إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 24 يونيو 2021

اقسام الناس مع الوباء

 ( اقسام الناس مع الوباء ) 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: ابْتِلَاءُ الْبَشَرِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ، لَا يَفِرُّ مِنْهَا أَحَدٌ، وَلَا يَقِي مِنْهَا حَذَرٌ، فَمَنْ صَبَرَ نَالَ الْأَجْرَ، وَمَنْ سَخِطَ رَكِبَهُ الْوِزْرُ ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: 35]، 

وَمِنْ حِكَمِ الِابْتِلَاءِ رَدُّ النَّاسِ إِلَى الْجَادَّةِ، وَدَفْعُهُمْ لِلتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَكَسْرُ غُرُورِ النَّفْسِ وَعُتُوِّهَا ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 168].

وَالْأَوْبِئَةُ ابْتِلَاءٌ ابْتَلَى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْبَشَرَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَمَا زِلْنَا مُنْذُ عَامٍ وَنَيِّفٍ نَعِيشُ فَوْرَةَ هَذَا الْوَبَاءِ وَسُكُونَهُ وَتَجَدُّدَهُ، وَأُصِيبَ بِهِ مَنْ أُصِيبَ، وَمَاتَ فِيهِ مَنْ مَاتَ، وَنُجِّيَ فِيهِ مَنْ نُجِّيَ، وَحُفِظَ مِنْهُ مَنْ حُفِظَ، وَكُلُّهَا مَقَادِيرُ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ، سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.

وَالنَّاسُ فِي الْإِصَابَةِ بِالْوَبَاءِ عَلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ:

فَقِسْمٌ أُصِيبُوا بِهِ وَمَاتُوا، فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَيُرْجَى لِمَنْ صَبَرَ مِنْهُمْ وَاحْتَسَبَ أَجْرًا عَظِيمًا؛ لِأَنَّ الْوَبَاءَ مُصِيبَةٌ حَلَّتْ بِهِمْ، فَذَهَبَتْ فِيهِ أَرْوَاحُهُمْ، وَزَالُوا عَنْ دُنْيَاهُمْ. وَيَجِبُ عَلَى ذَوِيهِمُ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ وَالِاسْتِرْجَاعُ، وَالرِّضَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ؛ لِيَنَالُوا الْأَجْرَ مَوْفُورًا ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 155-157]. 

وَلَمَّا احْتُضِرَ ابْنٌ لِبِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَيْهَا قَائِلًا: «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَمَنْ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ فِي ذَهَابِ حَبِيبٍ لَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَقِسْمٌ ثَانٍ أُصِيبُوا بِهِ، وَمَا زَالُوا فِي شِدَّتِهِ وَآلَامِهِ، وَهَؤُلَاءِ فِي خَيْرٍ عَظِيمٍ إِنْ هُمْ صَبَرُوا وَلَمْ يَجْزَعُوا، وَرَضُوا وَلَمْ يَسْخَطُوا، وَأَيْقَنُوا أَنَّ ابْتِلَاءَهُمْ بِهِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ؛ لِتُكَفَّرَ بِالْوَبَاءِ خَطَايَاهُمْ، وَتُرْفَعَ بِصَبْرِهِمْ وَرِضَاهُمْ دَرَجَاتُهُمْ، وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مَنْ وَعَاهَا عَلِمَ أَنَّهُ بِإِصَابَتِهِ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ قَائِمًا بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ، مُلْتَزِمًا أَحْكَامَ دِينِهِ عَزَّ وَجَلَّ:

وَدَلِيلُ إِرَادَةِ الْخَيْرِيَّةِ لَهُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَدَلِيلُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ: حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَدَلِيلُ تَكْفِيرِ خَطَايَاهُ بِالْوَبَاءِ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: أَجَلْ، كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ، قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَكُلَّمَا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ بِالْوَبَاءِ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الْجَزَاءِ، وَأَكْثَرَ فِي تَكْفِيرِ الْخَطَايَا؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَرَضِ وَشِدَّتِهِ وَأَلَمِهِ، وَأَنْ يَحْذَرَ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ أَوِ الدُّعَاءِ بِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْجَزَعِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. 

وَاشْتَدَّ الْوَجَعُ بِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

كَمَا أَنَّ حَيَاةَ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، 

 

وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا». وَسَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَاجْعَلْنَا فِي النَّعْمَاءِ شَاكِرِينَ، وَعَلَى الْبَلَاءِ صَابِرِينَ، وَعِنْدَ الْجَزَاءِ فَائِزِينَ، وَاحْفَظْنَا وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 200].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لِنَتَأَمَّلْ عَظَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتَهُ عَلَى الْبَشَرِ فِي هَذَا الْوَبَاءِ الَّذِي تَغَيَّرَتْ بِهِ حَيَاةُ الْأَفْرَادِ وَالشُّعُوبِ وَالدُّوَلِ؛ لِنَعْلَمَ ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطَّلَاقِ: 12]، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 18].

وَمِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ فِي الْوَبَاءِ: قِسْمٌ ثَالِثٌ أَصَابَهُ الْوَبَاءُ فَشُفِيَ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَارَفَ عَلَى الْهَلَاكِ وَلَكِنْ كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ عُمْرٍ، وَآخَرُونَ دُونَ ذَلِكَ. وَعَلَى أَفْرَادِ هَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى إِذْ نَجَّاهُمْ وَمَاتَ سِوَاهُمْ، وَيَحْمَدُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَالِجُونَ الْوَبَاءَ وَآثَارَهُ بِأَلَمٍ أَقَلَّ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلْيَتَأَمَّلُوا لُطْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ؛ إِذْ ثَبَّتَهُمْ وَصَبَّرَهُمْ وَأَعَانَهُمْ، حَتَّى تَجَاوَزُوا الْأَيَّامَ الْعَصِيبَةَ حِينَ نَزَلَ بِهِمُ الضُّرُّ، فَبِالشُّكْرِ تُقَيَّدُ النِّعَمُ وَتَنْمُو وَتَتَجَدَّدُ ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: 7]. 

وَمِنْ شُكْرِ النِّعَمِ تَجْدِيدُ التَّوْبَةِ، وَمُرَاجَعَةُ النَّفْسِ، وَالتَّأَمُّلُ فِي هَوَانِ الدُّنْيَا؛ إِذْ كَادَ يُفَارِقُ أَحِبَّتَهُ، وَتَفُوتُ نَفْسُهُ، وَيَفُوتُهُ مَعَهَا تَوْبَةٌ نَصُوحٌ، وَعَمَلٌ صَالِحٌ مَبْرُورٌ، فَلَا يَكُنْ حَالُهُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ بِالْوَبَاءِ وَالشِّفَاءِ مِنْهُ كَحَالِهِ قَبْلَهَا، وَإِلَّا كَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ؛ لِأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ إِنْذَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ.

وَمِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ فِي الْوَبَاءِ: قِسْمٌ رَابِعٌ لَمْ يُصَبْ بِهِ أَبَدًا؛ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَادُ هَذَا الْقِسْمِ إِذْ عَافَاهُمْ، وَلْيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَلْيَسْأَلُوهُ الْعَافِيَةَ عَلَى الدَّوَامِ؛

لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

وَعَلَى الْجَمِيعِ أَنْ يُجَدِّدُوا تَوْبَتَهُمْ، وَيَلْجَئُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ شُئُونِهِمْ، وَيَسْأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى حَاجَاتِهِمْ ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النُّورِ: 31]، ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 56]، 

﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غَافِرٍ: 60]. 

مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الْوِقَائِيَّةِ مِنَ انْتِشَارِ الْوَبَاءِ أَوِ الْإِصَابَةِ بِعَدْوَاهُ، وَالْعِلَاجِ لِلشِّفَاءِ مِنْهُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ بِهِ، فَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً إِلَّا الْمَوْتَ وَالْهَرَمَ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.

 

الخميس، 17 يونيو 2021

الحليم

  الحليم 

الخطبة الأولى:

 عِبَادَ اللَّهِ: جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ؛ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ؟ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِالْعَطَاءِ".

 هَذَا حِلْمُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بَشَرٌ؛ فَكَيْفَ بِحِلْمِ اللَّهِ رَبِّ الْبَشَرِ -جَلَّ وَعَلَا-؟! وَهُوَ الْقَائِلُ عَنْ نَفْسِهِ سبحانه : وَكَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)[الْإِسْرَاءِ: 44].

 مَا أَحْلَمَ اللَّهَ! وَمَا أَكْرَمَهُ! رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذُو الصَّفْحِ وَالْأَنَاةِ؛ الَّذِي لَا يَسْتَفِزُّهُ غَضَبٌ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ جَهْلُ جَاهِلٍ، وَلَا عِصْيَانُ عَاصٍ، لَا يَعْجَلُ عَلَى عِبَادِهِ بِعُقُوبَتِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ، وَعَلَى كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ.

 فَمَنْ أَعْظَمُ مِنْهُ حِلْمًا؟! الْخَلَائِقُ لَهُ عَاصُونَ؛ وَهُوَ لَهُمْ مُرَاقِبٌ، يَكْلَؤُهُمْ فِي مَضَاجِعِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْصُوهُ، وَيَتَوَلَّى حِفْظَهُمْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا، يَجُودُ بِالْفَضْلِ عَلَى الْعَاصِي، وَيَتَفَضَّلُ عَلَى الْمُسِيءِ.

 يَقُومُ الْمُضْطَرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ عَاصٍ وَمُذْنِبٌ؛ فَيَسْتَجِيبُ لَهُ، وَيَسْأَلُهُ فَيُعْطِيهِ؛ (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 65].

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "(حَلِيمٌ) يَعْنِى: أَنَّهُ ذُو أَنَاةٍ لَا يَعْجَلُ عَلَى عِبَادِهِ بَعُقُوبَتِهِم عَلَى ذُنُوبِهِم"

لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا أَحْلَمَهُ! فَهُوَ ذُو الْفَضْلِ وَمِنْهُ الْفَضْلُ، وَهُوَ الْجَوَادُ وَمِنْهُ الْجُودُ، وَهُوَ الْحَلِيمُ، وَمِنْهُ الْحِلْمُ.

 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ : "مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ -مَعَ ذَلِكَ- يَرْزُقُهُمْ، وَيُعَافِيهِمْ، وَيُعْطِيهِمْ"(هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ).

 أَلَمْ يَتَجَرَّأِ الْيَهُودُ -كَعَادَتِهِمْ- فِي قِلَّةِ الْحَيَاءِ، وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَشَنَاعَةِ الْأَعْمَالِ، وَوَقَاحَةِ الْأَقْوَالِ؛ فَقَالُوا: إِنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ ) ؟! أَلَمْ يَقُل النصارى : إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ) ؟! أَلَمْ يَقل اليهود : إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) ؟! أَلَمْ يَقُولُوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) ؟! أَلَمْ يَقْتُلُوا الْأَنْبِيَاءَ؟

 وَهَذَا غَيْضٌ مِنْ فَيْضِ! وَمَعَ هَذَا -كُلِّهُ- نَادَاهُمُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْمَائِدَةِ: 74].

 فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْحَلِيمِ؛ يَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرُهُ، وَيَرْزُقُ وَيُشْكَرُ سِوَاهُ، خَيْرُهُ لِلْعِبَادِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُمْ إِلَيْهِ صَاعِدٌ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ، وَيَتَبَغَّضُونَ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي وَهُمْ أَفْقَرُ شَيْءٍ إِلَيْهِ؛ (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ)[النَّحْلِ: 61]،

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا)[الْكَهْفِ: 58].

 فَتَحَ اللَّهُ بَابَ الرَّجَاءِ وَعَدَمِ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَمَرَ بِالتَّوْبَةِ؛ لِذَا اقْتَرَنَ اسْمُهُ: "الْحَلِيمُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-" بِاسْمِهِ: "الْغَفُورِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-" فِي أَكْثَرَ مِنْ آيَةٍ؛ (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[الْبَقَرَةِ: 225]، 

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[الْبَقَرَةِ: 235]، 

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 155]، 

 وَهُوَ الْحَلِيمُ فَلَا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ *** بِعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيَانِ

 مَا أَحْـلَـمَ اللَّهَ! فَكَمْ مِنْ زَلَّةٍ سَتَرَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ؟! وَكَمْ مِنْ ذَنْبٍ لَمْ يُؤَاخِذْكَ بِهِ؟! وَكَمْ مِنْ مَعْصِيَةٍ ارْتَكَبْتَهَا؛ وَهُوَ يُنَادِيكَ -وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْكَ؛ (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الْحِجْرِ: 49].

 وَلَكِنِ احْذَرْ مِنْ غَضَبِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ الْحَلِيمَ إِذَا غَضِبَ لَمْ يَقِفْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ، وَحِلْمُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- صَادِرٌ عَنْ قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ، وَاللَّهُ الْحَلِيمُ لَا يَغْضَبُ إِلَّا عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الرَّحْمَةَ، وَلَا يَصْلُحُ فِي حَقِّهِ الْحِلْمُ؛ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُعْطَى الْمُهْلَةَ وَالْوَقْتَ الْكَافِيَ لِيَتُوبَ وَيُهْدَى؛ فَلَمْ يَسْتَجِبْ.

أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)[الزُّخْرُفِ: 55]، وَقَوْلَهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[آلِ عِمْرَانَ: 11].

 وَقَدْ يَحْلُمُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَرْزُقُهُمْ، وَلَا يَأْخُذُهُمْ بِعُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا؛ لَكِنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَتَأَنَّى بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَصْفَحُ عَنْهُمْ؛ بَلْ تَسُوقُهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى النَّارِ؛ فَلَا يُقْبَلُ لَهُمْ رَجَاءٌ، وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ عذابا ؛ (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا)[مَرْيَمَ: 68-69]

( ويروى في احاديث بني إسرائيل ) أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة، ثم عصى الله عشرين سنة،
ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك، فقال: اللهم أطعتك عشرين سنة، ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟
فناداه منادي 

أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك،

 الخطبة الثانية:

 عِبَادَ اللَّهِ: الْعَبْدُ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ بِالتَّخَلُّقِ بِهَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ؛ أَلَا وَهُوَ: صِفَةُ "الْحِلْمِ"؛ فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- "حَلِيمٌ" يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْحُلَمَاءَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ.

 أَلَا إِنَّ حِلْمَ الْمَرْءِ أَكْبَرُ نِسْبَةٍ *** يُسَامِي بِهَا عِنْدَ الْفَخَارِ كَرِيمُ

فَيَا رَبِّ هَبْ لِي مِنْكَ حِلْمًا فَإِنَّنِي *** أَرَى الْحِلْمَ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ حَلِيمُ

 وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)[هُودٍ: 75].

 وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)[الصَّافَّاتِ: 101].

 وَلِنَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّصِيبُ الْأَوْفَرُ مِنْ هَذَا الْخُلُقِ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: بَالَ أَعْرَابِيٌّ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، -أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ-، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"(هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ).

 وَمَدَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْأَشَجَّ بْنَ عَبْدِ الْقَيْسِ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ فِيكَ لَـخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

 قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "دِعَامَةُ الْعَقْلِ: الْحِلْمُ، وَجِمَاعُ الْأَمْرِ: الصَّبْرُ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ: مَغَبَّةُ الْعَقْلِ، وَيُقَالُ: الْمَوَدَّةُ وَالتَّعَاهُدُ".

 وَرُوِيَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: "أَنَّ جَارِيَتَهُ جَاءَتْ ذَاتَ يَوْمٍ بِصَحْفَةٍ فِيهَا مَرَقَةٌ حَارَّةٌ، وَعِنْدَهُ أَضْيَافٌ، فَعَثَرَتْ؛ فَصَبَّتِ الْمَرَقَةَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ مَيْمُونٌ أَنْ يَضْرِبَهَا، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: يَا مَوْلَايَ! اسْتَعْمِلْ قَوْلَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)، قَالَ لَهَا: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَتِ: اعْمَلْ بِمَا بَعْدَهُ: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، فَقَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكِ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 134] قَالَ: قَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكِ، فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-".

قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله: "فَمِنَ الوَاجِبِ عَلَى مَنْ عَرَفَ أَنْ رَبَّهُ حَلِيمٌ عَلَى مَنْ عَصَاهُ، أَنْ يَحْلُمَ هُوَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، فَذَاكَ بِهِ أَوْلَى حَتَّى يَكُونَ حَلِيمًا؛، وَيَرْفَعُ الانْتِقَامَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، بَلْ يَتَعَوَّدُ الصَّفْحَ حَتَّى يَعْودَ الحِلْمُ لَهُ سَجِيَّةً.

 

وَكَمَا تُحِبُّ أَنْ يَحْلُمَ عَنْكَ مَالِكُكَ، فَاحْلُمْ أَنْتَ عَمَّنْ تَمْلِكُ؛ لِأَنَّكَ مُتَعَبَّدٌ بِالحِلْمِ مُثَابٌ عَلَيْهِ

 

 إِذَا حَلَّتْ بِكَ مِحْنَةٌ أَوْ بَلَاءٌ؛ فَادْعُ اللَّهَ وَضَمِّنِ اسْمَ "الْحَلِيمِ" فِي دُعَائِكِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَدْعُوهُ عِنْدَ الْكَرْبِ بِهَذَا الدُّعَاءِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

 

الجمعة، 11 يونيو 2021

القدوة وأثرها

 ( القدوة وأثرها ) 

فإنَّ التَّقوى خيرُ لباسٍ وأفضلُ زادٍ، وأقربُ وسيلةٍ لرضا ربِّ العبادِ، )وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الألْبَابِ(.

بعدما ذكرَ اللهُ-تعالى-الأنبياءَ في سورةِ الأنعامِ، قالَ-سُبحانَه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) 

فماذا نفهمُ من أمرِ اللهِ-تعالى-لنبيهِ بالاقتداءِ بالأنبياءِ من قبلِه؟ وماذا نفهم من أمرِ اللهِ-تعالى-النَّاسَ أن يقتدوا بنبيِّهم-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-لـمَا قالَ-عزَّ وجلَّلَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) 

فإذا كانَ النَّبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ- والناسُ جميعًا مُحتاجينَ للقدوةِ، فلا بُدَّ أن نفهمَ من هذا، أنَّ الحاجةَ إلى الاقتداءِ هي حاجة شديدة ومهمة وملازمة للإنسان في جميع مراحل حياته ، 

ولمعرفةِ النَّبيِّ-عليهِ وآلِه وصحبِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-بحاجةِ النَّاسِ إلى القُدوةِ في كلِّ زمانٍ وحِينٍ، أوصى عندَ موتِه بالاقتداءِ بالحبيبَيْنِ، فقالَ: "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ"، فالقُدواتُ هم الذينَ يصنعونَ الرُّسوخَ في الأجيالِ، لأنَّهم يرونَ فيهم ثباتَ الرَّواسيِّ الجبالِ.

ولذلكَ كانَ أفضلُ الأجيالِ جيلَ الصَّحابةِ الأبطالِ-رضي اللهُ عنهم-، لأنَّ قدوتـَهم رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-لأنَّهُ كانَ قُرآنًا يمشي بينَ النَّاسِ وفي الطُّرقاتِ، 

والقرآنُ هو مصدرُ الهدايةِ والثَّباتِ،( وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَٰحِدَةًكَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَٰهُ تَرْتِيلًا ) 

ثُمَّ جيلَ التَّابعينَ لأنَّ قدوتـَهم الصَّحابةُ الأخيارُ، ثُمَّ تابعَ التَّابعينَ، وهكذا في كلِّ زمانٍ يَكثرُ الصَّلاحُ، بكثرةِ أهلِّ القُدوةِ والفَلاحِ.

ولمَّا كانَ قُدوةُ المسلمينَ رسولَ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-يُنافسُ الصَّحابةَ على العملِ، قالوا-رضي اللهُ عنهم-:

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ*لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ

نحتاجُ اليومَ إلى القدوةِ الحقيقيةِ التي يراها الأجيالُ، فيتعلموا منه الأفعالَ قبلَ الأقوالِ، 

واسمعْ إلى درسٍ عمليٍّ في الشَّجاعةِ، يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ-رضي اللهُ عنه-: " كانَ رَسولُ اللَّهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-أَحْسَنَ النَّاسِ، وأَجْوَدَ النَّاسِ، وأَشْجَعَ النَّاسِ، وقدْ فَزِعَ-خافَ- أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا، فَتَلَقَّاهُمُ النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-علَى فَرَسٍ لأبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ-من غيرِ سرجٍ-، وهو مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقالَ: لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا-لا تخافوا-"، ولذلكَ صنعَ الأبطالَ.

وهُنا درسٌ في الجودِ والكَرمِ، " أهْدَتْ امْرَأَةٌ إلى النبيِّ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-بُرْدَةً-لباسًا كالعباءةِ-فأَخَذَهَا وَهو مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَلَبِسَهَا، فَرَآهَا عليه رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما أحْسَنَ هذِه، فَاكْسُنِيهَا، فَقالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا قَامَ النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-لَامَهُ أصْحَابُهُ، قالوا: ما أحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النبيَّ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-أخَذَهَا مُحْتَاجًا إلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إيَّاهَا، وقدْ عَرَفْتَ أنَّه لا يُسْأَلُ شيئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا". وهكذا أصعبُ الاقتداءِ، ما كانَ في الجودِ والفِداءِ:

لَولا المَشَقَّةُ سادَ الناسُ كُلُّهُمُ*الجودُ يُفقِرُ وَالإِقدامُ قَتّالُ

أيُّها المربي أتدري أنَّ كلامَكَ لأهلِكَ في بيتِكَ عن رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-وتعبيرَكَ عن حبِّكَ الخالصِ له، وأنَّه القدوةُ التي يجبُ الاقتداءَ به في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، لا ينفعُ ويضيعُ هباءً منثورًا عندما يرونَك تأكلُ أو تشربُ بشِمالِكَ، أتعلمُ أنَّ ما تقولَه من كلامٍ مُؤَثِّرٍ عن أضرارِ التَّدخينِ الدِّينيةِ والصَّحيِّةِ، والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، وإحصائياتِ الوَفَيَاتِ السَّرطانيةِ، يذهبُ في مهبِّ الرِّيحِ إذا أشعلتَ أمامَهم سيجارتَك.

قل ما شئتَ لأبنائكَ عن فضلِ الصَّلاةِ وأهميتِها، ولكن إن لم يروكَ مُهتمًا بها، حريصًا على أدائها، مُبكِّرًا للمساجدِ لها، فلا تُتعب نفسَكَ، 

وحدِّثهُم عن فضيلةِ الصِّدقِ وأنَّه منجاةٌ، وأنَّ الإنسانَ ما يزالُ يَصْدُقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتى يُكتبَ عندَ اللهِ صدِّيقًا، ولكن احذرْ أنْ تكذبَ، فإذا زارَكَ من لا تُريدُ، تقولَ لأحدِ أبنائِك: قل له: إنَّ أبي ليسَ موجودًا، فماذا تتوقعونَ أثرَ هذهِ المواقفِ على الأبناءِ والمتعلمينَ، فالحذرَ الحذرَ، فواللهِ إنَّ هذا التَّناقضَ من المربينَ، جريمةٌ كبرى في تضييعِ أجيالِ المسلمينَ.

لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ*عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلتَ عَظِيمُ

وجودُ القُدواتِ بينَ النَّاسِ لهُ أثرٌ مُبينٌ، في معرفةِ الناس للحقِّ واليقينِ، 

فها هو الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ-رحمَه اللهُ-كَانَ بإمكانِه أن يَأخذَ بالرخصةِ ويَقولُ للمأمونِ ما يُريدُ-أنَّ القرآنَ مخلوقٌ-، فقد أُكرهَ بالسِّياطِ والسِّجنِ، لكنَّه كانَ إمامًا يَقتدي النَّاسُ بهِ، وينظرونَ إلى ثَباتِه ليَثبتوا مَعه، ولذلكَ أَوصاهُ صاحبُه محمدُ بنُ نوحٍ-رحمَه اللهُ-قَائلًا: "أنتَ رَجلٌ يُقتدى به، وقد مدَّ الخلقُ أَعناقَهم إليكَ، لـمَا يكونُ مِنكَ؛ فاتقِ اللهَ، واثبت لأمرِ اللهِ".

فالقُدواتُ موجودونَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، يقتدي بهم النَّاسُ في الثَّباتِ والإيمانِ،

فإذا لم تجدْ أو لم تعلمْ منهم أحدًا، فافتحِ القرآنَ، واقرأ في مواقفِ أولياءِ الرَّحمنِ، 

فها هو إبراهيمُ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-شَابٌّ يُلقى في النَّارِ، فيقولُ: "حسبنا الله ونعمَ الوكيل"، فيُقالُيَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) 

وها هو يوسفُ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-شابٌّ تتعرَّضُ له امرأةٌ ذاتُ جمالٍ ومالٍ وحَسبٍ، فيقولُمَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) 

وها هو موسى-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-رجلٌ يُحاصرُ بينَ البحرِ والجيشِ، ويُقالُ لهإِنَّالَمُدْرَكُونَ، فيَقولُكَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) 

وها هو محمدٌ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ-رجلٌ في غارٍ، والأعداءُ يبحثونَ عنه ليقتلوه، فيقولُ له صاحبُه: لو نظرَ أحدُهم إلى رجلِه لرآنا، فقالَ لهلا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) 

وهكذا سترى القُدواتِ أمامَكَ على مرِّ القرونِ، يبعثونَ في قلبِكَ الطُّمأنينةَ والسَّكونَ.

فإذا اقتديتَ بمن قبلَكَ، ستكونُ أنتَ قدوةً لمن بعدَك، كما دعا بذلكَ عبادُ الرَّحمنِ وَاجْعَلْنَالِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) 

قالَ مجاهدٌ-رحمَه الله-: "أَئمةً نَقتدي بمن قَبلَنا، ونَكونُ أَئمةً لمن بَعدَنا، وإياكَ أن تكونَ قُدوةَ سُوءٍ".

الخطبة الثانية :

وإذا تربى الجيل على القيم السيئة والأخلاق السافلة والظلم والكذب والخيانة نشأ جيل سيئ لا يرعى حرمة ولا يحفظ أمانة ولا يحمل دينه ولا يذب عن عرضه ولا عن وطنه وعشيرته ولا يهمه إلا تحقيق مصالحه الشخصية.

وقد كانت الناشئة على مر التاريخ تتربى وترتبط بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح والقدوات الصالحة إلى أن حدث تغير كبير وخلل في انموذج القدوة بسبب الإنفتاحالإعلامي والاختلاط بثقافات مختلفة وتسلط سفهاء التواصل الاجتماعي على المشهد العام وأصبحوا هم القدوات

واسوأ ما في التربية المنحرفة أن يرتبط الجيل بنماذج سيئة من خلال تعظيم رموز الفن والغناء والتمثيل ويرى تعظيم هذه النماذج في أسرته ويصبح ويمسي على متابعة البرامج الساقطة والمشاهد الهابطة التي تسوق للرذيلة وتقضي على الفضيلة ويندهش لتناقل من حوله أخبار هؤلاء فيصبحوا قدوات مؤثرة في حياته وينشأ على تعظيمهم وتقليدهم في الفكر والسلوك.

إن ارتباط الجيل الناشئ بهذه النماذج له أثر سيئ في يناء شخصيته ورؤيته للأشياء وتصنيف القيم والأخلاق لديه وله أثر سيئ في الاستهانة في ارتكاب المحظورات والتساهل في فعل الفرائض ذلك أن كثيرا من البرامج لا تغرس في فكر المتلقي وسلوكه أهمية الارتباط بطاعة الله وتزين له المنكرات باسم التقدم والرقي.

وهناك خطر عظيم ينشأ من الاقتداء بالقدوات السيئة ألا وهو غياب هويته الدينية وضعف انتمائه لتقاليده وعاداته وقومه بحيث يصبح انسان لا يحمل ولاء ولا غيرة انسان تافه خال من مقومات الحضارة والثقافة الراشدة.

إنه من المؤسف أن يتولع الصغير بمتابعة أخبار الفن وصيحات الموضة وتقليعات الفنانين ويستغرق ذلك جل وقته واهتمامه وتفكيره في الوقت الذي تكون حياته خاوية من متابعة البرامج المفيدة والهوايات النافعة والمعاني المهمة. 

وسبب توجهه الخاطئ هو تعلقه بهذه القدوة السيئة بحيث أصبح الناشئ يرى ويسمع ويتذوق الأشياء من خلاله وغاب دور الأب والمعلم والأسرة والقرابة في توجيهه إلى معالي الأمور وترك سفاسفها

.إنه من الملاحظ أن كثيرا من أبنائنا لديهم ثقافة عالية في أخبار الفن والرياضة ومعرفة تفاصيل الفنانين والممثلين والبرامج التافهة وما استجد من الأحداث في الوقت الذي نجدهم يجهلون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبار أصحابه العظام وقادة المسلمين وتاريخهم المشرق ومواقف العزة والغلبة لهذا الدين العظيم فلا يعرف الناشئ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا قصة الخلفاء الراشدين ولا فتوحات الأبطال إلا لمحات يسيرة.

لقد غاب عن كثير من الناشئة استحضار القدوات الحسنة وصاروا لا ينتمون لهم فكرا وخلقا ولا يعيشون أخلاقهم وشمائلهم.
ويزداد الأمر سوءا إذا كان الأب أو الأم يربي الطفل على تعظيم هؤلاء ويعوده على أداء وتقمص سلوكياتهم فيعلمه الرقص والغناء ليلا نهارا ويظهر له الاهتمام بمتابعة أهل الفن ويرى أن هذه التربية تصقل مواهب الطفل وتفجر الإبداع في قدراته ولا يحفل أبدا بذكر أخبار السلف والصالحين ولا تعويده على فعل الفرائض والله المستعان. ومن كانت هذه عادته فقد خان الأمانة وغش الرعية فيما استرعاه الله وائتمنه عليه.
ومن جناية الإعلام التافه أنه يقيم البرامج والمسابقات التي تربي الناشئ على ممارسة اللهو والرقص والغناء وتنمي قدراته في هذه المواهب الشيطانية مع ربطه برموز الفن ليرعوا مواهبه ويغذوا قيمه الهابطة.


ينبغي على المسلمين أن يعنوا بهذه القضية ويشغلوا وقتهم في معالجة هذه الظاهرة السيئة ويكثفوا من وضع البرامج والأنشطة التي تعزز القدوة الحسنة في المدارس والنوادي ومحيط الأسرة والمسابقات وفي المقابل يعملون على تركيز ثقافة النفور من القدوات السيئة والتنفير من أفعالهم المشينة والاهتمام على تأصيل مبدأ التفريق بين القدوة الحسنة والقدوة السيئة.

إنه من المؤلم حقا أن يصبح الساقطون والساقطات من أهل الفن شخصيات معتبرة لها قيمة وشهرة وذيوع واحترام وتقدير في مجتمع يلتزم بالشرع ويظهر شعائر الدين وأهله معروفون بالخير والشهامة والمروءة والفضل.