إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 26 مايو 2015

الإيمان والحياة

الفرد بلا إيمان ريشة في مهَبِّ الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، أينما الريح تميل تمل، الفرد بلا إيمان إنسان لا قيمة له ولا جذور، إنسان قلق، متبرِّم، حائر، لا يعرف حقيقة نفسه، ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟.

الفرد –باختصار- بلا إيمان حيوان شَرِه، وسبع فاتك مفترس، بقلب لا يفقه، بأذن لا تسمع، بعين لا تبصر، بهيمة؛ بل أضل. والمجتمع كذلك، المجتمع بلا إيمان مجتمع غابة ،وإن لمعت فيه بوارق الحضارة؛ لأن الحياة فيه للأقوى لا للأفضل والأفقه، المجتمع بلا إيمان مجتمع تعاسة وشقاء، وإن زخر بألوان الرفاهية من الرخاء، المجتمع بلا إيمان مجتمع تافه مهين رخيص، غايات أهله لا تتجاوز شهوات بطونهم وفروجهم {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} 

ومن هنا جاءت الحاجة الماسَّة الملحَّة للحديث عن الإيمان وأثره في الحياة بعمومها، حياة الفرد والمجتمع، حياة الأمة بأسرها. 
الإيمان، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان
الإيمان، نفحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يختارهم من أهل هدايته، ويهيئ لهم سبل العمل لمرضاته، ويجعل قلوبهم تتعلق بمحبته، وتأْنَس بقربه. فالمؤمنون في رياض المحبة، وفي جنان الوصل يرتعون ويمرحون، أحبهم الله فأحبوه، فاتبعوا نبيه ورضي عنهم فرضوا عنه، وتقربوا منه بالصالحات والطاعات، فدنا منهم بالمغفرة والرحمات؛ كما في الحديث القدسي "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولأن سألني لأعطينه، ولإن استعاذني لأعيذنه " متي نكون أهلا لأن نسأل الله فنعطى، ونستعيد بالله فنعاذ. 
يا من ألوذ به فيما أؤمله
           وأستعيذ به مما أحاذره.
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره
           ولا يهيضون عظمًا أنت جابره 
الإيمان ، شعور يختلج في الصدر، ويلمع في القلب؛ فتضيء جوانب النفس، ويبعث في القلب الثقة بالله، والأنس بالله، والطمأنينة بذكر الله {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 
الإيمان، إنه الشعور بأنك ذرة في كون عظيم هائل، متجه إلى الله، يسبِّح لله، ويخضع لله، ويؤمن بالله. {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} -تبارك عز وجل- فسبحان من آمن له الكون أجمعه، وسبحان من سبَّح له الكون أجمعه. {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه}.

موكب عظيم يسبح الله، ويؤمن به، يجعلك -أيها العبد- تسأل أين أنت من هذا الموكب؟ حدِّد موقعك في هذا الموكب، وهدفك على هذا الموكب وغايتك؛ فإن الشاذ عن هذا الموكب لهو الشقي الخاسر لنفسه، وماذا بعد خسارة النفس من خسران؟ الله هو الغني، ونحن الفقراء، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، بل مخلوقاته غيرنا كثير وكثير؛ صنف منهم وهم الملائكة لا يحصيهم ولا يعلم عددهم إلا الله -الذي لا إله إلا هو- {لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} {يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} 
في صحيح مسلم " إنه ليدخل البيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى قيام الساعة". كم من الملائكة يدخلون البيت المعمور منذ أن خلق الله السماوات والأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ما بالك بعدد الملائكة عمومًا، وما بالك بغيرهم من سائر المخلوقات، 
ألم تسمع في الصحيح إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي ذر " إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرًا، ولا ما تلذذتم بالنساء على الفُرِش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -وفي رواية- ولحثوتم على رؤوسكم التَّراب". أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط؛ ما فيها موقع أربعة أصابع إلا وملك ساجد أو راكع. أهل سماءٍ يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأخري يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأخرى يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت والإنسان والجن يموتون. خَلْق عظيم هائل لا يحصيهم إلا خالقهم –سبحانه وبحمده- وظيفتهم التسبيح والتعظيم، فماذا يضر أن ينقلب إنسان من هذا الموكب العظيم فيكفر بالله، ومن كفر فعليه كفره 

-  المؤمن بالله يشعر بأن الله يراقبه في أفعاله، يحاسبه على الكبيرة والصغيرة { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا}
إذا استشعر العبد هذه المعية، سَابَق إلى الخيرات، وخضع مستجيبًا لرب الأرض والسماوات، وبادر إلي الفضائل. 
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
           خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
           ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

والإيمان بالملائكة يجعل المؤمن يستحيي من معصية الله؛ لعلمه أن الملائكة معه {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18) ترافقه وتراه ولا يراها، تحصي عليه أعماله في سجلات مُحْكَمَة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة . 

والإيمان بالكتب يجعل المؤمن يعتز بكلام الله، ويتقرب إليه بتلاوة كلامه، والعمل به، ويشعره ذلك أن الطريق الوحيد إلى الله هو اتباع ما جاء في كتبه، والتي جاء القرآن مهيمنًا عليها، ومصدقًا بها.

والإيمان بالرسل يجعل المؤمن يأنس بأخبارهم وسِيَرِهم، لا سيما سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيتخذه أسوة وقدوة. 
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ} (الأحزاب:21) أسوة حسنة لا في شرق ولا في غرب، بل في رسول الله إلى الناس كافة شرقيهم والغربي. 

والإيمان باليوم الآخر ينمي في النفس حب الخير؛ ليلقى ثوابه في جنات ونهر، ونعم المأوى. ويكرِّه في نفسه الشر ودواعيه؛ خوفًا من نارٍ تلظى، ومن وقوف بين يدي المولى.

والإيمان بالقدر يجعل نفس المؤمن لا تخاف ما أصابها، ولا ترجو ما سوى ربها، لا تطمع إلا بالله، ولا تلجأ إلا إلى الله، في الدنيا تزهد، بالموت لا تبالي، لا تركع للطغيان، بل تخضع للرحمن، ولسان حالها

من آثار الإيمان الثبات بكل صوره ومعانيه عند الشدائد والمحن والمصائب، الثبات يوم تمتحن الأمة بأعدائها، الثبات للداعي في دعوته، الثبات للمصاب عند مصيبته، الثبات للمريض عند مرضه حتى الممات، الثبات أمام الشهوات، الثبات أمام الشبهات، الثبات على الطاعات..

هاهو –صلى الله عليه وسلم- يحمل الإيمان في صف، والبشرية كلها في صف مضادٍ، فانتصر بالإيمان، صدع بالحق لا يرده عنه رادٌ، ولا يصده صادٌ، ووقعت قريش منه في أمر عظيم، يأتيه أبو الوليد عتبة بن ربيعة،  وكان بليغًا، وكان فصيحًا، جمع مقالاتهم في مقالة واحدة، وقال: بدأ في الإغراءات التي لا يثبت أمامها إلا المؤمنون. يا محمد إن كان بك المُلْك ملَّكْناك، وإن كان بك المال أعطيناك من أموالنا ما تشاء، وإن كان بك الباءة وحب النساء زوَّجناك ما تشاء من بناتنا، يا محمد؛ ما رأينا شخصًا -قط- أشْأَمَ على قومه منك، يا محمد أخبرنا ما تريد؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفرغت يا أبا الوليد؟" ويا للأدب منه -صلى الله عليه وسلم-! يا للأدب يوم تركه حتى انتهى من كلامه، ثم شرع -صلى الله عليه وسلم- يرتِّل آيات الله البينات، تسقط كالقذائف على دماغ هذا الرجل، شرع يقرأ من أول سورة فصِّلت: {حمَ * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِيَ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}  سمع كلامًا ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ألقى هذا الكافر يديه خلف ظهره، وأخذته رِعْدة مشدوهًا مبهورًا بمَا يسمع، يسمع القرآن من فَمِ من أنزل عليه القرآن، حتى إذا بلغ قول الله -جل وعلا-: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فخاف وارتعد وأخذته الرعشة وأخذ يديه الاثنتين وجمعها وضعها على فم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "أنشدك الله والرحم إلا صمت"، "أنشدك الله والرحم إلا صمت"، 
خرج مذعورًا خائفًا راجعًا إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به من عندهم، لما رأوه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: لقد سمعت من محمد حديثًا ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ورب هذه البنية –يعني الكعبة- ما عقلت من حديثه إلا قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}، فوضعت يديَّ على فمه خوفًا أن ينزل بكم العذاب، ولقد علمتم أن محمدًا إذا حدث حديثًا لم يكذب. 
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}

من آثار الإيمان على الحياة زيادة الأمن في البلدان وعلي الأموال والأعراض، والطمأنينة والهدوء في الأنفس والقلوب. يقول المولى سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}سنَّة الله لا تتخلف، ووعد الله {لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}
من أثار الإيمان نبذ كل ما يفرق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية؛ فالمقياس عند المؤمنين حقا التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}  لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن واحد، بنيان واحد، أمة واحدة ، لا شرق ولا غرب. 
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}

الخطبة الثانية :
من آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية قلوبهم من الحسد، وتصفيتها من الحقد والغل، واستلال الضغائن والسخائم منها؛ لتصبح الأمة كما قال رب العالمين: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 

ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه عصمة وحجاب عن المعاصي والشهوات والشبهات. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح-: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " إن المؤمن يا أيها الأحبة يقدِّم مراد الله على شهواته وعلى لذاته، فييسر الله أمره، ويعصمه سبحانه وبحمده. 
ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه يكسب العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يطأطئ رقبته لجبروت أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده.

لا غرو إذا رأينا مؤمنًا أعرابيًا مثل ربعي بن عامر حين باشرت قلبه بشاشة الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام رستم في سلطانه وإيوانه غير مكثرت له ولا عابئ به حتى إذا سأله رستم من أنتم وما الذي جاء بكم؟ حقق في الإيوان وأجاب إجابة في عزة مؤمنة خلدها التاريخ فقال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلي سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. عزة وأي عزة! إنها لا توجد إلاّ في ظلال الإيمان 
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}

- ومن آثار الإيمان: سعة الرزق لأهل الإيمان والبركة فيه. المؤمن –أيها الأحبة- لا يذهب منه ريال في شراء ما يغضب الله –جلا وعلا- لا يذهب منه ريال في شراء شيءمن الخبائث، لا يذهب منه ريال في شراء محرم ؛ لأنه يعلم أنه مسؤول أمام الله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، فيصون رزقه عن الرياء وعن الغش وعن الحِيَل، وعن المكر والخداع، ويجند رزقه فيما يرضي الله –جل وعلا- فيرزقه الله ويبارك الله له. {وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }

- ومن آثار الإيمان انشراح الصدور، وطمأنينة القلب { أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ}  المؤمن منشرح الصدر، مطمئن القلب، قد آمن بالله ربَّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- فذاق حلاوة الإيمان، فانشرح صدره. 
والعكس بالعكس؛ من نقص إيمانه فحياته ضنك، وصدره ضيقًا حرجًا كأنما يصَّعد في السماء، وصدق الله {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى}

ومن أثاره على الحياة وآثاره في تلك اللحظة الأخيرة، في تلك اللحظة الحاسمة، في لحظة الموت العصبية المريرة التي لا يثبت فيها إلا المؤمنون، يوم يعتقل اللسان، ولو لم يعتقل لصاح الميت من شدة ما يلاقي من السكرات حتى تندك جدران الغرفة التي هو فيها، يوم يخدر الجسم، ولو لم يخدر لما مات أحد على فراشه، ولما مات إلا في شعب الجبال ورؤوس الجبال؛ من شدة ما يلاقي من السكرات. اللحظة التي صورها من عناها بأبي هو وأمي –صلى الله عليه وسلم- يوم يغمى عليه ويصحو، ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات"،

. في هذه اللحظات المريرة العصيبة يأتي أثر الإيمان واليقين، فيلهمك الله النطق بالشهادتين، ومن كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلاّ الله" دخل الجنة على ما كان. في تلك اللحظات يأتي المؤمنون فيسعدون بتلك اللحظات؛ لأنهم يعلمون أنها آخر عناء، وآخر تعب، وآخر نَصَب، وآخر وصب، ليس هذا فحسب، بل تستقبلهم الملائكة، بل تبشرهم الملائكة، فلا خوف ولا حزن {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} 

- ومن أثار الإيمان: السكينة والثبات في القبر يوم تطرح وحيدًا فريدًا لا أنيس ولا صاحب ولا قريب ولا حبيب ولا خليل، يوم تكون مع أهلك في ليلة تفترش الوثير، وتشرب النمير، وإذ بك في ليلة أخرى تفترش التراب مرتهنًا بعملك، فيا لحسرتك إن كنت محسنًا تريد الزيادة، وتعض أصابع الندم على ما فرطت، وإن كنت مسيئًا ندمت على التفريط، وأنَّى لك بالندم أن ينفعك في تلك اللحظة؟، وأنت على هذه الحال –يا أيها المؤمن- تأتيك نعمة الإيمان فيثبتك الله ويلهمك الإجابة على الأسئلة الثلاثة؛ من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ثم بعدها يُفتح لك باب إلى الجنة؛ لتنعم من رَوحِها وطيبها. جعلنا الله وإياكم من سكانها. 

- وتأتي آثار الإيمان يوم القيامة، يوم يبعثر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}  يوم يسأل كل إنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به. 

يوم يجمع الله الخلائق وأنت منهم، علويَّهم والسفلي، أولهم والآخر، ذكرهم والأنثى حفاة عراة، قلقين فزعين، قد دنت الشمس منهم قدر ميل، قد بلغ العرق منهم الحناجر، ثم يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: أخرج بعث النار من ذريتك، قال يا ربي: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون". يومها يشيب الصغير وتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، 

عندها تجد المؤمنين تحت ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله أمين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين

ثم تظهر آثار الإيمان عند الميزان يوم تعرض السجلات سجلا سِجلا، وصفحة صفحة، وكلمة كلمة، ولحظة لحظة، ويومًا يومًا لا تغادر صغيرة ولا كبيرة. 
يوم ينادى المؤمن على رؤوس الخلائق لقد سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، 

وتظهر أثار الإيمان يوم يعبر على الصراط والناس يتساقطون في النار تساقط الفراش على الشهاب 

وتظهر آثار الإيمان يوم يقول الله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} فإلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 
فيا بائع هذا ببخس معجل
           كأنك لا تدري بلي سوف تعلم 
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
           وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق