إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 25 ديسمبر 2020

أثار الذنوب والمعاصي

  أثار الذنوب والمعاصي                          

 

الخطبة الأولى :

أما بعد :

عباد الله إن الذنوب والمعاصي تضر القلب والبدن وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي ؟ ، فالذنوب والمعاصي ما حلت في ديار إلا أهلكتها ولا في قلوب إلا أعمتها ولا في أجساد إلا عذبتها ولا في أمة إلا أذلتها ولا في نفوس إلا أفسدتها. 

فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم إلى دار الأحزان والمصائب ؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء ؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال ؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى كأنهم أعجاز نخل خاوية ؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم ؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم فجعل عاليها سافلها ؟وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظل فما صار فوق رؤوسهم ؟ أمطر عليهم نارا تلظى ؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله ؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرا ؟ كل ذلك بسبب ذنوبهم وعصيانهم ربهم قال صلى الله علية وسلم : ( إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) رواه ابن حبان.

قال تعالى :( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) سورة الشورى آية (30)

قال تعالى : (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) سورة الأنفال آية (63)

 إذا كنت في نعمة فارعها      فإن الذنوب تزيل النعم

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة )

وقال بشر الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل

ومن أثار الذنوب والمعاصي حرمان العلم فإن العلم نور يقذه الله في القلوب .

 

قال الشافعي رحمه الله :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي        فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال أعلم بأن العلم نور              ونور الله لا يعطاه عاصي  

     

ومن شؤم المعصية أنه بلغ البر والبحر قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) سورة الروم آية (41)

 

ومن شؤم المعاصي أنها تمنع القطر من السماء وتسلط السلطان قال صلى الله عليه وسلم : ( لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤن وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ) صحيح ابن ماجه .

وقال مجاهد في قوله تعالى : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) البقرة آية ( 159)

قال : دواب الأرض تلعنهم ، يقولون : يمنع عنا القطر بخطاياهم .

 

ومن عقوبات المعاصي أنها  تورث الذل وتفسد العقل وتورث الهم وأعظم من ذلك كله تأثيرها على القلب .

كما جاء في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكته سوداء ،فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ،وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكر الله في القران ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) ] رواه الترمذي.

 رأيت الذنوب تميت القلوب                    وقد يورث الذل إدمانها

  وترك الذنوب حياة القلوب                    وخير لنفسك عصيانها

وأفضل من هذا قول الله تعالى : (أوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) 

 

وقال ابن عباس رضي الله عنهما ( إن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القبر، ووهنا في البدن، ونقصا ًفي الرزق، وبغضة في قلوب الخلق ).

اتقوا الله عباد الله ولا تقترفوا الذنوب ولا تتساهلوا بها قالت عائشة رضي الله عنها: (أقلوا الذنوب فإنكم لن تلقوا الله عز وجل بشيء أفضل من قلة الذنوب )

 خل الذنوب صغيرها            وكبيرها فهو التقى 

 واصنع كماش فوق أرض       الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة                 إن الجبال من الحصى

واعلموا أن الذنب دين في ذمة فاعله لابد من أدائه .

قال أبو الدر داء : البر لا يبلى و الأثم لا ينسى .

وقال الفضيل بن عياض : ما عملت ذنبا إلا وجدته في خلق زوجتي ودابتي 

ومن أضرار الذنوب أنها تثخن صاحبها عن العبادة .

قال الحسن : إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل .

وقال أبو سلمان الداراني : (لا تفوت أحد صلاة الجماعة إلا بذنب )

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ،

أقول قولي هذا ، وأستغفر الله الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية :

أما بعد: عباد الله فكما أن الذنوب والمعاصي تمحق بركة العمر والرزق والعلم فكذلك التقوى والاستقامة تجلب البركة والخير على البلاد والعباد.

قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)سورة الأعراف 

وقال تعالى : (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) سورة الجن آية (16).

قال الحسن: لو استقاموا على طاعة الله وما أمروا به لكثر الله لهم الأموال حتى يغتنوا بها.

قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الطهور ثم يقوم ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر الله له )صحيح الجامع.

ومن مكفرات الذنوب كثرة الخطى إلى المساجد فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ) ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ( إسباغ الوضوء على المكارة وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط )صحيح ابن حبان.

 قال صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر )رواه البخاري. 

ومن مكفرات الذنوب إتباع السيئة الحسنة قال تعالى: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ). وقال صلى الله عليه وسلم: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحوها ) رواه البيهقي.

فيجب علينا معاشر المسلمين الإكثار من الأعمال الصالحة والمداومة عليها كي نزيد رصيدنا من الأعمال الصالحة وتنغمس ذنوبنا في بحر حسناتنا

تبقى مسألتان : 

الاولى : أنه قد تنزل المصيبة والابتلاء بالعبد وهو مؤمن قائم بأمر الله عزوجل ، فهي لتكفير السيئات ورفع الدرجات 

كما حصل مع الانبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وكما حصل مع اولياء الله الصالحين 

الثانية : أنك قد ترى الكافر والفاجر على كفرهم وفجورهم ينعمون في الحياة الدنيا وتوسع لهم الارزاق والاموال والمراكب الفارهة

وفي كل يوم فجور ومعاصي وكفر وانحلال ، فأعلم أنه ليزدادوا إثما فوق اثمهم وخطايا فوق خطاياهم وأوزاراُ فوق اوزارهم

كما قال تعالى : (وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوٓاْ إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) 

وفي قوله عزوجل  :  ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ 

مثلا ً: لو كان معه الف ريال فعصى الله الف معصية ، فأعطاه الله 10الالاف ريال ، فتجده يعصي الله 10 الالاف معصية ، هل ما اعطاه الله من المال نقمة أم نعمة  ؟ لاشك أنه نقمة من حيث لا يشعر

لو عاش سنة فعصى الله الف معصية ومد الله له في عمره عشر سنوات فعصى الله عشرة الاف معصية ، العمر هنا أصبح مصيبة عليه ونقمة لا نعمه .. وفيه عبرة للمعتبرين 

الإخلاص لله في العمل

 ( الاخلاص لله في العمل ) 

فاتّقوا الله -عباد الله- حقّ التقوى؛ فالعزّ في طاعة المولى، والذلّ في اتّباع الهوى.

أيّها المسلمون: القلوب لا تطمئنّ إلا بالله، وغِنى العبد بطاعةِ ربّه والإقبال عليه، ودينُ الحقّ هو تحقيقُ العبوديّة لله، وكثيرًا ما يخالط النفوسَ من الشهوات الخفيّة ما يفسِد تحقيقَ عبوديّتها لله، وإخلاصُ الأعمال لله أصل الدين، ولذلك أمر الله رسولَه بالإخلاص في قوله: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدّينِ) [الزمر: 2]، وأمِر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّن أنّ عبادتَه قائمة على الإخلاص فقال له: (قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدّينَ) [الزمر:11].

وبذلك أمِرت جميع الأمَم؛ قال -جلّ وعلا-: (وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ) [البينة:5].

وأحقّ النّاسِ بشفاعةِ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- يومَ القيامة من كان أخلصَهم لله؛ قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: مَن أسعد النّاس بشفاعتك يا رسول الله؟! قال: "مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه". رواه البخاري.

والإخلاص مانعٌ -بإذن الله- من تسلّط الشيطان على العبد، قال سبحانه عن إبليسفالمخلص محفوظ باخلاصه لانه أراد وجه الله 

به رِفعة الدرجات وطَرق أبوابِ الخيرات، يقول المصطفى –صلى الله عليه وسلم-: "إنك لن تُخلَّف فتعملَ عملاً تبتغي به وجهَ الله إلا ازدَدتَ به درجةً ورفعة". متفق عليه.

وإذا قوِي الإخلاص لله علَت منزلة العبدِ عند ربّه، يقول بكر المزني: "ما سبقَنا أبو بكر الصدّيق بكثير صلاةٍ ولا صيام، ولكنّه الإيمان وقَر في قلبه والنّصحُ لخلقه.

وهو سببٌ لتفريج الكروبِ وإجابة الدعوات ..المخلصُ لربّه مجابُ الدعوة؛ 

بتجريدِ الإخلاصِ تزول أحقادُ القلوب وضغائن الصدور، يقول النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ لا يغلّ عليهنّ قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحةُ ولاة الأمر، ولزوم جماعةِ المسلمين". رواه أحمد.

في الإخلاصِ طمأنينة القلب، وشعورٌ بالسّعادة، وراحَةٌ من ذلّ الخلق، يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "مَن عرف الناس استراح". أي إنهم لا ينفعونه ولا يضرّونه.

وكلّ عملٍ لم يقصَد به وجه الله طاقة مهدَرَة، وسراب يضمحِلّ، وصاحبه لا للدنيا جمَع ولا للآخرة ارتفَع، يقول النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتُغِي به وجهه". رواه النسائي.

وإخلاص العملِ لله وخلوصُ النية له وصوابه أصلٌ في قبول الطاعات، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا ينفع قولٌ وعمل إلا بنيّة، ولا ينفع قولٌ وعملٌ ونيّة إلا بما وافق السنة".

والإخلاصُ أن تكونَ نيّتك لله لا تريد غيرَ الله، لا سمعةً ولا رياءً ولا رِفعة عند أحدٍ ولا تزلّفًا، ولا تترقّب من الناس مدحًا، ولا تخشى منهم قَدحًا،

والله سبحانه غنيّ حميد، لا يرضى أن يشرِك العبد معه غيرَه، فإن أبى العبد إلا ذلك ردّ الله عليه عملَه، قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث القدسي: "قال الله -عزّ وجلّ-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركتُه وشركَه". رواه مسلم.

أيّها المسلمون: العمل الصّالح -وإن كان كثيرًا مَع فسادِ النيّة- يورِد صاحبَه المهالك، فقد أخبر الله -عزّ وجلّ- عن المنافقين أنهم يصلّون وينفقون ويقاتِلون، وأخبر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- عنهم أنهم يتلون كتابَ الله في قوله: "ومثل المنافقِ الذي يقرأ القرآن كالرّيحانة؛ ريحها طيّب وطعمُها مرّ". متفق عليه. 

ولفَقدِ صدقِهم في إخلاصهم قال الله عنهم: (إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء:145]، و"أول من تسعَّر بهم النار يوم القيامة قارئ القرآن والمجاهدُ والمتصدّق بماله"، الذين لم تكن أعمالهم خالصةً لله، وإنما فعلوا ذلك ليقال: فلانٌ قارئ، وفلان شجاع، وفلانٌ متصدِّق. رواه مسلم.

والعملُ -وإن كان يسيرًا- يتضاعف بحُسن النيّة والصدقِ والإخلاص، ويكون سببًا في دخول الجنات، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "مرّ رجل بغُصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله، لأنحِّينَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخِل الجنة". رواه مسلم. "وامرأة بغيّ رأت كلبًا يطيف بركيّة كادَ يقتله العطش، فسقته بموقها ماءً فغفر الله لها". متفق عليه.

يقول عبد الله بن المبارك: "رُبّ عملٍ صغيرٍ تعظّمه النية، وربّ عملٍ كبيرٍ تصغّره النية". قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله: (واللَّهُ يُضَـاعِفُ لِمَن يَشَاء) [البقرة:261]: "أي: بحسب إخلاصه في عمله".

والواجبُ على العبدِ كثرة الصالحات مع إخلاصِ النيات، فكن سبّاقًا لكلّ عملٍ صالح، ولا تحقرنَّ أيَّ عملٍ تخلِص نيتَك فيه، فلا تعلم أيَّ عملٍ يكون سببًا لدخولك الجنات، ولا تستخفَّنَّ بأيّ معصية؛ فقد تكون سببًا في دخولك النار، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "دخلتِ امرأة النارَ في هرّةٍ حبستها، لا هيَ أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاشِ الأرض". متفق عليه.

والله -جلّ وعلا- متّصِف بالحمد والكرم، وإذا أحسنَ العبد القصدَ ولم تتهيّأ له أسباب العمل فإنّه يؤجَر على تلك النية، وإن لم يعمل، كرَمًا من الله وفضلاً، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "مَن سأل الله الشهادةَ بصدقٍ بلّغه الله منازلَ الشهداء، وإن مات على فراشه". رواه مسلم..

والمسلم يجعل نيّتَه صادقةً في كلّ خير، يقول عمر -رضي الله عنه-: "أفضلُ الأعمال صدقُ النيّة فيما عند الله، فإن صدَّق العمل النيةَ فذاك، وإن حِيل بين العمل والنية فلك ما نويتَ، ومن سرّه أن يكمُل له عملُه فليحسِن النية، فإنّ الله يأجر العبدَ إذا حسُنت نيته حتى بإطعامِ زوجته".

الخطبة الثانية : 

أيّها المسلمون: إذا قوِي الإخلاصُ وعظُمت النيّة وأخفِي العمل الصالح مما يشرَع فيه الإخفاء قرُب العبد من ربّه وأظلّه تحتَ ظلّ عرشه، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم-: "سبعةٌ يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه -وذكر منها-: رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمَ شماله ما تنفِق يمينه". رواه مسلم.

وكلّما أخفِي العمل كان أقربَ إلى الإخلاص، قال -جلّ وعلا-: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَـاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) [البقرة:271]. يقول بِشر بن الحارث: "لا تعمَل لتُذكَر، اكتُم الحسنةَ كما تكتم السيئة".

وفُضِّلت نافِلة الليل على نافلة النّهار، واستغفارُ السّحر على غيره؛ لأنّ ذلك أبلغ في الإسرار وأقربُ إلى الإخلاص.

وإذا أخلصتَ في العمل ثمّ أثنى عليك الخلقُ وأنت غيرُ متطلِّع إلى مدحِهم فليس هذا من الرياء، إنما الرياءُ أن تزيّن عملَك من أجلهم، سُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم- عن الرّجل يعمَل العمل من الخير يحمدُه الناس عليه، فقال: "تِلك عاجِل بشرى المؤمِن". رواه مسلم.

ومن كان يعمل صالحًا، ثمّ اطّلع الخلق على عملِه، فأحجم عن الاستمرار في تلك الطاعة ظنًّا منه أنّ فعلَه بحضرتهم رياءٌ، فذلك من حبائل الشيطان، فامضِ على فعلِك، يقول الفضيل بن عياض: "تركُ العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شِرك، والإخلاص أن يعافيَك الله منهما".

وبعضُ النّاس يظنّ أنّ الإخلاصَ مقصور على الصّلاة والصّدقة والحجّ دون غيرها من الأوامر، ومِن رحمة الله ورأفته بعبادِه أنّ الإخلاص يُستصحَب في جميع العبادات والمعاملات، ليُثابَ العبد على جميع حركاتِه وسكناته، فزيارة الجارِ وصلةُ الرحم وبرّ الوالدين هي مع الإخلاص عبادَة، وفي جانب المعاملات من الصّدق في البيع والشراء وحسنِ عشرة الزوجَة والاحتساب في إحسان تربية الأبناء، كلّ ذلك مع الإخلاص يُجازَى عليه بالإحسان، يقول النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: "ولستَ تنفِق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أجِرت عليها، حتى اللقمة تضعُها في في امرأتِك". متفق عليه.

أيّها المسلمون: الإخلاص عزيز، والنّاس يتفاضلون فيه تفاضلاً كبيرًا، ولتحصينه من آفةِ الرّياء والعُجب بالعمل الجأ إلى الله دومًا بالدّعاء أن تكونَ من عباده المخلَصين، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلّبها كيف يشاء، وكان أكثر دعاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "اللهمّ اجعل عملي كلَّه صالحًا، واجعله لوجهِك خالصًا، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئًا".

وأكثِر مِن مطالعة أخبار أهلِ الصدق والإخلاص، واقرَأ سيَر الصالحين الأسلاف، واحتَقِر كلّ عملٍ صالح تقدّمه، وكن خائفًا مِن عدم قبوله أو حبوطِه، فليس الشأن الإتيانَ بالطاعات فحسب، إنما الشأن في حفظها ممّا يبطِلها.

ومِن حفظِ العمل عدمُ العجب وعدم الفخر به، فازهَد في المدح والثناءِ، فليس أحدٌ ينفَع مدحُه ويضرُّ ذمّه إلا الله، والموفَّق من لا يتأثّر بثناء الناس، وإذا سمِع ثناءً لم يزِده ذلك إلا تواضعًا وخشية من الله، وأيقِن أنّ مدحَ الناس لك فتنة، فادعُ ربَّك أن ينجّيَك من تلك الفتنة، واستشعِر عظمةَ الله وضعفَ المخلوقين وعجزَهم وفقرهم، واستصحِب دومًا أنّ الناس لا يملِكون جنّة ولا نارًا ، وأنزِل الناسَ منزلة أصحابِ القبور في عدمِ جلبِ النفع لك ودفع الضرّ عنك، والنفوسُ تصلح بتذكّر مصيرها، ومن أيقنَ أنّه يوسَّد في اللّحد فريدًا أدرَك أنّه لن ينفعَه سوى إخلاصِه مع ربّه، وكان من دعاء السّلف: "اللهمّ إنّا نسألك العملَ الصالح وحفظَه".

المرائي مضطربُ القلب، مزَعزَع الفكر، لا يُخلِص في عبوديّته ومعاملته، يعمَل لحظّ نفسه تارةً، ولطلب الدنيا تارةً، ولطلب الرفعة والمنزلةِ عند الخلق تارة. المرائي يفضحه الله ويهتِك سترَه ويظهر خباياه، ضاعت آماله وخابَ سعيه، وعومِل بنقيض قصده، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من يُسمّع يسمِّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به". رواه مسلم.

1