إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 2 مايو 2015

وجاءكم النذير

( وجاءكم النذير )
أيها الأخوة المؤمنون: من عدل الله عز وجل في عصاة خلقه، أنه لا يهلكهم على غرة، إنما ينذرهم ويذكرهم، ويقيم عليهم الحجج، فإذا لم يؤثر عليهم ذلك، ولم ينفع بهم أخذهم وأهلكهم، وهذا عدل من الله جل جلاله. يقول تبارك وتعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ).

يقولُ اللهُ تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا) .. صِياحاً شَديداً مُستمرَّاً مع الألمِ الشَّديدِ الشَّاقِّ .. واستغاثةً وعَوِيلاً تتقطَّعُ معه الأعناقُ .. (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ..
ندمٌ وحسرةٌ يُقطِّعانِ القلبَ الحَسيرَ .. فيأتيهمُ الرَّدُّ من السَّميعِ البصيرِ: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ) .. أَيْ: أَوَمَا عِشْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَعْمَارًا لَوْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِالْحَقِّ لَانْتَفَعْتُمْ بِهِ فِي مُدَّة عُمُرِكُمْ؟ .. (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ .. فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ).
كانَ أهلُ الإيمانِ إذا تُليَتْ عليهم مثلُ هذه الآياتِ .. تَقْشَعِرُّ مِنْها جُلُودُهم .. وتخشعُ منها قلوبُهم .. وتدمعُ منها عيونُهم .. وتشتغلُ بالطَّاعةِ جوارِحُهم .. فَهُمْ وَجِلونَ خائفونَ .. كأنَهم همُ المخاطَبونَ .. كما وصفَهم اللهُ تعالى بقولِه: (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ).

ولكن .. ما هو ذلكَ النَّذيرُ .. الذي بعثَهُ اللهُ اللَّطيفُ الخبيرُ .. فكانَ قائداً للخيرِ وهُدىً ونوراً للأبرارِ .. وكانَ فِتنةً وعمىً وخسارةً للفجَّارِ؟.

(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) .. هو ذلك الرَّسولُ الكريمُ الذي بعثَه اللهُ الرَّحيمُ، (شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أيْ: شَديدٌ عليه ما يَشِقُّ عليكم، (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) على هِدايَتِكم .. (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) .. كادَ أن يَقتلَ نفسَه من الحُزنِ والهَمِّ لعدمِ استجابتِهم .. (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً) .. أصدقَ النَّاسِ لساناً .. وأعظمَهم أمانةً .. وأكملَهم أخلاقاً .. بشهادةِ الذي يعلمُ السِّرَ وأخفى حيثُ قالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏)، 
جاءَه أعلمُ اليهودِ عبدُاللهِ بنُ سلامٍ فماذا رأى؟ .. وماذا سَمِعَ؟، رآه فقال: (فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ)، وسمعَه فقالَ: (فَكَانَ أَوَّلَ شَىْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ).
وكما قالَ ابنُ رَوَاحةَ رضيَ اللهُ عنه:

لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيّنَةٌ *** لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَر
ِ
مَا مِنْ خَيْرٍ إِلَّا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلَا شَرٍّ إِلَّا حَذَّرَهَا مِنْهُ .. وكما قالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (تَرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، إِلَّا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا).
قرأنا سيرَتَه المُباركةَ .. فصدَّقناه ولم نسمعْهُ .. وأحببناهُ ولم نرَهُ .. حتى أصبحَ أحبَّ إلينا من أرواحنِا التي بينَ جُنوبِنا .. ونقولُ كما قالَ الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عنهم عندما سألَهم في حَجَّةِ الوداعِ: (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟) .. قَالُوا: (نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ) .. فنِعمَ النَّذيرُ.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) .. هذا القرآنُ المَجيدُ الذي بين أيْدِيكُم .. كما قالَ تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَان عَلَى عَبْده لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) .. (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) .. كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ .. وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ .. وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ .. هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ .. مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ .. وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ .. هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ .. وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ .. وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ .. هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ .. وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ .. وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ .. وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ .. وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ .. مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ .. وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ .. وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ .. وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (فإنَّ هذا القرآنَ سببٌ، طرَفُهُ بيدِ اللَّهِ، وطرفُهُ بأيديكم فتمسَّكوا بهِ، فإنَّكم لن تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعدَهُ أبدًا) .. (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) من أمورِ البِّرِ والخيرِ .. سهلٌ واضحٌ وبُرهانٌ منيرٌ .. فنِعمَ النَّذيرُ.
وبعض العلماء قالوا: النذير هو القرآن الكريم، قدم لك مسبقاً مشاهد من يوم القيامة قال تعالى
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ 
هذا حال أهل الجنة
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم ﴾
وقال سبحانه : ( قل انما انذركم بالوحي ، ولا يسمع الصم الدعاء )
)جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) .. تلكَ الأمراضُ التي تُصيبُكَ حِيناً بعدَ حِينٍ .. مواعظُ تذكِّيريَّةٌ .. ورسائلُ تحذيريَّةٌ.
فهذا فيروسٌ ضَئيلٌ، يقتَحمُ تلكَ الأجسامَ القويَّةَ، فيَثقلُ البَدنُ عن القِيامِ، واللِّسانُ عن الكلامِ، فلا تَقدِرُ اليّدُّ بَطْشاً، ولا تستطيعُ الرِّجلُ مَشياً، تَحسُ معه بالضَعفِ الواضِحِ، و وتعلمُ أنكَ كُنتَ في غُرورٍ فاضِحٍ، وتتذَكَّرُ نعمةَ الصِّحَّةِ، وكيفَ أنك كُنتَ مَغبوناً خاسِراً فيها، كما قَالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ).
وهذا عضوٌ بسيطٌ قد أدركَه الخَللُ .. أو هرمونٌ قليلٌ قد أصابَه العَطلُ .. وإذا الجسمُ يرتعِشُ .. وإذا الأطباءُ اجتمعوا يتهامسونَ فلا حول ولا فوة .. لا دواءً أعطوكَ ينفعُ .. ولا كلمةَ تفاؤلٍ تسمعُ .. حينها دارَ في خيالِك شريطُ الحياةِ سريعاً .. فعلمتَ أنكَ كنتَ في أملٍ خدَّاعٍ .. وتذكَّرتَ قولَه تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْك اللَّه بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) .. فرفعتَ بصرَك إلى السَّماءِ .. وقلتَيا اللهُ .. يا اللهُ .. .. أمنّ يجيب المضطر اذا دعاه.. لقد كانَ في الأمراضِ عِبرةٌ وذِكرى .. فنِعمَ النَّذيرُ.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) .. ذلكَ الشَّيبُ الذي اشتعلَ به الرأسُ .. ووَهَنُ منه العَظمُ .. وذهبَ معه النَّشاطُ .. وتتابعتْ معه الأسقامُ .. فأصبحَ ثقيلاً إذا قامَ .. وخفيفاً إذا نامَ .. ينادى فلا يُجيبُ الأصحابُ .. ويلتفِتُ فلا يرى الأحبابَ .. حبيسُ الذِّكرياتِ .. ندمانٌ على ما فاتَ .. رجاءُه رحمةَ من وَسِعتْ رحمتُه الأرضَ والسماواتِ .. 
عَنْ أَبِي طَوِيلٍ شَطَبٍ الْمَمْدُودِ، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَفِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلا دَاجَةً إِلا أَتَاهَا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟، قَالَ: (فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟)، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاشَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ:(نَعَمْ تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ)، قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى.

وَلَّى اَلْشَبَابُ وَهَذَا اَلْشَّيْبُ يَطْرُدُهُ *** يَفْدِي اَلْطَّرِيدَة َ ذَاكَ اَلْطَّارِدُ العَجِلُ

مَا نَازِلُ اَلْشَّيْبِ فِي رَأْسِي بِمُرْتَحَلٍ *** عَنِّي، وَأعْلَمُ أَنِّي عَنْهُ مُرْتَحِلُ

مَنْ لمْ يَعِظهُ بَياضُ اَلْشَّعْرِ أدْرَكَهُ *** فِي غِرَّة ٍحَتْفُهُ المَقدُورُ وَالأجَلُ

مَنْ أَخْطَأَتْهُ سِهَامُ اَلْمَوتِ قَيَّدَهُ *** طُولُ اَلْسِنِينِ فَلَا لَهْوٌ وَلَا جَذَلُ

 والنذير أيضاً قال: سن الأربعين، من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، أي أكل، وشرب، وتزوج، وأنجب، وذهب نزهات، وأقام ولائم، فالإنسان بالبدايات كل شيء كبير عنده، الزواج شيء كبير، المال شيء كبير، العمل، التجارة، تجد الشاب في بداياته يرى الدنيا بحجم غير معقول، فكلما تقدمت به السن صغر حجمها، أما عند الموت لا يراها شيئاً، لا يرى إلا العمل الصالح، لا يرى إلا طاعة الله، لا يرى إلا الاستقامة على أمر الله، فلذلك: من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة.
ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنةأي لم يترك الله له عذراً إذ أمهله هذه المدة.
(( عبدي كبرت سنك، وانحى ظهرك، وضعف بصرك، وشاب شعرك فاستحي مني فأنا أستحي منك ))
وقد ورد في الحديث وصححه بعض اهل العلم : (إنَّ اللَّهَ تعالى يُحبُّ أبناءَ السَّبعينَ ويستَحي من أبناءِ الثَّمانينَ  )
لقد وعظَنا الشَّيبُ وحذَّرنا .. وبِدُنُوِّ الأجلِ ذكَّرنا .. ومن معصيةِ اللهِ تعالى أنذَرَنا .. فنعمَ النَّذيرُ.


الخطبة الثانية :
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) ..  
أو المصائب: وقالوا: النذير المصائب، إنسان شارد، ساه لاه، أموره ميسرة، دخله كبير، من لقاء إلى لقاء، من اجتماع إلى اجتماع، من ندوة إلى ندوة، من حفلة إلى حفلة، من بلد إلى بلد، سفر، إقامة، مكانة اجتماعية، تأتي مصيبة، المصيبة رسالة، رسالة من الله أن يا عبدي لما لا تذكر الله ؟
لذلك قال تعالى:
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47
 سميت المصيبة في هذه الآية رسولاً أي رسالة، فاعلم علم اليقين أن ما من مصيبة تأتي إلا وهي رسالة من الله، حاسب نفسك، هناك مصائب إتلاف مال، معنى هذا انه ربما هناك مالاً حراماً أتلف، هناك مصائب فيها وضع للنفس، معنى هذا ربما أن هناك كبراً، هناك مصائب تقتير معنى هذا أن هناك إسرافاً، لا تحابي نفسك، لا تقل هذه مصيبة حتى يرفع الله درجاتي في الجنة، يقولها غيرك عنك، 
أنت قل هذه مقابل ذنب ارتكبته، مشكلة عندي معنى هذا أن هناك خطأ، أو خلل:
(( ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر )) أخرجه ابن عساكر عن البراء ]
 صارت المصائب نذيراً، ومن لم تُحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر. صار هو المصيبة.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) .. 
ذلك الزائرُ الغريبُ .. يأتي دونَ استئذانٍ .. لا يطرقُ باباً ولا يتسلقُ الجِدرانَ .. وإذا انتهى من مُهمَّتِه وغادرَ المكانَ .. تركَ خلفَه الهمومَ والأحزانَ .. كمْ تركَ من أرملةٍ ويتيمٍ .. وكمْ قطعَ من عَيشٍ كريمٍ .. ليسَ له علاماتٌ .. ولا يمنعُ منه قصورٌ ولا حِراساتٌ .. (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) .. لقد كانَ نذيراً يوميَّاً .. تنقِلُ وسائلُ الإعلامِ أخبارَ القتلى .. وتأتي الرَّسائلُ بنعي المَوتى .. يَخطفُ الصَّغيرَ والكبيرَ .. والغنيَّ والفقيرَ .. كم على جَنازةٍ قد صلَّيتَ؟ .. وكم مِن ميِّتٍ قد واريتَ؟ .. وكم مِن مفقودٍ قد عزَّيتَ؟ .. لقد كانَ الموتُ نذيراً .. ونِعمَ النَّذيرُ.
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيــا وَزِينَتُها *** وانْظُرْ إلى فِعْلِهــا في الأَهْلِ والوَطَنِ

وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها *** هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
يقول احد الفضلاء : حدثني أخ عن عشرين سنة قادمة، عن سفر إلى بلد بعيد لخمس سنوات، ماذا سيفعل في الإجازات الأربعة بين السنوات، قال لي: سنة في فرنسا، وسنة في إيطاليا، وسنة في بريطانيا، وسنة في إسبانيا، أتعرف على هذه البلاد، أرى متاحفها، أرى عاداتها، تقاليدها، أعود إلى البلاد أقدم استقالتي، أشتري محلاً تجارياً أجعل فيه تحفاً، لأن التحف ليس لها علاقة بالتموين، أشياء لطيفة ولا تفسد، يكون أولادي قد كبروا وأنا آتي إلى هذا المحل ، هو مدير ثانوية، وأنا أسمع له، حكى عن عشرين سنة، أقسم لكم بالله تجاوز الحديث عشرين سنة، مساءً جاء خبر موته في اليوم نفسه،
أيها المسلمون: وكما ذكرت نذر الله عز وجل لخلقه في كونه، كثيرة ومتنوعة ومتعددة، ولكنها كما قال تعالى: (وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَفضعاف الإيمان، المكذبون، الذين ينذرهم الله عز وجل ويحذرهم؛ ليمتثلوا أمره ويتبعوا رسوله النذير صلى الله عليه وسلم، إذا ماتوا وهم على ذلك، فإنهم على خطر عظيم، وهل هناك أخطر من دخول النار -يا عباد الله- يقول عز وجل عنهم فيها: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا).

فينبغي للمسلم أن يستيقظ من غفلته، وكما ترون وتسمعون -أخوتي في اللهزلازل مدمرة، ورياح عاتية، وسيول جارفة، وأمراض مزمنة، وخسوف وكسوف، 
أيها الأخوة: إن هذه المصائب والكوارث، والآيات التي يخوف الله بها عباده، صرنا نعايشها واقعاً ملموساً، فلم نعد نسمع بها مجرد سمع، بل صارت تتكرر وبكثرة، وبشكل يوقظ القلوب الغافلة، ويبعث الخوف في الضمائر الواعية.

أيها الأحبابُ .. لقد تكاثرتْ علينا النُّذُرُ .. فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ؟ .. وهل مِن مُعتَبِرٍ؟ .. هل من رُجوعٍ إلى اللهِ تعالى قبلَ القَبرِ؟ .. ونعوذُ باللهِ أن نكونَ مِمن يُقالُ لهم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟) .. (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ).
3

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق