إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 31 يناير 2019

أثر المعاصي على العباد والبلاد

( أثر المعاصي على العباد والبلاد ) 


أيها المسلمون : إن للذنوب والآثام عواقب جسيمة لا يعلمها إلا الملك العلام، فكم أهلكت من أمم ماضية وشعوب كانت قائمة فهل ترى لهم من باقية، ولا تزال تهدم في بناء الامم حتى تتحقق فيهم سنة الله الجارية، قال جل وعلا: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ).
وقال سبحانه: وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ) . فترى الأمم السالفة من عهد نوح إلى هذا الزمان كلما عصت أمة الله عز وجل، أجّلها مدة من الزمان لعلهم يتوبون ويرجعون، بل إنه مع عصيانهم لله عز وجل قد يُفتح عليهم بالنعم ولكنها استدراج، قال تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فبيّن تعالى أن الناس إذا تركوا ما أمرتهم به الرسل عليهم السلام فلم يأتمروا بأوامره ولم ينتهوا عن نواهيه فإنه تعالى قد يفتح عليهم الخيرات من سعة في الرزق ووفرة في الأموال وصحة في الأجسام وغيرها حتى إذا فرحوا بها واطمأنوا أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ولنا في الأمم السالفة العبر والعظات في بيان عقوبة المعاصي.
ما السبب في إخراج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ أليست المعاصي؟.
ما الذي أخرج إبليس عليه لعنة الله من ملكوت السماء وطرده من رحمة الله؟ أليست معصية الكبر والحسد؟، فُبدل بالقرب بعدا وبالرحمة لعنة وبالجنة نارا تلظى.
ما الذي جعل الماء يعلو الجبال الراسية في عهد نوح ويغرق قومه إلا من نجاه الله عز وجل؟ أليس المعاصي والشرك؟.
إهلاك قوم عاد بالريح العقيم فما الذي أرسلها عليهم حتى أصبحوا وكأنهم أعجاز نخل خاوية وعبرة للمعتبرين؟ أليست المعاصي؟.
ما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال وسبوا الذرية والنساء ونهبوا الأموال إنها المعاصي والذنوب قال عز وجل: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
وتتجلى عقوبة الله على المجتمعات بسبب الذنوب والمعاصي : في زوال النعم بمختلف أنواعها وأشكالها وحلول النقم والمحن والفتن مكانها ولقد بين الله تعالى ذلك فقال: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ) .
فالله تعالى لا يسلب نعمة أنعمها على قوم أو أمة حتى يحدثوا تغييرا لما هم عليه من الخير والهداية إلى الشر والضلالة، وكذلك لا يغير ما حل بقوم جزاء عصيانهم من عذاب ونكال وذل وخذلان إلى نعمة ورخاء وسلامة وإخاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من الشرور والآثام إلى توبة خالصة وطاعة ترفعهم من رذائل الأخلاق وحضيض الفساد إلى الهداية والصلاح.
وهكذا تقتضى سنة الله وعدله أن يجزي بالإحسان إحسانا وبالسوء عقاباً وعذابا، فإن أحسن الناس كان إحسانهم لأنفسهم لأنه يجنون ثماره نعمة ورحمة وإن أساؤا فعواقب إساءتهم راجعة إليهم لا يضرون إلا أنفسهم، ومن النعم الكثيرة التي تؤثر فيها المعاصي بالنقص أو الزوال 
نعمة الإيمان: إن بها سعادة العبد في دار الدنيا الآخرة قال تعالى: لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون فالمعاصي تؤثر على إيمان العبد بالنقص أو الزوال حتى تجره إلى الكفر، وتتراكم على قلب العبد حتى يألفها ويصبح لا يأنس ولا يطمئن إلا بها، قال تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فكذلك المجتمع فلا يزال يفعل المعاصي حتى تتغير القلوب ويعلوها الران وهناك تتغير الأعمال وتسوء الأحوال فينزل عذاب الله عز وجل.
نعمة الرزق والمال: فارتكاب المعاصي يؤدي إلى زوال هذه النعمة قال جل وعلا: وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون فهذا مثل ضربه الله عز وجل لكل قرية أو بلدة تأتيها الخيرات من جميع الأماكن فإنها لما تكفر بهذه النعم وتخالف أمر الله عز وجل وتفعل أنواعا من المعاصي فإنه يحل بها ما حل بتلك القرية من الجوع والخوف جزاء وفاقا إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) .
ارتكاب المعاصي كما يزيل نعمة الإيمان من القلوب والرزق والمال ، يزيل نعمة الأمن في الأوطان: فإن نعمة الأمن والاستقرار لمن أعظم النعم التي يتمناها كل إنسان، كل منا يريد أن يكون آمنا على دينه وعلى نفسه و ماله وولده وهذا لا يكون إلا بتحقيقالإيمان، والابتعاد عن العصيان،
قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون فإنه من آمن بالله تعالى وراقبه ولم يشرك به شيئا فله الأمن والأمان في الدنيا والآخرة ومن أعرض عن هذا كانت له الحياة الضنك قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) .
ومن عقوبات المعاصي : الخسران في الدنيا والشقاء في الآخرة فالمعاصي أيها الناس سبب لخسارة الدنيا والآخرة فهي تنسي العبد ذكر ربه والإنابة إليه، قال تعالى متوعدا من كان هذا شأنه: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الخاسرون ، على العكس من ذلك أهل الصلاح والاستقامة الذين قال فيهم الله عز وجل: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) .
فبسبب المعاصي يخسر الإنسان حياته وآخرته، والمعاصي لا يقتصر أثرها وضررها على الإنسان بل تتعدى إلى الأرض والحيوان، فهذا الحجر الأسود خير مثال، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله عيه الصلاة والسلام : ((نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم )

الخطبة الثانية 
أيها المسلمون : إن للمعاصي آثارا وخيمة على مرتكبها أو على أسرته أو مجتمعه وعلى الأرض والسماء والدواب، قال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ، 
وقال أيضا: وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا أي انتشرت المعاصي في البر والبحر وتبعها الشر والفساد فعبد غير الله تعالى واستبيحت محارمه وأوذي الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم نتيجة الإعراض عن دين الله وإهمال شريعته وعدم تنفيذ أحكامه وهذا كله بما كسبت أيدي الناس أي بظلمهم وكفرهم وفجورهم فأصابهم ما أصابهم من جدْب وقحط وفتن ليذيقهم الله بعض الذي عملوا من المعاصي لا بكل ما فعلوا، إذ لو أصابهم بكل ذنوبهم لأنهى حياتهم وقضى على وجودهم ولكنه الرحمن الرحيم بعباده حيث قال: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا .
وعن أبي قتادة بن ربعي أنه كان يحدّث أن رسول الله عليه الصلاة والسلام مر عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله من المستريح والمستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عز وجل والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب )). البخاري
فالمعاصي إذا فعلت أيها الناس أفسدت على العاصي كثيرا من أموره وإن آثار المعاصي أول ما تظهر إنما تظهر في القلوب، فالقلب هو لب الإنسان وبحياته تكون الحياة السعيدة وبموته تكون الحياة الشقية التعيسة، قال ابن القيم رحمه الله: إن مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر ولابد وأن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا بسبب الذنوب والمعاصي. 
فبارتكاب المعاصي يكون فساد القلوب وضلالها وزيغها وذلها وهوانها
المعاصي تضعف في القلب تعظيم الرب جل وعلا ويصيبه كبرياءه وقد تؤدي الى عدم خوفه من الله وتعظيمه وإجلاله ، بل استخفافه بحق الله وآياته وأوامره ونواهيه 
المعاصي تذهب حياء القلب وغيرته بل يصبح الإنسان لا يبالي بإخبار الناس عن سوء فعله أو قبيح قوله، ولقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) ومعناه أن الذي لا يستحي فإنه يصنع ما يشاء من المعاصي إذ الحامل على تركها هو الحياء، فإذا لم يكن هناك في قلبه حياء يردعه عن القبائح فإنه يفعلها ومن ذهاب الحياء من القلب أن يجهر الإنسان بمعاصيه فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من الجهر أن يعمل العبد بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره ربه فيقول: يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا)).
عباد الله : كل منا يريد البركة في نفسه وماله وولده وعمله.. كيف نحصل على البركة ؟ إن طريقها واحد لا يتعدد ،والحصول عليه لا يتغير قال الله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) 
من أراد البركة فعليه بالإيمان ،الإيمان الحقيقي لا الإيمان الصوري. من أراد البركة في رزقه وماله وولده وعلمه فعليه بتقوى الله عز وجل في كل شيء. ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم )
ولو أراد أهل قرية أن يُعطوا من بركات الأرض وبركات السماء فعليهم بالإيمان والتقوى. أما أن يستمر أهل القرية على المعاصي،ويستمر أهل القرية على الغناء واللهو واللعب فمن أين يأتي البركة؟ كيف يريد أهل القرية بركات من السماء والأرض وما يزال هناك مظلومون ،وما يزال الغش وما تزال البدع قائمة
كيف يحصل البركة لأهل هذه القرية، وفساقها أكثر من صالحيها. ومنكرها أكثر من معروفها. من أين يأت البركة لأهل هذه القرية. وما يزال هناك نقص كبير في عدد المصلين وعدد المزكين ،وعدد التائبين. فإن لم يتغمد الله هذه القرية برحمته ،فإنها مُقدمة والعياذ بالله على دمار وهلاك


الأربعاء، 30 يناير 2019

محبة الله والطريق اليها

( محبة الله والطريق إليها ) 
الخطبة الأولى 

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأطيعوه حبًا وإجلالاً وطمعًا في ثوابه، وخوفـًا من عقابه، فهو الإله الذي تؤلهه القلوب وتعبده محبة وإجلالاً وتعظيمًا، وإذا كانت القلوب قد جبلت على حب من أحسن إليها فإن كل إحسان وكل نعمة فمصدر ذلك منه سبحانه: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ) [النحل:53]. فيجب على العبد أن يحبه غاية الحب ويعبده وحده لا شريك له، ومحبة العبد لربه لها علامات تدل عليها، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) [آل عمران:31]. فعلامة محبة العبد لله أن يكون متبعًا لرسوله يفعل ما أمر به ويترك ما نهى عنه قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى ) أما من ادعى أنه يحب الله وهو مخالف لرسوله فإنه كاذب في دعواه، قال بعض السلف: ادّعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى
وقوله تعالى: يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْإشارة إلى ثمرة محبة الله وفائدتها، وهي أن من أحب الله أحبه الله وغفر له ذنوبه، قال تعالى: ءيٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ[المائدة:54]. فذكر في هذه الآية الكريمة أن محبة العبد لربه لها أربع علامات:-
الأولى: الذلة على المؤمنين. بمعنى أن يكون رحيمًا بهم عاطفـًا عليهم محسنًا إليهم .
الثانية: العزة على الكافرين. بمعنى أنه يكون شديدًا عليهم مبغضًا لهم كما قال الله تعالى: أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ[الفتح:29].
الثالثة: أن يكون مجاهدًا في سبيل الله بالنفس والمال واللسان والقلب .
الرابعة: أن يكون لا تأخذه في الله لومة لائم، بحيث لا يؤثر فيه لوم الناس له على ما يبذله من الجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا يمنعه لوم الناس له عن الاستمرار في ذلك.
ومن علامة صدق العبد في محبته لله أن يُقدم ما يحبه الله على ما تحبه نفسه، وما يميل إليه هواه وطبعه من المال والقرابة والوطن، قال تعالى: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوٰنُكُمْ وَأَزْوٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ[التوبة:24]. أمر الله نبيه أن يتوعد من قدم محبة هذه  الثمانية: أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثرها - أو بعضها - على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها كالجهاد والهجرة ونحو ذلك.
قال ابن كثير  رحمه الله  في تفسير هذه الآية: أي إن كانت هذه الأشياء أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ ) أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه، ولهذا آثر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ما يحبه الله على ما يحبونه، فقدموا أنفسهم وأموالهم للجهاد والإنفاق في سبيله مع ما في ذلك من القتل ونفاد الأموال. وترك المهاجرين ديارهم وأموالهم وأولادهم وانتقلوا من وطنهم الأصلي إلى دار الهجرة يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله، وقال الله فيهم: أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ[الحشر:8].
فقارنوا يا عـباد الله بين حـال أكثرنا اليوم وحـال هؤلاء الصادقين، فالكثير منا اليوم يقدم هوى نفسه على طاعة ربه، فإذا دعي إلى الصلاة في المسجد آثر النوم والراحة أو اللهو واللعب ولم يخرج إلى الصلاة ولم يجب داعي الله. وإنما يجيب داعي الشيطان والهوى والنفس، وإذا دعي إلى الصلاة وهو في متجره أو عمله آثر طلب الدنيا على طلب الآخرة، فأقبل على البيع والشراء بأداء العمل الدنيوي ولم يذهب إلى الصلاة وعصى أمر ربه في قوله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ) [الجمعة:9]. وفي قوله تعالى: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ ) [النور:36،37].
والتاجر الذي يأخذ المال بطرق محرمة كالربا والغش والكذب قد آثر حب المال على حب الله، والبخيل الذي يمنع الحقوق الواجبة في ماله كالزكاة والإنفاق في سبيل الله قد آثر حب المال على حب الله ونسي قوله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) [آل عمران:180].
والوالد حينما يؤمر بإلزام أولاده بالصلاة وإحضارهم إلى المسجد وإنقاذهم من النار كما قال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ) [التحريم:6] وقوله عليه الصلاة والسلام : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)) ، فإنه لا يبالي بأمر الله ورسوله ويترك أولاده في بيته لا يشهدون صلاة ولا يعرفون مسجدًا،لأنه آثر حب أولاده على محبة الله فهو لا يريد أن يضربهم أو يغضبهم ولو عصوا ربهم وتركوا واجبهم، فصارت محبة الأولاد أشد عنده من محبة الله، واتقاء غضب الأولاد أهم في نظره من اتقاء غضب الله، وإلا لو كان الأمر بالعكس لقدم أمر الله على محبتهم.
وهذا خليل الله إبراهيم  عليه  الصلاة والسلام  لما أمره الله بذبح ابنه الذي وهبه الله له بعد كبر سِنّه بادر إلى امتثال أمر ربه وتقديم محبة الله على محبة هذا الابن. ولما ظهرت نيته وخالص محبته لربه نسخ الله الأمر بذبح الابن وفداه بذبح عظيم، وبشره بابن آخر هو إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، كل هذا ببركة طاعة الله وتقديم محبته على محبة غيره.
عباد الله: وكما تجب محبة الله تعالى تجب محبة رسوله عليه الصلاة والسلام وهي تابعة لمحبة الله ولازمة لها، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) أخرجاه في (الصحيحين). وروى البخاري عن عمر بن الخطابرضي الله عنه : أنه قال للرسول عليه الصلاة والسلام : لأنت يا رسول أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)). فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ((الآن يا عمر)).
وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي دلنا على الخير وبين لنا طريق النجاة وسبيل السعادة وحذرنا من الشر والهلاك وبسببه اهتدينا، ومحبته عليه الصلاة والسلام تقتضي متابعته وطاعته، فمن ادعى محبته بدون متابعته أو ادعى محبته ولم يتمسك بسنته ولم يترك البدع المخالفة لسنته، فهو كاذب في دعوى محبته لرسول الله عليه الصلاة والسلام لأن محبته تقتضي فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وقد قال الله تعالى: مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ ) [النساء:80]، فالذي يدعي محبته ويخالف سنته ويعمل بالبدع والخرافات هو كاذب في دعواه.
ومن علامة محبة العبد لله ورسوله: أن يُحب من يحبهم الله ورسوله، فالله يحب المحسنين المتقين ويحب التوابين ويحب المتطهرين، والقرآن والسنة يكثر فيهما ذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين وما يحبه الله من أعمالهم وأخلاقهم، وفي (الصحيحين)، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن  يحب المرء لا يحبه إلا لله، و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) 
وعن ابن عباس  رضي الله عنهما  قال: (من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان ولو كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أنفسهم شيئـًا) رواه ابن جرير. فمن أحب الله تعالى أحب فيه ووالى أولياءه وعادى أعداءه، فمن كان كذلك تولاه الله. ومن لم يكن كذلك فإن الله لا يتولاه، وإذا لم يتوله الله تولاه أعداؤه، قال الله تعالى: ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ ) [البقرة:257].


الخطبة الثانية 
 أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن من علامات محبة الله بغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال والأقوال، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) [لقمان:18]. وقال تعالى: وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ ) [آل عمران:57]، وقال تعالى: وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ ) [البقرة:205]. فيجب على المؤمن الذي يحب الله أن يبغض ما يبغضه الله، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ) [الممتحنة:1]. وقال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ) [الممتحنة:13]. وقال تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) [المجادلة:22]. فأوجب سبحانه في هذه الآيات بغض أعداء الله المحادين له الذين غضب الله عليهم من الكفار والمنافقين والمتكبرين، ولو كانوا من أقرب الأقربين، كما أوجب سبحانه على المؤمن بغض المعاصي من الكفر والفسوق والعصيان لأن الله يبغضها فيكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار، كما جاء في الحديث، واعلموا أن كل محبة تأسست على معصية الله ستنقلب عداوة يوم القيامة، قال تعالى: ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ ) [الزخرف: 67]، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً * يٰوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ٱلذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِلإِنْسَـٰنِ خَذُولاً ) [الفرقان:27-29]. وقال تعالى: وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) [العنكبوت:25]، فاتقوا الله وانظروا من تحبون وتصاحبون فإن المرء يكون مع من أحب يوم القيامة، وقد ذكر العلاّمة ابن القيم رحمه الله أن الأسباب الجالبة لمحبة الله عشرة:
الأول: قراءة القرآن وتدبره.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
الثالث: دوام ذكر الله على كل حال بالقلب واللسان والعمل.
الرابع :إيثار محاب الله على محاب النفس.
الخامس: التأمل في أسماء الله وصفاته،فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة.
السادس: التأمل في نعم الله تعالى على العبد فإن التأمل فيها يدعو إلى محبة المنعم.
السابع: انكسار القلب بين يدي الله تعالى.
الثامن: الخلوة بالله وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه حين يبقى ثلث الليل الأخير وختم ذلك بالاستغفار.
التاسع: مجالسة الصالحين المحبين الصادقين والاقتداء بهم.
العاشر: الابتعاد عن كل الأسباب التي تَحُول بين القلب وبين الله عز وجل.
فاتخذوا هذه الأسباب رحمكم الله للحصول على محبة الله  عز وجل  وابتعدوا عن أضدادها.

1

الجمعة، 25 يناير 2019

التعلق بالله والاستغناء عن الخلق

( التعلق بالله والاستغناء عن الخلق ) 
الخطبة الأولى: 
فإنَّ التعلُّقَ بالله سبب لكل خير، وهو روح التوحيد وأساس السعادة، وهل بعثت الرسل ونزلت الكتب إلا لذلك؟! والانشغال عن ذلك والغفلة عنه والتعلق بغير الله أعظم خذلان وأكبر حرمان، 
عن عثمان بن أبي العاص الثقفي -رضي الله عنه- أنه شكا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعًا يجده في جسده منذُ أسلم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم : "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأُحاذر". رواه مسلم.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا فقال : "يا غلام: إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". رواه الترمذي.

وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد ذات يوم، فرأى فيه رجلاً من الأنصار، يقال له: أبو أُمامة، فقال: "يا أبا أمامة: ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟!"، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: "أفلا أعلِّمُك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله -عز وجل- همَّك وقضى عنك دينَك؟!"، قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غَلَبَة الدين وقهر الرجال". قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله -عز وجل- همي وقضى عني ديني.اصل الحديث ثابت من غير قصة ابو امامة ) 

ولما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأن سبعين ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب قال معرفًا بصفاتهم : "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون". رواه الشيخان. وإنما تركوا ذلك لكمال تعلقهم بالله.

وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال : جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : عظني وأوجز، فقال: "إِذَا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ فَصَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ، وَلا تَكَلَّمْ بِكَلامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ ، وَأجْمَعْ الِيَأسَ عمَّا فِي أيَدَيْ النَّاسِ". صحيح ابن ماجه الالباني

قال السعدي -رحمه الله- في بهجة قلوب الأبرار "هذه الوصية توطين للنفس على التعلق بالله وحده في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله، ولا يطمع إلا في فضله. ويوطن نفسه على اليأس مما في أيدي الناس؛ فإن اليأس عصمة. ومن أَيِس من شيء استغنى عنه، فكما أنه لا يسأل بلسانه إلا الله، فلا يعلق قلبه إلا بالله، فيبقى عبدًا لله حقيقة، سالمًا من عبودية الخلق، قد تحرّر من رقِّهم، واكتسب بذلك العز والشرف؛ فإن المتعلق بالخلق يكتسب الذل والسقوط بحسب تعلقه بهم".
وفي سنن ابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ فقال: يا رسول الله : دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبَّك الناس". صحيح ابن ماجه  الالباني

وكل حديث رهَّب فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سؤال الناس فإنه يربي على التعلق بالله، ومن ذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَة لحم". رواه البخاري ومسلم. 

ومن ثمرات التعلق بالله والاستغناء عن الناس: الكفاية والوقاية؛ قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3].
والمعنى أن الله كافيه؛ فإنه سبحانه بالغ ما يريده من الأمر لا يفوته شيء، ولا يعجزه مطلوب.

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل". رواه أبو داود والترمذي. ( حسن لغيره ) الالباني

قال عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت : حدثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى الله -تبارك وتعالى- إلى نبيه داوُد -عليه السلام "يا داوُد: أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبدٌ من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن مخرجًا، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبدٌ من عبادي بمخلوقٍ دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعتُ أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدمه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك".

ومن الثمرات كذلك: عزُّ المؤمن باستغنائه عن الخلق؛ فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا محمد: عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزَّه استغناؤه عن الناس". رواه الطبراني في الأوسط. والعزُّ ضد الذل. ( حسن بمجموع طرقه ) الالباني السلسلة الصحيحة

ومن صور التعلق بالله والاستغناء عن الخلق: في الصحيحين عن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ -شجر شوك-

فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم تَحْتَ سَمُرَةٍ -شجر الطلح- فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟! قُلْتُ: اللَّهُ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ". ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.


ومما يحمل على التعلق بالله -عز وجل-: آية وحديث : أما الآية فقول الله تعالى: ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107].

وأما الحديث فقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفت الصحف". رواه الترمذي.

قال بعض السلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة يقول الله -عز وجل-: "يؤمل غيري للشدائد، والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجى غيري، ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملّني لنائبة فقطعت به؟! أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه؟! ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له؟! أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني؟! أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟! أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟! فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟! ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع وبلّغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضوُ ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قَيِّمُه؟! فيا بؤسًا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسًا لمن عصاني ووثب على محارمي". ذكر ذلك ابن رجب في نور الاقتباس.
الخطبة الثانية :
عباد الله: من تعلّق بغير الله عذب به؛ 
فعليك أولاً: بالصبر ومجاهدة النفس؛ 
وثانيًا: بالدعاء؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى". رواه مسلم.

ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا: والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك، وفي ذلك قيل:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما *** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم"
قال بعضهم : التعلق بغير الله تعالى يشبه إلى حد كبير الكرسي الهزاز، الذي لا يكف عن الحركة، لكنه في واقع الأمر لا يوصلك إلى أي مكان آخر، يظل يتحرك بك لكنك في النهاية لم تذهب إلى أي مكان، وهكذا هو حال المتعلق بغير الله تعالى، يطرق جميع الأبواب، ويعتمد على كل المخلوقين، ويتعلق بهم قلبه، وينفق ذات اليمين وذات الشمال من وقته ومجهوده وسعيه، ولكنه في النهاية لا يحصِّل أية نتيجة، بل ربما يكون سعيه وبالاً عليه
ولذا نجد أن دين الله تعالى يربي المؤمنين على تعلق قلوبهم بالله تعالى، وتوكلهم عليه دون سواه، وتجريد العبودية له لا لغيره.
وإذا كانت مقادير كل شيء بيده سبحانه، ومصير العباد إليه، وآجالهم وأرزاقهم عنده، بل سعادتهم وشقاؤهم في الدنيا والآخرة لا يملكها أحد سواه عز وجل - وجب أن تتعلق القلوب به وحده، وأن لا تذل إلا له، ولا تعتز إلا به، ولا تتوكل إلا عليه، ولا تركن إلا إليه ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) [التوبة:51].
فالنفع والضر بيده سبحانه، ولا يملكهما غيره، ولا يقعان إلا بقدره ( قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ) [الأحزاب:17] 
والقوة والغلبة لله تعالى يمنحها من يشاء ولو كانوا قلة مستضعفين، أذلة مستضامين ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله ) [البقرة:249] ونَصَرَ الله تعالى أهل بدر وهم الأقل والأضعف ، وكان عدوهم أكثر وأقوى في الظاهر ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) [آل عمران:123].
والذين لجئوا إلى غير الله تعالى يبتغون القوة والغلبة منهم ما نفعوهم من الله تعالى شيئا ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ ) [البقرة:165].
وتَعَلُّقُ القلب بالله وحده، واللجوءُ إليه سبحانه هو سبيل الرسل الكرام عليهم السلام، وبهنُصروا على أعدائهم، وأظهرهم الله تعالى في الأرض، وكتب لهم العزة والغلبة، وجعل العاقبة لهم، 
ولما ابتُلي موسى عليه السلام بأقوى سلطة، وأعتى طاغية، وخشي المؤمنون من أتباعه الهلكة كان موسى عليه السلام قد علق قلبه بالله تعالى في تلك الساعة الحرجة ( فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) [الشعراء:61-62] فنجاه الله تعالى والمؤمنين معه، وأهلك فرعون وجنده.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم لما اجتمع عليهم كَلَب الكافرين، وتخذيل المنافقين، وكيد اليهود - قابلوا ذلك بالتوكل على الله تعالى، وعدم التنازل عن شيء من دينهم، وعلقوا قلوبهم بربهم عز وجل، فكفاهم الله تعالى شر أعدائهم، وكتب العز والغلبة لهم، وقد جاء ذكر ذلك في قرآن يتلى إلى يوم القيامة ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) [آل عمران:174].