إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 12 مايو 2015

العبادة في الهرج

العبادة في الهرج 

الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
في خضم ما نعيشه من أحداث، وما يمر بنا من فواجع، وما أصيبت به الأمة من ويلات، وما نراه من تسلط الأعداء، وما نلاحظه من تسارعِ الحوادث وتغيرٍ في الأمور، انتصاراتٌ تعقبها هزائم، وأفراحٌ تتلوها أتراح، وفتنٌ متنوعةٌ أصبح الحليمُ فيها حيران، يبقى الإنسان متلهفًا للخبر، متابعًا للحدث، باحثًا عن الحقيقة، يقلب القنوات ويتتبع الإذاعات، ويلهث خلف الجرائد والمجلات
ولكنه ينسى أمرًا عظيمًا، وسياجًا واقيًا، ودرعًا حصينًا، أرشد إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وباشرها إذا ادلهمت الخطوب، واشتدت الكروب، وكثر القتل، وعظمت الفتن، فزِع إليها، ففرج الله همه، ونفس كربه، وهزم عدوه، وأعلى كلمته .. أتدرون ما هي؟ إنها العبادة على اختلاف أنواعها وأوقاتها، وتفاوت أفضالها وأزمانها.
العبادة -عباد الله- حصن الله الأعظم، مَن دخله كان من الآمنين، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوفُ في حقه أمانًا، ومن عصاه انقلبت مآمنهُ مخاوف، فلا تجد العاصي إلا وكأن قلبَه بين جناحي طائر، إن حركت الريحُ البابَ قال جاء الطلب، وإن سمع وقع قدمٍ خاف أن يكونَ نذيرًا بالعطب، يحسب كلَّ صيحةٍ عليه، وكلَّ مكروهٍ قاصدًا إليه.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، خَلَقَ اللهُ ـ تَعَالى ـ العِبَادَ لِغَايَةٍ جَلِيلَةٍ ، وَوَعَدَهُم إِنْ هُم آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالتَّمكِينِ في الدُّنيَا ، وَالفَوزِ بِالجَنَّةِ في الأُخرَى ، قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَني لا يُشرِكُونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ "

وَقَد جَعَلَ اللهُ ـ تَعَالى ـ مِن دُونِ تِلكَ الغَايَةِ العَظِيمَةِ صَوَارِفَ وَمُلهِيَاتٍ ، لِيَبتَلِيَ عِبَادَهُ أَيُّهُم أَحسَنُ عَمَلاً ، وَلِيَختَبِرَهُم أَيُّهُم أَقوَى إِيمَانًا وَأَشَدُّ صَبرًا ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لَا يُفتَنُونَ . وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ "
النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن ظهور هذه الفتن فقال -كما ثبت في البخاري وعند غيره-: "يقبض العلم -أي من علامات الساعة-، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج. قيليارسول الله! ما الهرج؟ قيل: بيده وهو يحركها كأنه يريد الذبحرواه البخاري، كذلك في صحيح البخاري في كتاب الفتن

فإِنَّ مِن أَعظَمِ مَا يَصرِفُ القُلُوبَ عَن عَلاَّمِ الغُيُوبِ ، وَيَذهَبُ بِلُبِّ المَرءِ عَمَّا يُصلِحُ شَأنَهُ في دُنيَاهُ وَيُنجِيهِ في أُخرَاهُ ، تِلكَ الفِتَنَ الَّتي تَمُوجُ بِالنَّاسِ وَتَعصِفُ بِالأَفئِدَةِ ، وَتَتَوَالى سُحُبُهَا عَلَى المُجتَمَعَاتِ عَامًا بَعدَ عَامٍ ، فَلا يَأتي عَلَى النَّاسِ عَامٌ إِلاَّ وَالَّذِي بَعدَهُ شَرٌّ مِنهُ ، وَقَد أَرشَدَ الحَبِيبُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أُمَّتَهُ إِلى مَا فِيهِ نَجَاتُهُم وَخَلاصُهُم ، فَحَثَّهُم عَلَى العِبَادَةِ في الهَرجِ وَأَوقَاتِ الفِتَنِ ، وَعَدَّ ذَلِكَ مِن أَفضَلِ الأَعمَالِ وَأَحَبِّهَا إِلى اللهِ ،

فَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِلَيَّ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
قال: الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- أحد أئمة السلف في شرح هذا الحديث "العبادة في الهرج كهجرة إلي": وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه، ويعبد ربه، ويتبع مراضيه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلممؤمناً به، متبعاً لأوامره، مجتنباً لنواهيه".

قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: والهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها، ويُشغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد. اهـ 

يقول القرطبي: "المتمسك في ذلك اليوم، والمنقطع إلى العبادة، ؛ أجره كأجر المهاجر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه ناسبه من حيث إن المهاجر يفر بدينه مما يصد عنه"

فَالعِبَادَةُ في الفِتنَةِ كَالهِجرَةِ ، وَالهِجرَةُ في الإِسلامِ وَلا سِيَّمَا في زَمَنِ الغُربَةِ وَالفِتنَةِ سَبَبٌ لِلمَغفِرَةِ وَالرَّحمَةِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ "

في أَوقَاتِ الفِتَنِ ـ وَمَا أَكثَرَهَا في هَذَا الزِّمَانِ ـ تَتَفَرَّقُ القُلُوبُ وَتَتَشَتَّتُ النُّفُوسُ ، وَتَذهَلُ العُقُولُ وَتَختَلِفُ المَوَازِينُ ، وَيَختَلِطُ الحَقُّ بِالبَاطِلِ وَيَخفَى الصَّوَابُ ، وَتَضعُفُ الهِمَمُ وَتَطِيشُ الأَحلامُ وَيَغلِبُ اتِّبَاعُ الهَوَى ، وَيَكُونُ النَّاسُ في أَمرٍ مَرِيجٍ وَيُصرَفُونَ عَنِ الهُدَى ، وَيَكثُرُ أَئِمَّةُ الضَّلالِ وَيَبرُزُ رُؤُوسُ الزَّيغِ ، وَيُصبِحُ المَعرُوفُ مُنكَرًا وَالمُنكَرُ مَعرُوفًا ، وَيَنصَرِفُ النَّاسُ إِلى الزَّخَارِفِ وَيَطمَئِنُّونَ إِلى الدُّنيَا ، 

وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لا أَعَزَّ مِن مُؤمِنٍ يُهَاجِرُ إِلى رَبِّهِ بِقَلبِهِ ، وَيُحَلِّقُ بِنَفسِهِ عَمَّا فِيهِ غَيرُهُ مِن اختِلاطٍ وَاضطِرَابٍ ، وَيُفَارِقُ مُجتَمَعَاتِ الفَسَادِ وَالإِفسَادِ ، وَيَكُونُ كَالسَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ إِلى الإِسلامِ ، الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم وَأَموَالِهِم وَأَهلِيهِم ، وَتَرَكُوا البُلدَانَ وَفَارَقُوا الأَوطَانَ ، وَخَرَجُوا إِلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَاتَّبعُوهُ وَجَاهَدُوا مَعَهُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في أَوقَاتِ الفِتَنِ ، تَعظُمُ الصَّوَارِفُ وَتَكثُرُ المُلهِيَاتُ ، وَتَشتَدُّ غُربَةُ الدِّينِ وَيَغفُلُ النَّاسُ وَيَذهَلُونَ ، وَيُصرَفُونَ عَن رَبِّهِم وَقَد يُخذَلُونَ ، وَتَعظُمُ إِذْ ذَاكَ حَاجَتُهُم إِلى مَا يُعِيدُ إِلى قُلُوبِهِم سَكَنَهَا ، وَيُضطَرُّونَ إِلى مَا يَمنَحُهَا هُدُوءَهَا وَيجلِبُ إِلَيهَا طُمَأنِينَتَهَا وَرَاحَتَهَا ، وَلَيسَ ذَاكَ إِلاَّ في كَثرَةِ عِبَادَتِهِم لِرَبِّهِم وَإِقبَالِهِم عَلَيهِ .

وفي حديث آخر أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "يتقارب الزمان وينقص العمل". قال ابن حجر -رحمه الله-: وأما نقصهم العمل فيحمل أن يكون بالنسبة لكل فرد، فإن العامل إذا دهمته الخطوب ألهته عن أوراده وعبادته... إلى آخر كلامه -رحمه الله-
ونحن في هذا الزمان نعيش أزمات متعددة، فهذه أزمة اقتصادية، وهذه أزمة صحية، وهذه أزمة فتنٍ وتغلّب للعدو، وكثير من الناس إذا رأوا غلبة سوق النفاق، وارتفاع ألوية أهل الكفر، يئسوا، وقالوا: فيم العمل؟ بل وربما ساروا في تيار الركب الذي هو مشابهة الغالب، والذي يسيطر على الأمور في الظاهر، وهذه -يا أيها الأخوة- من أشد حالات الكرب التي يمر بها أهل الإسلام عندما يقول الواحد من الناس: لماذا أمْر الدين اليوم في حال ضعفٍ؟ ولماذا صار أمر أهل الإسلام في حال هزيمة؟ ولماذا هذا الذل المضروب؟ ولماذا هذا الضعف الشامل؟ وعند ذلك يحدث الإحباط في المعنويات، والانصراف عن العبادات، والتولي عن العلم، والانشغال عن الطاعة، وخصوصاً إذا رافق هذا الجو المشحون بالهزيمة وغلبة العدو في الظاهر من أهل الكفر والنفاق إذا صاحبته جاذبية المال، والانشغال بالشهوات، وثوران الغرائز، وعموم المحرمات، وانفتاح أبواب المحظورات.
وعند ذلك يرى المؤمن من خلال غيوم الغفلة نور الإيمان، ويتوجه ببصيرته للواحد الديان، ولا يهمه حينئذٍ أن يرى حوله كثيراً من العابدين أو قليلا، لأنه يريد أن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين.
وَمَا أَقَلَّ الرِّجَالَ العَابِدِينَ حِينَئِذٍ وَمَا أَعَزَّ وُجُودَهُم ! وَمَا أَمَرَّ تَجَرُّعَهُم لِلصَّبرِ وَأَشَدَّ قَبضِهِم عَلَى الجَمرِ ، وَمَن كَانَ مِن أُولَئِكَ القِلَّةِ ، فَهُوَ المُبشَرُ بِقَولِ الحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لأَصحَابِهِ : " إِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامًا الصَّبرُ فِيهِنَّ مِثلُ القَبضِ عَلَى الجَمرِ ، لِلعَامِلِ فِيهِنَّ مِثلُ أَجرِ خَمسِينَ رَجُلاً مِنكُم " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَفهَمُ بَعضُ النَّاسِ أَنَّ الهِجرَةَ في أَزمِنَةِ الفِتَنِ ، هِيَ اعتِزَالُ النَّاسِ وَمُصَارَمَتُهُم وَالانصِرَافُ الكُلِّيُّ عَنهُم ، وَلُزُومُ المَسَاجِدِ أَوِ البُيُوتِ لِصَلاةٍ أَو ذِكرٍ أَو قِرَاءَةِ قُرآنٍ أَو دُعَاءٍ ، وَوَاللهِ إِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ وَمَشرُوعٌ في زَمَنٍ مَا ، حَيثُ قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ : " يُوشِكُ أَن يَكُونَ خَيرَ مَالِ المُسلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بها شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ "وهذا زمان لم يأت بعد  نسأل الله ان يجيرنا منه  وقد يكون هذا نافعاً في هذا الزمان لبعض من لم يستطع مواجهة الفتن ، فيفر بدينه ويعتزل الناس ، لكن زماننا لازال فيه خير كثير ولله الحمد ..

غَيرَ أَنَّ هَذَا لَيسَ بِأَفضَلَ وَلا أَكثَرَ أَجرًا مِمَّن يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم ، وَيَسعَى في نَفعِهِم وَتَوجِيهِهِم وَتَعلِيمِهِمُ الخَيرَ وَدِلالَتِهِم عَلَيهِ ، وَيَكُونُ بِقِيَامِهِ بِأَمرِ اللهِ بَينَهُم خَيرَ قُدوَةٍ لَهُم وَأُسوَةٍ ، فَعَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : أَيُّ النَّاسِ أَفضَلُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " مُؤمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ في سَبِيلِ اللهِ " قَالَ : ثم مَن ؟ قَالَ : " ثم رَجُلٌ مُعتَزِلٌ في شِعبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعبُدُ رَبَّهُ " وَفي رِوَايَةٍ : " يَتَّقِي اللهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِن شَرِّهِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ وَغَيرُهُمَا .

نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ حِينَ تَستَحكِمُ الغُربَةُ في زَمَانٍ أَو مَكَانٍ مَا ، وَيَخَافُ المُؤمِنُ عَلَى نَفسِهِ الفِتَنَ وَلا يَقوَى عَلَى المُدَافَعَةِ وَلا يَصبِرُ عَلَى المُجَاهَدَةِ ، فَلا سَبِيلَ لَهُ لِلنَّجَاةِ حِينَئِذٍ إِلاَّ أَن يَعتَزِلَ ، 

أَمَّا وَالإِسلامُ قَائِمٌ وَمَا زَالَ لأَهلِهِ اجتِمَاعٌ ، وَفِيهِم مَن يَحمِلُ الحَقَّ وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الطَّرِيقَ ، فَإِنَّ السَّبِيلَ ـ وَإِن كَثُرَتِ الفِتَنُ ـ اعتِصَامُ الجَمِيعِ بِحَبلِ اللهِ ، وَبَقَاؤُهُم مُتَواصِينَ عَلَى دِينِ اللهِ ، وَالجِدُّ فِيمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَيُثَبِّتُهُم عَلَى الحَقِّ وَيُلزِمُهُمُ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ، 

وَكُلُّ إِنسَانٍ يَعرِفُ مِن نَفسِهِ مَا جُبِلَت عَلَيهِ وَمَا تُطِيقُهُ وَتَصبِرُ عَلَيهِ ، فَمَن أَطَاقَ طُولَ القِيَامِ في الأَسحَارِ وَكَثرَةَ الصَّلاةِ فَلْيَفعَلْ ، وَمَن فُتِحَ لَهُ في البَذلِ وَالصَّدَقَةِ فَلْيَلزَمْ ، وَمَن سَهُلَت عَلَيهِ قِرَاءَةُ كِتَابِ رَبِّهِ وَانصَرَفَ إِلى تِلاوَتِهِ فَلْيَستَكثِرْ ، وَمَن كَانَ مِن أَهلِ العِلمِ أَوِ الدَّعوَةِ فَلْيَصبِرْ ، وَذِكرُ اللهِ بَابٌ عَظِيمٌ لِمَن أُلهِمَهُ ، وَصِيَامُ النَّافِلَةِ بَابٌ لِمَن قَدِرَ عَلَيهِ ، وَنَفعُ النَّاسِ عِبَادَةٌ وَكَفُّ الأَذَى عَنهُم صَدَقَةٌ ، وَالمَقصُودُ أَلاَّ يَنقَطِعَ المُؤمِنُ مِنَ العِبَادَةِ وَيَنجَرِفَ مَعَ الفِتَنِ وَتَزِلَّ بِهِ القَدَمُ ، فَيَكُونَ مِمَّن قَالَ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ فِيهِم : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيرٌ اطمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجهِهِ خَسِرَ الدُّنيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ "

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ ...

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوا لَهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ مِن أَعظَمِ العِبَادَةِ في أَزمِنَةِ الفِتَنِ الصَّبرَ وَعَدَمَ الاستِعجَالِ ، وَالابتِعَادَ عَن مَوَاطِنِ الفِتَنِ وَالتَّعَوُّذَ بِاللهِ مِنهَا وَكَثرَةَ الدُّعَاءِ ، وَرَدَّ مَا اشتُبِهَ فِيهِ أَوِ اختُلِفَ عَلَيهِ إِلى أَهلِ العِلمِ الرَّاسِخِينَ ، 

قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَاصبِرْ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ وَاستَغفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبكَارِ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولَا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيرٌ مِنَ القَائِمِ ، وَالقَائِمُ خَيرٌ مِنَ المَاشي ، وَالمَاشي خَيرٌ مِنَ السَّاعي ، مَن يَستَشرِفْ لها تَستَشرِفْهُ ، فَمَنِ استَطَاعَ أَن يَعُوذَ بِمَلجَأٍ أَو مَعَاذٍ فَلْيَفعَلْ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . 

وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ بَينَمَا نَحنُ حَولَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ ذَكَرَ الفِتنَةَ فَقَالَ : " إِذَا رَأَيتُمُ النَّاسَ قَد مَرِجَت عُهُودُهُم وَخَفَّت أَمَانَاتُهُم وَكَانُوا هَكَذَا ـ وَشَبَّكَ بَينَ أَصَابِعِهِ ـ قَالَ : فَقُمتُ إِلَيهِ فَقُلتُ : كَيفَ أَفعَلُ عِندَ ذَلِكَ جَعَلِني اللهُ فِدَاكَ ؟ قَالَ : " اِلزَمْ بَيتَكَ ، وَابكِ عَلَى نَفسِكَ ، وَاملِكْ عَلَيكَ لِسَانَكَ ، وَخُذْ مَا تَعرِفُ وَدَعْ مَا تُنكِرُ ، وَعَلَيكَ بِأَمرِ خَاصَّةِ نَفسِكَ وَدَعْ عَنكَ أَمرَ العَامَّةِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَكثِرُوا مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَزَوَّدُوا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ، وَأَخلِصُوا للهِ وَكُونُوا لَهُ عَابِدِينَ ، فَإِنَّكُم في زَمَنٍ تَتَوَالى فِتَنُهُ وَتَنتَشِرُ انتِشَارَ النَّارِ في الهَشِيمِ ، وَلا مَنجَأَ مِن ذَلِكَ وَلا مَلجَأَ إِلاَّ المُسَارَعَةُ إِلى الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ وَاتِّخَاذُهَا زَادًا لِلمَعَادِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " بَادِرُوا بِالأَعمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ ، يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا وَيُمسِي كَافِرًا ، وَيُمسِي مُؤمِنًا وَيُصبِحُ كَافِرًا ، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنيَا " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَعَن أُمِّ سَلَمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : استَيقَظَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لَيلَةً فَزِعًا يَقُولُ : " سُبحَانَ اللهِ ! مَاذَا أُنزِلَ اللَّيلَةَ مِنَ الخَزَائِنِ ، وَمَاذَا أُنزِلَ مِنَ الفِتَنِ ، مَن يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ لِكَي يُصَلِّينَ ؟ رُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنيَا عَارِيَةٍ في الآخِرَةِ " أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ
ومن أجَلِّ العبادات وقت الفتن الدعاء" لذلك صح عنه -صلى الله عليه وسلم- كما رواه مسلم: "تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن". ما تدري من أين وكيف تأتيك الفتن، تعوذوا بالله، والعوذ هو الاعتصام واللجوء إلى الله -سبحانه وتعالى-. نسأل الله أن يقينا ويقي بلاد المسلمين شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
وعلَّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى في صلاتنا ونحن في عبادتنا أن نُدعو في الصلاة بهذا التعوذ، وهو سنة مؤكدة: "أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال".
لذلك ينبغي أن يلجأ المسلم لله تعالى عند الهمّ والحزن وحلول الفتن واختلاف الاحوال ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أصاب عبدًا قط هَمٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسالك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي؛ إلا أذهب الله همه، وأبدله مكانه فرحًا".
وتأملوا قول علي -رضي الله عنه-: لقد رأيتُنا ليلة بدر، وما فينا إلا نائم غيرَ رسول الله، يصلي ويدعو حتى أصبح.
ويقول حذيفة: رجعت إلى النبي ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
يزداد فضل الصلاة ويتأكد إبان حلول الفتن، ونزول الكوارث والمحن، لما في ذلك من جمع الشتات، ولمّ الشعث، والبعد عن التفرق والنزاع؛ فعن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وهو محصور، فقال: إنك إمامُ عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمامُ فتنةٍ ونتحرج. فقال: الصلاةُ أحسنُ ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسِنْ معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: وفي هذا الأثر الحضُّ على شهود الجماعة، ولا سيما في زمن الفتنة؛ لئلا يزداد تفرقُ الكلمة.
البعض يتعذر عن العبادة بكثرة مشاغله واختلاف اوضاعه وهذا أثر لطيف معناه صحيح ، علينا ان نتفكر به كثيرا ..
روي عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: يؤتى بثلاثة نفر يوم القيامة: بالغني وبالمريض والعبد، فيقول للغني: ما منعك من عبادتي؟ فيقولأكثرتَ لي المال فطغيتُ، فيؤتى بسليمان بن داود -عليه السلام- في ملكه فيقال له: أنت كنت أشدّ شغلاً أم هذا؟ قال: بل هذا. قال: فإن هذا لم يمنعه شغله عن عبادتي. قال: فيؤتى بالمريض فيقول: ما منعك عن عبادتي؟ قال: يا رب، أشغلتَ عليّ جسدي. قال: فيؤتى بأيوب في مرضه فيقول له: أنت كنت أشد ضررًا أم هذا؟ قال: فيقول: بل هذا. يعني أيوب -عليه السلام-، قال: فإن هذا لم يمنعه ذلك أنْ عَبَدَني. قال: ثم يؤتى بالمملوك فيقول له: ما منعك عن عبادتي؟ فيقول: جعلتَ عليَّ أربابًا يملكونني. قال: فيؤتى بيوسف الصديق -عليه السلام- في عبوديته، فيقال: أنت أشد عبودية أم هذا؟ قال: لا، بل هذاقال: فإن هذا لم يشغله شيء عن عبادتي" اهـ من حلية الأولياء.
فإن ما سبق من كلام لا يعني أن يبقى المسلم جاهلاً بالأحداث، غافلاً عن مصالح أمته ومصالح دينه، كلا، وإنما المقصود أن لا يلتهي عن دينه بدنياه، متتبعًا للأحداث مِن صبحه حتى ممساه، محللاً ومنتقدًا، يمضي الساعات الطوال في مشاهدة البرامج التحليلية، وفي هذه الغمرة ينسى عبادة ربه، ينسى مدبر الكون، ومصرّف الأحداث -جل وعلا-، ولا يلهج بذكر الله إلا قليلاً.
ينبغي التوازن في الأمر، فإذا سلمه الله -تعالى- من أن يكون في قلب الأحداث فلا بأس أن يطلع على الأخبار، لكن برفق؛ لأن اهتمامه الأكبر الآن هو بربه، فقلبه معلق به -تعالى- دون عباده، فلابد أن يظهر ذلك في تصرفه، في مدى إقباله على العبادة.

1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق