( الثبات على الهدى )
عِبادَ اللهِ، إِنَّ الـمـُؤمِنَ الصَّادِقَ هُوَ الذِي يُطِيعُ اللهَ وَرَسُولَهُ ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الـمَنْشَطِ والـمَكْرَهِ، ويُضَحِّى في سبيلِ ذلك بِنفسِهِ، ومَالِهِ، ويُقَدِّمُ مَرضَاة الله عَلى رَغَبَاتِ نَفْسِهِ، وشَهَوَاتِها، فَكُلُ مَن فَعَلَ هذِهِ الأَوامِرَ، واجتنبَ النَّواهِيَ، وفَعَلَ مَا يُوعَظُ بِهِ كَانَ خَيرًا لَهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالى: "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوْا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوْا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوْهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوْا مَا يُوْعَظُوْنَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيْتًا"
فَلَمْ يَكتُبِ اللهُ سُبحَانَهُ وتَعَالى عَلينَا مَا يَشُقُّ عَلى النَّفْسِ احتِمَالُهُ كَقَتْلِ الإنسانِ لنفسِهِ ، وَلكِنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتَعَالى رَحِمَنَا، ولمْ يَكتُبْ ذَلِكَ عَلَيْنَا ،وإِنَّما عَلينَا التزامُ الأَوامِرِ ،واجتنابُ النَّواهي ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَنَالُ العَونَ من اللهِ ،وَيُثَبِّتُهُ على المُضِيِّ في الطَّرِيقِ المستقيمِ ، حتى نَنَالَ الأَجرَ العظيمَ ، ولِذَا حَذَّرَ اللهُ سُبحانَهُ وتَعَالى مِن الضَّلالَةِ بَعدَ الهُدَى ،كَمَا قَالَ تَعَالى: " وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" فَمَثَلُ الَّذِى يَخسَرُ الإيمانَ وتَزِلُّ قَدَمُهُ ، مَثَلُهُ مَثَلُ امرأةٍ حمقاءَ ضَعيفةِ العَقْلِ ، تَقْضِى دَهْرَهَا في فَتْلِ غَزلِها، ثُم َّتَنْقُضُهُ مِنْ بَعْدِ قُوةٍ أَنكَاثًا، فاتخَاذُ الأَيمانِ غِشًّا وخِدَاعًا ، يُزعزِعُ الإيمانَ في القَلبِ ،ويُضعِفُ اليَقِينِ ،
فالقرآنُ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً بـِمَنْ ضَيَّعَ جُهْدَهُ وعِبَادَتَهُ لِرَبِهِ لِنَقْضِهِ ،بـِمِثْلِ تِلكَ المرأةِ الجاهلةِ ،التي تـَهدُمُ ما بَنَتْهُ ،وتَنْقُضُ مَا فَتَلَتْهُ ، فَضَاعَ جُهدُهَا هباءً مَنثُورًا ، فَقَد ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِنَقْضِ العُهُودِ، وَأَسْوَؤُهَا نقضُ العُهُودِ مَعَ اللهِ، بَأَسوءِ الأمثالِ وأَقبَحِهَا ،وَأَدَلِّهَا عَلى سَفَهِ مُتَعَاطِيهَا ، فَمَنْ هَدَمَ مَا بَنَاهُ، ولمْ يَثْبُتْ عَلى دِينِ اللهِ، لَمْ يَستَفِدْ سِوى الخَيبةِ والعَنَاءِ ، والنَّدَامَةِ ونَقْصِ الرَّأي وسَفَاهَةِ العَقْلِ ، فَإِنَّ مَن نَقَضَ عَهْدَ الإسلامِ، فَقَدْ سَقَطَ مِن الدرجاتِ العَاليةِ، ووقَعَ في الضَّلالَةِ بَعدَ الهُدَى ،كَمَا قَالَ تَعَالى: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ" " فَالـمُؤمِنُ عَليهِ أَنْ يَبِيعَ الضَّلالةَ ويَشْتريَ الهُدَى ، لا العكسُ ،
ولِذَا عَلى المؤمنِ أَنْ يَسعَى للثَّبات ِعلى دِينِ اللهِ؛ لأَنَّهُ لا يَأْمَنُ أَحَدٌ الفِتْنَةَ خَاصةً مَعَ تتابعِ الفتنِ، ولَقَدْ حذَّرَ النَّبيُ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ ( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا . "رَوَاهُ مُسلمٌ
ولِلثَّبَاتِ عَوامِلُ كثيرةٌ ومِنْ أَهمِهَا:
*الدُّعَاءُ : فإِهمَالُ الدُعَاءِ مِن أسبابِ الزَّيغِ بَعْدَ الهُدَى ،لأَنَّ الدُّعاءَ مِنْ عَوَامِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ جَلَ وعَلَا ،
*الدُّعَاءُ : فإِهمَالُ الدُعَاءِ مِن أسبابِ الزَّيغِ بَعْدَ الهُدَى ،لأَنَّ الدُّعاءَ مِنْ عَوَامِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ جَلَ وعَلَا ،
قالَ تَعالى: "رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ"
ووَرَدَ في حديثِ أنسٍ رضيَ اللهُ عَنهُ: كانَ رَسولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ يَقُولُ :" يَا مُقَلِبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبي عَلى دِينِكَ " فَقُلتُ: ياَ نَبِيَ اللهِ ،آمنَّا بِكَ وبما جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلينَا ؟ قالَ:" نعم إِنَّ القُلوبَ بَينَ أُصبعينِ مِن أصابعِ اللهِ يُقلبُهَا كيفَ يشاءُ "رَواهُ الترمذيُ، بِسَندٍ صحيحٍ ،
وقَدْ تعجبَ الصحابَةُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُم مِنْ هَذَا الدُّعاءِ ،فَأَخبَرَهُمْ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ " أَنَّ القُلوبَ بَينَ أُصبعينِ مِن أَصابِع ِالرحمنِ يُقلبهُا كيفَ يشَاءُ " ولا شَكَ أَنَّ المؤمنَ صَادِقَ الإيمانِ ، يَوجَلُ قَلبُهُ ،ويَشتَدُ خَوفُهُ ،وتُؤثِّرُ فِيهِ مثلُ هَذِهِ الأحاديثِ المُرهِبَةِ ،فَتُقَرِّبُهُ من ربِّهِ زُلفى ،أَمَّا مَن استكبرَ عَن الدُّعاءِ، وَظَنَّ أَنَّهُ بِمنأَى عَنِ السُقوطِ والرَّدَى ،وظَنَّ أَنَّ المُخَاطَبَ بهذهِ الكلماتِ هُم العوامُ والبُسطاءُ، فَقَد ضَلَّ ضَلالاً بَعيدًا ،واستحوذَ عَليهِ الشَّيطَانُ، وَزَينَ لَهُ سُوءَ عَمَلهِ،
وانْظرْ إِلى فِقْهِ ابنِ مَسعُودٍ، رَضِىَ اللهُ عَنْهُ، فيما رَوَاهُ ابنُ عبدِ البَّرِ -رَحِمَهُ اللهُ- " استَنْ بِمنْ مَاتَ فإنَّ الأَحياءَ لا تُؤمَنُ عَليهِمُ الفِتْنَةُ " فَفِي هَذا الأَثَرِ مِن العُمقِ مَا فيهِ ،حَتى أَنَّ الصَّحَابَةَ وهُم أَكْثَرُ الأُمَّةِ إِيمانًا ، وتُقَىً وصَلاحًا، لا يَضمَنُ أَحدُهُم الاستمرارَ عَلى هذا الطَّرِيقِ المحفوفِ بِالشَّهواتِ ،فَيَشتَدُّ خَوفُهُم مِن اللهِ ،
فَالدعاءُ بالثباتِ عَلى دِينِ اللهِ، سِلاحٌ لا يُمكِنُ لأَحَدٍ أَنْ يَحرِمَ مِنه أَحَدًا، يلجأُ إليهِ المُسلمُ في كُلِ زَمانٍ ومَكانٍ. والدُّعاءُ بالثَّباتِ يجبُ أَنْ يَكُونَ مَنهَجَا ثابتاً في حياةٍ المُسلمِ ، ولَيسَ بِحق ِمَن وَقَعَ فَي الزَّللِ فَـقَطْ، بَلْ هُوَ في حَقِّ مَن التَزَمَ المنَهَجَ الصَّحِيحَ آكدُ، فَلا غِنًى لـمُؤمِنٍ عَنْ رَبِهِ أَنْ يُثَــبِّــتْهُ ، وَلَنَا بِالمَعصُومِ ،صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ، وصَحْبِهِ الكِرامِ قدوةٌ
.
* ثَانيًا: ومِن عَوامِلِ الثباتِ على دينِ اللهِ ،قِراءَةُ القُرآنِ العَظِيمِ ،فَالقُرآنُ العَظيمُ ،مِن أَعظمِ وَسائِلِ الثَّباتِ عَلى دِينِ اللهِ ، ولِذَا جَعَلَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالى مُثَــبِّــتًا لِقَلبِ النَّبِيِّ، صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ، فقَالَ تَعَالى: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا " فَقِراءَةُ القُرآنِ بِتَأَمُّلٍ، وَتَدَّبُرٍ ، عاملٌ مُهِمٌ مِن عَوَامِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ ، وكُلَّمَا ارتبطَ المؤمنُ بالقُرآنِ ، كانَ أكثرَ يَقينًا وثباتًا.
* ثَانيًا: ومِن عَوامِلِ الثباتِ على دينِ اللهِ ،قِراءَةُ القُرآنِ العَظِيمِ ،فَالقُرآنُ العَظيمُ ،مِن أَعظمِ وَسائِلِ الثَّباتِ عَلى دِينِ اللهِ ، ولِذَا جَعَلَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالى مُثَــبِّــتًا لِقَلبِ النَّبِيِّ، صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ، فقَالَ تَعَالى: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا " فَقِراءَةُ القُرآنِ بِتَأَمُّلٍ، وَتَدَّبُرٍ ، عاملٌ مُهِمٌ مِن عَوَامِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ ، وكُلَّمَا ارتبطَ المؤمنُ بالقُرآنِ ، كانَ أكثرَ يَقينًا وثباتًا.
* ثالثا: ومِن عَوامِل الثَّبَاتِ عَلى دِينِ اللهِ أصدقاءُ الخيرِ: لقولِهِ تَعَالَى:" وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا "
وَفِي الأَثَرِ:" كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، ذُو بَأْسٍ يَفِدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، فَفَقَدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ؟ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَتَابَعَ فِي هَذَا الشَّرَابِ، قَالَ: فَدَعَا عُمَرُ، كَاتِبَهُ فَقَالَ: اكْتُبْ : مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، إِلَى فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " غَافِرِ الذَّنْب وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ" ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: اُدْعُوا اللَّهَ لِأَخِيكُمْ أَنْ يُقْبِلَ بِقَلْبِهِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا بَلَغَ الرَّجُلَ كِتَابُ، عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، جَعَلَ يَقْرَؤُهُ وَيُرَدِّدُهُ ، وَيَقُولُ: " غَافِرِ الذَّنْبِ، وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ" قَدْ حَذَّرَنِي عُقُوبَتهُ، وَوَعَدَنِي أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ نَزَعَ فَأَحْسَنَ النَّزْعَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ خَبَرُهُ، قَالَ: " هَكَذَا فَاصْنَعُوا إِذَا رَأَيْتُمْ أَخًا لَكُمْ زَلَّ زَلَّةً؛ فَسَدِّدُوهُ ، وَوَثِّقُوهُ، وَادْعُوا اللَّهَ لَهُ أَنْ يَتُوبَ، وَلَا تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْه " أَخرَجَهُ البَيهَقِيُ، بسندٍ حسنٍ ، فانظُرْ إِلى مَنهجِ أَمِيرِ المُـؤْمنيَن ، رَضىَ اللهُ عنهُ ،كَيفَ كَانَ حَلِيمًا رَقِيقًا مَعَ صَاحِبِهِ ،مَع مَا عُرِفَ عَنْهُ مِنْ شِدَّةٍ وَقُوَّةٍ في الحقِّ ،ولَكِنْ لِكُلِ مَقَامٍ مَقَالٌ، فَالصُّحبةُ الطَّيبةُ عَامِلٌ مِنْ عَوَامِلِ الثَّبَاتِ عَلى دِينِ اللهِ جلَّ وعَلَا،
فَالصديق الصَّالحُ هُوَ خَيرُ مَن يُعينُكَ عَلى الثَّبَاتِ عَلى دينِ اللهِ، فاللهَ اللهَ فِي انتقاءِ الأَصْدِقَاءِ، واختيارِهِم ،فَهُمْ خَيْرُ مُعِينٍ.
* رَابعا : مِن عَوَامِلِ الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ، البعدُ عَن مُحقِّـرَاتِ الذُّنوبِ ، فَإنَّ مِن أَهمِّ أَسبَابِ الضَّلالةِ بعدَ الهُدَى، الاستِهَانَةُ بِالذُّنُوبِ والمعَاصِي فاسْتهَانَةُ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ بِمُحَقِرَاتِ الذُّنوبِ وصِغَارِهَا يُضعِفُ الإيمانَ في القَلبِ شَيئًا فَشيئًا ، لِذَا قَالَ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: "يَا عائشةُ إِياكِ ومُحَقِّـرَاتِ الأَعمَالِ فَإنَّ لهَا مِنَ اللهِ طَالبًا "رَوَاهُ أحمدُ بسندٍ قَويٍّ ،
ولَقَدْ تَنَبَّهَ الصَّحبُ الكِرامُ ،المَيامينُ الأَطهَارُ ، رَضِىَ اللهُ عَنهُمْ لِهذَا الأَمْرِ ، ولِذَا قَالَ أَنسٌ، رَضِىَ اللهُ عَنهُ: " إِنَّكُمْ لَتَعْملُونَ أَعْمَالاً هِيَ فِي أَعْيُنِكُمْ أَدَقُ مِنَ الشَّعْرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُهَا في عَهدِ النبيِ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مِنَ المُوبِقَاتِ " رَوَاهُ البُخُارِيُ في صَحِيحِهِ .
غَفَلْنَا لَعَمْرُ اللهِ حَتَى تَدَارَكَتْ *** عَلَينَا ذُنُوبٌ بَعدَ هُنَّ ذُنُوبُ
فيا ليتَ أنَّ اللهَ يَغفِرُ مَا مَضَى *** ويَأذَنَ في تَوبَاتِنَا فَنَتُوبُ
فَعَلَينَا اجتنابُ محَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ .
فَعَلى كُلِ مُسلمٍ أَنْ يَعْلَمَ أَثَرَ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ علَى دِينِهِ، فَكَمْ ضَلَّ بسببِهَا أُنَاسٌ، استَمْرَؤُهَا، حَتَى أَصبَحَتْ جُزءًا مِن حَيَاتِهِم، فالتَّسَاهُلُ فِيهَا عَاقِبَتُهُ وَخِيْمَةٌ، وَآثارُهَا عَلى دينِهِ عِظِيمَةٌ، قَالَ ابْنُ مسعودٍ رَضِىَ اللُه عَنْهُ: " إِيَّاكُمْ وَمُحَـقِّرَاتِ الذُّنوبِ فإنَّهُنَّ يجتمعنَ عَلى الرَّجُلِ حَتى يُهْلِكْنَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ بسندٍ حسَنٍ .
التَّهَاونُ بِمحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ ،طَرِيقَةٌ شَائِكَةٌ، وَعِرَةٌ، تُولِجُ في الغَالبِ أَصحَابَها مَوَاطِنَ الرَّدَى ،فَكَمْ مِن عَابِدِ أَكْثَرَ مِن التَّرخُصِ والتَّسَاهُلِ في مُشَاهَدَةِ الأَفْلَامِ ، وفِي الدُّخُولِ إِلى مَوَاطِنِ الاختِلاطِ ، وِ بإِطْلَاقِ النَّظَرِ ،وعَدمِ غَضِ البَّصَرِ؛ فَضَاعَ بِسَبَبِهَا ،فَالتَسَاهُلُ خَطَرٌ مُهْلِكٌ ،لِكُلِ مَنْ وَلجَهُ ،
خامساً : الشعور بالفقر إلى تثبيت الله - تعالى - وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين فإن لم يثبتنا الله وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها وقد قال مخاطباً خير خلقه وأكرمهم عليه: ((وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً")) وقال - تعالى -: ((إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا))وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قوله: ((لا ومصرف القلوب)) كما روى ابن ماجه بسند جيد مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.
حَمَانَا اللهُ وإيَّاكُم مِنْ مُضِلَاتِ الفِتَن ِ،مَا ظَهر منْهَا ومَا بَطَنَ.
الْخطبةُ الثَّانِيَة.
عِبادَ اللهِ، إن مِن أَعظَمِ عَوَامِل ِالثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللهِ ، مُحَاسَبَةَ النَّفْسِ ،والحَزْمَ في مُعَالجَةِ التَّقصِيرِ ،لأنَّ الضَّلالةَ بَعدَ الهُدى، لا تَأْتِى - فِي الغَالبِ- بَين يومٍ ولَيلةٍ ، وإِنَّما تَأتى تَدْرِيجِيًا، فَتأْتِى مَثلاً بِالتَأَخُرِ عَن الحُضُورِ المُبكِّرِ لِلمَسجِدِ ، ثُم َّباِلتخلفِ عَن تكبيرةِ الإِحرَامِ ، ثُمَّ فَواتِ غَالبِ الصَّلاةِ وهَكَذَا،
وفِي الحَدِيثِ: " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا ، فَقَالَ لَهُمْ : ( تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
فَعَلى كُلِ مُسلمٍ أَنْ يَبْدَأَ بِمُرَاجَعَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ أَوَّلِ تَرَاجُعٍ حَصَلَ لَهُ فَمَثَلاً: مَن انْخَفَضَ مُعدلُ قِراءَتِهِ للقُرآنِ عَن حِزْبِهِ اليَومِي المُعتَادِ؛ فَعَلَيهِ بِمعُالجَةِ القُصورِ فَوْرًا، فَمُلاحَظَةُ التَقْصِيرِ تَبدأُ مِن صَاحِبِ العَمَلِ، أَو مِن المُحيطِينَ بِهِ ،وإِن كَانَ الإنْسانُ أَعلمُ بِأَحوالِ نَفْسِهِ، كَمَا قاَلَ تعَالى: "بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ " فكُلَّمَا لاحَظَ الإنْسانُ علَى نَفْسِهِ إهْمَالاً، أَو كَسلاً عَن أَدَاءِ العَبَادَاتِ، فَعَلَيهِ بِالمُحَاسبَةِ الفَوريةِ،
فَلو أَنَّ هذَا الرَّجُلَ بَدَأَ بِمحاسَبَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ أَوَلِ تَساهُلٍ حصَلَ منهُ ، وَأَطَرَهَا عَلَى الحقِ أَطْرًا، فَلنْ تَصِلَ حَالُهُ إِلى حَالٍ يُرثَي لَها ، فَلا بُدَ أَنْ يَكُونَ الإنسانُ حَازِمًا وجادًّا وصَارِمًا معَ نَفْسِهِ ، حِينَمَا يَرى عَلَيْهَا آثارَ التَّغييرِ، وأَوْجُهَ النَّقْصِ، فَورَ إِحساسِةِ ِبِها، أَو لفَتَ نَظَرَهُ إليهَا النَّاصَحونَ لَهُ؛
فالحَازِمُ مِعَ نَفسِهِ يَنْهَاهَا عَن الهَوى ، ويُبَشَّرُ بخَيرِ مَأوى، قالَ تَعَالى: " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى " وهَذِهِ لا يَملكُهَا إِلا أَصْحَابُ الهِممِ العاليةِ، والعُقولِ الرَّاجِحَةِ ، الحرِيْصُونَ عَلَى دِينِهِمْ ، المُحَاسِبُونَ لأَنْفُسِهِمْ ،ممَنْ لَا تَأخُذُهُمْ العِزَّةُ بالإِثْم.
إِنَّ مُحاسَبَةَ النَّفْسِ مَنْهَجٌ شرعيٌّ، يُسْهِمُ - بِحَمْدِ اللهَ - فِي الثبَاتِ عَلَى دِينِهِ؛ لأِنَّهُمْ سُرعانَ مَا يَنْفُضُونَ عَن أَجْسَادِهِمْ غُبَارَ الكَسَلِ، ، حَتى يَثْبُتَ عَلَى دِينِ اللهِ.
التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت:
والجنة بلاد الأفراح، وسلوة الأحزان، ومحط رحال المؤمنين والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات إلا بمقابل يهوّن عليها الصعاب، ويذلل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق. فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لم يثبت فستفوته جنة عرضها السموات والأرض، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي.
والجنة بلاد الأفراح، وسلوة الأحزان، ومحط رحال المؤمنين والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات إلا بمقابل يهوّن عليها الصعاب، ويذلل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق. فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لم يثبت فستفوته جنة عرضها السموات والأرض، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم ذكر الجنة في تثبيت أصحابه، ففي الحديث الحسن الصحيح مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذون في الله تعالى فقال لهم «صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة» (رواه الحاكم 3/383، وهو حديث حسن صحيح، انظر تخريجه في فقه السيرة تحقيق الألباني ص103).
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار «إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» (متفق عليه).
وكذلك من تأمل حال الفريقين في القبر، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، وسائر منازل الآخرة. كما أن تذكر الموت يحمي المسلم من التردي، ويوقفه عند حدود الله فلا يتعداها. لأنه إذا علم أن الموت أدنى من شراك نعله، وأن ساعته قد تكون بعد لحظات، فكيف تسول له نفسه أن يزل، أو يتمادى في الانحراف، ولأجل هذا قال صلى الله عليه وسلم : «أكثروا من ذكر هادم اللذات» (رواه الترمذي 2/50 وصححه في إرواء الغليل 3/145).