إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 25 فبراير 2021

لا تغضب

 ( لا تغضب ) 

الخطبة الأولى:

أمَّا بعد: فإنَّ جِماعَ الشرِّ في الغضب، وهو مصدر كلِّ بليّة، كم مُزِّقت به من صِلات!، وقُطِّعت به من أرحام!، وتفكَّكَتْ بسببه شراكات!, وأُشعلت به عداوات!، وارتُكبت بسببه تصرفات وحماقات يندم عليها صاحِبُها ساعة لا ينفع الندم.

وحقيقة الغضب: غليان في القلب، وهيجان في المشاعر، يسري في النفس، فترى صاحِبَه مُحْمَرَّ الوجه، تقدح في عينيه الشَّرَر، فبَعْدَ أنْ كان هادئاً مُتَّزناً، إذا به يتحوَّل إلى بُركانٍ ثائر يقذف حمَمَه في كلِّ اتِّجاه؛ لذا جاءت وصية النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بترك الغضب؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَوْصِنِي, قَالَ "لاَ تَغْضَبْ"؛ فَرَدَّدَ مِرَارًا, قَالَ: "لاَ تَغْضَبْ"(رواه البخاري).

وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَخْبِرْنِي بِكَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ, وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى, قَالَ: "اجْتَنِبِ الْغَضَبَ"، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "اجْتَنِبِ الْغَضَبَ" (رواه أحمد). 

وفي رواية: قال رجلٌ: يا رسول الله! أوْصِنِي. قال: "لا تَغْضَبْ"، قال: فَفَكَّرْتُ حينَ قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ما قالَهُ، فإذا الغَضَبُ يجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّه. (رواه أحمد).

عباد الله: إنَّ الغضبَ مِفتاحُ كلِّ شر. قيل لابن المبارك: اجمعْ لنا الخُلُقَ في كلمة؟ قال: "تَرْكُ الغضب". 

لذا أمَرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلمبالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُق؛ من الحلم, والحياء, والتواضعوالاحتمال, وكفِّ الأذى, والصَّفح, والعفو, وكظم الغيظ, والطلاقة, والبِشرونحو ذلك من الأخلاق الجميلة, فإنَّ النفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاقوصارت لها عادة؛ أوجَبَ لها ذلك دفعَ الغضب عند حصول أسبابه

ولو اجتنب الناسُ الغضبَ وأسبابَه -عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلملَمَا وقعوا في المحذور؛ فكم من سجينٍ بسبب غضب!, وكم من طلاقٍ وَقَعَ بسبب غضب!, وكم من قطيعةِ رَحِمٍ سببها الغضب!, وكم أُزْهِقَتْ أرواح, ووقعت مصائب وكوارث بسبب الغضب!

فينبغي على المرء أنْ يُجاهِد نفسَه على ترك الغضب؛ فإنَّ الغضبَ إذا مَلَكَ ابنَ آدمَ كان الآمِرَ والناهِيَ له, 

وقال -تعالى-: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى: 37], وقال -سبحانه-: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 134]. فمَنْ جاهَدَ نفسَه اندفَعَ عنه شرُّ الغَضَب.

ومِمَّا يدفع الغضبَ ويُسكِّنه: التَّعوذُ بالله -تعالى- من الشيطان الرجيم, فعن سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا, قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ, فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ, لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ", فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ (رواه البخاري ومسلم).

والسُّكوتُ عِلاجٌ ناجِعٌ للغضب؛ فعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-؛ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ"، قالها ثلاثاً(رواه أحمد)؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه -من السِّباب وغيره- ما يندم عليه بعد زوال الغضب. قال مورِّقٌ العجلي -رحمه الله-: "ما امتلأتُ غيظاً قطُّ, ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ, بما أندمُ عليه إذا رضيتُ".

وكَبْحُ الغضبِ يحتاج إلى جهادٍ وقوةٍ, وتَحَكُّمٍ في الذَّات؛ يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ"(رواه البخاري ومسلم)؛ فالشديد القوي هو الذي يَصْرَع نفسَه إذا صارعته وغَضِبمَلَكَها وتَحَكَّم فيها، فهذه هي القوة الحقيقة؛ قوةٌ داخليةٌ معنوية يتغلب بها الإنسان على نفسِه وهواه, ووساوس الشيطان

والأفضلُ لِمَنْ كان غاضباً أنْ يجلس, فإنْ ذَهَبَ عنه الغضب؛ وإلاَّ فليضجع. قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ, فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ؛ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ"(رواه أحمد).

ومِمَّا يُكافأ به مَنْ كَظَمَ غيظَه وغضبَه: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ"(رواه أبو داود). 

وكَظْمُ الغيظِ والغضبِ فيه أجرٌ عظيم؛ قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ"(رواه ابن ماجه). 

 قال ميمون بن مِهران: "جاء رجلٌ إلى سلمان، فقال: يا أبا عبدِ الله! أوصني، قال: لا تغضبْ، قال: أمرتني أنْ لا أغضب, وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ، قال: فإنْ غضبتَ، فامْلِكْ لِسانَك ويَدَك".

 ومن صِفات المؤمن: أنه إذا ذُكِّرَ بالله عند الغضب تذكَّر, وعاد إلى الحقولم يتجاوزه. وإذا صدر منه قول أو فعل حال غضبه؛ فَلْيَعُدْ إلى الصوابوإذا كان مُغضباً فوقع الخطأ منه تِجاه الآخرين؛ فَلْيُبادِرْ إلى الاعتذار, أو لِيَدْعُو لهم بظهر الغيب؛ 

قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ, أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ, وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ, فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ؛ أَنْ تَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا, وَزَكَاةً, وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رواه مسلم).

والتَّغافل من الأمور المُهمة في دفع الغَضَب, وتفويتِ الفرصة على الشيطان؛ عن محمَّد بن عبدالله الخزاعي قال: "سمعتُ عثمانَ بن زائدة يقولُ: العافيةُ عَشَرةُ أَجزاءٍ؛ تسعةٌ منها في التَّغافُل، قال: فَحدَّثتُ به أحمدَ بنَ حنبلٍ، فقال: العافِيةُ عَشَرةُ أَجزاءٍ؛ كُلُّها في التَّغافُل".

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون: يجب على الإنسان ألاَّ يُخرجه الغضبُ عن حَدِّ الاعتدال في القول والفعل؛ ومن دعاء النبيِّ -صلى الله عليه وسلم "أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا" (رواه أحمد). 

قال ابن رجب -رحمه الله-: "وهذا عزيزٌ جدًّا، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سِوَى الحقِّ؛ سواء غَضِبَ أو رَضِي، فإنَّ أكثر الناس إذا غَضِبَ لا يتوقَّف فيما يقول".

واللائق بالمؤمن أن يقتدي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغضب؛ حيث كان لا يغضب لنفسِه, ولا يُقابل السيئةَ بالسيئة, ولكن يتجاوز, ويعفو, ويصفح, وكان لا ينتقملنفسه, ولكنه كان أشدَّ الناسِ غضباً إذا انتُهِكتْ حُرماتُ الله, فإذا انتهكت حرماتُ الله؛ لم ينتقم لنفسه شيء

والعاقل يَتَّقِي الغضبَ؛ لأنه يؤدِّي إلى المهالك: فعَنْ جُنْدَبٍ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمحَدَّثَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ, وَإِنَّ اللَّهَ –تَعَالَى- قَالَ: "مَنْ ذَا الَّذِى يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"(رواه مسلم). 

قال ابن رجب -رحمه الله-: "فهذا غَضِبَ لله، ثم تكلَّم في حالِ غضبِه لله بما لا يَجوزُ، وحتَّمَ على الله بما لا يَعلم، فأحبطَ اللهُ عملَه، فكيف بِمَنْ تكلَّم في غضبِه لنفسِه، ومُتابعةِ هَواهُ بما لا يجوز؟".

وهناك أحوالٌ يُعذر فيها الإنسانُ حالَ غضبِه: كأنْ يكون مريضاً, أو كبيراً في السِّن, أو مُسافراً بعيداً عن أهله, أو صائماً اشتدَّ جوعُه وأُرهِقفمِثْلُ هذه الأحوال تؤثر على طبيعة الإنسان -ولو كان بأصله ساكناً غيرَ غضوب- لكنْ تعرُّضُه لهذه الأحوال يُؤثر على تَصرُّفاته, ولكن يجب عليه أن يكبح جماح غضبه ويحتسب الاجر عند الله ، وان وقعت منه هفوة وزلة وقت غضبه تداركها بعد سكونه ..

الخميس، 18 فبراير 2021

( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )

 أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102], أما بعد:

 أيها المؤمنون: في صحيح البخاري، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ، وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُووَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ؛ فَقَالَ "تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالقُرْآنِ"؛ "بشطنين" تثنية شطن, وهو الحبل.

 الرسول -صلى الله عليه وسلم- سنّ لنا قراءة سورة الكهف كل يوم جمعة، لماذا سورة الكهف؟؛ لأن في سورة الكهف أحداث قصة موسى والخضر -عليهما السلام-، وما أدراك ما شأن أحداث قصة موسى والخضر -عليهما السلام-؟! إنها أحداث وأقدار إلهيه في ظاهرها العذاب، وفي باطنها الرحمة!. 

وكأني برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول لنا: اقرؤوا الكهف، واقرؤوا أحداث قصة موسى والخضر، واقرؤوها كل جمعة؛ فإنها ستمرّ بكم في حياتكم، وستقع لكم ولغيركم من أمتكم، أحداث وأقدار كالتي وقعت مع موسى والخضر -عليهما السلام-، أحداث وأقدار إلهيه في ظاهرها العذاب، وفي باطنها الرحمة

وكأني برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول لنا: اقرؤوا أحداث قصة موسى والخضر -عليهما السلام-، حتى تروا حكمة الله في أقدار وقضاءات وأفعال إلهيه، في ظاهرها العذاب وفي باطنها الرحمة

 اقرؤوها حتى إذا ما وقع لكم، أو لغيرهم كتلك الأقدار؛ لم تكونوا ممن (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)[الأحزاب: 10].

اقرؤوها حتى لا تكونوا من الذين (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)[آل عمران: 154].

اقرؤوها  حتى لا تكونوا من (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)[الفتح: 6].

اقرؤوها حتى تكونوا من الذين (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)[المائدة: 119]، من الذين يقولون: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[البقرة: 131].

 أيها الإخوة: إن من ينظر إلى ظاهر أفعال الخضر -عليه السلام-، هكذا مجردة، يجزم بأنها شر محض لا رحمة فيها، ولا حكمة لها!؛ فأيّ رحمة تلك في خرق سفينة تحمل ركابا؟؛ بل أي حكمة في تدمير أموال المساكين والضعفاء والبسطاء؟! وأي رحمة في قتل الغلمان؛ بل أي حكمة في قتل الأطفال؟! وأي رحمة في بناء وإعمار شيء لا علاقه لك به؛ بل أي حكمة في جهد لا مقابل لك عليه؟!. 

ولكن الله الحكيم -سبحانه- حصر أفعال الخضر هذه، التي تبدو غريبة عجيبة مسلوبة الحكمة والرحمة في ظاهرها، حصرها -، بقوله (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)[الكهف: 82], يقول الخضر: وما فعلته عن أمري؛ فالأمر أمر الله، والقضاء قضاؤه، والفعل فعله، والحكمة حكمته -سبحانه وتعالى-. 

نعم -أيها الإخوة- إن هذه الأحداث الثلاثة، تقول لكل مَن يشهد أقدار الله في نفسه وفي غيره، وفي أمته مما ظاهرها لا يسرّ الناظرين، تقول له: إنك قد ترى أن لا خير في بعض أقدار الله التي تقع, ولا تسرّ الناظرين في ظاهرها،

أقول: نعم، قد لا ترى فيها خيرا لك أنت، ولكن حكمة الله تقول: إن فيها خيرا عظيما لغيرك، فلا تتّهم الله في قضائه؛ فموسى -عليه السلام- المراقب للحدث، رأى في ظاهر فعل الخضر -عليه السلام- في تدمير أموال المساكين أنْ لا خير له, ولكن حكمه الله تقول: إن فيها خيرا لغيرك يا موسى

نعم -أيها الإخوة- إن هذه الأحداث الثلاثة، تقول لكل مَن يشهد أقدار الله في نفسه وفي غيره، وفي أمته مما ظاهرها لا يسرّ الناظرين، تقول له: إنك قد ترى أن لا خير في بعض أقدار الله التي تقع ولا تسر الناظرين في ظاهرها،

أقول لك: نعم, قد لا ترى فيها خيرا في زمنك ولجيلك الذي تعيشه، ولكن حكمه الله تقول: إن الخير يكمن فيها للأجيال القادمة، وللأزمان اللاحقة؛ فموسى -عليه السلام-، رأى أن لا خير في بناء الجدار، ولكن حكمة الله كانت تخبئ تحت هذا القدر الخير،  كل الخير للأجيال القادمة.

نعم -أيها الإخوة- إن هذه الأحداث الثلاثة، تقول لكل مَن يشهد أقدار الله في نفسه وفي غيره، وفي أمته مما ظاهرها لا يسرّ الناظرين، تقول له: إنك قد ترى أن لا خير في بعض أقدار الله التي تقع ولا تسر الناظرين في ظاهرها، 

أقول لك: نعم, قد لا ترى فيها خيرا ماديا فقط، ولكن حكمة الله تقول: إن فيها خيرا دينيا وإيمانيا ، مدخرا لك أو لغيرك؛ فموسى رأى أنْ لا خير مادي في قتل الغلام، ولكن حكمة الله كانت تخبئ تحت هذا القدر خيرا دينيا وإيمانيا لأهل الغلام المقتول ومَنْ حوله، فلا تتعجّل في الحكم على أقدار الله، ولا تتسرع في اتهام الله في قضائه، ولا تقل ما يغضب الله، ولكن قل: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)[التين: 8].

 

الخطبة الثانية:

صلى عليك الله يا رسول الله!، لقد كنت سيد المستسلمين لله في أقداره، وكنت سيد المؤدبين مع الله في أقضيته؛ ففي صحيح البخاري، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ -عليه السلام-، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: "يَا ابْنَ عَوْفٍ! إِنَّهَا رَحْمَةٌ"، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ"؛ 

"وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا"، لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- وحاشاه حاشاه: لماذا يا رب فعلت ذلك بابني؟، لم يقل: لماذا الله متسلط عليّ وعلى أسرتي؟، لم يقل: فوق إني عبد ملتزم ومع ذلك فالله يبتليني، ويقبض روح ابني الوحيد أمام عيني، حاشاه؛ بل قال: "وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا". 

ومن يدريك -يا أيها المؤمن- فلعل في موت الابن رحمة له من عناء الدنيا الذي كان سيلقاه؟! ومن يدريك: فلعل في موته قطعا لطريق الشر الذي كان سيسلكه؟ومن يدريك: فلعل موته سيكون سببا في دخولك الجنة، يوم تلقى ربك، ويوم تلقى ابنك؟؛ 

ففي الحديث الحسن في سنن الترمذي، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ: دَفَنْتُ ابْنِي سِنَانًا، وَأَبُو طَلْحَةَ الخَوْلَانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ القَبْرِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدِي، فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا أَبَا سِنَانٍ؟قُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَبٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟, فَيَقُولُونَحَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ", فأنت لوا امتلكت ألف ولد، مع كل ولد ألف خزنة، ما كان ذلك ليكفي في أن يضع لك حجر الأساس في قصر الحمد هذا، هناك في الجنة!.

إن العبد قد يسأل الله -عز وجل- أمرا من أمور الدنيا، أو قد يتمنّى الواحد أن يحقّق الله له أو لأحد أحبابه أمنية دنيوية، وقد يسْأل الله ويسْألويتمنّى ويلّح في السؤال، ويرى أن الخير كلّ الخير في أن يعطيه الله سُؤْلَه، وأن يحقق له أمنيته ومراده، 

ولكن العبد يجد بأن الله -تعالى- قد لا يحقق له ما تمناه وسأله من أمور الدنيا المادية، هذا إن لم يكن حصل معه عكس ما سعى إليه, فلا اعتراض على قدر الله، فهو -سبحانه- الحكيم, وهو المعطي المانع، فما أعطى الله العبد سُؤْله إلا لحكمه، وما منعه إلا لحكمه ومصلحة.

 نعم -أيها المؤمن- الله أحكم الحاكمين، إن الله قد يمنع عنك لعاعة من الدنيا تسعى وراءها، يمنعها عنك؛ ليمنع تسرّب دينك وخسارة إيمانك، ليمنع تسرّب الخشوع من قلبك، ليمنعك من التسرّب من المسجد، ليمنع تسرّب الدين والصلاح من بيتك ومن حياتك؛ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِالْحَاكِمِينَ)[التين: