إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 31 مايو 2015

اهوال يوم القيامة

الخطبة الأولى :
إن الإيمان باليوم الآخر من فرائض الدين وأسسه، بل هو ركن من أركان الإيمان العظيمة. وكثيرًا ما يَقْرِن الله تعالى بين الإيمان به سبحانه وبين الإيمان باليوم الآخر؛ لأن من لم يؤمن باليوم الآخر لا يمكن أن يؤمن بالله، إذ إن الذي لا يؤمن باليوم الآخر لا يعمل؛ لأنه لا يعمل إلا لما يرجوه من الكرامة ويخافه من العقوبة، فإن من لا يؤمن به صار كمن حكى الله عنهم: "وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ".وهذا اليوم ـ عباد الله ـ يوم عظيم وخَطْب جَسِيم، مقداره خمسون ألف سنة، يجمع الله فيهالخلائق أجمعين، من لدُن آدم عليه السلام إلى من قامت عليهم الساعة؛ ليفصل بينهم ويجازيهم.

عباد الله، إن هذا الكون يجري بهذه الكائنات ويعجّ بها، فهو في حركة دائبة منتظمة، وسيبقى كذلك حتى يأمر الله بالفناء، حين يأمر جل وعلا إسرافيل عليه السلام بالنفخ في الصور وهو الملك المُوَكَّل به، فينفخ عليه السلام فيصعق الناس ويموتون، وتنتهي الحياة، بل تنتهي الدنيا كلها،

إذا أمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، مات كل حي على ظهر هذه الأرض، وكل حي في السموات إلا من شاء الله جل وعلا كما قال ربنا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]،

يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ثم يهتف بصوته : من كان لي شريكا فليأت ، لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد ، فيقول لله الواحد القهار ، ثم يزجر الخلائق زجرة أخرى فإذا هم بالساهرة ) 

فإذا ما أفنى الله خلقه وذهب كل شيء، فلا يبقى إلا الله، فهو الأول والآخر، هو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. سكون مذهل وخشوع مزلزل، لا حس ولا حركة ولا صوت، سكت كل شيء، ومات كل شيء، وأفنى الله كل شيء، وفي وسط هذا السكون وهذا الصمت وهذا الخشوع، ينطلق صوت رهيب جليل مهيب! يسأل صاحب الصوت ويجيب، فما في الوجود يومئذٍ من سائل غيره ولا مجيب، يهتف الحق جل وعلا بصوته ويقول: (أنا الملك، أين ملوك الأرض؟! أين المتجبرون؟! أين المتكبرون؟!).

وفي رواية مسلم : يقول جل وعلا: (لمن الملك اليوم؟ فيجيب سبحانه عن ذاته بقوله: لله الواحد القهار)،

أين الملوك؟! أين الظالمون؟! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان ؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان

قال ابن كثير  في قوله تعالى : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار :  ( قد تقدم في حديث ابن عمر أنه تعالى يطوي السماوات والأرض بيده ، ثم يقول : أنا الملك ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ . 
وفي حديث الصور : أنه تعالى إذا قبض أرواح جميع خلقه ، فلم يبق سواه وحده لا شريك له ، حينئذ يقول : لمن الملك اليوم ؟ ثلاث مرات ، ثم يجيب نفسه قائلا ( لله الواحد القهار أي : الذي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه .

وتبدأ الآخرة. وإسرافيل عليه السلام مستعد منذ وُكِّل بالصور، ينتظر الأمر الرباني لينفّذ، روى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله  (إن طَرْف صاحب الصور منذ وُكِّل به مُستعِد، ينظر نحو العرش مخافة أن يُؤمر قبل أن يرتدّ إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دُرِّيان)) وصححه الألباني، 

وعن أبي سعيد t قال: قال رسول الله ((كيف أنعم وقد الْتَقَم صاحب القَرْنِ القَرْنَ ـ والقَرْنُ هو الصور ـ، وحَنَى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ))، قال المسلمون: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا)) رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني.

وإذا صُعِق الناس بَلوا وفَنوا، وكل إنسان فإنه يفنى ولا يبقى منه إلا عَجْب الذَّنَب، وهوالعظم الصلب المستدير الذي في أصل العَجُز وأصل الذَّنَب، إلا الأنبياء؛ فقد حرّم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، فأجسادهم في قبورهم كما هي حتى يبعثوا. ثم يرسل الله مطرًا فينبت الناس من عَجْب الذَّنَب كما ينبت البَقْل، حتى إذا نُفِخ في الصور النفخة الثانية نفخة البعث فإذا هم قيام ينظرون.

وأول من يبعث رسولنا ، وهو أول من تنشق عنه الأرض، في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطِش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صُعِق فأفاق، أو كان ممن استثنى الله عز وجل)).

ثم يخرج الناس جميعًا من قبورهم حفاة عراة غُرْلاً أي: غير مختونين،عبدالله ابن انيس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يحشر الله العباد يوم القيامة أو قال يحشر الله الناس – قال وأومأ بيده إلى الشام - عراة غرلا بهما ، قلت ما بهما ؟ قال ليس معهم شيء ، قال : فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ، قال : قلنا كيف هذا وإنما نأتي غرلا بهما ؟ قال بالحسنات والسيئات ) 
يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا . قالت عائشة : يا رسول الله ! النساء والرجال جميعا ، ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال صلى الله عليه وسلم : يا عائشة ! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ) 

فيحشرون على أرض غير هذه الأرض: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، وينسف الله الجبال نسفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:106، 107].
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله : ((يُحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عَفْرَاء كقُرْصَة النَّقِي))، يعني الدقيق النقي من الغش والنخال، قال سهل أو غيره: ليس فيها مَعْلَم لأحد.

ويجتمع الناس على صعيد واحد في ذلك الموقف العظيم، فيغشاهم من الكرب ما يغشاهم، ويصيبهم الرعب والفزع، يشيب الولدان وتَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [الحج:2]، وتشخص الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، وتدنو الشمس من الخلائق مقدار مِيل؛ وأيًّا كان الميل ـ ميل المِكْحَلة أو المسافة المعروفة ـ فهي قريبة، ويبلغ العرقُ منهم مبالغ متفاوتة بحسب أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقهإلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْوَيه، ومنهم يبلغ إلى مَنْكِبَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا، أي: يصل إلى موضع اللِّجَام في الفرس وهو الفم، وتبقى طائفة في ظل ظليل، في ظل الله عز وجل يتنعمون، منهم السبعة الذين أخبر النبي في الحديث الصحيح عن أبي هريرة. (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه متفق عليه ، واصناف غيرهم ذكروا في أحاديث اخرى

ثم يكون موقف الشفاعة لبدء الحساب 

أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم ، فرفع إليه الذراع ، وكانت تعجبه ، فنهس منها نهسة ثم قال ) : أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون مم ذلك ؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناس : ألا ترون ما قد بلغكم ، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم ،

فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له : أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، ألا ترى إلى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح .

فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح ، إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبدا شكورا ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول : إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم . 

فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول لهم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات - فذكرهن أبو حيان في الحديث - نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى .

فيأتون موسى فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليومغضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى . 

فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى ، أنت رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ،وكلمت الناس في المهد صبيا ، اشفع لنا ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط ، ولن يغضب بعده مثله - ولم يذكر ذنبا - نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم . 

فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقولون : يا محمد أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فأنطلق فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدا لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ،
ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول : أمتي يا رب ، أمتي يا رب ، فيقال : يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير ، أو : كما بين مكة وبصرى )  

وتنزل ملائكة السماء الدنيا فيحيطون بالناس، ثم ملائكة السماء الثانية من ورائهم حتى السابعة، ثم يجيء الله سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته على عرشه يحمله ثمانية من الملائكة ليفصل بين العباد.

(توقفون موقفا واحدا يوم القيامة ، مقدار سبعين عاما ، لا ينظر إليكم ، ولا يقضى بينكم ، قد حصر عليكم ، فتبكون حتى ينقطع الدمع ، ثم تدمعون دما ، وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان ، أو يلجمكم فتصيحون ، ثم تقولون : من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا ؟ فيقولون : من أحق بذلك من أبيكم آدم ؟ جبل الله تربته ، وخلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وكلمه قبلا ، فيؤتى آدم ، فيطلب ذلك إليه ، فيأبى ، ثم يستقرئون الأنبياء نبيا نبيا ، كلما جاءوا نبيا أبى ،

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حتى يأتوني ، فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفحص ، قال أبو هريرة : يا رسول الله ! وما الفحص ؟ قال : قدام العرش ، فأخر ساجدا ، فلا أزال ساجدا حتى يبعث الله إلي ملكا ، فيأخذ بعضدي فيرفعني ، ثم يقول الله لي : يا محمد ! فأقول : نعم ، وهو أعلم ، فيقول : ما شأنك ؟ فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة ، فشفعني في خلقك فاقض بينهم ! فيقول : قد شفعتك ، آنا آتيكم فأقضي بينكم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنصرف حتى أقف مع الناس ،

فبينا نحن وقوف ، سمعنا حسا من السماء شديدا ، فهالنا ، فنزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض ، أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا وهو آت ،

ثم نزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة ، وبمثلي من فيها من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض ، أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا ، وهو آت ، 

ثم نزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة ، وبمثلي من في الأرض من الجنوالإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض ، أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا وهو آت ،

ثم نزل أهل السماوات على عدد ذلك من التضعيف ، حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة ، ولهم زجل من تسبيحهم ، يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان رب العرش ذي الجبروت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت ،سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح ، قدوس قدوس ، سبحان ربنا الأعلى ، سبحان ذي السلطان والعظمة ، سبحانه أبدا أبدا ، فينزل تبارك وتعالى يحمل عرشه يومئذ ثمانية ، وهم اليوم أربعة ، أقدامهم على تخوم الأرض السفلى ، والسماوات إلى حجزهم ، والعرش على مناكبهم ، 

فوضع الله عز وجل عرشه حيث شاء من الأرض ، ثم ينادي مناد نداء يسمع الخلائق ، فيقول : يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا ، أسمع كلامكم ، وأبصر أعمالكم ، فأنصتوا إلي ، فإنما هي صحفكم وأعمالكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، فيقضي الله عز وجل بين خلقه الجن والإنس والبهائم ، فإنه ليقتص يومئذ للجماء من ذات القرن )
الراويأبو هريرة المحدثابن جرير الطبري المصدرتفسير الطبري - لصفحة أو الرقم:2/439خلاصة حكم المحدثثابت

وهم في أرض المحشر، يأمر الله جل وعلا أن يؤتى بجهنم، فيؤتى بها لها سبعون ألف زمام! مع كل زمام سبعون ألف ملك، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود ؛ 

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23-24]. يا ليتني حافظت على الصلوات، يا ليتني وحدتُ ربَّ الأرض والسماوات، يا ليتني عبدت الله جل وعلا، يا ليتني صمت النهار، يا ليتني قمت الليل، يا ليتني ما عصيت الله، يا ليتني ما انشغلت بالشهوات، يا ليتني ما انشغلت بالشبهات، يا ليتني.. يا ليتني... يوم لا ينفع الندم، إنه يوم الحسرة والندامة، يوم لا ينفع التحسر، ولا ينفع الندم. 

(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يرون جهنم فيتحسرون ويتألمون وتنخلع القلوب لهول ما رأوا، يرون جهنم يؤتى بها لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا رأوها لا يبقى ملك ولا يبقى نبي ولا يبقى صِدِّيق إلا خَرَّ على ركبتيه في أرض المحشر؛ لهول ما رأى! وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [الجاثية:28] فإذا رأوا هذا الهول وهذا المنظر الذي يخلع القلوب والأفئدة، اضطربت الجوارح والأفئدة وفزع الجميع، ولا حول ولا قوة الاّ بالله 

ويُنصب الميزان فتوزن به أعمال العباد، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102، 103].

وتُنشر دواوين الخلق وهي صحائف الأعمال التي كتبها الملائكة الحافظون، فيُعطَى كل إنسان كتابه مفتوحًا: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14].

فأما المؤمن فيأخذ كتابه بيمينه ويقول: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ[الحاقة:19، 20]، يعني تيقنت الحساب وعملت له. 

وأما الكافر فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره إذلالاً وتقريعًا ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[الحاقة:25-29].

ويحاسب الله الخلائق من الإنس والجن إلا من استثني، مثل السبعين ألفًا الذين أخبر النبي عنهم أنهم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يَسْتَرْقُون ولا يكتوون ولا يتطيّرون وعلى ربهم يتوكلون.

ويخلو الله بعبده المؤمن، ويضع عليه سِتره فلا يسمعه أحد، ولا يراه أحد، ويقرّره بذنوبه: عملت كذا، وعملت كذا، فيقرّ ويعترف، ثم يقول الله: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. 

وأما الكفار فيُنادَى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله علىالظالمين. ويختم الله على أفواههم، وتشهد عليهم ألسنتهم وأسماعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم وجلودهم بما كانوا يعملون،وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:21-23].

( بينما عبد الله بن عمر يطوف بالبيت إذ عارضه رجل ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ! كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ فقال له : سمعته يقول : يدنوالمؤمن من ربه عز وجل يوم القيامة ، فيضع عليه كنفه فيقر ويقول : أي رب ! أعرف ، فيقول : أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . ويعطى صحيفة حسناته ، وأما الكفاروالمنافقون فينادى بهم على رءوس الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين ) 
بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية :

( وعن عائشة رضي الله عنها : أنها ذكرت النار فبكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك قالت ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل وعند الكتاب حين يقال ( هاؤم اقرؤوا كتابيه ) حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم ) سنن ابي داود

وفي عَرَصَات القيامة الحوض المورود لنبينا ، ولكل نبي حوض، وحوض نبينا أعظمهاوأفضلها، طوله شهر وعرضه شهر، يصب فيه مِيزَابان من نهر الكوثر في الجنة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وريحه أطيب من ريح المسك، آنيته كنجوم السماء عددًا ووصفًا ولمعانًا، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا. وأما واردوه فالمؤمنون بالله ورسوله المتبعون لشريعته، وأما الذين استنكفوا واستكبروا عن اتباعه فإنهم مطرودون عنه.
(ترد علي أمتي الحوض . وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله . قالوا : يا نبي الله ! أتعرفنا ؟ قال : نعم . لكم سيما ليست لأحد غيركم . تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء . ) 

ويُنصب الصراط على مَتْن جهنم، وهو جسر دَحضٌ مَزلَّة، أدق من الشعر وأحدّ من السيف،عليه كَلالِيب تخطف الناس، يمر الناس عليه إلا الكفار؛ لأنهم قد أُمر بهم إلى جهنم وسيقوا إليها. ويُعطى المؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، ويُطفأ نور المنافقين فيقولون للمؤمنين: انظرونا نَقْتَبس من نوركم، فيقال: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا، ويُضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب باطنه جهة المؤمنين فيه الرحمة والجنة، وظاهره جهة المنافقين من قِبله العذاب والنار.

ويكون مرور الناس على الصراط على قدر أعمالهم ومسارعتهم إلى طاعة الله في الدنيا، فمنهم من يمر كلَمْح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ثم كالريح، ثم كالفرس الجواد، ثم كركاب الإبل، ومنهم من يعدو، ثم من يمشي، ثم من يزحف، ومنهم من تخطفه الكَلالِيب فتلقيه في النار كعصاة الموحّدين الذين قضى الله عليهم أن يُعذّبوا قبل أن يخرجوا إلى الجنةوهذا المرور على الصراط هو الورود الذي في قول الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]. فورورد الكفار هو دخول النار، وأما ورود المؤمنين فهو المرور على الصراط فوق النار حتى يصيروا إلى الجنة.
فانظر يا عبد الله ماذا أعددت لذلك كله ؟ 
فالامر جد ، وأجل الله آت ، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الاماني 
2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق