إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 28 نوفمبر 2019

لا إيمان لمن لا أمانة له

لا إيمان لمن لا أمانة له ) 

إخوة الإيمان: ما أجمل الحديث حينما يكون عن النزاهة والأمانة، وما أروع الكلمات حين تُدَّبج في التحذير من الاختلاس والخيانة، ولكن أجمل من ذلك وأروع أن نرى الأمانة رجالاً، والنزاهة فعالاً.
نراها في شخصيات رجال عاشوا في دنيا الناس، رأوا طنين المال ورنينه، وكانت لهم نفوس كغيرهم تحب المال، وتأمرهم بالسوء، بيد أنَّ هذه النفوس كانت ملأَ بالإيمان والتقوى، التي تلجم صاحبها عن كلِّ كسب خبيث.
كانت لهم أخلاق عالية سامية، ترفعوا بعدها أن يوصفوا بشيء من الخيانة.
كان بين جوانحهم خوفُ الله ومراقبتُه، واستشعارُ الحساب يوم الحساب على الفتيل والقطمير قبل الكثير والكبير.
إن الحديث عن الأمانة ليس هو حديث عن الأخلاق وحسب، ولا عن ضبط أمور الدنيا، إن الحديث عن الأمانة حديث عن الإيمان، فلا إيمان لمن لا أمانة له قالها النبي عليه الصلاة والسلام ، ومن علامات الفساد التي أخبر عنها المصطفى عليه الصلاة والسلام أن تُضيَّعَ الأمانة، وأن يؤتمن الخائن، ويخون الأمين.
فتعالوا نقلب صفحة النزاهة والأمانة في تاريخ خير جيل، وكيف حالهم معها، فتراجم هؤلاء مواعظ صامته، وحياتهم وأخبارهم مثلاً وسلفاً ليس للمسلمين فحسب، بل وللأجيال والبشرية جميعاً.
ومع رمز الأمانة، ودرة النزاهة، وأمين من في السماء، مع محمد عليه الصلاة والسلام الذي تحلى بالأمانة ولازمها في صباه وشبابه، فعرفته مكة، وأسواقها، وجبالها، وسهولها، فعرفت فيه النزاهة والصدق، حتى لُقِّب بالصادق الأمين، قبل أن يأتيه الوحي من رب العالمين.
ها هو رَسُولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام يتَضَوَّرُ ذَاتَ لَيْلَةٍ على فراشه, قد طار النوم عن أجفانه من أمرٍ أهمَّه ـ والمهموم لا ينام ـ فيُسأَلُ: مَا أَسْهَرَكَ يا رسول الله؟ مَا أَسْهَرَكَ يا رسول الله؟
ما الذي جعل الأرق يلازمك؟ فلم تُغمض لك عين؟ ما الأمر؟ ما الخبر؟
إنها تمرة، نعم تمرة وجدها النبي تحت جنبه فأكلها، فتذكر أن عنده تمر من تمر الصدقة قد أودعه عنده، وهي لا تحل له، فخشي أن تكون تمرة من عرض هذا التمر. ( المسند – صححه احمد شاكر )
لقد خاف عليه الصلاة والسلام أن يكون أكل شيئاً لا يحل له، وهو مؤتمن عليه.
كم هو زهيد أمر التمرة في أعين الناس ولكنها في أعين الأمناء العظماء ليست بيسير.
إنها تمرةٌ واحدةٌ، ولو أكلت لم تضرَّ أحداً، فكيف تكون حاله عليه الصلاة والسلام لو كان هذا الشيء يتعلق فيه أذى للناس، أو أكل لحقوقهم بغير حق.
نعم لقد استعظم النبي عليه الصلاة والسلام أمر التمرة، لأن القضية قضية أمانة، فمن هوَّن شأن التمرة، رق في قلبه من هو في مثلها، أو أعلى منها، وهكذا تهون الأمانة في قلب العبد حتى يطبع على الخيانة.

ـ ومع شامة أخرى في تاريخ الأمناء، مع الصديق رضي الله عن الصديق.
كان رضي الله عنه صاحب تجارة قبل الخلافة، فلما ولي الخلافة خرج كعادته حاملاً على كتفيه لفافة كبيرة من الثياب، وفي الطريق يلقاه عمر، فيسأله: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ قال: إلى السوق، فقال عمر: إلى السوق وقد وليت أمر المسلمين
فقال أبو بكر: فمن أين أُطعم عيالي؟ فقال عمر: انطلق معنا لنفرض لك شيئاً من بيت المال، وبعد مشاورات بين الصحابة اتفقوا أن يفرض للخليفة بعض شاة كل يوم، ومائتين وخمسين دينار في العام، في مقابل تفرغه لأمر الناس.
ولم يزل الصديق على هذا المرتب وتلك النفقة، يأخذ منها قدر حاجته بلا سرف، فأنفقَ رضي الله عنه في مُدَّةِ خلافته ثمانية آلاف درهم، فلما حضره الموت قال: إذا أنا متُّفخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم, وردوها في بيت المال, فلما مات رضي الله عنه, جاء الرسولُ إلى عمر بهذه الأموال، فبكى عمر وقال: رحم الله أبا بكرلقد أتعبَ مَن بعده.

ـ ومع الخليفة الثاني الذي كان أعجوبة في أمانته وديانته، مع الفاروق رضي الله عنه، الذي جاءته كنوز كسرى وقيصر صاغرة مطأطأة حتى وضعت تحت قدمه.
فتحت المدائن عاصمة الفرس وجُمِعَتِ غَنَائِمُها, فإذا هي تزيدُ على الثمانين مِلْيوناً, وهذه من المدائن فقط، وحُملتْ إليه الكنوزُ والْمُجوهرات المرصعة بالذهب في رواحل كثيرة، فلما وصلت المدينة، ورأها عمر، وقف متعجبا منها، ومعجباً بأمانة من جاؤ بها، فقال: إِنَّ قوماً أَدَّوْا هَذَا لَأُمَنَاءُ، فقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: عَفَفْتَ فَعَفَّتْ رَعِيَّتُكَ، وَلَوْ رَتَعْتَ لَرَتَعَتْ.
لقد كان الفاروق حريصاً على مال المسلمين أشد من حرصه على ماله، لأنه استشعر أنه مؤتمن عليه، فكان كثيراً ما يراقب إبل الصدقة، وينظر فيها، بل ربما ندَّ بعض الإبل، فترى عمر يركض خلفها ليرجعها إلى معاطنها حتى لا تضيع.
عيَّن عمر رجلاً اسمه معيقيب على بيت المال المسلمين، فكنس بيت المال يوماً فوجد فيه درهماًفدفعه إلى ابنٍ لعمر, قال معيقيب: فانصرفت إلى بيتي, فإذا رسولُ عمر يدعوني, فجئت، فإذا الدرهم في يد عمر، فقال: ويحك يا معيقيب! أردتَ أنْ تخاصمني أمةُ محمد عليه الصلاة والسلام في هذا الدرهم.
نعم ردَّ عمر الفاروق الدرهم ليس من أجل استغنائه عنه، وإنما من أمانته وخوف محاسبته على مال لا يحل، ردَّه وأغلق باب كل تأويل في وقت كان بعض أهل يسأله المال لتشتري الحلوى، فيعتذر منها، ليس بخلاً، ولكن لأنه لا يجد قيمتها.
وحين طعن عمر، وأحس بالأجل، نادى ابنَه عَبد الله وقال له: انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِفَحَسَبُوهُ فوَجَدُوهُ سِتَّةً وثَمَانِينَ ألْفاً أوْ نَحْوَهُ, قَالَفأدِّ عَنِّي هَذَا المال.
عن عبد الله بن دينار ، قال : خرجت مع ابن عمر إلى مكة ، فعرسنا ، فانحدر علينا راع من جبل ، فقال له ابن عمر أراع ؟ قال : نعم ، قال : بعني شاة من الغنم . قال : إني مملوك ، قال : قل لسيدك : أكلها الذئب . قال : فأين الله عز وجل ؟ قال ابن عمر فأين الله ! ! ثم بكى ، ثم اشتراه بعد ، فأعتقه !

ـ ومع رجل أدهش أهل التاريخ في أمانته ونزاهته، مع عمر بن عبد العزيز الذي بدأ خلافته بتطبيق مبدأ الأمانة، فنظَر إلى ثروتِه، فرأى أن ذلك ثراء حَصَّلَه من بيت مال المسلمين، فباعَ ما يملك، وردَّه في بيت المال، ثم غدا على زوجته فاطمة بنت عبدالملك، ابنة الخليفة وزوجة الخليفة وأخت الخليفة والتي قال فيها الشاعر:
بِنْتُ الخَلِيفَةِ وَالخَلِيفَةُ جَدُّهَا **أُخْتُ الخَلاَئِفِ وَالخَلِيفَةُ زَوْجُهَا

غدا إليها فخيَّرها بين ثَرَائِها وحُليِّها، وبين أن تَبْقَى معه، فاختارتْ زوجَها، وتَخَلَّت عن كلِّ حُليِّها وأموالِها إلى بيتِ المال، ثم كَتَبَ إلى بني عُمُومته من  بني أُمية فوعَظَهُم، وذكَّرهم أن يردُّوا الأموال إلى خزائنِ الدولة، ثم قَطَعَ عنهم كلَّ صلاتٍ كانوا يأخذُونها، وهدايا كانوا يستلمونها.
نعم، لقد استشعر عمر بن عبدالعزيز عظم شأن الأمانة، فخافَ، فَعَفَّ، فَعَدَل.

وقف عمر بن عبد العزيز يوماً يقسم تفاح اَلْفيء، فتناول ابنٌ له صغيرٌ تفاحة، فانتزعها مِن فِيه فأوجعه، فسعى إلى أمه مستعْبراً، فأرسلت إلى السوق فاشترت له تفاحاً، فلمَّا رجع عمرُ وجَدَ ريح التفاح فقال: يا فاطمة! هل أتيتِ شيئاً من هذا الفيْء؟ قالت: لا, وقصّت عليه القصة، فقال: والله لقد انتزعتها من ابنيوكأنَّما نزعتها عن قلبي، ولكن كرهتُ أنْ أُضيِّع نصيبي من الله عز وجلبتفاحةٍ من فيء المسلمين.

وأسس عمر مبدأ أن أملاك الدولة لا تستخدم في المصالح الشخصية، كتب إلى عاملٍ له يشتري له عسلاًوأمره ألا يركب دابَّةً وُضعت لمصالحِ الْمُسلمين؛ لأنه سيشتري شيئاً خاصًّا له, فما كان منه إلا أن ركب دابَّةً من دوابِّ البريد, فلما أتى قال: على أيِّ دابَّةٍ ركب؟ فقالوا: على البريد, فأمر بذلك العسلِ فبيعوجعلَ ثمنه في بيت مال المسلمين وقال: أفسدت علينا عسلنا!.
أتتْ إلى عمر امرأة منَ العراق؛ تشكو ضعفَها، وكثرةَ بناتِها، فلما دخلت دارَه قلبتْ طرفها فيه، فإذا هي ترى دارًا وضيعة، وهيئةً متواضعة، فجعلتْ تَتَعجَّبُ مما ترى.
فقالتْ لها فاطمة زوجة عمرما لكِ؟ قالتْ: لا أراني إلا جئتُ لأعمر بيتي من هذا البيتِ الخراب، فقالت لها فاطمة: إنما خرَّب هذا البيتَ عِمارةُ بيوتِ أمثالك.
نعم لقد حفظ عمر أمر الأمانة في أشهر معدودات، حتى عمَّت البركة، وفاض المال ، واستغنى الناس، فكان عمال الخليفة ينادون في الأمصار: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى كل هؤلاء، بل بلغ أنَّ عماله كانوا يحملون الزكاة فلا يجدون من يأخذها، وفي تلك السنة دُفعت زكاة المسلمين إلى أهل الذمة.
تلك عباد الله طرف يسير من مواقف كثيرة مع الأمانة، واستشعار السلف لها، لا يسع النفس بعدها إلا أن تقف خاشعة، مترضية عنهم، راجية من ربها الكريم أن تلقاهم في جنات النعيم، فالمرء مع من أحب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
بارك الله لي ولكم ....

الخطبة الثانية :

عباد الله : فهذه بعض أخبار سلفنا مع الأمانة، فما خبرنا نحن مع هذه الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض.
ما خبرنا نحن مع حقوق الناس، والتي تساهل فيها كثير من الناس إلا ما رحم ربي.
ما خبرنا مع وظائفنا التي نكتسب منها مالاً، وهل أديناها على الوجه المطلوب.
ما عرف حقَّ الأمانة كل موظف مستهتر بأمر المراجعين، يؤخَّر معاملاتهم، ويتشاغل عنها بكلام، أو طعام، أو استئذان
ما أدى الأمانة ذلك التاجر الذي جعل الأيمان الكاذبة وسيلته في الترويج لسلعته، أو استخدم الغش التجاري في تزيين بضاعته.
ما عرف الأمانة ذلك المسئول الذي جعل من منصبه قنطرة له نحو الثراء، وكأن ما تحت يده هو ملك له يتصرف منه، وكأنه مالك له ليس بمؤتمن، قال عليه الصلاة والسلام : ( مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة.
حرام وسحت وآثام أن يأخذ أي مسئول مكافأة على عمله – الاّ ما يعطيه ولي الامر على ذلك بحقه - ، أو يتفق مع جهة أخرى في ترسية مشروع حكومي مقابل عمولة تدفع له، 
رَجُلٌ مِنَ الأَزْدِ استعمله النبي عليه الصلاة والسلام عَلَى الصَّدَقَةِ فَجَاءَ فَقَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِى
فَقَامَ النَّبِىُّ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ « مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِىءُ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لي، أَلاَّ جَلَسَ فِى بَيْتِ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ، لاَ يَأْتِى أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا فَلَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً فَلَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ»، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ».
حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: ( افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلا فِضَّةً، إِنَّما غَنِمْنا الْبَقَرَ وَالإِبِلَ وَالْمَتاعَ وَالْحَوائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى وادي الْقُرى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقالُ لَهُ مِدْعَمٌ، أَهْداهُ لَهُ أَحَدُ بَني الضِّبابِ؛ فَبَيْنَما هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جاءَهُ سَهْمٌ عائِرٌ حَتّى أَصابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَقالَ النَّاسُ: هَنيئًا لَهُ الشَّهادَةُ 
فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بَلى وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتي أَصابَها يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغانِمِ لَمْ تُصِبْها الْمَقاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نارًا فَجاءَ رَجُلٌ، حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِشِراكٍ أَوْ بِشِراكَيْنِ، فَقالَ: هذا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: شِراكٌ أَوْ شِرَاكانِ مِنْ نارٍ)
وعن عبد الله بن عمرو قال((كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كَرْكرة، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلّها)) رواه البخاري
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة . . . قال صلى الله عليه وسلم : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، قال : وكيف إضاعتها ؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " [ رواه البخاري ] .

فشأن الأمانة يا أهل الإيمان عظيم وكبير، فهي إن ضاعت حلت الخيانة، وإذا حلت الخيانة عشعش النفاق.
إذا ضيعت الأمانة خربت الديار، وفسدت الأمصار، وساد الخلاف وعمَّ التشاحن والتدابر.
ضياع الأمانة سيئات تبقى آثامها في عنق كل خائن حتى بعد مماته، بحجم ضرره على الناس، ودعائهم عليه
فما أحوجنا أن نتذكر ونذكر من شأن الأمانة، وأن نحاسب أنفسنا مليَّاً على التقصير فيها، وأن نربي أبناءنا وشبابنا على استشعار شأن الأمانة، فبها تصلح المجتمعات، وتحفظ الحقوق، ويرسى العدل، ويستقيم العيش، وبها يصلح أمر الدين، ومن أبرز صفات عباد الله المؤمنين: (والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون) 

الخميس، 21 نوفمبر 2019

تربية البنات

تربية البنات والعناية بهنّ ) 
الخطبة الأولى:
 للبنت في الإسلام مكانة سامية، ميلادها فرحة كبرى وبشارة عظمى، فهي ريحانة الحاضر وأم المستقبل، تربي الأجيال، وصانعة الأبطال، رمز الحياء، وعنوان العفة، وقد كتب أحد الأدباء يهنئ صديقاً له بمولودة "أهلاً بعطية النساء، وأم الدنيا، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتسابقون، ونجباء يتلاحقون".
 أعلى وأعلن الإسلام مكانة البنت في الإسلام، وأنزلها منزلة الحب والاحترام، فقد روى الترمذي عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله -رضي الله عنهاقالت: "وكانت إذا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه".
 من تكريم البنت هذه القصة التي تحمل مغزى تربوياً بليغاً، ففي الصحيحين عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عليه وسلم- قال "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وهو حامل امامة بنت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها".
 البنات نعمة وهبة من الله، وفضلهن لا يخفى، هن الأمهات، هن الأخوات، هن الزوجات، جعل الله البنت مفتاح الجنة لوالديها، تسهل لهما الطريق إليها، تبعدهم عن النار، بل تضمن لهم أن يحشروا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن أحسن إليهن، فهنيئاً لك -أبا البنات- بهذا الشرف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كيف لا وأنت بإحسان تربيتهن تعد شعباً وتبني مجداً، فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم "من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجابًا من النار يوم القيامة". صحيح ابن ماجة
 وعن جابر بن عبد الله - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم "من كن له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن وجبت له الجنة البتة"، قال: قيل : يا رسول الله: فإن كانتا اثنتين؟! قال "وإن كانتا اثنتين"، قال : فرأى بعض القوم أن لو قال له: واحدة لقال: واحدة.( السلسلة الصحيحة )
 وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم "من عال جاريتين –يعني بنتينحتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو". وضم أصابعه. رواه مسلم....وكفى بذلك فضلاً وفخراً وأجراً.
 تربية البنات لها أهمية كبيرة، فهي قربى إلى الله، والمرأة المسلمة لها أثر في حياة كل مسلم، هي المدرسة الأولى في بناء المجتمع الصالح، هي ركيزة المستقبل، فهي الزوجة الصالحة والأم الحانية وحاضنة الأبناء، وإذا نشأت البنت صالحة في بيتها متدينة في سلوكها فإننا بذلك نضمن -بإذن الله- بناء أسرة مسلمة تخرج جيلاً صالحاً قوياً في إيمانه جاداً في حياته ... الفتيات يكن مصدراً للفضيلة والتقوى، يبنين المجتمع ولا يهدمنه، يؤسسن الأسرة ولا يهربن منها، ينشرن الخير والحب، قال تعالى ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ) [النساء: 34].
اعلموا أن التربية الصحيحة للفتاة تقتضي تعاون الأب والأم القوي، والتنسيق الفكري بينهما؛ لتؤتي التربية أكلها.
 الأساس الأول في بناء الفتاة: التركيز على حب الله وحب رسوله عليه الصلاة والسلام ، تعليمها الفرائض الدينية، تنشئتها منذ الصغر على الدين والفضيلة، وغرس ذلك في نفسها بالإقناع والتربية، يغذي ذلك وينميه قصص أمهات المؤمنين زوجات النبي عليه الصلاة والسلام ، وقصص الصحابيات اللاتي صنعن المجد بجودة تربيتهن.
 تحقق التربية هدفها حين تكون الأم قدوة حسنة لابنتها، متمثلة قيم الإسلام مع سلوك حسن وسيرة حميدة في حركاتها وملابسها وتصرفاتها، حينئذ تحاكي البنت أمها، وتكون صورة صادقة عنها في السلوك.
 ومما يحزن تساهل بعض الآباء والأمهات في تربية البنات، ترى مظاهر ذلك ضعفاً إيمانياً، خواءً فكرياً، تقديساً للتوافه، تفريطاً في القيم، كما تلمسه في مسألة الحجاب ولباس الفتنة والعري مع التبذل في الأماكن العامة كالأسواق والمتنزهات.
 تربية البنت على خلق الحياء حارس أمين لها من الوقوع في المهالك؛ فإن مشت فعلى استحياء، زيها ورداؤها استحياء، سمتها الحياء، وقولها وفعلها وحركاتها يهذبه الحياء، كما قال "والحياء خير كله، ولا يأتي إلا بخير".
 الكلمة الطيبة والرفق واللين في الأسلوب وسيلة مهمة في التربية، وإذا قارنها قلب مفعم بالمحبة والود من الوالدين عمل عمله وآتى أكله في تسديد السلوك، وله آثار نافعة، ويهدي إلى الاقتناع والقبول، قال تعالى ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) [إبراهيم: 24، 25].
 تعاهد الفتاة بالتوجيه والتنبيه، فإن القلوب تغفل، ويقظتها بالنصح والتذكير، والذكرى تنفع المؤمنين، مع ترويضها على الانضباط بأحكام الشرع في اللباس والحجاب ومسألة الاختلاط.
  لابد من تغذية الفتاة بأسس ومفاهيم وضوابط تتمكن بها من التمييز بين الغث والسمين، وتفرّق بين الخطأ والصواب، وتوفّر لها ملكة تكسبها القدرة على اكتشاف المظاهر الخادعة والخاطئة وكم انتشرت في مجتمعاتنا تلك المظاهر الخادعة المزيفة المسمومة التي تودي للمهالك
 جفاف المشاعر الودية، وغياب معاني الحب في الأسرة، وانعدام أسلوب الحوار الهادئ يجعل الفتاة تبحث عن إجابات لأسئلتها الحائرة، وقد تكون بذلك صيداً سهلاً لرفيقات السوء أو غيرهن، وهذا يتطلب إحياء جلسات الإقناع والحوارات الأسرية وغمر البيت بمشاعر فياضة من الود والحب والاحترام.
العدل بينها وبين إخوتها من الذكور والإناث فإن الشعور بالظلم والانحياز إلى غيرها أكثر منها يزرع في نفسها الكره على أبويها والحقد على من فضل عليها من إخوتها أو أخواتها، فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم أما في النفقة فعلى حسب الحاجة، وأما في الهبة فللذكر مثل حظ الأنثيين وإن سوي بينهم فيها فهو حسن.
 الفراغ مشكلة كبرى في حياة الفتاة، وملء أوقات الفتيات بالنافع المفيد حصانة ووقاية، ومن ذلك حفظ القرآن وتلاوته وتفسيره، تعلّم ما يتعلق بالمرأة من أحكام، توسيع دائرة الثقافة النافعة، ممارسة الهوايات المفيدة، مرافقة البنت لأمها تصقل شخصيتها، وتكون دليلاً لها في حياتها، وتضيف إلى سيرتها دروسًا ناصعة.
 حسن اختيار الصديقة مسألة لا مساومة فيها ولا محابة ولا مداهنة ولو كانت أقرب قريب، وعليه فإن الصداقة لها تأثير بالغ في السلوك والأفكار والثقافة الشخصية، فصديقات السوء كالشرر الملتهب، إذا وقع على شيء أحرقه، وفي الحديث "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل".
 تفكك الأسرة، ضعف الروابط بين أفرادها، كل يهيم في واد، الأب هنا، والأم هناك، يولد جفوة وجفوة تتراكم أضرارها فوق بعضها على الفتاة، وقد ينكشف الغطاء بعد فوات الأوان عن سلوك غير حميد.  الأسرة السوية والروابط القوية في جو عائلي لا يسمح بالاختراق أو الاقتراب مع شعور بالطمأنينة والاستقرار.
 تأخير زواج الفتاة يترتب عليه مفاسد خلقية واجتماعية ونفسية، وعضلها بمنعها من الزواج لأغراض دنيوية جريمة في حق فتياتنا والمجتمع، قال تعالى ( فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة: 232].
 أعظم الأخطار التي تؤثر في تربية البنات وجود القنوات الفضائية في البيوت، فهي تهدد بهدم كل القيم، وتحارب الدين والفضيلة، وتورث العري والفساد والانحلال، وكذا بعض مواقع الشبكة العنكبوتية التي تهدم أكثر مما تبني، فالسلامة في البعد عنها، والسلامة لا يعدلها شيء.
  الخطبة الثانية : 
من الخطأ أيضاً أن يهتم الأب بتعليم ابنته التعليم المدرسي ويفرط في التعليم الديني التعليم الشرعي) فتنشأ البنت وتكبر وهي لا تحفظ شيئا من كتاب الله ولا تعرف كثيراً من أحكام الصلاة والحيض والنفاس وغير ذلك من الأحكام التفصيلية التي تحتاجها المرأة في حياتها فتجدها في مسائل العلوم والرياضيات من أذكى البنات لكنها في مسائل الطهارة والصلاة لا تستطيع أن تفتي نفسها ولا شك أن هذا من الغفلة التي قال الله عنها ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾
فيجب على الوالدين أن يعلموا البنت إذا صارت في سن المراهقة أحكام البلوغ وأحكام الحيض أو يلحقوها بالمراكز النسوية والحلقات الشرعية التي تقام للبنات لتتعلم أحكام دينها ومسائل فقهها.
ومن الخطأ أيضاً ،أن يعطي الأب لابنته حرية زائدة وثقة مطلقة ،فيتركها تذهب حيث تشاء ،وتخرج متى تشاء ،وتدخل إلى البيت حين تشاء ،بزعم أنه يثق فيها ، وفي أفعالها ، وينسى أننا في زمن الفتن والماديات ، وكثرة المغريات وسبل الشر مزينّة بألف زينة .
إننا في هذا العصر نحتاج إلى المزيد من التركيز على تربية الفتاة والرعاية والعناية بها، فالفتاة المسلمة في زمننا هذا تتعرض من أعداء الأمة الإسلامية إلى حملة شعواء، تستهدف ضرب عفتها وطهارتها وأخلاقها وإسلامها، والخطورة تكمن في أن معنى إفساد فتاة مسلمة إفساد الزوجة وإفساد الأم وإفساد الجيل وإفساد المجتمع كله.
 يجب تحصين الفتاة من الفكر الخبيث الذي يفسدها وتوعيتها بمخططات الأعداء.
 وفتاة الإسلام مطالبة بأن تكون سداً منيعاً ضد هذه المخططات بوعيها والتزامها، وحذرة من دعوة الذئاب للحرية المزيفة والحقوق المزعومة.
لا تظن أخي المسلم أن الخطر الذي يهدد المرأة هو خطر الانحراف الخلقي بالوقوع في الفواحش أو المخدرات ونحوها بل هي أيضاً مهددة بخطر آخر وهو الخطر الفكري فالمرأة معرضة لأن تقع في شراك من أشراك الفرق الهالكة فقد تدخل في باب الالحاد ورغبة التخلص من الدين ، وهناك في عالم الشبكة العنكبوتية دعاة لمثل هذه الافكار لهم مواقعهم واعلامهم ويطرحون الشبهات وينساق اليهم جمع من بنات المسلمين 
ينبغي على الآباء أن يكثروا من الدعاء لأبنائهم بالهداية والصلاح فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن دعوة الوالد لولده دعوة مستجابة.
وأخبر الله عن زكريا عليه السلام فقال ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ﴾ ويقول سبحانه ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَاقُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾
ومن مستحسن الأخبار في هذا الباب ما يروى أن الفضيل بن عياض إمام الحرم المكي في زمانه قال ( اللهم إني اجتهدت أن أؤدب ابني علياً فلم اقدر على تأديبه فأدبه أنت لي ) فتغير حال الولد حتى صار من كبار صالحي زمانه