( الغفلة عن شهر شعبان )
عبـاد الله : - إن من أعظم نعم الله تعالى على العباد أن يمدّ الله في عمر الانسان، فكل يوم يبقى في هذه الدنيا هو غنيمة له ليتزود منه لآخرته، ويحرث فيه ما استطاع ويبذر فيه من الأعمال ما يرفع درجته ومكانته عند الله، فالدنيا دار عمل ولا حساب والآخرة دار حساب ولا عمل قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62].. وطول العمر في الإسلام مع حسن العمل فيه خيرية الدنيا والآخرة عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بخيركم؟» قالوا: نعم، يا رسول الله قال: «خياركم أطولكم أعمارًا، وأحسنكم أعمالاً» (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني /صحيح الترغيب/ 3361 )..
وعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ ثَلَاثَةً أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَكْفِينِيهِمْ؟» قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا. فَكَانُوا عِنْدَهُ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا، فَخَرَجَ فِيهِ أَحَدُهُمْ، فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا فَخَرَجَ فِيهِ الْآخَرُ، فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ وَالَّذِي اسْتُشْهِدَ آخِرًا يَلِيهِ، وَأَوَّلَهُمْ يَلِيهِ، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ: «وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ؟! لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلَامِ; لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ» [قال أحمد شاكر في مسند أحمد: "إسناده صحيح"(2/367)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة(654)].
وإن من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله، ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لا يحتسب ليوم الحساب، ولا يتجهز ليوم المعاد، بأعمال صالحة تبلّغه رضوان الله وجنته فتجده مفرطًا في العبادات والطاعات، فإذا ما جاءت مواسم العبادات والمنح الربانية التي بها تغفر الذنوب والزلات وجدته مقصرًا ومضيعًا لأيامه وسنوات فأين العمل الصالح؟ وأين بركة العمر؟ وأين اغتنام فرصة العمر والصحة والشباب والغنى والقدرة والقوة؟!!
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (صححه الألباني في صحيح الجامع 1077).
عبـاد الله : - ها هي أعمارنا وآجالنا تطوى يومًا بعد يوم وها هو شهر شعبان يحل ضيفًا علينا وهو شهر غفل الناس عن فضائله ومنحه وجوائزه الربانية، فقد شرع فيه جميع أعمال البر من الصدقة وقراءة القرآن والذكر والصيام، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر أيامه وعندما سُئل عن ذلك أخبر عليه الصلاة والسلام أنه شهر تُرفع في الأعمال إلى الله، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شعبان بين رجب وشهر رمضان، شهر يغفل الناس عنه، تُرْفع فيه أعمال العباد، فأحب أن لا يُرفع عملي إلا وأنا صائم» (صحيح الجامع:3711)..
فأعمال العباد ترفع كل يوم، وترفع يوم الاثنين والخميس، وترفع أعمال السنة جميعها في شهر شعبان... وهو شهر يستعد فيه العباد لاستقبال شهر رمضان بتهيئة النفوس بالطاعات والعبادات..
أيها المسلمون: ألا ترون هذه الأيام غفلة الناس عن شهر شعبان؟! يغفلون فيه عن الطاعات والقربات، ويغرقون في الشهوات والملذات، ويشتغلون بغير شعبان عن شعبان، وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعمره بالطاعة والصيام، ويقول لأسامة: "ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان"، فشهر شعبان يغفل الناس عنه بسبب أنه بين شهرين عظيمين، وهما شهر رجب الحرام وشهر رمضان الصيام، فاشتغل الناس بهما، فصار مغفولاً عنه، بل وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان؛ لأن رجب شهر محرم، وليس هذا بصحيح، فصيام شعبان أفضل من صيام رجب؛ إذ يقول عنه -صلى الله عليه وسلم-: "ترفع فيه الأعمال، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"، ولقد قال العلماء -رحمهم الله-: في هذا الحديث أيضًا دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله -عز وجل.
فتعرضوا لنفحات الله عباد الله، وتلمسوا مرضاته، فإن الأجور المترتبة على الاشتغال بالطاعات وقت غفلة الناس أكبر، وإن فوائد إحيائها بالطاعات أعظم، فمن تلكم الفوائد أن الطاعات فيها تكون في سرٍّ وخفاء، وإخفاء الطاعة وإسرارها من أعظم أسباب قبولها، فإنها تكون خالصة لله تعالى، بعيدة عن السمعة والرياء، وإن الطاعات وقت غفلة الناس شاقة على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس ما دامت موافقة لسنة النبي –صلى الله عليه وسلم-، يقول –صلى الله عليه وسلم-: "الأجر على قدر النصب".
أيها المؤمنون: ولما كان شهر شعبان كالمقدمة لرمضان -ولا بد في المقدمة من التهيئة- شرع فيه من الصيام وغيره من القربات ما يهيئ القلوب لرمضان؛ ليحصل التأهب وترويض النفوس على طاعة الرحمن؛ ولهذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يكثر فيه من الصيام، ويغتنم وقت غفلة الناس وهو من هو، هو رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، هو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولذلك فإن السلف كانوا يجدّون في شعبان، ويتهيأون فيه لرمضان.
تقول عائشة: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان" [أخرجه البخاري ومسلم].
شهادات أم المؤمنين متضافرة متتابعة: أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يفوت شعبان إلا وهو يقضيه بالصيام، هذه أم سلمة تقول: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان".
لقد خفي عليها: أنه ربما فطر في بعض شعبان من كثرة ما كان يصوم صلى الله عليه وسلم... والشهادة خارج محيط حجرات أمهات المؤمنين متضافرة أيضا، فهذا أنس -رضي الله عنه- يقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم ولا يفطر، حتى نقول ما في نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفطر العام، ثم يفطر فلا يصوم، حتى نقول ما في نفسه أن يصوم العام، وكان أحب الصوم إليه في شعبان".
ألا وإنَّ مِمَّا جاء الحث من السلف على عَمَلُه في شَعبانَ الإكثارُ من قراءةِ القرآنِ، قال أنسُ بنُ مالكٍ -رضي الله عنه-: "كانَ المُسلِمُون إذا دَخَلَ شَعبَانُ أَكَبُّوا على المَصَاحِفِ فَقَرؤوها, وأَخَرجُوا زَكاةَ أَموالِهم؛ تَقوِيَةً لِضَعِفِيهم على الصوم".
وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القرّاء . وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القرآن.
قال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء. وقال أبو بكر البلخي: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع، وقال أيضًا: مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!!
الخطبة الثانية :
عبـاد الله : - في هذا الشهر ليلة عظيمة ينظر الحق سبحانه وتعالى إلى عباده فيمُنَّ عليهم بالغفران وتتنزل عليهم الرحمات روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليطّلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» (رواه ابن ماجة وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 1144).
عبـاد الله : - في هذا الشهر ليلة عظيمة ينظر الحق سبحانه وتعالى إلى عباده فيمُنَّ عليهم بالغفران وتتنزل عليهم الرحمات روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليطّلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» (رواه ابن ماجة وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 1144).
إياكم والإشراك بالله، لنتفقد أنفسنا؛ فلعل الواحد منا مبتلى بشيء من هذه الشركيات وهو لا يدري، فالمشرك هو الذي عبد غير الله تعالى بأي نوع من أنواع العبادة؛ من دعاء أو نذر أو ذبح أو نحو ذلك من العبادات، فمن فعل ذلك فقد أشرك واستحق العقوبة، وهي عدم المغفرة والخلود في النار، قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة: 72]، وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا) [النساء: 116].
وأما المشاحن فهو المباغض والمخاصم والمقاطع والمدابر والحاقد والحاسد، فكل هذه أوصاف للمشاحن، وهي سبب لعدم المغفرة، فعن أبى هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا". رواه مسلم.
وعن أبي ثعلبة الخشني عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ليطلع على عباده ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه". رواه الطبراني، وهو في السلسلة الصحيحة (1144). وهي مقطِّعة للصلة والرحم، ومفسدة لذات البين، قال –صلى الله عليه وسلم : "دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على ما تتحابون به؟! أفشوا السلام بينكم".
فالجامع بين الشرك والشحناء أن كليهما يحلق الدين ويفسده، والفرق أن الشرك يبطل الدين فلا يبقي منه شيئًا، أما الشحناء فتهتكه وتتركه بلا روح، وإن لم تجتث أصله. فالشحناء مفسدة للدين، تحلقه، وما دخل الحسد والحقد في القلوب إلا وكان سببًا في ضعف الإيمان، وربما انتفائه بالكلية، كما حصل لإبليس لما حسد وحقد على أبينا آدم -عليه السلام-، ولذا أكّد الله تعالى في التحذير من الشحناء، وذكرها في سياق التحذير من أعظم الذنوب وهو الشرك؛ لأن الشرك مفسد لعلاقة الإنسان بربه، والمشاحن مفسد لعلاقته بإخوانه المؤمنين، وإذا فسدت علاقة الإنسان بربه وبإخوانه لم يبق له من دينه شيء، فكيف يغفر الله له؟! لذلك حُرِم من فضل تلك الليلة المباركة.
ألا واعلموا -رحمكم الله- أن بعض الناس يخصص يوم النصف من شعبان بالصيام، وليلتها بالقيام وببعض الأدعية والأذكار وإنشاد بعض الأشعار وما يسمى بصلاة الرغائب في ليلة النصف من شعبان او الالفيه وغيرها، ولم يثبت ذلك كله في حديث عن النبي المختار –صلى الله عليه وسلم-، إنما جاء في أحاديث ضعيفة أو موضوعة مكذوبة على رسول الله كما قال ابن رجب وغيره، وكل هذا لا تقوم به حجة ولا يعمل به في الأحكام.
نعم، من كان من عادته قيام الليل فلا يترك قيام الليل في تلك الليلة، ومن كان من عادته صيام النوافل فوافق ذلك ليلة النصف من شعبان فليصم ولا يترك الصيام، وكذلك من كان من عادته أن يصوم في شعبان فليصمه اقتداءً بالنبي –صلى الله عليه وسلم-، فسيروا على هدي نبيكم الموصل إلى طريق الجنان، واجتنبوا طرق الغواية والبدع والضلال الموصلة إلى دار البوار.
فيا أيها الأبرار والأخيار: استقبلوا هذا الشهر بالتوبة النصوح من الإشراك بالله ومن البدع، واستقبلوه بالاستغفار من جميع المعاصي والآثام، استقبلوه بالفرح والغبطة وانشراح الصدر والعكوف على الطاعات من قراءة قرآن وصيام وصدقة وزكاة
فرمضان عما قريب سيحل، فيا أيها المسلم: ماذا أعددت لرمضان؟! وبماذا هيأت نفسك؟! فلقد مات أقوام وولد آخرون، وسعد أقوام وشقي آخرون،
واهتدى أقوام وضل آخرون، فقدِّر نعمة الله عليك، واسأله أن يبلغك رمضان، وخذ أمورَك بالجد. والاجتهاد ، فالامر والله عظيم والرحلة طويلة غداً والزاد قليل ولكن رحمة الله واسعة وهي قريبة من المحسنين ..