إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 26 نوفمبر 2021

الصدقة وفضلها

  الصدقة وفضلها 

اعلموا ـ عباد الله ـ أن الصدقة باب للرزق فلا تغلقوه، وطريق للخير فلا تنكبوه، اطلبوا الرزق الواسع بها، فبها يبارك الله لك في رزقك القليل، 

والرسول الكريم يوجهنا: ((داووا مرضاكم بالصدقة)). فبها يصرف الله عنك البلاء، ويفتح عليك أبواب الخير والسعادة، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! 

 

فأنت بصدقتك أدخلت السرور والفرح على أهل بيت ضاقت بهم السبل واشتد عليهم الكرب، فجاءت صدقتك نورًا وأملاً يبدد ظلامهم الدامس ويأسهم القاتل، فالله سبحانه حقيق أن يبدد من حولك الظلمات، ويدخل على قلبك السعادة والأمل. 

 

استنزلوا الرزق بالصدقة، فقد فرض الله الزكاة تسبيبًا للرزق، فلا تبخل بحق الله في مالك، فهو الواهب وهو المانح، فإن مَنَعتَ مُنِعْتَ، فأي المنْعَيْن أشدّ؟! فإنّ لله في كل نعمة حقًا، فمن أداه زاده منها، ومن قصّر عنه خاطر بزوال نعمته.

 

الزكاة تحصين، والصدقة حفظ، والعطاء زيادة، والبذل سيادة. سوسوا إيمانكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء. 

 

فاستنزلوا الرزق بالصدقة، فقهٌ ينبغي له أن يحيَا فينا، فيتبوأ مكانًا عليًا، ويتصدر فهمنا، ويحكم سلوكنا، ويتوّج عرش قلوبنا، حتى نتخلّص من شحّ نفوسنا وسوء ظننا. 

 

ومن الأحاديث الدالة على فضل الصدقة قوله : ((ما منكم من أحدٍ إلاّ سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) أخرجاه في الصحيحين. 

 

عباد الله، إن للصدقة فضائل عظيمة :

 

أولاً: أنها تطفئ غضبَ الله سبحانه وتعالى، كما في قوله : ((إن صدقة السّرّ تطفئ غضب الربّ تبارك وتعالى)) صححه الألباني في صحيح الترغيب. 

 

ثانيًا: أنها تمحو الخطيئة وتذهب نارها، كما في قوله : ((والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار)) صححه الألباني 

 

ثالثًا: أنها وقاية من النار، كما في قوله : ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)). 

 

رابعًا: أن المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة، كما في حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل امرئ في ظلّ صدقته حتى يقضى بين الناس)). وقد ذكر النبي أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) أخرجاه في الصحيحين. 

 

خامسًا: أن في الصدقة دواء للأمراض البدنية، كما في قوله : ((داووا مرضاكم بالصدقة)). يقول ابن شقيق: سمعت ابن المبارك وسأله رجل عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال: اذهب فاحفر بئرًا في مكان حاجةٍ إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ.

 

سادسًا: إن فيها دواء للأمراض القلبية، كما في قوله لمن شكا إليه قسوة قلبه: ((إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح على رأس اليتيم)) رواه أحمد. 

 

سابعًا: أن الله يدفع بالصدقة أنواعًا من البلاء، فالصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض مقرون به لأنهم قد جربوه. 

 

ثامنًا: أن المنفق يدعو له الملك كلّ يوم بخلاف الممسك، وفي ذلك يقول : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)) أخرجاه في الصحيحين. 

 

تاسعًا: أن صاحب الصدقة يبارك له في ماله، كما أخبر النبي عن ذلك بقوله: ((ما نقصت صدقة من مال)) رواه مسلم. 

عاشرًا: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به، كما في قوله تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ[البقرة: 272]. ولما سأل النبيّ عائشة رضي الله عنها عن الشاة التي ذبحوها: ((ما بقى منها؟)) قالت: ما بقى منها إلا كتفها، قال: ((بقي كلها غير كتفها)) رواه مسلم. 

 

الحادي عشر: أن الله يضاعف للمتصدق أجره، كما في قوله عز وجل: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 18]، وقوله سبحانه: مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245].

 

الثاني عشر: أن صاحبها يدعى من باب خاصّ من أبواب الجنة، يقال له: باب الصدقة، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان))، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) أخرجاه في الصحيحين. 

 

الثالث عشر: أن فيها انشراح الصدر وراحة القلب وطمأنينته،. فالمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسح بها صدره، 

 

الرابع عشر: أنَّ الصدقة مطهرة للمال، تخلصه من الدَّخن الذي يصيبه من جراء اللغو والحلف والكذب والغفلة، فقد كان النَّبي يوصي التّجار بقوله: ((يا معشر التجار، إنَّ هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع.

 

 

الخطبة الثانية :

فيا من أنعم الله عليهم بالأموال، قدموا لأنفسكم من أموالكم ما تؤمّنون به مستقبلكم الحقيقي، واشتروا منازلكم في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء، في نعيم لا يَبِيد وقصر مَشِيد، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، 

 

وأقرضوا الله قرضًا حسنًا، فالله تعالى يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وساهموا في التجارة الرابحة مع الله عز وجل لعلكم تفلحون.

 

أيها المسلمون، لو قرأ أحدنا إعلانًا في جريدة أو صحيفة أو عُرِض عليه الاشتراك في مساهمة أو صفقة تجارية يكون ربحه فيها عشرة أو عشرين أو خمسين بالمائة لبذل النفس والنفيس ليشترك فيها، ولاجتهد أن لا تفوته هذه الفرصة، مع علمه أن الأمر مغامرة ومخاطرة، وأنه قد يربح وقد يخسر، ولكنه يتجاهل ذلك كله، ويغض الطرف عنه، ويصبّر نفسه، ويقنّعها بالمساهمة، كل ذلك من أجل حَفْنة من المال يحصلها وينميها، ثم لعله أن يدركه الموت قبل أن يذوق لها طعمًا أو يرى لها نتاجًا، ويكون عليه بعد ذلك حسابها ، ويكون لغيره من الورثة عائدها وغنمها.

 

فما بالنا ـ أيها الإخوة ـ نقرأ كثيرًا، ونُدعى بين فينة وأخرى إلى مساهمة لا مثيل لها في أرباحها الكثيرة وضماناتها التي لا تَتَخَلّف ولا تُخْلَف، 

فإن الله سبحانه هو الذي ضمن لنا هذا الربح، وتكفّل لنا به، بل ودعانا إليه، ورغّبنا فيه، وهو الذي لا يخلف الميعاد، ألم يقل سبحانه في محكم كتابه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة:261]؟!

 

ألم يبلغنا قول الناصح الحبيب : ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تغدو مثل الجبل))؟!

فيا لها من أرباح عظيمة عظيمةويا له من كرم ما بعده كرم! يتصدق العبد بتمرة أو مثلها من كسب حلال فيقبلها الله تعالى ويربّيها له وينميها حتى تكون مثل الجبل، والله إنه لخير عظيم وفضل عميم، لا ينبغي لإنسان أن يسمع به ثم يزهد فيه، ولا لصاحب مال مهما قلَّ يبلغه هذا الفضل ثم يمسك ماله عن الإنفاق في سبيل الله، ولكنها ـ ورب الكعبة ـ نفوس بعض بني آدم الضعيفة، والبخل والشح الذي أهلك من كان قبلنا.

 

ويقول : ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلِم عبد مَظْلَمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)).

 

عباد الله : الساعي على المحتاجين كالمجاهدِ والعابد، قال : ((الساعِي على الأرملة والمسكينِ كالمجاهد في سبيلِ الله أو كالذي يصوم النّهارَ ويقوم اللّيل)) متفق عليه، وكان نبيّنا محمد أقربَ الناس إليهم، يتلمَّس أحوالهم، ويقضِي حاجاتِهم، يقول سهل بنُ حنيف رضي الله عنه: كان رسول الله يأتي ضعفاءَ المسلمين ويزورهم ويعودُ مرضاهمويشهَد جنائزهم. رواه أبو يعلى

 

الخميس، 18 نوفمبر 2021

عندما تنتكس الفطرة

 (  عندما تنتكس الفطرة ) 

 أيها المسلمون: إن الله -تعالى- خلَق الإنسانَ على فطرة سوية؛ وهي الخِلْقة التي خلَق اللهُ عبادَه عليها، وجعَلَهم مفطورينَ عليها، وعلى محبَّة الخير والفضائل والمحاسن، وكراهية الشر والمساوئ والقبائح، وفطَرَهم حنفاءَ مستعدينَ لقَبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه.

 والدين الإسلامي ديـن الفطـرة السـليمة، فخالقُ الفطرة -جلَّ في علاه- هو الذي أنزل الدينَ القويمَ، وشرَعَه وارتضاه، ولم يقبل من أحد دينا سواه؛ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الرُّومِ: 30].

وهذه الخِلقة التي خلَق اللهُ الناسَ عليها تأبى الشهواتِ الشاذةَ بحُكم فطرتها، وهذا في غالب الناس؛ إذ النادر لا حُكم له، بل هو شاذٌّ، فلا يُعتَدّ بمن طرأ على فطرته عارضٌ فأفسَدَها وطمَس بصيرتَها، حتى تختلَّ المفاهيمُ لديه؛ فيرى الحقَّ باطلًا والباطل حقًّا، والحسنَ قبيحًا، والقبيحَ حسنًا، والحلالَ حرامًا، والحرامَ حلالًا،

فعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ؛ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا؛ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه".

 عبادَ اللهِ: توحيد الله وعدم الإشراك به هو مقتضى الفطرة التي فُطِرَتْ عليها البشريةُ كلُّها؛ فقد وُلِدَ الناسُ حنفاءَ على فطرة الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ"، 

وجاء في الحديث القدسي "إنِّي خلقتُ عبادي حنفاءَ، فاجتالَتْهم الشياطينُ"، لكن عندما تنتكس الفطرةُ وتتعطَّل العقولُ يَضِلُّ العبادُ؛ فيُشركون بربهم، ويعبدون الأصنامَ، والأحجارَ، والأشجارَ، والكواكب، والشيطان، والبقر، والفئران، وغيرَها من المعبودات الباطلة، والآلهة الزائفة، التي تُعبَد من دون الرحمن، ومع فساد فطرة هؤلاء، وفَقْدِهم الهدى، فهم يُصِرُّون على باطلهم، ويستحِبُّون الكفرَ على الإيمان، حتى إن منهم مَنْ يبذُل جهدَه للصدِّ عن سبيل الله وفتنة المؤمنين؛ لإخراجهم من عبادة الواحد الدَّيَّان إلى عبادة الأوثان، وردِّهم عن دين الفطرة المستقيم ليَضلوا مثلهم، ويكونوا من أصحاب الجحيم.

عند الشدائد والأهوال تستيقظ فطرةُ الإنسان؛ فيُفرِد ربه بالألوهية، كما قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)[الْإِسْرَاءِ: 67]، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ عندَ بعض جهلة المتسمِّينَ بالإسلام إذا دهمتهم الشدائدُ وغشيتهم المحنُ والكروبُ تركوا دعاءَ الله، واستغاثوا بمن يعتقدون فيه الولايةَ والصلاحَ، وطلبوا منه العونَ والمددَ؛ فكانوا في ذلك أسوأَ من المشركين عبدةِ الأصنام، الذين كانوا عند حلول الحوادث العظام، والخطوب الجسام، يلجؤون إلى الله وحدَه، وينسَوْن آلهتَهم، طالبينَ النجاةَ كما قال -جل في علاه-: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 65].

 أيها الإخوةُ: لقد جبَل اللهُ الذَّكَرَ والأنثى بخِلقة وطباع وخصائص، يتمايز بها كلٌّ منهما عن الآخَر، قال تعالى (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)[آلِ عِمْرَانَ: 36]، وهذه خلقة الله لا تبديل لخلقته، وقد لَعَنَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال،

لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ، فمن الشباب مَنْ يتنكَّر لطبيعته؛ فيتعمَّد مشابهة النساء: متأنثًا في ملبسه، متميعًا في كلامه، متغنِّجًا في ضحكه، متكسِّرًا في مِشيته، وتلحَظ في هيئته ما لا يدلُّ على رجولته، وقد يشتبه عليكَ أمرُه؛ أذَكَرٌ هو أم أنثى؛ ممَّا يبدو لكَ من مظهره، وكذلك من الفتيات مَنْ تتنكَّر لطبيعتها، وتتخلَّى عن أنوثتها، وتتمرَّد على فطرتها، فتتشبَّه بالرجال فيما يختصُّون به شرعًا أو عرفًا؛ من الكلام، أو الهيئة، أو اللباس، أو غير ذلك.

ومِنْ حكمةِ اللهِ البالغةِ أَنْ خلَق الزوجينِ الذكرَ والأنثى، وفطَر كلًّا منهما على الميل إلى الآخَر، والنكاحُ في الإسلام هو اقتران بين ذكَر وأنثى، وهو فطرة وحاجة إنسانية، يعطي لكلِّ واحدٍ من الزوجينِ حقَّ الاستمتاع بالآخَر على الوجه المشروع،

لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ، فمن الشباب -مع استطاعته الزواج- فإنه يعزُف عنه؛ بحجة أنه ارتباط ومسؤولية وله تبعاتٌ، وكذلك مِنَ الفتيات مَنْ ترفض الزواجَ، ولا ترغب فيه معتقدةً أنه كبتٌ للحرية، وتحكُّمٌ في المرأة، وقد يعمَد مَنْ يختار العزوبةَ من الفتيان والفتيات -هداهم الله- إلى علاقات محرَّمة لإشباع نَهمتِهم وتحقيق مطمحهم، 

وعندما تنتكس الفطرةُ كذلك تُرتَكَب الكبائرُ، وتستساغ الرذائلُ والمناكرُ؛ والعلااقاتالشاذة، وكذلك ما يُطلَق عليه زورًا وبهتانًا بزواج المثلِيِّينَ، وما هو بزواج، بل شذوذٌ، ومسخٌ للفطرة الإلهية السوية، وتغييرٌ للجِبِلَّة الإنسانية، ومخالفةٌ للغريزة التي وضعَها اللهُ في مخلوقاته، وهكذا فمتى ارتكَسَتْ فطرةُ المرء عاش حياةً هابطةً رخيصةً، لا يُبالي بما صار إليه حالُه من الخِسَّة، والانحطاط الخُلُقيّ.

 

وممَّا ابتليتُ به مجتمعاتُ المسلمين مؤخرًا، وكان من معاول هدم العلاقات الأسرية، والأواصر الاجتماعية، قيامُ بعض النساء -هداهن الله- بمخالَعة أزواجهم، لغير سبب شرعيّ، أو لأتفه الأسباب؛ بحجة أن تُصبِح المختلِعةُ حرةً غيرَ مقيدة، وقد يُسوِّل لها الشيطانُ بعد مخالعتها زوجَها إقامةَ علاقة محرَّمة مذمومة، تأثُّرًا بشبهات وأفكار مسمومة، تتجرَّع من جرَّائها الويلاتِ، وتجني من ورائها الحسراتِ.

والغَيرة -عباد الله- من طباع الفطرة الإنسانية السوية؛ فالرجل السويُّ يغار على أهله وعِرضه؛ فعندما بلغَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قولُ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ: "لو رَأَيْتُ رَجُلًا مع امْرَأَتي لَضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ عَنْهُ"، قالَ: "أَتَعْجَبُونَ مِن غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي..." الحديثَ، 

لكن عندما تنتكس الفطرةُ، يُضيِّع الرجلُ مسؤوليتَه، فلا ولايةَ ولا قوامةَ، ويُهمِل رعيتَه ولا يغار عليهم، بل يَرى المنكرَ في أهل بيته فلا يتمعَّر وجهُه، وقد جاء في الحديث "ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ".

إنَّ ممَّا فُطرت عليه النفسُ السويةُ، وجُبلت عليه الطباعُ المَرْضِيَّةُ الأنفةُ من الزنا واستهجانُ فعله؛ ولذلك لَمَّا سأل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك الشابَّ الذي طلَب الإذنَ في الزنا قائلًا له "أتحبُّه لأُمِّكَ؟ أتحبُّه لابنتِك؟ أتحبُّه لأختِك؟"، كان الشاب يقولُ في كلّ واحدٍ: "لَا، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ"، وهو -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يؤكِّد له أن الناس لا يُحِبُّونه، لا لقريب ولا لبعيد، 

ولَمَّا بايَع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- النساءَ، وأخَذ الميثاقَ عليهنَّ ألَّا يزنينَ، قالت هندُ بنتُ عتبة: "يا رسول الله، أَوَ تَزْنِي الحُرَّةُ؟!"؛ أَيْ: أيُعقَل أن تزني المرأةُ الحرةُ العفيفةُ، وهي تعلَم أنه فاحشةٌ ومنكرٌ وعارٌ، ولكن عندما تنتكس الفطرةَ ترى بعضَ النساء قد أضاعَتْ عفتَها، وباعَتْ عرضَها، ودنَّسَتْ شرفَها، فلا مراعاةَ لفضيلةٍ، ولا امتناعَ عن مقارفة الرذيلة.

عبادَ اللهِ: الحياءُ، والعفةُ، والمروءةُ، والشهامةُ، خصالٌ حميدةٌ، وسجايا كريمةٌ، تتجاوب وتتناسَق مع الفطرة السليمة، فهذا شاعر في الجاهلية قبل الإسلام يقول عن امرأة في عصره:

سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ *** فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ

فحينَ سقَط خمارُها تناولَتْه، مغطيةً وجهَها بمعصميها، ولا غروَ؛ فالفطرة تدعو إلى حشمة المرأة وعفافها، والتستر وعدم التعري، لكِنْ عندما تنتكس الفطرة، فهناك من النساء من تنزع عنها ثوب الحياء، فلا تبالي بسفورها وتبرجها، وإبداء زينتها ومفاتنها أمام الرجال الأجانب، وهذا شاعر جاهلي يصف حاله مِنْ غَضِّه طَرْفَه عن امرأة جارِه؛ تحشُّمًا واحترامًا لقَدْر الجار، وحفظًا لحقه، وحمايةً لعرضه، فيقول:

وَأَغُضُّ طَرْفِي إِنْ بَدَتْ لِي جَارَتِي *** حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي مَثْوَاهَا

لكن عندما تنتكس الفطرة ينتهك المرءُ الحرماتِ؛ فيخون جارَه، ويعمَد إلى أذية نسائه والتحرش بهنَّ، وقد يرتكِب ما هو أشدُّ قبحًا، وأعظم جرمًا؛ فيزاني حليلةَ جاره، الذي عَدَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من أعظم الذنوب.

 عبادَ اللهِ: والطهارة المعنوية والحسية متوافقةٌ مع الفطرة السليمة؛ فطهارة اللسان وجَمال المنطق مَنقَبةٌ فاضلةٌ، والبذاءةُ والسفاهةُ من الأخلاق السافلة، التي تنبو عنها النفوسُ الكريمةُ، ويأبى التخلقَ بها أصحابُ الفِطَرِ السليمةِ، قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ"،

لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ فلا يُستحيا من قبيح الكلام وفاحشه، بل تُصبح البذاءةُ والسفاهةُ مقبولةً مستساغةً، يَسهُل انتشارُها وجريانُها على الألسنة بلا نكيرٍ، 

 بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 الخطبة الثانية:

أما بعدُ، فيا أيها المسلمون: الفطرةُ السويةُ عندما تسلَم من العوارض المؤثِّرة، تعرِف الحقَّ، وتتجه للخير، وتستقيم لربها، جاء في الحديث "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلةَ أُسْرِيَ به، أُتِيَ بقَدَحَيْنِ: قَدَحِ لَبَنٍ، وقَدَحِ خَمرٍ، فنظَر إليهما، فأخَذ اللَّبَنَ، فقال جِبريلُ: الحَمدُ للهِ الذي هداكَ للفِطْرةِ، لو أخَذتَ الخَمرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ"، قال النووي -رحمه الله-: "ومعناه -واللهُ أعلمُ- اخترتَ علامةَ الإسلام والاستقامة، وجعَل اللبنَ علامة لكونه سهلًا طيبًا طاهرًا سائغًا، للشاربين، سليم العاقبة، وأما الخمر فإنها أُمُّ الخبائث، وجالبةٌ لأنواع من الشر في الحال والمآل".

 عبادَ اللهِ: وعلى قدر عمل الإنسان بهذا الدين والالتزام به والاستقامة عليه، تصحُّ الفطرةُ، وتُصرَف عنها المفسداتُ، وقد أدرَك أعداءُ الدينِ أن المجتمع المسلم فُطِرَ على أخلاق الإسلام، ولن ينحرف عن تعاليم الدين، ويسلك طريقَ الغواية إلا إذا تشوَّهت الفطرةُ في قلوب أبنائه، ومتى انحرفت السَّجِيَّة فلا واقٍ من انحراف السلوك، وسوء الأفعال، وفساد الأفكار.

 معاشرَ المسلمينَ: ما أكثرَ الداعينَ إلى التمرد على الفطرة، ومن أولئك مَنْ يقوم بترويج ما يدعو إلى تبديل الفطرة وارتكاسِها، عبرَ وسائل التواصل الحديثة، وغيرها، 

فإذا أرَدْنا أن تستقيمَ حياتُنا، وننعَم بالسعادة فلا بدَّ أن نَثبُتَ على فطرتنا السوية، التي فطَرَنا اللهُ عليها، ونحذَر من انتكاستها، ونتمسَّكَ بهديِ ربِّنا ومنهجه القويم، ولا نُعرض عنه؛ فالإعراضُ عنه كفيلٌ بأن يُحِيلَ حياةَ الإنسان في دنياه وأخراه إلى شقاء وضيق وعذاب مستمرّ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124].

الجمعة، 12 نوفمبر 2021

تذكر الموت

 ( تذكر الموت ) 

أيها الأحبة: لقد خلقنا الله وأخرجنا إلى هذه الحياة وسنعيش فيها مدة من الدهر ، وهو تعالى يُنْهِى هذه الحياة دون علم منا بوقت ذلك ، قال الله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ* مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ* ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ.)  [عبس:17 – 22] 

إن انتهاء الحياة أمرٌ محتومٌ لا جدالَ فيه، ونهايتُها تكون بأحد أمرين، الأول: هلاك جميع الأحياء إلا من شاء سبحانه، يقول جل ذكره: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88] ويقول: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:27]. 

وهلاكهم يكون بالنفخ في الصور قال الله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) [الزمر:68]

تلكم النفخة الهائلة المدمرة التي إذا سمعها المرء لا يستطيعُ أن يوصي بشيء، ولا يقدر على العودة إلى أهله قال الله تعالى: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ). [يس:50،49] 

وفي الحديث الطويل الذي يرفعه للنبي ﷺ عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: « ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. [أي أمال صفحة عنقه ليسمع] قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ قَالَ: فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ». رواه مسلم. 

وقد ذكر النَّبِيُّ ﷺ عن سُرْعَةِ هَلَاكِ العبادِ يومَ تقومُ الساعةُ فَقَالَ عَجَباً: «وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا». رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.                         

الأمر الثاني: الموت.. بأن يفارق الإنسانُ الحياة بالوقت الذي كتبه الله عليه 

ومن مات قامت قيامته، يقول سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). [آل عمران:185] 

والموت حق على الإنس والجن، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ». رواه مسلم وروى البخاري بعضه فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

أيها الإخوة: وللموت وقته المحدد؛ فلا يستطيع أحد أن يرده، 

وقد قدر الله آجال العباد ولن يتجاوزها أحد.. وأجرى بها القلم فهي مكتوبة عنده في اللوح المحفوظ، 

ففي الحديث يقول رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ رَبِّ: وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ». رواه أبو داود والترمذي عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني. 

ويكتبُ الملكُ الكريمُ عليه السلام على كل جنينٍ وهو في بطنِ أمِهِ أجلَه وينفخُ فيه الروحَ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ». رواه البخاري وغيره.

إذاً مَنْ مَاتَ، ماتَ بأجلِه الذي قدَّرَهُ اللهُ تعالى وأمضَاه قَالَ اللهُ تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا). [آل عمران:145] ويقولُ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ). [الأعراف:34] 

ويقُولُ: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). [الجمعة:8]   

وكما أخفى عنا سبحانَه وقتَ الموتِ أخفى عنا مكانَه، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). [لقمان:34] 

وعَنْ أَبِي عَزَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَرَادَ قَبْضَ رُوحِ عَبْدٍ بِأَرْضٍ، جَعَلَ لَهُ فِيهَا أَوْ قَالَ: بِهَا حَاجَةٌ». رواه أحمد وغيره قال الأرناؤوط إسناده صحيح، رجاله ثقات. قال السندي: قوله: جعل له فيها أي: ليذهب إليها فيموت بها.  

أيها الأحبة: إذا تقرر عندنا أنَّ الإنسانَ سيعيشُ في الدنيا زمناً مقدراً ثم يترُكُها للقاءِ ربِهِ، فمن الحزمِ أنْ نداومَ على تذكرِ هذه النهايةِ الحتمية وهي الموت..

ولقد أرشدنا رسولُ الله ﷺ إلى إجراء فريدٍ متى داومنا عليه في هذه الحياة وَصَلَنَا بِمُسْتَقْبَلِنا الذي ينتظرنا إن شاء الله، 

وهذا الإجراء هو دوام تذكر هادم اللذات أو هاذم اللذات: أي الموت. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ». رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقال الألباني حسن صحيح. 

وفي روايةٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتَ؛ فإنه لم يَذْكُرْه أحدٌ في ضِيقٍ مِنَ العَيْشِ إلا وَسَّعَهُ عليه، ولا ذَكَرَهُ في سَعَةٍ إلا ضَيَّقَها عَلَيه». ذكره الألباني في الجامع الصغير وحسنه. 

قوله هاذم اللذات: بالذال بمعنى قاطعها، وبالدال من الهَدَم. والمراد أن الموتَ، هو هاذمُاللذات لأن مَنْ يَذْكُرُه يَزْهَدُ في اللذات. وهادم اللذات لأنه إذا جاء ما يُبْقِي مِن لذائذ الدنيا شيئاً

أحبتي: تَذَكُرُنَا للموتِ يجعلُنا نتذكرُ الآخرة وما ينتظرنا فيها من حسابٍ ، فيكون هذا دافعاً لنا لنعيد النظر فيما قدّمنا من أعمال، ونتدارك الأخطاء ونتوب توبةً نصوحاً قبل أن يباغتنا الموت فلا تنفعنا التوبة..

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ». رواه الترمذي وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وهو حديث حسن. 

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ». وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ." رواه البخاري

تذكُّر الموت أيها الإخوة: مع فهم معناه هو الذي يَقْضِي على البغيِ في المجتمعِ..

تذكرُ الموتِ مع معرفةِ حقيقتِه هو الذي يُنهى الظلم والطغيان في المجتمع..

تذكر الموت مع فهم حقيقته هو الذي يجتثُ الفسادَ من جوانب المجتمع.. تذكر الموت مع فهم حقيقتِه هو الذي يقي المجتمع من الانزلاق في مهاوي الفساد ومواقع الضلال..

أسأل الله تعالى أن يوفقنا لتذكر الموت والاعتبار بذلك والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد... 

الخطبة الثانية

أَمَّا بَعْدُ أيها الإخوة: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، واحذروا سخطه ومعاصيه، إذا أحسسنا بقسوة في القلب ولهفة على الدنيا نسارع لعلاج أنفسنا بتذكر الموت بأي طريق يذكرنا... 

 أحبتي: ما نراه في المقابر أعظم وأكبر معتبر، فحامل الجنازة اليوم محمول غدًا.. ومن يرجع من المقبرة إلى بيته سيُرجعُ عنه غدًا.. ويُترك وحيدًا فريدًا مرتهنًا بعمله، فإن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.. أين الذين بلغوا المنى فما لهم في المنى منازع؟! جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا، بنوا مساكنهم فما سكنوا.. ولكننا ننسى الموت، ونسبح في بحر الحياة وكأننا مخلدون في هذه الدار، قال أويس القرني رحمه الله: توسّدوا الموت إذا نمتم، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم

نَتَذَكَرُ الموتَ لنُحْسنَ الاستعدادَ لما بعده بالعمل والطاعة والاجتهاد في العبادة. الاستعداد للموتِ يكون بهجر المنكرات، وترك المعاصي، ورد المظالم والحقوق إلى أهلها.. الاستعداد للموت يتم بإزالة الشحناء والبغضاء والعداوة من القلوب.. الاستعداد للموت يكون ببر الوالدين وصلة الرحم.. وقد قيل: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوجل بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة

أحبتي: متى يستعدُ للموتِ من تظلله سحائب الهوى ويسير في أودية الغفلة.؟! متى يستعد للموت من لا يبالي بأمر الله في حلال أو حرام.؟! متى يستعد للموت من تهاون بالصلاة ولم يؤدها في وقتها..؟! متى يستعد للموت مَن أكل أموال الناس بالباطل وأكل الربا.؟! كيف يكون مستعدًا للموت من لوث لسانه بالغيبة ولم يستغفر منها ومن سعى بالنميمة، وامتلأ قلبه بالحقد والحسد، وضيع أوقات عمره في تتبع عورات المسلمين والوقوع في أعراضهم.؟! 

أيها الأحبة: لنحذر جميعا من أن نكون ممن يرجو الآخرة بغير عمل.. ويؤخر التوبة لطول الأمل.. وقد علمنا أن الموت يأتي بغتة. وعلينا أن نكثر من زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة، وأن نعتبر بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، جاءه الموت في وقت لم يحتسبه وهولٍ لم يرتقبه

تؤمل في الدنيا طويلا ولا تــدري
 
إذا جــــن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة
 
وكم من مريض عاش حينا من دهر