( المبادرة الى الاعمال الصالحة )
الخطبة الأولى:
أما بعد: يقول الله -عز وجل (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ) [النــور: 44], (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 62
تبين كل هذه الآيات أنه ينبغي للمؤمن أن يستفيد من دستوره الذي أرسله الله له؛ لينفعه في دينه ودنياه، فالقرآن الكريم يلفت الأنظار لمن كان له نظر واعتبار؛ أنه ينبغي للمتقين ولأولي الألباب أن يأخذوا العبرة من مرور الليالي والأيام، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد، ويقرِّبان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيِّبان الصغار، ويفنيان الكبار، وكل يوم يمر بالإنسان فإنه يبعده من الدنيا ويقرِّبه من الآخرة.
فالسعيد -والله- من حاسب نفسه، وتفكر في انقضاء عمره، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه، ومن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته، وعَظُمَ فواته، واشتدت حسراته، نعوذ بالله من التفريط والتسويف.
والله -تعالى- جعل الليل والنهار خزائن للأعمال، ومراحل للآجال، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر، لإنهاض همم العاملين إلى الخيرات، وتنشيطهم على الطاعات، فمن فاته الورد بالليل استدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار استدركه بالليل، والبوار البوار لمن انشغل عن العبر والعظات.
عن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ” (رواه البخاري), إن كثيرا من الأصحاء لا يستفيدون من زمان صحتهم كما أن كثيرا من الفارغين لا يشغلون أنفسهم في وقت فراغهم بما يرضى الله -سبحانه وتعالى- وينفعهم في دنياهم وأخراهم، ولله در القائل:
دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ *** إِنَّ الْحَيَاةِ دَقَائِقٌ وَثَوَانٍ
فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا *** فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانٍ
وقتك -أيها الإنسان- هو رأس مالك، هو حياتك، فالوقت ليس من ذهب أو فضة، بل هو أغلى من كل هذا، فهو عمرك الذي فيه تستطيع أن تجلب الذهب والفضة، وأن تحصل فيه ثمن الجنة ومهر الحور العين، فوقتك هو حياتك وهو ثمن سعادتك في آخرتك ودنياك.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعاً؛ هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْراً مُنْسِياً, أَوْ غِنًى مُطْغِياً, أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً, أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً, أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً, أَوِ الدَّجَّالَ؛ فَشَّرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ, أَوِ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ” (رواه الترمذي وقال ابن باز إسناده حسن وضعفه الألباني).
والمعني صحيح؛ فمن لم يغتنم الوقت ويبادر فماذا ينتظر؟ أينتظر الفقر الذي يشغله ويشغل الكثير في يومنا هذا بلقمة العيش عيش الدنيا فيلهيه عن عيش الآخرة, وفي الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: “اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَ عَيْشُ الآخِرَهْفَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ” (البخاري ومسلم), أو المال الذي هو سبب طغيان كثير من أصحاب رؤوس الأموال؛ فيفسدون بأموالهم, أو المرض وما أكثره وما أكثر أنواعه إن سلم المرء من مرض أصابه آخر, أو الكِبَر وضعف القوى وقلة الحيلة, أو الموت الذي لا يفرق بين صغير وكبير أو الفتن الكبرى.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا؛ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوِ الدُّخَانَ أَوِ الدَّجَّالَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ” (مسلم),
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ, يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِى كَافِراً, أَوْ يُمْسِى مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا” (مسلم).
فبادر قبل أن تبادر، بادر وأنت صحيح قبل أن تمرض، وبادر وأنت شاب قبل أن تكبر وتضعف قوتك, فلا تستطيع أن تقوى علي كثير من الأعمال، وإذا كنت ذا مال فبادر بمالك قبل أن ترحل عنه أو يرحل عنك، وأنت اليوم تجد وقتا فبادر بوقتك قبل الانشغال في الوظيفة والزوجة والأولاد ومطالب لا تنتهي، وأنت اليوم موجود وغدا قد لا تكون موجودا، فبادر.
بهذه المعاني وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ” (
أيها الحبيب: لو أن هناك بنكا يضع في حسابك صباح كل يوم 86400 ريال بدون شروط إلا شرطا واحدا، هو أن تنفق جميع المبلغ عن آخره قبل انتهاء اليوم، وما يتبقى لا يضاف إلي رصيد اليوم الذي يليه ويقوم بحرقه تماما، لو كان هذا موجودا ماذا كنت فاعلا؟! بالتأكيد ستحاول الاستفادة من كل ثانية, وسوف تنفق كل ريال في منتصف النهار؛ أليس كذلك؟.
لعلك تتعجب أيوجد مثل هذا البنك في واقع حياتنا؟ نعم هذا البنك موجود فعلاً! إنه بنك العمر ! ففي صباح كل يوم يضع الله في يدك 86400 ثانية، والمطلوب منك أن تستغلها كلها!.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْيَوْمَ أَسْرَعُ ذَاهِبٍ *** وَأَنَّ غَداً لِلنَّاظِرِينَ قَرِيبُ؟
الأموال والأولاد ملهاة ومشغلة إذا لم يستيقظ القلب، ويدرك غاية وجوده، ويشعر أن له هدفاً أعلى يليق بالمخلوق الذي نفخ الله فيه من روحه، وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض, لا لتلهيه عن ذكر الله .
ويبين ربنا -عز وجل- شدة الندم عند ما يأتي الموت فيقول الله -تعالى (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون : 99-100], كلا؛ فليرج وليتوسل فلقد ذهب وقت الرجاء, ومضى زمن التوسل, أين كنت أيام صحتك وقوتك وعنفوانك؟ أين شبابك؟ أين عمرك على طول سنواته؟
أيها الحبيب بادر: بادر قبل هذه اللحظة البغيضة الرهيبة التي لا شك انها قادمة ...
حكي أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة, فأرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت؟ فقال: “لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم؛ فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب” فقال: يا أبا حازم! كيف القدوم على الله؟ قال: “يا أمير المؤمنين! أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله, وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه” فبكى سليمان.
أيها الحبيب الغالي: عض علي دينك بنواجذك الآن وشمر وبادر لعمل الصالحات, قبل أن تعض على يديك ندما ولا ينفع الندم,
حاسب نفسك أولا بأول ...بادروا بالعمل الصالح بادروا الموت قبل أن يبادركم واستعدوا له قبل أن يأتيكم واعلموا أنه لا يستوي من يحيى وهو فطن ويوقن أنه في دار عمل وغدا دار الجزاء, وبين من يعيش وكأن الدنيا هي دار جزائه ومتعته وهي جل غايته, (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
الخطبة الثانية : إنها إذاً المحاسبة التي قال عنها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر“، فهل تزينا للعرض الأكبر بمحاسبة أنفسنا؟ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].
ماذا عن صلاتنا, ماذا عن صيامنا, ماذا عن زكاتنا؟ وماذا عن أهلنا وآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وزوجاتنا وجيراننا؛ هل اتقينا الله فيهم؟ ماذا عن جوارحنا؛ سمعنا وأبصارنا وألسنتنا؛ هل أطعنا الله بها؟.
فعلينا أن نحاسب أنفسنا، فمن كان مفرطاً في شيء من الواجبات فعليه أن يتوب ويتدارك ما فات، وإن كان ظالماً لنفسه بارتكاب ما نهى الله ورسوله عنه، فعليه أن يقلع قبل حلول الأجل، ومَنْ منَّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات إلى الممات.
وليست هذه المحاسبة مقصورة على أيام بعينها، بل هي مطلوبة كل وقت وأوان، فمن لازَمَ محاسبة النفس استقامت أحواله، وصلحت أعماله، ومن غفل عن ذلك ساءت أحواله، وفسدت أعماله,
قال الحسن: “لا يمضي المؤمِن إلا بحسابِ نفْسه...والفاجِر يمضي قُدمًا لا يُحاسِب نفْسَه“,
وقال ميمونُ بن مِهْران: “لا يكون العبدُ تقيًّا حتى يكونَ لنفسه أشدَّ محاسبةً مِن الشَّريك لشريكه،
بادر أيها الحبيب: فإن الذنب يجر إلى الذنب؛ فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يحال بين إيمانه وقلبه, وقد يسلب إيمانه فبادر،
قال الفضيل بن عياض لرجل: “كم أتت عليك؟” قال: ستون سنة, قال: “فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك توشك أن تبلغ” فقال الرجل: يا أبا على! إنا لله وإن إليه راجعون, قال له الفضيل: “تعلم ما تقول؟” قال الرجل: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون, قال الفضيل: “تعلم ما تفسيره؟” قال الرجل: فسره لنا يا أبا على, قال: قولك: إنا لله؛ تقول أنا لله عبد وأنا إلى الله راجع, فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع فليعلم بأنه موقوف, ومن علم بأنه موقوف فليعلم بأنه مسؤول, ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا, فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: “يسيره” قال: ما هي؟ قال: تُحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى وما بقي؛ فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي“.
وقال حذيفة: “ما من صباح ولا مساء إلا ومناد ينادى, أيها الناس! الرحيل الرحيلوتصديق ذلك قوله -تعالى-: (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [ المدثر: 35-37] (إحياء علوم الدين).اجلس مع نفسك جلسة مصالحة ومحاسبة, تذكر مائة ذنب وعُدَّها ذنبا ذنبا, واشكر الله على أنه لم يأتك ملك الموت على هذا الذنب وعلى هذا وهذا وهذا… واشكره على أنه أمد في عمرك لتتوب, وتذكر وقوفك بين يدي الله عريانا وردِّد قوله -تعالى- (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ علىكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية: 29]. وبهذا قد أعذرك الله كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ “أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً” (صحيح البخاري).
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقائك، اللهم أعزَّ المسلمين بطاعتك، ولا تذلهم بمعصيتك، اللهم اجعل عامنا هذا وما بعده عام أمن وعزٍّ ونصر للإسلام والمسلمين، وأسبغ علينا نعمك ظاهرة وباطنة، وارزقنا شكرها, والإخلاص في القول والعمل، والسرِّ والعلَن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق