إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 22 يناير 2021

الشتاء والبرد والجوع

 ( الشتاء والبرد والجوع ) 

فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، وخذوا من شدة ما يمر بكم في الدنيا من أحوالها وأكدارها وأزماتها معتبرا لشدة يوم القيامة وكربه؛ فإن كرب القيامة ينسي شدة الدنيا وكربها (يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:35-37].

أيها الناس: خلق الله تعالى الأرض وما عليها، وأهبط آدم إليها، وجعلها مستقرا لبني آدم بما سخر لهم فيها (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [الأعراف:24].

والشمس والقمر مسخران للأرض ومن عليها، ومقدران بما ينفع الناس ولا يهلكهم، ولو كانت الشمس أقرب إلى الأرض لأحرقتها ومن عليها، والناس يتأذون من الشمس في شدة الحر فكيف لو اقتربت!! ولو كانت الشمس أبعد عن الأرض لتجمدت الأرض ومن عليها، والعقلاء يدركون ذلك في شدة البرد المهلك، فيعلمون نعمة الله تعالى عليهم بتقدير موقع الشمس من الأرض، فسبحان من خلق كل شيء فقدره تقديرا.

وشدة البرد، وشدة الحر نَفَسَان من جهنم؛ لتذكير العباد في الدنيا بنار الآخرة؛ ليتقوا ما يوردهم إياها، ويأخذوا بأسباب النجاة منها، روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشْتَكَتْ النَّارُ إلى رَبِّهَا فقالت: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لها بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الْحَرِّ وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الزَّمْهَرِيرِ " متفق عليه.

والبرد مهلك، كما أن الحر مؤذٍ، لكن الحَرَّ لا يهلك في الغالب؛ ولذا فالناس يخافون البرد ويتقونه أكثر من الحر، وقد دلَّ القرآن على هذا المعنى؛ ففي سورة النحل ذكر الله تعالى في أولها أصول النعم، ومنها بهيمة الأنعام وقال سبحانه فيها (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [النحل:5].

ومن كمال نعيم أهل الجنة أنهم لا يجدون فيها حرًَّا ولا بردا قال قتادة رحمه الله تعالى "عَلِم الله تعالى أنّ شدة الحر تؤذي وشدة البرد تؤذي فوقاهم أذاهما جميعا , (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا) [الإنسان:13] والزمهرير هو البرد القاطع، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "هو لونٌ من العذاب". 
وعن الأصمعي رحمه الله تعالى قال: "كانت العرب تسمي الشتاء الفاضح-وكأنه والله أعلم يفضح الفقير، فلا صبرَ له عليه، بخلاف الحر فيصبر عليه ".

والعرب تسمي الشتاء ذكرا والصيف أنثى؛ لقسوة الشتاء وشِدَّة غلظته، ولين الصيف وسهولة شكيمته
قال الزمخشري: "وعادتهم أن يذكروا الشتاء في كل صعب قاس، والصيف وإن تلظى قيظه وحمي صلاؤه وعظم بلاؤه فهو بالإضافة إلى الشتاء هوله هين على الفقراء؛ لما يلقونه فيه من الترح والبؤس".

ويُذكر عن عمر رضي الله عنه أنه كان يتعاهد رعيته إذا حضر الشتاء، ويكتب لهم قائلا: "إنّ الشتاء قد حضر، وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا؛ فإنّ البرد عدو سريعٌ دخوله، بعيدٌ خروجه".

أيها الإخوة: ولأنَّ شدة البرد تؤذي الناس وقد تهلكهم؛ فإن الله تعالى قد خفَّف عنهم في كثير من الأحكام الشرعية لأجل ذلك؛ فأباح عز وجل لهم التيمم في شدة البرد، وعدم وجود وسائلَ لتسخين الماء؛ مما يُظَن معه الهلاك أو الضرر، وفي ذلك أقرَّ النبي عليه الصلاة والسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه لما أجنب في غزاة وتيمم وصلى بالناس.

ولكن مجرد المشقة ليست عذرا في ترك الوضوء أو الاغتسال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في ذلك لأجل المشقة فقط؛ ولأن الوضوء في البرد شاق على كل الناس، روى الإمام أحمد عن رَجُلٍ من ثَقِيفٍ قال "سَأَلْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ثَلاَثاً فلم يُرَخِّصْ لنا فَقُلْنَاإن أَرْضَنَا أَرْضٌ بَارِدَةٌ فَسَأَلْنَاهُ أن يُرَخِّصَ لنا في الطُّهُورِ فلم يُرَخِّصْ لنا".

ومن تخفيف الله تعالى على عباده، ورحمته عز وجل بهم: أن شرع سبحانه لهم المسح على الخفين
وأباح لهم الصلاة في رحالهم إذا كان البرد شديدا مصحوبا بأمطار أو ريح تضر الناس وتؤذيهم؛ كما روى نَافِعٌ رحمه الله تعالى: "أَنَّ بن عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلاةِ في لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فقالألا صَلُّوا في الرِّحَالِ، ثُمَّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إذا كانت لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يقول ألا صَلُّوا في الرِّحَالِرواه الشيخان واللفظ لمسلم.

ويباح للمؤمن ذكرا كان أم أنثى لبس القفازين أثناء الصلاة؛ إذ لا مانع يمنع من ذلك.

وتغطيةُ الوجه أو بعضُه بلثام أو غيره مكروه في الصلاة، فإنْ احتاج له المصلي لاتقاء هواء بارد، كما لو صلى في الخلاء؛ زالت الكراهية، وجاز له ذلك.

ومع هذه التراخيص العظيمة للمؤمنين من رب العالمين فإنه سبحانه يُعْظِم لهم المثوبة على تحمل المكاره في طاعته عز وجل؛ فمن أسباب محو الخطايا ورفع الدرجات: إسباغُ الوضوء على المكروهات، كما جاءت بذلك الأحاديث، ومعلوم أن إسباغ الوضوء في شدة البرد، وكثرةِ الملابس على المتوضئ مما يكرهه ويشق عليه، لكنه يفعل ذلك قربةً لله تعالى، فاستحق ما رُتب عليه من أجر عظيم.


وليحذر المسلم من التقصير في إسباغ الوضوء، وترك غسل أجزاء من بعض الأعضاء، كالوجه والكعبين، ولا سيما المرفقين، مع كثرة اللباس، وعُسْرِ حَسْرِ الأكمام عنهما
وتسخينُ الماء في شدةِ البرد مما يحفظ النفس من العطب والمرض، ويعين على إسباغِ الوضوء وإتمامِ الطاعة فلم يكن به كراهة، ويُخشى على من تنزَّه عنه قربةً من الغلو والتنطع.

وليحذر العبدُ من سبِّ الريح وإن آذته ببردها وشدتها؛ فإنها من الله تعالى، وقد يُصاب بالحُمى من جراء البرد فلا يَسُبُّها أيضا؛ لأنها من الله تعالى؛ ولأنها تُحرق ذنوب العبد، وتخفف عنه، فكان فيها خير له ولو أقعدته وأسهرته وآذته.

ويَكثرُ في البرد إيقاد النار ووسائلِ التدفئة؛ فليحذر المسلم منها؛ فإن النار عدو له، وكم من حوادث هلك فيها أفراد وأسرٌ بسبب التساهل في ذلك، روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تَتْرُكُوا النَّارَ في بُيُوتِكُمْ حين تَنَامُونَ

وعن أبي مُوسَى رضي الله عنه قال "احْتَرَقَ بَيْتٌ على أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ من اللَّيْلِ فلما حُدِّثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشَأْنِهِمْ قال:" إِنَّ هذه النَّارَ إنما هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فإذا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ"روى الحديثين البخاري ومسلم.

ويُكره أن تكون النار في قبلة المصلي فريضة كانت أم نافلة، ولو كانت صغيرة كشُعْلَةَ مِدْفَأةٍ أو فتيلة سراج أو شمعة؛ لما فيه من التشبه بالمجوس الذين يُصَلُّون للنار أو إليها، وقد نُهينا عن التشبه بالكفار.

أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.

الخطبة الثانية :

أيها المسلمون: موجة البرد القارس التي أصابت كثيرا من الدول، وأضرت بكثير من البشر هي من دلائل قدرة الله تعالى على عباده، ولو شاء سبحانه لجمَّد الأرض ومن عليها، فلا يملكون لذلك دفعا ولا تخفيفا.

كما أن هذه الموجة الباردة تذكرنا نعم الله تعالى علينا؛ فإننا طوال العام نرفل في النعم، ونتمتع برزق الله تعالى؛ فلا نجد حرّاً يؤذينا، ولا نحس بردا يضرنا، بما خفف الله تعالى عنا، ورزقنا من الغذاء والكساء والمراكب والمتاع، حتى نسي كثير منا أنهم في نعمة الله تعالى، أو أنهم محتاجون إليها فبطروا وطغوا، فإذا لسعتنا موجةٌ كهذه ذكَّرتنا نعم الله تعالى علينا، فحقيقٌ بنا أن نبالغ في شكرها بأقوالنا وأفعالنا.


عباد الله: تذكروا في هذا البرد القارس أحوال الفقراء والمعدمين من إخوانكم؛ فإنهم لا يجدون كساء يحمي أجسادهم، ولا فراشا يقيهم صقيع الأرض، ولا طعاما يُقوِّي عودهم على البرد، ولا يملكون وسائل للتدفئة، ومنهم مَنْ بيوتهم مداخلُ ومخارج للهواء البارد من قلة ذات اليد، ومنهم من يسكنون صفيحا يجمدهم وأسرهم وأولادهم..فارحموهم رحمكم الله تعالى؛ فإنهم محتاجون إلى عونكم..


تلمسوا حاجاتهم، وأعينوهم في نوائبهم.. دفئوهم وأسرهم وأولادهم، وبُلُّوا بالطعام أكبادهم..تلمسوهم بأنفسكم أو وكلاء عنكم في الأحياء الفقيرة، والبلاد البعيدة؛ فإن ذلك من شكر نعمة الله تعالى عليكم، ومن معونة إخوانكم (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

تذكروا يا عباد الله وأنتم تنعمون وأسركم وأولادكم بالدفء والشبع والاستقرار.. تذكروا إخوانا لكم شردتهم القوى الظالمة الغاشمة فهم ونساؤهم وأطفالهم في ملاجئ ومخيمات لا تقيهم من الهواء، ولا تحميهم من الصقيع، في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال، وغيرها من بلاد المسلمين المغتصبة..


تذكروا اللاجئين في سوريا كلَّهم فإنهم إخوانكم.. يا ترى ما هو حالهم وقد ضاقت عليهم الحيلة؟! وما هو حال نسائهم وأطفالهم في هذا البرد القارس مع شح الطعام وقلة اللباس، وانعدام وسائل التدفئة، سلوا الله تعالى لهم المعونة؛ فهم في حال لا يعلمها إلا الله تعالى، وأكثروا لهم من الدعاء؛ فإن إحساسكم بهم من إيمانكم، وهو دالٌ على حياة قلوبكم تجاه إخوانكم "وإِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"  "وتَرَى الْمُؤْمِنِينَ في تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى له سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّىكما ثبتت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

الجمعة، 15 يناير 2021

الظلم في الدعاوى والفجور في الخصومة

 ( الظلم في الدعاوى والفجور في الخصومة 

الخطبة الاولى : 

أما بعد فيا أيها الناس : اتقوا الله وراقبوه ، واعلموا أن الله مطلع عليكم لا تخفى عليه منكم خافية ، فالسر عنده علانية ، يعلم السر وأخفى ، فتعاملوا مع ربكم بالإحسان ، والخوف من الديان ، فإياكم وتجاوز ما حده ربكم لكم ، وإياكم والمجاهرة بالمعاصي ، والحذر الحذر من ظلم الناس ، فالظلم ظلمات يوم القيامة .

معاشر المؤمنين : تحصل الخصومات بين الناس ، وكل يدعي الحق له ، وقد يطول الأمر ويكبر ، حتى يفجر البعض في الخصومة ، فيحلف كذبا ، ويشهد زورا ، ليأكل حق أخيه بغير حق .

إن الدعاوى الكاذبة والكيدية ، ظلم للعباد ، والظلم ظلمات يوم القيامة ، والله لا يحب الظالمين .

قال الذهبي: "الظلم يكون بأكل أموال الناس وأخذها ظلماً، وظلم الناس بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء"، وقد عده من الكبائر .

   وقد وردت النصوص التي تذم الظلم: قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} [الكهف:59].

. وقال: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران من الآية:57]. 

وقال: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} [الشورى من الآية:45]، 

  قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42]. 

وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}   وفي مسلم : «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» .

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات-، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه»  

ولا يجوز لمسلم أن يقر الظالم على ظلمه فضلا عن أن يرضى بذلك ، قال يوسف بن أسباط: "من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يُعْصَى الله في أرضه". 

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لما كشف العذاب عن قوم يونس عليه السلام ترادوا المظالم بينهم، حتى كان الرجل ليقلع الحجر من أساسه فيرده إلى صاحبه". 

وقال أبو ثور بن يزيد: "الحجر في البنيان من غير حله عربون على خرابه".   

وكان يزيد بن حاتم يقول: "ما هِبْتُ شيئًا قط هيبتي من رجل ظلمته، وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبي الله، الله بيني وبينك". 

وبكى عليٌّ بن الفضيل يومًا، فقيل له: "ما يبكيك؟ قال: أبكي على من ظلمني إذا وقف غدًا بين يدي الله تعالى ولم تكن له حجة". 

ونادى رجل سليمان بن عبد الملك وهو على المنبر: "يا سليمان اذكر يوم الأذان"، فنزل سليمان من على المنبر، ودعا بالرجل، فقال له: ما يوم الأذان؟ فقال: قال الله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف من الآية:44]. 

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إياك ودمعة اليتيم، ودعوة المظلوم، فإنها تسري بالليل والناس نيام". 

وقيل: إن الظلم ثلاثة: فظلم لا يُغفر، وظلم لا يُترك، وظلم مغفور لا يُطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، نعوذ بالله تعالى من الشرك، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِوَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء من الآية:48]، وأما الظلم الذي لا يترك، فظلم العباد بعضهم بعضًا، وأما الظلم المغفور الذي لا يطلب، فظلم العبد نفسه

ومرّ رجل برجل قد صلبه الحجاج، فقال: "يا ربّ إن حلمك على الظالمين قد أضر بالمظلومين، فنام تلك الليلة، فرأى في منامه أن القيامة قد قامت، وكأنه قد دخل الجنة، فرأى ذلك المصلوب في أعلى عليين، وإذا منادٍ ينادي، حلمي على الظالمين أحلَّ المظلومين في أعلى عليين". 

ويقال: "من طال عدوانه زال سلطانه". 

قال عمر رضي الله عنه: "واتقِ دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة". 

وقد حذرنا رسولُنا عليه الصلاة والسلام أشدَ تحذيرٍ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ علليه الصلاة والسلام يَقُولُ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ [أي غضبه] حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» رواه أبو داود وصححه الألباني

وفي رواية لابن ماجة: «مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ، أَوْ يُعِينُ عَلَى ظُلْمٍ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ» وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

ومعنى قولَه «مَنْ خَاصَمَ» أَيْ جَادَلَ أَحَدًا «فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ» أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ أَوْ يَعْلَمُ نَفْسَهُ أَنَّهُ عَلَى بَاطِلٍ أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ خَصْمَهُ عَلَى حَقٍّ وَيُصِرُّ عَلَيْهِ «لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى» أي غضبه الشديد «حَتَّى يَنْزِعَ» أَيْ يُقْلِع عَما هُوَ عَلَيْهِ، وهذا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يُفِيدُ أَنَّ هذَا كبيرةً ولذلك عَدَّهُ الذَهَبِيُ مِنْ الكَبَائِرِ..

وفي هذه الأيام تظل الدعاوى أشهراً وربما سنوات طويلةً، في المحاكم فكم سيظل هؤلاء في سخط الله وغضبه منذ أَنْ خاصموا.؟! نعوذ بالله من هذه الحال وسوء المآل..

وَقَالَ ابنُ رَجَبٍ رحمه الله: "فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ ذَا قُدْرَةٍ عِنْدَ الْخُصُومَةِ -سَوَاءٌ كَانَتْ خُصُومَتُهُ فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا- عَلَى أَنْ يَنْتَصِرَ لِلْبَاطِلِ، وَيُخَيِّلَ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ حَقٌّ، وَيُوهِنَ الْحَقَّ، وَيُخْرِجَهُ فِي صُورَةِ الْبَاطِلِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمِنْ أَخْبَثِ خِصَالِ النِّفَاقِ".

 

اللهم إنا نعوذ بك أن نظلم أو نظلم يارب العالمين 

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ...........

الخطبة الثانية 

أما بعد فيا أيها الناس : إن من أنواع الظلم ، ما يسمى بالدعوى الكيدية ، وهي أن يدعي على غيره كذبا بما ليس له ، ولكن من أجل أن يضر به ، ليأخذ ماله ، أو يسجنه ، أو غيرها من المقاصد ، وهذا ظلم وعدوان ، يعاقب عليه الشرع في الدنيا ، وصاحبه من الملعونين يوم القيامة ، والعياذ بالله ، 

فاتقوا الله عباد الله ، ولا تظلموا أنفسكم بظلم الناس ، ولا يغرنكم السلطان ، ولا المكانة ، ولا النسب ولا المال ، فيموت الإنسان ويدفن وحده ، ويحاسب وحده ، كما قال الله عن الكافر ( وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوتى كتابيه ، ولم أدر ما حسابيه ، يا ليتها كانت القاضية ، ما أغنى عني ماليه ، هلك عني سلطانيه ) 

وإن من مقاصد الدعاوى الكيدية أن يلحق الضرر بأخيه المسلم ، فيلبسه تهمة هو منها بريء ، فيسجن بسببه ، أو تصادر أمواله ، أو يتهم في عرضه ، وهذا من الظلم والعدوان والبغي الذي يعجل الله العقوبة فيه للظالم في الدنيا ، فضلا عما ينتظره في الآخرة .

والدعاوى الكيدية ليست فقط أمام المحاكم والقضاة ، فقد يدّعي شخص امام الناس على شخص آخر : جار او صديق او رجل ممن بينه وبينه معرفة او حتى زوجة او الزوجة تدّعي على زوجها او جارتها ا واو او ... قد يكون الاتهام في العرض والشرف والسمعة او في المال او في امور اخرى

كل ذلك من الظلم والباطل والحرام والبهتان والزور والكذب وربما دخل فيها ايمان وحلف ..

[وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا]

فاتقوا الله عباد الله ، ولا تظالموا ، ولعبد يعفو ويصفح في الدنيا خير له وأبقى عند ربه ، ممن يطالب بحقه ولربما ظلم وبغى وتعدى وخاصم وفجر ، قال تعالى ( فمن عفى وأصلح فأجره على الله ) وقال ( ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور 

 

الخميس، 14 يناير 2021

التفاؤل في حياة المسلم

 التفاؤل في حياة المسلم

 التفاؤل من الصفات الحميدة التي كان يُحبُّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من آثار حُسْنِ الظن بالله تعالى، والرجاءِ فيه، بتوقُّع الخير بما يسمعه من الكلم الطيب، ويُعتبر التفاؤل من الصفات الرئيسة لأي إنسان ينشد السعادة والنجاح.

 وللتفاؤل قيمة اجتماعية مميزة؛ إذْ يرغب الناس في صحبة المتفائل، في الوقت الذي يَفِرُّون فيه من المتشائم، كما أنهم يميلون إلى سماع الأخبار والأحاديث المتفائلة أكثر من المتشائمة؛ بل كثيراً ما يُوصي الناس بعضهم البعض بالتحلي بصفة التفاؤل، والابتعاد عن التفكير التشاؤمي، وتعظم الحاجة إلى التفاؤل في أوقات الأزمات والشدائد، فأوْقِدْ جذوةَ التفاؤل، وعِشْ في أملٍ وعمل، ودعاء وصبر، ترتجي الخير، وتحذر من الشر.

 التفاؤل هو توقُّع حصول الخير في المستقبل، وبضد ذلك المتشائم التي يتوقَّع حصول الشر.

 ومن النصوص الدالة على مشروعية التفاؤلقوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ». قَالُواوَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ» رواه البخاري ومسلم.

 وفي رواية: «لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ، الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ» رواه البخاري. وفي رواية: «وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ». قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» رواه البخاري.

  والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُحبُّ أن يُستبشر بالخير، وكان ينهى قومَه عن كلمة (لو)؛ لأنها تفتح عمل الشيطان، فهي من أوسع أبواب التشاؤم، يتَّضح ذلك في توجيهه صلى الله عليه وسلم «اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» رواه مسلم.

وكان منهجه في التفاؤل يتجلَّى في تطبيقه لقول الله تعالى﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]؛ بل جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليأسَ من الكبائر؛ فلمَّا سأله رجل عن الكبائر؟ أجابه بقوله: «الشِّرْكُ بِالله، وَالإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ الله، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله» حسن - رواه البزار.

 عباد الله.. إنَّ أعلى درجات التفاؤل هو التفاؤل في أوقات الأزمات، ولحظات الانكسارات، وساعات الشدائد، فتَتَوَقَّع الخيرَ وأنت لا ترى إلاَّ الشر، والسعادةَ وأنت لا ترى إلاَّ الحُزن، وتَتَوقَّع الشفاءَ عند المرض، والنجاحَ عن الفشل، والنصرَ عند الهزيمة، وتتوقَّع تفريجَ الكروب ودَفْعَ المصائب عند وقوعها، فالتفاؤل في هذه المواقف يُولِّد مشاعر الرضا والثقة والأمل.

 والتفاؤل له أساسان:

الأولحُسن الظن بالله تعالى؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله بغير سبب مُحقَّق. والمسلمُ مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حالوالثانيالتوكل على الله تعالى: وهو من أسباب النجاح.

 ومن صفات المتفائلأنه منبسط الأسارير، مشرق الوجه، واسع الصدر، مبتسم الثغر. قاموسه: الأمل، النجاح، السعادة، الانتصار، الارتقاء، التعاون، الحب، التوكل على الله تعالى، وحُسن الظن به.

 وأعظم مصدرٍ للتفاؤل هو القرآن الكريم، الذي يمنحنا التفاؤل والفرح والسرور، ويعطينا الأمل: فمن أسرف على نفسه بالمعاصي ووقع في فخ الشيطان؛ فعليه أن يتدبَّر قوله تعالى﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وسيشعر بالفرحة والسرور، والبِشْر والحبور.

 والذي خسر ماله؛ إذا قرأ الآيةَ الكريمة﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]، كيف سيكون أثرها عليه؟

 وهذا الذي يدعو اللهَ تعالى، ولم يتحقَّق دعاؤه، إذا قرأ قولَه تعالى﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾ فالخير قد يكون في الشر، والسعادة قد تكون في الشدة، والفرح قد يكون في الحُزن.

 بل كل المصائب والشدائد إذا ما قُورنت برحمة الله وفضله هانت وتلاشت، قال الله تعالى﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156، 157]. فتلك البشرى للمتفائلين الواثقين برحمة الله.

 أيها المسلمون.. إنَّ الأنبياء - عليهم السلام - هم سادات المتفائلين، واقرؤوا - إنْ شئتم - قصصَ القرآن؛ لتروا التفاؤلَ بادياً في تعاملهم مع الأزمات والمحن، وقد ضرب يعقوب - عليه السلام - أروع الأمثلة في التفاؤل: فقد ادعى إخوة يوسف بأنَّ الذئب أكله، وابنه الآخَر اتُّهم بالسرقة وسُجِن، كما أخبروه، وعلى الرغم من مرور السنوات الطويلة إلاَّ أنه لم يفقد الأمل من رحمة الله تعالى، تأمَّلوا ماذا كان ردُّ فِعله؟ وبماذا أمر أبناءَه؟ قال لهم ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].

 

والمتأمِّل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ يجدها مليئة بالتَّوكل على الله، وحُسنِ الظَّن به سبحانه - وهما أساسا التفاؤل، فلا عجب فهو إمام المتفائلين وسيدهم، ومن أوضح الأمثلة على ذلك:

لمَّا خرج صلى الله عليه وسلم لغزوة خيبر سمع كلمةً - من أحد أصحابه - فأعجبته، فقال: «أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ» صحيح - رواه أبو داود. أي: تفاءَلْنا من كلامك الحَسَن تيمُّناً به.

والتفاؤل سلوك ملازمٌ للنبي صلى عليه وسلم ومُتأصِّل فيه؛ حيث كان يتفاءل بالأسماء الحسنة؛ لِمَا لها من دلالة إيجابية على النفوس. ولما أتى المدينة كانوا يسمونها: (يثرب)، وهي كلمة ليست محمودة؛ فغيَّر اسمَها، وسمَّاها: (طابةَ)، أو سمَّاها:(المدينة)؛ وهذا هو عين التفاؤل.

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما: «أَنَّ ابْنَةً لِعُمَرَ كَانَتْ يُقَالُ لَهَا: عَاصِيَةُ. فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: جَمِيلَةَ» رواه مسلم. فهذا الاسم هو المناسب لأنوثة هذه الفتاة.

وعن عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عن عَمِّهِ قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ» رواه البخاري ومسلم. فَعَل ذلك تفاؤلاً بتحوُّل حال الجَدْب إلى الخِصْب.

 وفي (الحديبيةلمَّا جاء سُهَيلُ بنُ عَمْرٍو يُفاوِض النبيَّ عن قريش، فتفاءل رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، وقال: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ» رواه البخاري. فهذا تفاؤل مُسْتَوحى من المقام.

وتأمَّل حالَه صلى الله عليه وسلم وهو في (قَرْنِ الثَّعَالِبِيمشي مهموماً بعد أنْ طردَه بنو عبدِ يالِيلَ وآذوه ورجموه حتى أدموه، والملأ من قريش مصمِّمون على منع عودته إلى مكة، وقد جاءه مَلَك الجبال فقال: إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهم الأَخْشَبَيْنِ، فأجابه صلى الله عليه وسلم - وكلُّه تفاؤل وأمل، وصبر، ورحمة، وبُعد نظر، واستشراف للمستقبل: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شيئاً» رواه البخاري ومسلم.

أيها الإخوة الكرام.. ولكي يَصِلَ بنا التفاؤل إلى شاطئ السعادة والنجاح: لا بد وأن يقترن بالجدية وبالعمل الدؤوب، وبمزيد من السعي والفاعلية، وإلاَّ كان هذا التفاؤل مُجرَّد أمنياتٍ وأحلامٍ وضربٍ من الأوهام، فالإغراق في التفاؤل بدون عمل؛ يُعتبر هروباً من الواقع، وقراءةً خاطئة له.

 الخطبة الثانية

عباد الله.. التفاؤل: يجعلنا متوكِّلين على الله تعالى، ونُحْسِن الظن به سبحانه، ويبعث في نفوسنا الرجاء، ويقوِّي عزائمنا، ويُجدِّد فينا الأمل، ويدفعنا لتجاوز المِحَن، ويُعوِّدنا الاستفادة من المحنة لتنقلب إلى منحة، وتتحول المصيبة إلى غنيمة، ولا ننسى أنَّ التفاؤل شعبةٌ من شعب الإيمان، فالمؤمن يفرح بفضل ربه وبرحمته، ولو لم يفعل ذلك ويئس؛ فإنَّ إيمانه سينقص ولا ريب.

ويمنحنا التفاؤل القدرةَ على مواجهة المواقف الصعبة، واتخاذ القرار المناسب، ويجعلنا أكثرَ مرونةً في علاقاتنا الاجتماعية، وأكثرَ قدرةً على التعايش مع الناس؛ لذا ترى الناسَ يُحبون المتفائلين ويخالطونهم، وينفرون من المتشائمين.

ومن الفوائد العظيمة للتفاؤلأنه يمنحنا السعادة، سواء البيت، أو العمل، أو بين الأصدقاء والأحبة؛ بل إن الدراسات العلمية المعاصرة تربط بين التفاؤل، وبين الصحة النفسية والعقلية والبدنية، ومن هنا كان التفاؤل من أعظم أسلحة الإنسان التي يتسلَّح بها من جميع الأمراض: النفسية والبدنية، والعقلية، والقلبية.

 والمتفائلون سرعان ما يبرؤون من أمراضهم؛ مقارنةً بغيرهم من المتشائمين، ويقال: إنَّ التفاؤل مريح لعمل الدماغفالطاقة المبذولة من الدماغ -لحظة التفاؤل - خلال عشر ساعات؛ أقل بكثير من الطاقة المبذولة - لحظة التشاؤم - لمدة خمس دقائق.

 عباد الله.. يجب أن نربي أنفسنا على التفاؤل في أصعب الظروف، وأقسى الأحوال، فهو منهج لا يستطيعه إلاَّ أفذاذ الرجال.

 فالمتفائلون هم الذين يصنعون التاريخ، ويسودون الأمم، ويقودون الأجيال.

 أمَّا اليائسون والمتشائمون، فلن يستطيعوا أن يبنوا حياةً سوية، وسعادةً حقيقية في داخل ذواتهم، فكيف يصنعونها لغيرهم، أو يُبَشِّرون بها سواهم؟ وفاقد الشيء لا يعطيه.