( أثر المعاصي على العباد والبلاد )
أيها المسلمون : إن للذنوب والآثام عواقب جسيمة لا يعلمها إلا الملك العلام، فكم أهلكت من أمم ماضية وشعوب كانت قائمة فهل ترى لهم من باقية، ولا تزال تهدم في بناء الامم حتى تتحقق فيهم سنة الله الجارية، قال جل وعلا: ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ).
وقال سبحانه: ( وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ) . فترى الأمم السالفة من عهد نوح إلى هذا الزمان كلما عصت أمة الله عز وجل، أجّلها مدة من الزمان لعلهم يتوبون ويرجعون، بل إنه مع عصيانهم لله عز وجل قد يُفتح عليهم بالنعم ولكنها استدراج، قال تعالى: ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) فبيّن تعالى أن الناس إذا تركوا ما أمرتهم به الرسل عليهم السلام فلم يأتمروا بأوامره ولم ينتهوا عن نواهيه فإنه تعالى قد يفتح عليهم الخيرات من سعة في الرزق ووفرة في الأموال وصحة في الأجسام وغيرها حتى إذا فرحوا بها واطمأنوا أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ولنا في الأمم السالفة العبر والعظات في بيان عقوبة المعاصي.
ما السبب في إخراج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ أليست المعاصي؟.
ما الذي أخرج إبليس عليه لعنة الله من ملكوت السماء وطرده من رحمة الله؟ أليست معصية الكبر والحسد؟، فُبدل بالقرب بعدا وبالرحمة لعنة وبالجنة نارا تلظى.
ما الذي جعل الماء يعلو الجبال الراسية في عهد نوح ويغرق قومه إلا من نجاه الله عز وجل؟ أليس المعاصي والشرك؟.
إهلاك قوم عاد بالريح العقيم فما الذي أرسلها عليهم حتى أصبحوا وكأنهم أعجاز نخل خاوية وعبرة للمعتبرين؟ أليست المعاصي؟.
ما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال وسبوا الذرية والنساء ونهبوا الأموال إنها المعاصي والذنوب قال عز وجل: ( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) .
وتتجلى عقوبة الله على المجتمعات بسبب الذنوب والمعاصي : في زوال النعم بمختلف أنواعها وأشكالها وحلول النقم والمحن والفتن مكانها ولقد بين الله تعالى ذلك فقال: ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ) .
فالله تعالى لا يسلب نعمة أنعمها على قوم أو أمة حتى يحدثوا تغييرا لما هم عليه من الخير والهداية إلى الشر والضلالة، وكذلك لا يغير ما حل بقوم جزاء عصيانهم من عذاب ونكال وذل وخذلان إلى نعمة ورخاء وسلامة وإخاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من الشرور والآثام إلى توبة خالصة وطاعة ترفعهم من رذائل الأخلاق وحضيض الفساد إلى الهداية والصلاح.
وهكذا تقتضى سنة الله وعدله أن يجزي بالإحسان إحسانا وبالسوء عقاباً وعذابا، فإن أحسن الناس كان إحسانهم لأنفسهم لأنه يجنون ثماره نعمة ورحمة وإن أساؤا فعواقب إساءتهم راجعة إليهم لا يضرون إلا أنفسهم، ومن النعم الكثيرة التي تؤثر فيها المعاصي بالنقص أو الزوال
نعمة الإيمان: إن بها سعادة العبد في دار الدنيا الآخرة قال تعالى: ) لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ( فالمعاصي تؤثر على إيمان العبد بالنقص أو الزوال حتى تجره إلى الكفر، وتتراكم على قلب العبد حتى يألفها ويصبح لا يأنس ولا يطمئن إلا بها، قال تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) فكذلك المجتمع فلا يزال يفعل المعاصي حتى تتغير القلوب ويعلوها الران وهناك تتغير الأعمال وتسوء الأحوال فينزل عذاب الله عز وجل.
نعمة الرزق والمال: فارتكاب المعاصي يؤدي إلى زوال هذه النعمة قال جل وعلا: ) وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ( فهذا مثل ضربه الله عز وجل لكل قرية أو بلدة تأتيها الخيرات من جميع الأماكن فإنها لما تكفر بهذه النعم وتخالف أمر الله عز وجل وتفعل أنواعا من المعاصي فإنه يحل بها ما حل بتلك القرية من الجوع والخوف جزاء وفاقا ) إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) .
ارتكاب المعاصي كما يزيل نعمة الإيمان من القلوب والرزق والمال ، يزيل نعمة الأمن في الأوطان: فإن نعمة الأمن والاستقرار لمن أعظم النعم التي يتمناها كل إنسان، كل منا يريد أن يكون آمنا على دينه وعلى نفسه و ماله وولده وهذا لا يكون إلا بتحقيقالإيمان، والابتعاد عن العصيان،
قال تعالى: ) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ( فإنه من آمن بالله تعالى وراقبه ولم يشرك به شيئا فله الأمن والأمان في الدنيا والآخرة ومن أعرض عن هذا كانت له الحياة الضنك قال تعالى: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) .
ومن عقوبات المعاصي : الخسران في الدنيا والشقاء في الآخرة فالمعاصي أيها الناس سبب لخسارة الدنيا والآخرة فهي تنسي العبد ذكر ربه والإنابة إليه، قال تعالى متوعدا من كان هذا شأنه: ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الخاسرون ) ، على العكس من ذلك أهل الصلاح والاستقامة الذين قال فيهم الله عز وجل: ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) .
فبسبب المعاصي يخسر الإنسان حياته وآخرته، والمعاصي لا يقتصر أثرها وضررها على الإنسان بل تتعدى إلى الأرض والحيوان، فهذا الحجر الأسود خير مثال، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله عيه الصلاة والسلام : ((نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم )
|
الخطبة الثانية
|
أيها المسلمون : إن للمعاصي آثارا وخيمة على مرتكبها أو على أسرته أو مجتمعه وعلى الأرض والسماء والدواب، قال تعالى: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) ،
وقال أيضا: ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا ( أي انتشرت المعاصي في البر والبحر وتبعها الشر والفساد فعبد غير الله تعالى واستبيحت محارمه وأوذي الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم نتيجة الإعراض عن دين الله وإهمال شريعته وعدم تنفيذ أحكامه وهذا كله بما كسبت أيدي الناس أي بظلمهم وكفرهم وفجورهم فأصابهم ما أصابهم من جدْب وقحط وفتن ليذيقهم الله بعض الذي عملوا من المعاصي لا بكل ما فعلوا، إذ لو أصابهم بكل ذنوبهم لأنهى حياتهم وقضى على وجودهم ولكنه الرحمن الرحيم بعباده حيث قال: ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ) .
وعن أبي قتادة بن ربعي أنه كان يحدّث أن رسول الله عليه الصلاة والسلام مر عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله من المستريح والمستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عز وجل والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب )). البخاري
فالمعاصي إذا فعلت أيها الناس أفسدت على العاصي كثيرا من أموره وإن آثار المعاصي أول ما تظهر إنما تظهر في القلوب، فالقلب هو لب الإنسان وبحياته تكون الحياة السعيدة وبموته تكون الحياة الشقية التعيسة، قال ابن القيم رحمه الله: إن مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر ولابد وأن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا بسبب الذنوب والمعاصي.
فبارتكاب المعاصي يكون فساد القلوب وضلالها وزيغها وذلها وهوانها
المعاصي تضعف في القلب تعظيم الرب جل وعلا ويصيبه كبرياءه وقد تؤدي الى عدم خوفه من الله وتعظيمه وإجلاله ، بل استخفافه بحق الله وآياته وأوامره ونواهيه
المعاصي تذهب حياء القلب وغيرته بل يصبح الإنسان لا يبالي بإخبار الناس عن سوء فعله أو قبيح قوله، ولقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) ومعناه أن الذي لا يستحي فإنه يصنع ما يشاء من المعاصي إذ الحامل على تركها هو الحياء، فإذا لم يكن هناك في قلبه حياء يردعه عن القبائح فإنه يفعلها ومن ذهاب الحياء من القلب أن يجهر الإنسان بمعاصيه فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من الجهر أن يعمل العبد بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره ربه فيقول: يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا)).
عباد الله : كل منا يريد البركة في نفسه وماله وولده وعمله.. كيف نحصل على البركة ؟ إن طريقها واحد لا يتعدد ،والحصول عليه لا يتغير قال الله تعالى: ) ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ).
من أراد البركة فعليه بالإيمان ،الإيمان الحقيقي لا الإيمان الصوري. من أراد البركة في رزقه وماله وولده وعلمه فعليه بتقوى الله عز وجل في كل شيء. ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم ).
ولو أراد أهل قرية أن يُعطوا من بركات الأرض وبركات السماء فعليهم بالإيمان والتقوى. أما أن يستمر أهل القرية على المعاصي،ويستمر أهل القرية على الغناء واللهو واللعب فمن أين يأتي البركة؟ كيف يريد أهل القرية بركات من السماء والأرض وما يزال هناك مظلومون ،وما يزال الغش وما تزال البدع قائمة
كيف يحصل البركة لأهل هذه القرية، وفساقها أكثر من صالحيها. ومنكرها أكثر من معروفها. من أين يأت البركة لأهل هذه القرية. وما يزال هناك نقص كبير في عدد المصلين وعدد المزكين ،وعدد التائبين. فإن لم يتغمد الله هذه القرية برحمته ،فإنها مُقدمة والعياذ بالله على دمار وهلاك
|