!

 

فيا لها من أرباح عظيمة عظيمةويا له من كرم ما بعده كرم! يتصدق العبد بتمرة أو مثلها من كسب حلال فيقبلها الله تعالى ويربّيها له وينميها حتى تكون مثل الجبل، والله إنه لخير عظيم وفضل عميم، لا ينبغي لإنسان أن يسمع به ثم يزهد فيه، ولا لصاحب مال مهما قلَّ يبلغه هذا الفضل ثم يمسك ماله عن الإنفاق في سبيل الله، 

 

قال : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تَلَفًا))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((خلق الله جنة عدن بيده، ودلَّى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال: وعزتيوجلالي، لا يجاورني فيك بخيل)).

 

 

ويقول : ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلِم عبد مَظْلَمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)).