إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 28 أغسطس 2016

الثبات على الهدى

( الثبات على الهدى ) 
عِبادَ اللهِ، إِنَّ الـمـُؤمِنَ الصَّادِقَ هُوَ الذِي يُطِيعُ اللهَ وَرَسُولَهُ ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الـمَنْشَطِ والـمَكْرَهِ، ويُضَحِّى في سبيلِ ذلك بِنفسِهِ، ومَالِهِ، ويُقَدِّمُ مَرضَاة الله عَلى رَغَبَاتِ نَفْسِهِ، وشَهَوَاتِها، فَكُلُ مَن فَعَلَ هذِهِ الأَوامِرَ، واجتنبَ النَّواهِيَ، وفَعَلَ مَا يُوعَظُ بِهِ كَانَ خَيرًا لَهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالى: "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوْا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوْا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوْهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوْا مَا يُوْعَظُوْنَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيْتًا" 

فَلَمْ يَكتُبِ اللهُ سُبحَانَهُ وتَعَالى عَلينَا مَا يَشُقُّ عَلى النَّفْسِ احتِمَالُهُ كَقَتْلِ الإنسانِ لنفسِهِ ، وَلكِنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتَعَالى رَحِمَنَا، ولمْ يَكتُبْ ذَلِكَ عَلَيْنَا ،وإِنَّما عَلينَا التزامُ الأَوامِرِ ،واجتنابُ النَّواهي ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَنَالُ العَونَ من اللهِ ،وَيُثَبِّتُهُ على المُضِيِّ في الطَّرِيقِ المستقيمِ ، حتى نَنَالَ الأَجرَ العظيمَ ، ولِذَا حَذَّرَ اللهُ سُبحانَهُ وتَعَالى مِن الضَّلالَةِ بَعدَ الهُدَى ،كَمَا قَالَ تَعَالى: " وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَفَمَثَلُ الَّذِى يَخسَرُ الإيمانَ وتَزِلُّ قَدَمُهُ ، مَثَلُهُ مَثَلُ امرأةٍ حمقاءَ ضَعيفةِ العَقْلِ ، تَقْضِى دَهْرَهَا في فَتْلِ غَزلِها، ثُم َّتَنْقُضُهُ مِنْ بَعْدِ قُوةٍ أَنكَاثًا، فاتخَاذُ الأَيمانِ غِشًّا وخِدَاعًا ، يُزعزِعُ الإيمانَ في القَلبِ ،ويُضعِفُ اليَقِينِ ، 

فالقرآنُ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً بـِمَنْ ضَيَّعَ جُهْدَهُ وعِبَادَتَهُ لِرَبِهِ لِنَقْضِهِ ،بـِمِثْلِ تِلكَ المرأةِ الجاهلةِ ،التي تـَهدُمُ ما بَنَتْهُ ،وتَنْقُضُ مَا فَتَلَتْهُ ، فَضَاعَ جُهدُهَا هباءً مَنثُورًا ، فَقَد ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِنَقْضِ العُهُودِ، وَأَسْوَؤُهَا نقضُ العُهُودِ مَعَ اللهِ، بَأَسوءِ الأمثالِ وأَقبَحِهَا ،وَأَدَلِّهَا عَلى سَفَهِ مُتَعَاطِيهَا ، فَمَنْ هَدَمَ مَا بَنَاهُ، ولمْ يَثْبُتْ عَلى دِينِ اللهِ، لَمْ يَستَفِدْ سِوى الخَيبةِ والعَنَاءِ ، والنَّدَامَةِ ونَقْصِ الرَّأي وسَفَاهَةِ العَقْلِ ، فَإِنَّ مَن نَقَضَ عَهْدَ الإسلامِ، فَقَدْ سَقَطَ مِن الدرجاتِ العَاليةِ، ووقَعَ في الضَّلالَةِ بَعدَ الهُدَى ،كَمَا قَالَ تَعَالى: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ" فَالـمُؤمِنُ عَليهِ أَنْ يَبِيعَ الضَّلالةَ ويَشْتريَ الهُدَى ، لا العكسُ ، 

ولِذَا عَلى المؤمنِ أَنْ يَسعَى للثَّبات ِعلى دِينِ اللهِ؛ لأَنَّهُ لا يَأْمَنُ أَحَدٌ الفِتْنَةَ خَاصةً مَعَ تتابعِ الفتنِ، ولَقَدْ حذَّرَ النَّبيُ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ  فَقَالَ ( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا . "رَوَاهُ مُسلمٌ

ولِلثَّبَاتِ عَوامِلُ كثيرةٌ ومِنْ أَهمِهَا
*الدُّعَاءُ : فإِهمَالُ الدُعَاءِ مِن أسبابِ الزَّيغِ بَعْدَ الهُدَى ،لأَنَّ الدُّعاءَ مِنْ عَوَامِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ جَلَ وعَلَا ،
قالَ تَعالى: "رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ" 
ووَرَدَ في حديثِ أنسٍ رضيَ اللهُ عَنهُ: كانَ رَسولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ يَقُولُ :" يَا مُقَلِبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبي عَلى دِينِكَ " فَقُلتُ: ياَ نَبِيَ اللهِ ،آمنَّا بِكَ وبما جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلينَا ؟ قالَ:" نعم إِنَّ القُلوبَ بَينَ أُصبعينِ مِن أصابعِ اللهِ يُقلبُهَا كيفَ يشاءُ "رَواهُ الترمذيُ، بِسَندٍ صحيحٍ ،
وقَدْ تعجبَ الصحابَةُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُم مِنْ هَذَا الدُّعاءِ ،فَأَخبَرَهُمْ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ أَنَّ القُلوبَ بَينَ أُصبعينِ مِن أَصابِع ِالرحمنِ يُقلبهُا كيفَ يشَاءُ " ولا شَكَ أَنَّ المؤمنَ صَادِقَ الإيمانِ ، يَوجَلُ قَلبُهُ ،ويَشتَدُ خَوفُهُ ،وتُؤثِّرُ فِيهِ مثلُ هَذِهِ الأحاديثِ المُرهِبَةِ ،فَتُقَرِّبُهُ من ربِّهِ زُلفى ،أَمَّا مَن استكبرَ عَن الدُّعاءِ، وَظَنَّ أَنَّهُ بِمنأَى عَنِ السُقوطِ والرَّدَى ،وظَنَّ أَنَّ المُخَاطَبَ بهذهِ الكلماتِ هُم العوامُ والبُسطاءُ، فَقَد ضَلَّ ضَلالاً بَعيدًا ،واستحوذَ عَليهِ الشَّيطَانُ، وَزَينَ لَهُ سُوءَ عَمَلهِ، 

وانْظرْ إِلى فِقْهِ ابنِ مَسعُودٍ، رَضِىَ اللهُ عَنْهُ، فيما رَوَاهُ ابنُ عبدِ البَّرِ -رَحِمَهُ اللهُ- " استَنْ بِمنْ مَاتَ فإنَّ الأَحياءَ لا تُؤمَنُ عَليهِمُ الفِتْنَةُ " فَفِي هَذا الأَثَرِ مِن العُمقِ مَا فيهِ ،حَتى أَنَّ الصَّحَابَةَ وهُم أَكْثَرُ الأُمَّةِ إِيمانًا ، وتُقَىً وصَلاحًا، لا يَضمَنُ أَحدُهُم الاستمرارَ عَلى هذا الطَّرِيقِ المحفوفِ بِالشَّهواتِ ،فَيَشتَدُّ خَوفُهُم مِن اللهِ ،
فَالدعاءُ بالثباتِ عَلى دِينِ اللهِ، سِلاحٌ لا يُمكِنُ لأَحَدٍ أَنْ يَحرِمَ مِنه أَحَدًا، يلجأُ إليهِ المُسلمُ في كُلِ زَمانٍ ومَكانٍ. والدُّعاءُ بالثَّباتِ يجبُ أَنْ يَكُونَ مَنهَجَا ثابتاً في حياةٍ المُسلمِ ، ولَيسَ بِحق ِمَن وَقَعَ فَي الزَّللِ فَـقَطْ، بَلْ هُوَ في حَقِّ مَن التَزَمَ المنَهَجَ الصَّحِيحَ آكدُ، فَلا غِنًى لـمُؤمِنٍ عَنْ رَبِهِ أَنْ يُثَــبِّــتْهُ ، وَلَنَا بِالمَعصُومِ ،صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ، وصَحْبِهِ الكِرامِ قدوةٌ
.
ثَانيًا: ومِن عَوامِلِ الثباتِ على دينِ اللهِ ،قِراءَةُ القُرآنِ العَظِيمِ ،فَالقُرآنُ العَظيمُ ،مِن أَعظمِ وَسائِلِ الثَّباتِ عَلى دِينِ اللهِ ، ولِذَا جَعَلَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالى مُثَــبِّــتًا لِقَلبِ النَّبِيِّ، صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ، فقَالَ تَعَالى: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا " فَقِراءَةُ القُرآنِ بِتَأَمُّلٍ، وَتَدَّبُرٍ ، عاملٌ مُهِمٌ مِن عَوَامِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ ، وكُلَّمَا ارتبطَ المؤمنُ بالقُرآنِ ، كانَ أكثرَ يَقينًا وثباتًا.

ثالثاومِن عَوامِل الثَّبَاتِ عَلى دِينِ اللهِ أصدقاءُ الخيرِ: لقولِهِ تَعَالَى:" وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا " 

وَفِي الأَثَرِ:" كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، ذُو بَأْسٍ يَفِدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، فَفَقَدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ؟ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَتَابَعَ فِي هَذَا الشَّرَابِ، قَالَ: فَدَعَا عُمَرُ، كَاتِبَهُ فَقَالَ: اكْتُبْ : مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، إِلَى فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " غَافِرِ الذَّنْب وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: اُدْعُوا اللَّهَ لِأَخِيكُمْ أَنْ يُقْبِلَ بِقَلْبِهِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا بَلَغَ الرَّجُلَ كِتَابُ، عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، جَعَلَ يَقْرَؤُهُ وَيُرَدِّدُهُ ، وَيَقُولُ: " غَافِرِ الذَّنْبِ، وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِقَدْ حَذَّرَنِي عُقُوبَتهُ، وَوَعَدَنِي أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ نَزَعَ فَأَحْسَنَ النَّزْعَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ خَبَرُهُ، قَالَ: " هَكَذَا فَاصْنَعُوا إِذَا رَأَيْتُمْ أَخًا لَكُمْ زَلَّ زَلَّةً؛ فَسَدِّدُوهُ ، وَوَثِّقُوهُ، وَادْعُوا اللَّهَ لَهُ أَنْ يَتُوبَ، وَلَا تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْه أَخرَجَهُ البَيهَقِيُ، بسندٍ حسنٍ ، فانظُرْ إِلى مَنهجِ أَمِيرِ المُـؤْمنيَن ، رَضىَ اللهُ عنهُ ،كَيفَ كَانَ حَلِيمًا رَقِيقًا مَعَ صَاحِبِهِ ،مَع مَا عُرِفَ عَنْهُ مِنْ شِدَّةٍ وَقُوَّةٍ في الحقِّ ،ولَكِنْ لِكُلِ مَقَامٍ مَقَالٌ، فَالصُّحبةُ الطَّيبةُ عَامِلٌ مِنْ عَوَامِلِ الثَّبَاتِ عَلى دِينِ اللهِ جلَّ وعَلَا، 
فَالصديق الصَّالحُ هُوَ خَيرُ مَن يُعينُكَ عَلى الثَّبَاتِ عَلى دينِ اللهِ، فاللهَ اللهَ فِي انتقاءِ الأَصْدِقَاءِ، واختيارِهِم ،فَهُمْ خَيْرُ مُعِينٍ

رَابعا : مِن عَوَامِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ، البعدُ عَن مُحقِّـرَاتِ الذُّنوبِ ، فَإنَّ مِن أَهمِّ أَسبَابِ الضَّلالةِ بعدَ الهُدَى، الاستِهَانَةُ بِالذُّنُوبِ والمعَاصِي فاسْتهَانَةُ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ بِمُحَقِرَاتِ الذُّنوبِ وصِغَارِهَا يُضعِفُ الإيمانَ في القَلبِ شَيئًا فَشيئًا ، لِذَا قَالَ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: "يَا عائشةُ إِياكِ ومُحَقِّـرَاتِ الأَعمَالِ فَإنَّ لهَا مِنَ اللهِ طَالبًا "رَوَاهُ أحمدُ بسندٍ قَويٍّ ، 
ولَقَدْ تَنَبَّهَ الصَّحبُ الكِرامُ ،المَيامينُ الأَطهَارُ ، رَضِىَ اللهُ عَنهُمْ لِهذَا الأَمْرِ ، ولِذَا قَالَ أَنسٌ، رَضِىَ اللهُ عَنهُ: " إِنَّكُمْ لَتَعْملُونَ أَعْمَالاً هِيَ فِي أَعْيُنِكُمْ أَدَقُ مِنَ الشَّعْرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُهَا في عَهدِ النبيِ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مِنَ المُوبِقَاتِ " رَوَاهُ البُخُارِيُ في صَحِيحِهِ . 
غَفَلْنَا لَعَمْرُ اللهِ حَتَى تَدَارَكَتْ *** عَلَينَا ذُنُوبٌ بَعدَ هُنَّ ذُنُوبُ 
فيا ليتَ أنَّ اللهَ يَغفِرُ مَا مَضَى *** ويَأذَنَ في تَوبَاتِنَا فَنَتُوبُ 
فَعَلَينَا اجتنابُ محَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ . 
فَعَلى كُلِ مُسلمٍ أَنْ يَعْلَمَ أَثَرَ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ علَى دِينِهِ، فَكَمْ ضَلَّ بسببِهَا أُنَاسٌ، استَمْرَؤُهَا، حَتَى أَصبَحَتْ جُزءًا مِن حَيَاتِهِم، فالتَّسَاهُلُ فِيهَا عَاقِبَتُهُ وَخِيْمَةٌ، وَآثارُهَا عَلى دينِهِ عِظِيمَةٌ، قَالَ ابْنُ مسعودٍ رَضِىَ اللُه عَنْهُ: " إِيَّاكُمْ وَمُحَـقِّرَاتِ الذُّنوبِ فإنَّهُنَّ يجتمعنَ عَلى الرَّجُلِ حَتى يُهْلِكْنَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ بسندٍ حسَنٍ . 
التَّهَاونُ بِمحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ ،طَرِيقَةٌ شَائِكَةٌ، وَعِرَةٌ، تُولِجُ في الغَالبِ أَصحَابَها مَوَاطِنَ الرَّدَى ،فَكَمْ مِن عَابِدِ أَكْثَرَ مِن التَّرخُصِ والتَّسَاهُلِ في مُشَاهَدَةِ الأَفْلَامِ ، وفِي الدُّخُولِ إِلى مَوَاطِنِ الاختِلاطِ ، وِ بإِطْلَاقِ النَّظَرِ ،وعَدمِ غَضِ البَّصَرِ؛ فَضَاعَ بِسَبَبِهَا ،فَالتَسَاهُلُ خَطَرٌ مُهْلِكٌ ،لِكُلِ مَنْ وَلجَهُ ،

خامساً : الشعور بالفقر إلى تثبيت الله - تعالى - وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين فإن لم يثبتنا الله وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها وقد قال مخاطباً خير خلقه وأكرمهم عليه: ((وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً")) وقال - تعالى -: ((إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا))وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قوله: ((لا ومصرف القلوب)) كما روى ابن ماجه بسند جيد مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.
حَمَانَا اللهُ وإيَّاكُم مِنْ مُضِلَاتِ الفِتَن ِ،مَا ظَهر منْهَا ومَا بَطَنَ

الْخطبةُ الثَّانِيَة
عِبادَ اللهِ، إن مِن أَعظَمِ عَوَامِل ِالثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ ، مُحَاسَبَةَ النَّفْسِ ،والحَزْمَ في مُعَالجَةِ التَّقصِيرِ ،لأنَّ الضَّلالةَ بَعدَ الهُدى، لا تَأْتِى - فِي الغَالبِ- بَين يومٍ ولَيلةٍ ، وإِنَّما تَأتى تَدْرِيجِيًا، فَتأْتِى مَثلاً بِالتَأَخُرِ عَن الحُضُورِ المُبكِّرِ لِلمَسجِدِ ، ثُم َّباِلتخلفِ عَن تكبيرةِ الإِحرَامِ ، ثُمَّ فَواتِ غَالبِ الصَّلاةِ وهَكَذَا، 
وفِي الحَدِيثِ: " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا ، فَقَالَ لَهُمْ : ( تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ 

فَعَلى كُلِ مُسلمٍ أَنْ يَبْدَأَ بِمُرَاجَعَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ أَوَّلِ تَرَاجُعٍ حَصَلَ لَهُ فَمَثَلاً: مَن انْخَفَضَ مُعدلُ قِراءَتِهِ للقُرآنِ عَن حِزْبِهِ اليَومِي المُعتَادِ؛ فَعَلَيهِ بِمعُالجَةِ القُصورِ فَوْرًا، فَمُلاحَظَةُ التَقْصِيرِ تَبدأُ مِن صَاحِبِ العَمَلِ، أَو مِن المُحيطِينَ بِهِ ،وإِن كَانَ الإنْسانُ أَعلمُ بِأَحوالِ نَفْسِهِ، كَمَا قاَلَ تعَالى: "بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ " فكُلَّمَا لاحَظَ الإنْسانُ علَى نَفْسِهِ إهْمَالاً، أَو كَسلاً عَن أَدَاءِ العَبَادَاتِ، فَعَلَيهِ بِالمُحَاسبَةِ الفَوريةِ، 

فَلو أَنَّ هذَا الرَّجُلَ بَدَأَ بِمحاسَبَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ أَوَلِ تَساهُلٍ حصَلَ منهُ ، وَأَطَرَهَا عَلَى الحقِ أَطْرًا، فَلنْ تَصِلَ حَالُهُ إِلى حَالٍ يُرثَي لَها ، فَلا بُدَ أَنْ يَكُونَ الإنسانُ حَازِمًا وجادًّا وصَارِمًا معَ نَفْسِهِ ، حِينَمَا يَرى عَلَيْهَا آثارَ التَّغييرِ، وأَوْجُهَ النَّقْصِ، فَورَ إِحساسِةِ ِبِها، أَو لفَتَ نَظَرَهُ إليهَا النَّاصَحونَ لَهُ؛

فالحَازِمُ مِعَ نَفسِهِ يَنْهَاهَا عَن الهَوى ، ويُبَشَّرُ بخَيرِ مَأوى، قالَ تَعَالى: " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى " وهَذِهِ لا يَملكُهَا إِلا أَصْحَابُ الهِممِ العاليةِ، والعُقولِ الرَّاجِحَةِ ، الحرِيْصُونَ عَلَى دِينِهِمْ ، المُحَاسِبُونَ لأَنْفُسِهِمْ ،ممَنْ لَا تَأخُذُهُمْ العِزَّةُ بالإِثْم. 

إِنَّ مُحاسَبَةَ النَّفْسِ مَنْهَجٌ شرعيٌّ، يُسْهِمُ بِحَمْدِ اللهَ - فِي الثبَاتِ عَلَى دِينِهِ؛ لأِنَّهُمْ سُرعانَ مَا يَنْفُضُونَ عَن أَجْسَادِهِمْ غُبَارَ الكَسَلِ، ، حَتى يَثْبُتَ عَلَى دِينِ اللهِ
التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت:
والجنة بلاد الأفراح، وسلوة الأحزان، ومحط رحال المؤمنين والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات إلا بمقابل يهوّن عليها الصعاب، ويذلل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق. فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لم يثبت فستفوته جنة عرضها السموات والأرض، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم ذكر الجنة في تثبيت أصحابه، ففي الحديث الحسن الصحيح مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذون في الله تعالى فقال لهم «صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة» (رواه الحاكم 3/383، وهو حديث حسن صحيح، انظر تخريجه في فقه السيرة تحقيق الألباني ص103). 
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار «إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» (متفق عليه).
وكذلك من تأمل حال الفريقين في القبر، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، وسائر منازل الآخرة. كما أن تذكر الموت يحمي المسلم من التردي، ويوقفه عند حدود الله فلا يتعداها. لأنه إذا علم أن الموت أدنى من شراك نعله، وأن ساعته قد تكون بعد لحظات، فكيف تسول له نفسه أن يزل، أو يتمادى في الانحراف، ولأجل هذا قال صلى الله عليه وسلم : «أكثروا من ذكر هادم اللذات» (رواه الترمذي 2/50 وصححه في إرواء الغليل 3/145).
2

عشر ذي الحجة (٣)

الخطبة الأولى 
 أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمدا صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين، وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهرها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عشرها عشر ذي الحجة.
والمسلم يعيش مباركًا في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ؛ إذ هي بركة على أهلها كما يقول تعالى: 
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا
[الأنعام:160]، وكما يقول 
: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعلمها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك)).

وهذا يدل على أن الطاعة بركة في القول؛ إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة فلا يسخط عليه أبدًا.

والطاعة بركة في العمل؛ إذ الصلاة بعشر صلوات كما في الحديث القدسي: ((أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي))، فهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر والثواب. وصوم رمضان بعشرة أشهر كما في الحديث: ((رمضان بعشرة أشهر، وست شوال بشهرين))، ((والصدقة بسبعمائة ضعف))، ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).

والطاعة طهرة من الذنوب، فالصلاة طهرة من الذنوب كما في الحديث: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة، هل يبقى عليه من الدرن شيء؟!)). 

والصوم طهرة من الآثام كما في الحديث: ((جاءني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له أبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين))، ومن صامه وقامه وقام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه. و((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار))، و((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).

والطاعة بركة في التعامل؛ إذ بالتعامل الحسن يدرك الإنسان درجة الصائم القائم، ويجاور الرسول 
، ويحظى ببيت في أعلى الجنة، ويدخل الجنة، ويكمل إيمانه، ويثقل ميزانه.

وأعظم الزمن بركة عشر ذي الحجة، والتي تستقبلونها إن شاء الله هذه الأيام؛ إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى تدل على محبته لها وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات كثيرة الحسنات قليلة السيئات عالية الدرجات متنوعة الطاعات.

فمن فضائلها أن الله تعالى أقسم بها فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ
[الفجر:2]، ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، ومما يدل على ذلك أن الله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يقسم إلا بأعظم الأمكنة كالقسم بمكة، وله أن يقسم من خلقه بما يشاء، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقسم بها يدل على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.

ومن فضائلها أن الله تعالى أكمل فيها الدين؛ إذ تجتمع فيها العبادات كلها، وبكمال الدين يكمل أهله، ويكمل عمله، ويكمل أجره، ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات والتلذذ بالطاعات ومحبة المخلوقات،وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء لتكون نفسًا مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء، وتصاحب الصالحين، وتتخلق بالأخلاق الحسنة، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي شطّ ومال به عن الصراط المستقيم، وينتصر على الهوى والشهوات. وقد كمل الدين حتى تركنا الرسول عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك شقي. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال، قال حبر من أحبار اليهود لعمر رضي الله عنه: آية في كتابكم، لو نزلت علينا ـ معشر اليهود ـ اتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، قال عمر: ( إني أعلم متى نزلت، وأين نزلت. نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ). وكمال الدين يدل على كمال الأمة وخيريتها.

ومن فضائلها أن الله أتم فيها النعمة؛ إذ تنعم الأرواح بشتى أنواع الطاعات القولية والفعلية والتعاملية، ومن تمام النعمة أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف. ومن تمام النعمة أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان؛ إذ كان في الجزيرة أديان متنوعة، منها اليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنية والنفاق، فأبيدت بالإسلام، وظهر عليها الإسلام، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا[الفتح:28]. ومن تمام النعمة منع الكفار من دخول الحرم واختصاص المسلمين بذلك، فتوحدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحدوا معبودهم، وتوحد دينهم، وتوحدت كلمتهم، وتوحد طريقهم، ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.

ومن فضائلها أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الزكاة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها صدقات التطوع، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذي تدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها ولا يساويها سواها.

ومن فضائلها أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى، فهي موسم للربح، وهي طريق للنجاة، وهي ميدان السبق إلى الخيرات، لقوله 
: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))، وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما، لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال، وروي عن الأوزاعي قال: بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة.

ومن فضائلها أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب، فهو يوم مجيد، يعرف أهله بالتوحيد، إذ يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ((وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله))، ويعرف الإنسان ضعف نفسه إذ يكثر من الدعاء ويلح على الله في الدعاء، وفي الحديث: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة))، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كل مكان في صعيد واحد، ويعرف عدوّه الذي ما رئي أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم لكثرة أسباب المغفرة من توحيد الله ودعائه وحفظ جوارحه وصيامه لغير الحاج، وهو يوم الحج الأعظم، قال عليه الصلاة والسلام : ((الحج عرفة))، وصومه تطوعًا يكفر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبلة، وما علمت هذا الفضل لغيره فكأنه حفظ للماضي والمستقبل.

ومن فضائلها أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النحر))، وفيه معظم أعمال النسك من رمي الجمرة وحلق الرأس وذبح الهدي والطواف والسعي وصلاة العيد وذبح الأضحية واجتماع المسلمين في صلاة العيد وتهنئة بعضهم بعضًا.

وفضائل العشر كثيرة لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها، بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصالح.
ومن الأعمال المشروعة فيها الذكر، يقول تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ[الحج:28]، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).

وكان أبو هريرة وابن عمر ـ وهما أكثر الصحابة رواية للحديث وأكثر اتباعًا للسنة ـ إذا دخلت عشر ذي الحجة يخرجان إلى السوق يكبران كلّ على حدته، فإذا سمعهم الناس تذكروا التكبير فكبروا كل واحد على حدته، وهذا التكبير المطلق، ويُكثر مع التكبير من التسبيح والتهليل والتحميد والذكر، ويكثر من قراءة القرآن فإنه أفضل الذكر، ومجالسه هي مجالس الملائكة ومجالس الرسل ومجالس المغفرة والجنة والإيمان والسعادة والرحمة والسكينة، وفضائله كثيرة، قرنه الله بالصلاة فقال: 
فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
[النساء:103]، وقرنه بالجمعة فقال: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ[الجمعة:10]، وقرنه بالصوم فقال: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ[البقرة:185]، وقرنه بالحج فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا[البقرة:200]، وقرنه بالجهاد فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ[الأنفال:45]، ولا يتقيد بزمن ولا حال، أمر الله بـه على جميع الأحوال فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ) [النساء:103].

وينبغي للمسلم أن يسابق في هذه العشر بكل عمل صالح، ويكثر من الدعاء والاستغفار، ويتقرب إلى الله بكل قربة، فدونكم الفضائل فاغتنموها، وإياكم والتواني والكسل، ولنعلم أن لله جل وعلا نفحات في أيامه، فلنهتبل الفرصة ولنستكثر من الحسنات، عل الله جل وعلا أن يعفو عن زلاتنا وسيئاتنا.
اللهم وفقنا لأرشد الأقوال والأفعال لا يوفق لأرشدها إلا أنت، اللهم جنبنا سيئ الأقوال والأفعال والأهواء والأدواء لا يجنبنا سيئها إلا أنت، اللهم اهدنا وسددنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيَات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيد المرسلين وبقَوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من ذلك ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية

 وإن من أفضل الأعمال في هذه الأيام ـ يا عباد الله ـ الإهلال بالحج والتقرب إلى الله جل وعلا به، والتقرب إلى الله بصوم عرفة لمن لم يحج، وفضل الأضاحي ...
ومن الأعمال في هذه العشر الإكثار من نوافل الصلوات بعد الفرائض، كالرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وهي اثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويواظب على النوافل المقيدة، مثل أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، وصلاة الليل، وهي إحدى عشرة ركعة كما في السنة عن رسول الله 
، وكان يواظب عليها ويقضيها وقت الضحى لو نام عنها، وصلاة الضحى ركعتان أو أكثر، فالمحافظة على النوافل سبب من أسباب محبة الله، ومن نال محبة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه، لأنها تكمل النقص وتجبر الكسر وتسد الخلل.

ويكثر من الصدقة في العشر، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصدقة ينال الإنسان البر ويضاعف له الأجر ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها بابا من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيمًا رفيقًا، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبـه، ويتحرر من عبـودية الـدرهم والديـنار، ويحفـظه الله في نـفسـه ومـاله وولده ودنياه وآخرته.

ويكثر من الصيام في أيام العشر، ولو صام التسعة الأيام لكان ذلك مشروعًا، لأن الصيام من العمل الصالح، ولأنه ثبت في الحديث أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجة، وثلاثة أيام من الشهر، وما ورد عن عائشة أنه ما صام العشر فالمراد إخبار عائشة عن حاله عندها، وهو عندها ليلة من تسع، ولربما ترك الشيء خشية أن يُفرض على أمته، ولربما تركه لعذر من مرض أو سفر أو جهاد أو نحوه، وإذا تعارض حديثان أحدهما مُثبت والآخر نافي فإننا نقدم المثبت على النافي، لأن عنده زيادة علم.

عباد الله :ومن الشعائر التي ينبغي للمسلمين أن يحافظوا عليها في هذه الأيام المباركة (ذَبَحَ الأَضَاحِىَّ) تقربا إلى الله عز وجل.فالذبح من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله رب العالمين سبحانه، قال تعالىقُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ نسكي، أي: ذبحي .
وتجزئ الأضحية عن الرجل وأهل بيته،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّىَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ فَذَبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ لِمَنْ شَهِدَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلاَغِ وَذَبَحَ الآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم .رواه الترمذي وصححه الألباني .
ومن كان في بيت مستقل فيشرع له أن يضحي عنه وعن أهل بيته بأضحية مستقلة
.
والواجب على من أراد أن يضحي أن يمسك عن شعره وأظفاره فلا يأخذ منها شيئا من أول شهر ذي الحجة وحتى يضحي لقوله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ رَأَى هِلاَلَ ذِى الْحِجَّةِ فَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّىَ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحِّىَ »رواه النسائي صححه الألباني.
ومن لم يعرف هذا الحكم إلا بعد دخول أيام من ذي الحجة وقد أخذ من شعره وأظفاره فليمسك فيما بقي من الأيام.
ويدخل في ذلك من وكّل شخصا أن يضحي عنه، فإنه يلزم صاحب الأضحية أن يمسك عن شعره وأظفاره ولا يلزم الموكَّل لأنه متبرع
.
والسنة:أن يضحي الحي عن نفسه وعن أهل بيته، فمن الخطأ أن بعض الناس يضحي عن أمواته ولا يضحي عن نفسه وأهل بيته، والنبي صلى الله علية وسلم ضحى عن نفسه وأهل بيته
.
وأما الأضحية عن الميت فإن كان قد ترك مالا وأوصى أن يُضحى عنه، فالواجب إنفاذ وصيته، وإن لم يكن قد خلَّف مال، وأراد أحد أهله أن يضحي له تبرعا فلا مانع.على أنه لابد أن يُعرف أن الأضحية في الأصل عن الحي، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ضحى عن أهل بيته ولم يذكر أنه ذبح عن أمواته.
ولا مانع أن يَدخل الأموات في قول المضحي: "عني وعن أهل بيتي"، ففضل الله واسع.



3

فضل عشر من ذي الحجة(٢)

( فضل عشر من ذي الحجة ) 
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، ولنغتنم ما بقي من أعمارنا، ونعتبر بما ضاع من أوقاتنا، ونتعض بمن مضوا قبلنا؛ فإننا سائرون على دربهم، صائرون إلى مصيرهم، ولا مفر من الله تعالى إلا إليه، ولا نجاة إلا بصدق التوجه إليه سبحانه، وتعلق القلوب به عز وجل، وإخلاص العمل له وحده دون سواه (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ) [البيِّنة:5].
أيها الناس: اختص الله تعالى بعض الأزمنة بعبادات فُضِلت بها على غيرها من الزمان، كما اختص ثلث الليل الآخر دون سائر الليل والنهار بتجليه سبحانه للمستغفرين من عباده و والسائلين والداعين، واختص يوم الجمعة بهذه الصلاة العظيمة، وبساعة الإجابة فيها، واختص رمضان بوجوب صيامه، ومشروعية الجماعة في قيامه.
واختُصت عشرُ ذي الحجة باجتماع أمهات العبادات فيها، فكان العمل الصالح فيها أفضلَ منه في غيرها؛ فالصلاة والدعاء والصدقة والجهاد وقراءة القرآن وذكر الله تعالى وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من القربات هي في عشر ذي الحجة أفضل منها في غيرها؛ لحديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عز وجل ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعمله في عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قالولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله عز وجل إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍرواه البخاري والدارمي واللفظ له.
إن هذه العشر المباركات التي نبتدئها بعد أيام هي أفضل أيام السنة، والعمل الصالح فيها أيَّاً كان نوعه أفضل منه في غيرها، وهي تقع في آخر شهر من السنة، فكأنها تعويض للمفرطين في عامهم؛ ليتداركوا أنفسهم، ويعوضوا فيها ما فاتهم، ويدركوا بها منزلة من سبقهم، ومن فضل الله تعالى أنها كانت في آخر العام؛ فإن العبد يتذكر بنهاية سنته نهاية عمره، ويندم على ما فرط في أيامه الخالية، ويعقد العزم على استثمار ما بقي من حياته؛ فإذا هو يستقبل هذه العشر المباركة؛ ليفي بوعده لربه، ويصدق مع نفسه.
إن الله تعالى حين جعل هذه العشر المباركات أفضل أيام السنة فإنه سبحانه اختصها بخصائص ليست في غيرها، وجعلها زمناً لعبادات لا تكون في سواها؛ فهي زمن أداء ركن الإسلام الخامس، فأولُ أيام الحج فيها وهو يوم التروية، وفيها ركنُه الأعظمُ وهو الوقوفُ بعرفة، ويُتَوَّجُ خاتمتُها وهو يوم النحر بأكثر أعمال الحج وهي الرمي والنحر والحلق والحل من الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة.
إنها اختُصت بهذه الأيام الثلاثة العظيمة، وفيها مناسك الحج وشعائره الكبيرة، ففي اليوم الثامن يبدأ الحجاج مناسكهم، وفي اليوم التاسع يقفون بعرفة، وهو من أعظم الأيام وأفضلها، ويعتق الله تعالى فيه من النار ما لا يعتق في غيره من سائر الأيام؛ كما في حديث عَائِشَة رضي الله عنها أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من يَوْمٍ أَكْثَرَ من أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْدًا من النَّارِ من يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فيقول: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ"رواه مسلم.
وهو اليوم الذي نزلت فيه آية الإخبار بكمال الدين، وتمام النعمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلًا من الْيَهُودِ قال له: يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تقرؤونها لو عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذلك الْيَوْمَ عِيدًا، قالأَيُّ آيَةٍ؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا، قال عُمَرُقد عَرَفْنَا ذلك الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الذي نَزَلَتْ فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يوم جُمُعَةٍ"رواه الشيخان.
فكان الإخبار عن كمال دين الإسلام، وتمام نعمة الله تعالى به علينا، ورضاه بالإسلام لنا دينا في اليوم التاسع من هذه العشر المباركة فاختصت بهذا الفضل العظيم.

وفيها ليلة جَمْعٍ حين يبيت الحجاجُ بمزدلفة، ويذكرون الله تعالى فيها بعد الفجر إلى الإسفار، قال الله تعالى في فضل هذا الذكر في ذلك المشعر المبارك (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة:198].

واختُصت العشر بيوم النحر، وهو العيد الأكبر، وهو أفضل من عيد الفطر؛ لاختصاصه بكثير من الشعائر والعبادات، وفيه تُراق الدماء تعظيما لله تعالى، ولا تذبح الضحايا والهدايا قبله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2].
فكان التَنَسُّك بالدماء لله تعالى في خاتمة هذه العشر المباركة، وكان آخر يوم منها وهو اليوم العاشر عيدا كبيرا للمسلمين، يذكرون الله تعالى فيه على ما هداهم، ويشكرونه على ما أعطاهم ( فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج:36-37].
وثبت فضله في حديث عبد الله بن قُرْطٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّرواه أبو داود.
ومن أراد أن يضحي فالاحوط له ان يمسك عن شعره وأظفاره من دخول العشر إلى أن يذبح أضحيته؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
ومن خصائص هذه العشر المباركة أن الله تعالى نص في كتابه العزيز على ذكره فيها فقال سبحانه (وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) [الحج:27].
فالأيام المعلومات هي العشر في قول أكثر السلف والعلماء، ومِنْ ذكره سبحانه فيها ما شرع فيها من التكبير؛ تعظيما لله تعالى، وإعلاما بفضيلة هذه العشر، وإظهارا لشعائرها.
وروى ابن عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ الله وَلاَ أَحَبُّ إليه الْعَمَلُ فِيهِنَّ من هذه الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ والتحميد"رواه أحمد، 
قال البخاري رحمه الله تعالى: "وكان ابن عُمَرَ وأبو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إلى السُّوقِ في أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ الناس بِتَكْبِيرِهِمَاوروى الدارمي عن سَعِيد بن جُبَيْرٍ رحمه الله تعالى أنه "كان إذا دخل أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حتى ما يَكَادُ يَقْدِرُ عليه".
فحري بالمسلم أن يشكر الله تعالى على فضلها وفضل العمل الصالح فيها وهي أيام قلائل، وأن يشكره عز وجل على ما شرع فيها من أمهات العبادات والأعمال الصالحة، وأن يشكره عز وجل على بلوغها وهو في أمن وعافية، ولديه قدرة على الاجتهاد فيها بما يرضي الله تعالى، ومن دلائل الشكر فيها حبس النفس على الطاعات، ومجانبة المحرمات.
 الخطبة الثانية

 الحمد لله حمدا كثيرا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [الحشر:18-19].

أيها المسلمون: هذه الدنيا التي نعيشها لن نخلد فيها، وهي لن تبقى إلى الأبد؛ فلها نهاية كما كان لها بداية، ونحن نعلم أنه في كل يوم يموت خلق كثير ويدفنون، ولا بد أن نكون يوما من الأيام منهم، طال ذلك أم قصر.
والدنيا بأفراحها وأتراحها، ومسراتها وأحزانها، ويسرها وعسرها ينساها الناس بمفارقتها، بل إن الواحد يصيبه عسر شديد، ومصيبة كبيرة، ثم مع مرور الأيام يزول عسرُه، وينسى مصيبتَه، ويذهب همُه وغمه، وكذلك الإنسان تصيبه سراءُ فيفرح بها فرحا شديدا ومع الأيام ينساها ويزول فرحه.
وهكذا ما يلحق أهل الإيمان والتقوى من مشقة حبس النفس على الطاعات، وكفها عن الشهوات؛ فإنهم ينسون ذلك بمجرد انتهاء وقته، وذهاب مشقته؛ فالصائم الذي جاع وعطش ينسى معاناته مع الجوع والعطش بمجرد فطره، والحاج الذي لحقه من المشقة والزحام وطول الانتظار ما لحقه ينسى ذلك بمجرد إتمام حجه، وانقضاء نسكه.

وأهل الشهوات المحرمة ينسون لذة شهواتهم ومتعتها بمجرد مفارقتها، وتبقى السيئات في صحائفهم، والأوزار تثقلهم، والهموم والأحزان تملأ قلوبهم، وهذا من عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة.
ونجد هذا المعنى واضحا كل الوضوح في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا من أَهْلِ النَّارِ يوم الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يا بن آدَمَ، هل رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيقول: لَا والله يا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الناس بُؤْسًا في الدُّنْيَا من أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الْجَنَّةِ فَيُقَالُ له: يا بن آدَمَ، هل رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيقول: لَا والله يا رَبِّ ما مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ ولا رأيت شِدَّةً قَطُّ"رواه مسلم.
فحري بالمسلم أن يعتبر بذلك، وأن يعمر وقته بطاعة الله عز وجل؛ لعلمه أن ما يلحقه من مشقة العبادة يزول ويبقى له أجرها، يتنعم به خالدا مخلدا في دار النعيم، وأن يجانب المحرمات ليقينه أن لذتها تزول بزوالها، ويبقى وزرها عليه، وأن يستفيد من الأزمان الفاضلة، والأوقات المباركة التي اختصها الله تعالى بشعائره العظيمة، فيعظمها كما عظمها الرب تبارك وتعالى، ويخصها بكثرة النوافل والقربات، وإن الخسران كل الخسران أن يصرفها العبد في اللهو والغفلة، والتمتع بما حرم الله تعالى عليه، ولربما كانت هذه العشر آخر موسم مبارك يدركه العبد في حياته، فلعل الموت يبغته في أي لحظة (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ) [آل عمران:30].
2