إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 17 فبراير 2022

كف الأذى عن المسلمين

 ( كف الأذى عن المسلمين ) 

طوبى له، ثم طوبى له، ثم طوبى له؛ من حفر بئرًا للمسلمين يستقون منها ويزرعون ويسقون مواشيهم، 

فإن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حدثنا فقال: "بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر"(متفق عليه)، 

فإن هذا وجد البئر محفورًا وجاهزًا، فما بالك لو كان هو من ابتدأه وحفره! وإنه سقى كلبًا أعجمًا، فما بالك بمن يسقى الإنسان والحيوان والطير والزروع والأشجار من بئر حفرها بيديه!

 ويروي سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله، إن أم سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: "الماء"، قال: فحفر بئرًا، وقال: هذه لأم سعد(رواه أبو داود)، 

فنعم الصدقة الماء؛ أليس قد قال الله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)[الأنبياء: 30].

وللتشجيع على حفر الآبار، فقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن حفر بئرًا حرمًا لبئره لا يعتدي عليه أحد، فإن كان بئرًا لسقي المواشي فحرمه أربعون ذراعًا، 

فعن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفر بئرا فله أربعون ذراعًا عطنًا لماشيته"(رواه ابن ماجه)، و"الْعَطَنُ: هو موطن الإبل ومَبْركُها حول الحوض وَمَرْبَضُ الغنم حول الماء"...

أما "إذا كان البئر للزرع فأن صاحبه يملك كل ما تزرعه هذه البئر، يعني: ما جرت العادة بأن هذه البئر تزرعه فإنه يملكه"( فتح ذي الجلال لابن عثيمين)، فعلاوة على أن له حرمًا مستقلًا، فإنه يملك الأرض الموات التي أحياها ببئره.

لكن الأمر كما يقول الناس: "من صنع معروفًا فليتمه"، فمن حفر بئرًا فعليه أن يحصِّنه ويؤمِّنه لئلا يقع فيه أحد من الناس، فيكون قد آذى من حيث أراد النفع، "ورب قاصد خير لا يدركه"، فليبني حوله سورًا أو يضع حوله ما يمنع من وقوع إنسان فيه...

وإن كانت إماطة الأذى عن الطريق صدقة (ينظر: سنن أبي داود)، 

وإن كانت إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان (ينظر: صحيح مسلم)؛ 

فإن وضع الأذى في الطريق معصية، وحفر البئر وتركه بلا حاجز يحجز الناس عن التردي فيه من أكبر الإيذاء والضرر، ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار"(رواه ابن ماجه). 

وإيذاء المسلمين يمنع صلاة الملائكة حتى على المتعبد في المسجد؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه ما لم يحدث فيه، ما لم يؤذ فيه"(متفق عليه)، ...فإن آذى فلا أجر بل هي الخيبة والوزر!

ويروي أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والجلوس بالطرقات" فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: "إذ أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر"(متفق عليه)، 

فهل من حفر بئرًا وتركها بلا حاجز يحمي الناس من الوقوع فيها قد كف أذاه عن الناس؟! بل إنه قد وضع لهم الأذى في طريقهم!

 وقد اتفقت كلمة الفقهاء على تضمين من حفر بئرًا في غير ملكه ولم يحصنه، فتردى فيه إنسان، 

ويقول الماوردي الشافعي عن القتل بسبب: "أن يحفر بئرًا في أرض لا يملكها فيقع فيها إنسان فيموت... فيجب فيه الدية والكفارة"(الحاوي الكبير للماوردي)، 

وكذا قال النووي الشافعي أيضًا: "وإن حفر بئرًا في طريق الناس... فهلك به إنسان وجب الضمان عليه"(المجموع للنووي).

 ويقول ابن قدامة الحنبلي: "وإن حفر بئرًا في الطريق، أو وضع حجرًا أو حديدة، أو قشر بطيخ أو ماء، فهلك به إنسان ضمنه"(الكافي لابن قدامة)، 

وكذا قال ابن تيمية: من "حفر بئرًا حيث لا يجوز من فناء أو طريق... فتلف به إنسان فعليه ديته"(المحرر لابن تيمية).

عباد الله: إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فألا تحفروا البئر من الأساس خير وأفضل أن تحفروها وتتركوها خطرًا على المارين.. 

يا عبد الله: إنك لا تأمن إن حفرت بئرًا وتركتها بلا تأمين أن يقع فيك ولدك أو زوجك أو تقع فيها أنت! فخذ بالحيطة والحذر تفز بأجر حفر البئر وتنجو من الـمُساءلة والإثم.

الخطبة الثانية :

أيها المسلمون: المؤمن سهل العريكة، جميل العشرة، حسن التعامل، لين الجانب، يبذل الندى ويكف الأذى، 

وكف الأذى أفضل خصال الإسلام، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قلنا يا رسول الله: أي الإسلام أفضل ؟ قال " من سلم المسلمون من لسانه ويده متفق عليه، 

قال الإمام البغوي -رحمه الله تعالى " أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله أداء حقوق المسلمين، والكف عن أعراضهم ".

أيها المسلمون: دلت النصوص الشرعية على تحريم إيذاء المسلم بأي وجه من الوجوه، من قول أو فعل بغير وجه حق، ووجوب رفع الأذى عن المسلمين.. قال -تعالى ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ) [الأحزاب: 58]، 

أيها المسلمون: إيذاء المسلم ومكايدته وإلحاق الشر به واتهامه بالباطل ورميه بالزور والبهتان، وتحقيره وتصغيره وتعييره وتنقصه وثلم عرضه وغيبته وسبه وشتمه وطعنه ولعنه وتهديده وترويعه، وابتزازه وتتبع عورته ونشر هفوته وإرادة إسقاطه، وفضيحته وتكفيره وتبديعه وتفسيقه، وقتاله وحمل السلاح عليه وسلبه ونهبه وسرقته وغشه وخداعه والمكر به، ومماطلته في حقه وإيصال الأذى إليه بأي وجه أو طريق ظلم وجرم وعدوان.. 

لا يفعله إلا دنيء مهين لئيم وضيع ذميم.. قد شحن جوفه بالضغناء والبغضاء وأفعم صدره بالكراهية والعداء؛دأبه أن يحزن أخاه ويؤذيه وهمه أن يهلكه ويرديه.. وكفى بذلك إثماً وحوباً وفسوقاً، 

فعن نافع عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال: " يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه.. لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله..

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: " قال رجل: يارسول الله.. إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار، قال: يا رسول الله.. فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وصدقتها وأنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في الجنة أخرجه أحمد..

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه– قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه أخرجه مسلم..

فيا أيها المؤذي المعتدى العيَّاب المغتاب، يامن ديدنه الهمز واللمز والنبز والغمز والتجسس والتحسس والتلصص: كُفَّ أذاك عن المسلمين واشتغل بعيبك عن عيوب الآخرين، وتذكر يوماً تقف فيه بين يدي رب العالمين..

وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت يارسول الله.. أي الأعمال أفضل ؟ قال: " الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قال: قلت: أي الرقاب أفضل ؟ قال: أنفَسُها عند أهلها وأكثرها ثمناً، قال: قلت: فإن لم أفعل، قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، قال: قلت: يارسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال:  تكف شرك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نفسك متفق عليه.

الجمعة، 4 فبراير 2022

فضل الصحابة رضي الله عنهم

 ( فضل الصحابة رضي الله عنهم ) 

الخطبة الأولى                       

 مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: حِينَ يَكُونُ الْحَدِيثُ عَنِ الْعُظَمَاءِ فَإِنَّ الثَّنَاءَ لَابُدَّ أَنْ يُزْجَى لِأَهْلِهِ، وَيُعْرَفَ لِأَهْلِ الْقَدْرِ قَدْرُهُمْ.

 وَحَدِيثُ الْيَوْمِ هُوَ عَنْ خَيْرِ جِيلٍ عَرَفَتْهُمُ الْبَشَرِيَّةُ، عَنِ الرِّجَالِ الَّذِينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، عَنْ مَصَابِيحِ الدُّجَى وَشُمُوسِ الْهُدَى، سَادَةِ الْأُمَّةِ وَعُنْوَانِ مَجْدِهَا؛ عَنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِينَ هُمْ قُدْوَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَيْرُ عِبَادِ اللَّهِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، أَغْزَرُ النَّاسِ عِلْمًا، وَأَدَقُّهُمْ فَهْمًا، وَأَصْدَقُهُمْ إِيمَانًا، وَأَحْسَنُهُمْ عَمَلًا.

 بِدِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَصَلَ الْإِسْلَامُ إِلَى أَطْرَافِ الْأَرْضِ، وَبِجِهَادِهِمْ وَتَضْحِيَاتِهِمْ قَامَ صَرْحُ الدِّينِ، وَانْدَحَرَتْ دُوَلُ الشِّرْكِ وَالْمُشْرِكِينَ.

 كَانُوا فِي الْحَيَاةِ أَوْلِيَاءَ، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ أَحْيَاءً، رَحَلُوا إِلَى الْآخِرَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهَا، وَخَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَهُمْ بَعْدُ فِيهَا.

 آمَنُوا بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، وَدَافَعُوا عَنْهُ حِينَ آذَاهُ النَّاسُ، وَآوَوْهُ حِينَ طُرِدَ مِنْ وَطَنِهِ.

 قَوْمٌ نَظَرَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَرَآهُمْ أَصْلَحَ النَّاسِ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ فَاخْتَصَّهُمْ لِذَلِكَ وَشَرَّفَهُمْ بِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ رَبُّهُمْ بِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

 أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا ضَعُفُوا مَا اسْتَكَانُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.

 نَقَلُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، وَأَرْشَدُوا الْعِبَادَ إِلَى الْمِلَّةِ، فَكَانُوا بِذَلِكَ أَهْلًا لِرِضْوَانِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَجَنَّتِهِ، كَانُوا بِذَلِكَ طَلِيعَةَ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.

فَلَيْسَ فِي الْأَمَةِ كَالصَّحَابَةْ * فِي الْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِصَابَةْ

فَإِنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا الْمُخْتَارَا ** وَعَايَنُوا الْأَسْرَارَ وَالْأَنْوَارَا

 لَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْفِئَةُ خَيْرَ فِئَةٍ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرَبُوا فِي أَبْوَابِ الْخَيْرِ كُلِّهَا، فَإِنْ أَتَيْتَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَجَدْتَ أُسُودًا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ أَعْظَمَ مَمَالِكِ الْأَرْضِ؛ يَقُولُ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ جِهَادِهِمْ وَثَبَاتِهِمُ: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آلِ عِمْرَانَ: 172-173].

 يُلْقِي الْمَرْءُ مِنْهُمْ بِحَيَاتِهِ فِي سَبِيلِ أَنْ يَسْلَمَ نَبِيُّهُ، فَكَمْ دَوَّنَتِ السِّيَرُ أَخْبَارَهُمْ وَهُمْ يَذُودُونَ عَنْهُ مِنْ كُلِّ جَنْبٍ، وَيَوَدُّ الْمَرْءُ مِنْهُمْ أَنْ يَسْلَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الشَّوْكَةِ، وَلَوْ قُتِلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ.

 وَإِنْ أَتَيْتَ لِلدَّعْوَةِ وَجَدْتَ دُعَاةً نَفَرُوا مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ مُبَلِّغِينَ دِينَ اللَّهِ، حَامِلِينَ أَمَانَةَ الدِّينِ، حَجَّ مِنْهُمْ مَعَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَمَاتَ مِنْهُمْ فِي الْمَدِينَةِ مَا يَقْرُبُ مِنْ أَلْفٍ، وَالْبَقِيَّةُ فِي أَصْقَاعِ الْأَرْضِ مُتَفَرِّقُونَ.

 وَإِنْ أَتَيْتَهُمْ فِي الْبَذْلِ وَالْإِنْفَاقِ وَجَدْتَ مَنْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ كُلِّ مَالِهِ، وَجَدْتَ أَبَا طَلْحَةَ يَتَصَدَّقُ بِأَحَبِّ أَمْوَالِهِ، وَأَجْمَلِ بَسَاتِينِ الْمَدِينَةِ، حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ يُتْلَى؛ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 92].

 وَوَجَدْتَ أَبَا الدَّحْدَاحِ يَبِيعُ حَائِطًا مَلِيئًا بِالنَّخْلِ بِنَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْجَنَّةِ، فَيَخْرُجُ مِنْ بُسْتَانِهِ وَيُخْرِجُ أَوْلَادَهُ مِنْهُ بِثَمَنٍ وَعَدَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ؛ وَهُوَ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ.

 وَإِنْ أَتَيْتَهُمْ فِي التَّآخِي رَأَيْتَ قُلُوبًا اجْتَمَعَتْ مِنْ كُلِّ صَقْعٍ، لَا يُظَنُّ مَنْ رَآهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ إِخْوَةٌ، وَهُمْ كَذَلِكَ، لَكِنْ فِي الدِّينِ، وَلَرُبَّمَا كَانَتْ أَوْثَقَ مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَبِ، فَقَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الْحَشْرِ: 9].

 وَإِنْ أَتَيْتَهُمْ فِي الْعِبَادَةِ وَجَدْتَ رُهْبَانَ لَيْلٍ، عُبَّادَ نَهَارٍ، فَمَا عَرَفَتِ الْأَرْضُ أَجْمَعَ لِلْفَضَائِلِ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ.

 عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مَعْرِفَةَ قَدْرِ الصَّحَابَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ شَرِيفِ الْمَنْزِلَةِ وَعَظِيمِ الْمَرْتَبَةِ مِنْ أَوْلَى الْمُهِمَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصَلَاحِ الْعَقِيدَةِ وَاسْتِقَامَةِ الدِّينِ؛ وَلِذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ يُؤَكِّدُونَ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ عَلَى مَكَانَةِ الصَّحَابَةِ فِي الْأُمَّةِ، وَيَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ مَنَاقِبَهُمْ وَفَضَائِلَهُمْ وَأَثَرَهُمْ وَآثَارَهُمْ مَعَ الدِّفَاعِ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ؛ إِذِ الدِّفَاعُ عَنْهُمْ دِفَاعٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهْمَ بِطَانَتُهُ وَخَاصَّتُهُ، وَدِفَاعٌ أَيْضًا عَنِ الْإِسْلَامِ؛ فَهُمْ حَمَلَتُهُ وَنَقَلَتُهُ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي عَقِيدَتِهِ: "وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُمْ، وَبِغَيْرِ الْحَقِّ يَذْكُرُهُمْ وَلَا نَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ".

 وَلَقَدْ نَالَ الصَّحَابَةُ خَيْرَ شَرَفٍ، وَتَقَلَّدُوا أَعْظَمَ وِسَامٍ حِينَ شُرِّفُوا بِثَنَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ -وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ-: (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الْأَنْفَالِ: 74].

 وَشَهِدَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بِصَلَاحِ سَرَائِرِهِمْ وَاسْتِقَامَةِ ضَمَائِرِهِمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ؛ (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[الْفَتْحِ: 18].

 بَلْ إِنَّ شَرَفَهُمْ وَفَضْلَهُمْ قَدْ سُطِّرَ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَصَفَهُمْ رَبُّهُمْ بِأَكْمَلِ الصِّفَاتِ، وَأَجْمَلِ السِّمَاتِ فِي الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ...)[الْفَتْحِ: 29].

 هُمْ أَنْصَارُ خَيْرِ الْبَشَرِ وَخَاتَمِ الرُّسُلِ: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)[الْأَنْفَالِ: 62]، وَفَازُوا بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ...)[التَّوْبَةِ: 117].

 وَلِذَا فَلَا عَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهُمْ فِي الْأَرْضِ حِفْظًا لِلْعِبَادِ مِنَ الْعَذَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ: "النُّجُومُ أَمَنَةُ السَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا تُوعَدُ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

 وَلَا غَرَابَةَ أَنْ يُحِبَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَنْهَى عَنْ إِيذَائِهِمْ، وَيَقُولُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوِ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ"، 

وَقَالَ عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ: "لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ"، 

وَقَالَ عَنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ مِنَ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا"، وَمَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ.

 فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَجَمَعَنَا بِهِمْ مَعَ نَبِيِّنَا فِي الْجَنَّةِ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

 الخطبة الثانية:

 أَمَّا بَعْدُ: وَلَا تَزَالُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ بِخَيْرٍ مَا عَرَفَتْ لِلصَّحَابَةِ حَقَّهُمْ وَقَدْرَهُمْ.

 حَقٌّ عَلَى أُمَةِ مُحَمَّدٍ إِنْ رَامَتِ الصَّلَاحَ وَالْفَلَاحَ أَنْ تَلْزَمَ مَنْهَجَ صَحَابَتِهَا الْكِرَامِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالسُّلُوكِ وَالْعَمَلِ.

 حَقٌّ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَنْشُرَ فَضَائِلَهُمْ، وَتُسَطِّرَ مَنَاقِبَهُمْ، وَأَنْ تُرَبِّيَ الْأَجْيَالَ عَلَى سِيرَتِهِمْ، وَأَنْ تَمْتَلِئَ الْقُلُوبُ مَحَبَّةً لَهُمْ.

 حَقٌّ عَلَى الْأُمَّةِ: الدِّفَاعُ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَصِيَانَةُ أَقْدَارِهِمْ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ شَرِّ الطَّاعِنِينَ فِيهِمْ، اللَّامِزِينَ فِي عَدَالَتِهِمْ.

 وَمِنْ أُصُولِ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ: 

التَّأَدُّبُ مَعَ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ، وَالتَّرَضِّي عَنْهُمْ، وَإِمْسَاكُ اللِّسَانِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ خُصُومَةٍ وَاقْتِتَالٍ، وَأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْأَجْرَيْنِ؛ فَهُمْ إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ فَلَهُمْ أَجْرٌ أَيْضًا، وَلَهُمْ جَمِيعًا مِنَ السَّوَابِقِ الْحِسَانِ وَالْمَحَاسِنِ الْعِظَامِ، مَا يُوجِبُ رِفْعَةَ دَرَجَاتِهِمْ وَتَكْثِيرَ حَسَنَاتِهِمْ.

 وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَغْفِرُ لَهُمْ إِمَّا بِتَوْبَةٍ مَاضِيَةٍ، أَوْ بِمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا كَمَا عَلَّمَنَا وَأَدَّبَنَا رَبُّنَا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10].

 يَا كِرَامُ: وَإِنْ تَعْجَبُوا فَعَجَبٌ حَالُ قَوْمٍ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ هُمْ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ، وَيُكَفِّرُونَ وَيَلْعَنُونَ أُولَئِكَ الْأَعْلَامَ، اولئك اللِّئَامُ، فَإِنَّ عَقِيدَتَهُمُ الَّتِي بِهَا يُصَرِّحُونَ قَائِمَةٌ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّحَابَةِ وَسَبِّهِمْ وَبُغْضِهِمْ، فَاللَّهُمَّ اكْفِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ، وَاقْمَعْ بَاطِلَهُمْ.

وَبِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ ضَلَالَاتِ أولئك اللئام ، وَأَقْوَالِهِمُ الَّتِي يَمُجُّهَا كُلُّ مَنْ بِهِ أَدْنَى عَقْلٍ، فَإِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ نَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِحُبِّ صَحَابَةِ رَسُولِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ نَذُبَّ عَنْهُمْ مَا اسْتَطَعْنَا، وَلَا خَيْرَ فِي امْرِئٍ يُوَالِي مَنْ يُبْغِضُ صَحْبَ نَبِيِّهِ، وَيَتَوَدَّدُ لَهُمْ.

وبعد: فما أحسن قَولة ابنِ مسعودٍ حين قال مُثنياً على ذلكم الرعيل: إِن الله نظر فِي قُلُوب الْعباد فَوجدَ قلب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير قُلُوب الْعباد فَبَعثه برسالته, ثمَّ نظر فِي قُلُوب الْعباد فَوجدَ قُلُوب أَصْحَابه خير قُلُوب الْعباد بعده فاختارهم لصحبة نبيه ونصرته ﷺ فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، وَتَمَسَّكُوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ

فيا مُحِبّاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لن يَكْمُل حُبُّك إلا بِحُبِّ أصحابه, فمن أحبهم فبِحُبِّه أحبهم, فاللهم إنا نُشهِدُك أننا نحب صحابة رسولك, ونترضى عنهم ونرجو الله أن يحشرنا معهم