إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 11 ديسمبر 2018

خطايا القلوب وعلاجها

( خطايا القلوب وعلاجها )
- الخطبة الاولى : 
أيها الأخوةُ المسلمون: أما ذاك الباب فكانت أعينُ الصحابةِ شاخصةً إليه، مصوبةَ الأبصارِ تجاهه، ترقبُ أولَ داخلٍ منه! لما؟
لماذا يُنتظرُ ذلك القادم؟ ويُستقبلُ بالبصرِ ذلك الداخل؟
لقد حدثَهم عنه رسول الله (صلى اللهُ عليه وسلم) وهو الذي لا ينطقُ عن الهوى، فأخبرَهم عنه خبرا عجيبا فقال (صلى الله عليه وسلم) : يدخلُ عليكم من هذا الفجِ رجلُ من أهلِ الجنة.
رجلُ من أهلِ الجنة يعيشُ بينَهم ويتقلبُ بين أظهرِهم، ويخبرُ النبيُ (صلى اللهُ عليه وسلم) أن الجنةَ منقلبَة ومثواه. 
إن رجلاً تسبقُه البشارةُ إلى الجنةِ في الدنيا لرجلُ حريُ أن تتلهفَ الأبصارُ إلى رؤيته، وتشخصَ مترقبةً دخولَه، وتشتاقَ النفوسُ بلهفةٍ إلى لقاءِه. ويدخلُ الرجل!
فإذا هوَ رجلُ منهم يعرفونَه، دخلَ مشمرا ثيابَه إذ أطرافَه مبللةً بآثارِ الوضوء، ممسكا نعليهِ بشمالِه تقطرُ لحيتَه ماءً من أثرِ وضوءه، فلما كانَ من الغد دفعَ إليهم النبيُ (صلى اللهُ عليه وسلم) الخبرَ ذاتَه قائلا: يدخلُ عليكم من هذا الفجِ رجلُ من أهلِ الجنة.
من هو يا ترى هذا الرجل الآخرُ من أهلِ الجنة؟
عرفنا ذاكَ فمن هذا ؟ ولم يطلُ الانتظار وإذا بذاكِ الرجلِ يدخلُ فإذا هو صاحبُهم بالأمس.
واليومُ الثالثُ يأتي وتأتي معَه البشارةُ: يدخلُ عليكم من هذا الفجِ رجلُ من أهلِ الجنة. 
فيدخلُ الرجلُ هوَ هو بهيئتِه تقطرُ لحيتَه ماءً من أثرِ الوضوء، أطرافُه مبللةُ بالماء، قد أمسكَ نعلَه بشمالِه.
إن رجلاً يبشرُ بالجنةِ ثلاثَ ليالٍ متعاقبة، ويخبرُ الصحابةَ قبل دخولِه بأنَه يدخلُ عليهم رجلُ من أهلِ الجنة لرجلُ حريُ أن يقتصَ خبرُه ثم يقتفى أثرُه.
وأنتدبَ إلى هذه المهمةِ عبد اللهِ أبنُ عمروِ ابنِ العاصِ رضي الله عنهما، ذهبَ إليه فقال له: إني قد لاحيتُ أبي، تخاصمتُ مع أبي فأقسمتُ أن لا أدخلَ عليهِ البيتَ ثلاثا، فإن رأيتَ أن تؤويني هذه الأيامَ الثلاثةَ فعلت.
فرحبَ به وآواه وأكرمَ مثواه، وباتَ عبد اللهِ أبن عمروٍ عند ذاك الصحابيُ يرقبُه ويسبرُ حالَه ويرصدُ أفعالَه، رآهُ يأوي في الليلِ إلى فراشِه، فأنتظرَ أن يحييَ الليلَ كلَه قياما فلم يفعل، أم يقضيَ نصفَ الليلِ قياما فلم يفعل، بل لم يرى شيئا يلفتُ نظرَه، غير أن هذا الرجلُ كلما نقلبَ جنبَه على فراشِه ذكرَ الله، وكلما أفاقَ من نومِه ذكرَ الله، ولم ير شيئا غير ذلك. فأنتظرَ ليلةً وليلةً وأخرى فلم يرى فعلا عجيبا يستعجبُ منه.
فلما انقضت الليالي الثلاث، أقبلَ عليِه عبدُ الله قائلا: يا أخي أما إنَه لم يكن بيني وبين أبي خصومةُ أو ملاحاة، ولكن رسولَ الله (صلى اللهُ عليه وسلم) أخبرنا ثلاثةَ أيامٍ متعاقبةٍ أن رجلا من أهلِ الجنةِ يدخلُ علينا من الباب، فكنتَ أنت الداخلَ في كلِ مرة، فأردتُ أن أبيتَ عندَك لأرى عملَك فأرى بأي شيءٍ نلت ذلك. أما إني قد بقيتُ عندَك فلم أرى شيئا، فأخبرني بما نلتَ ذلك؟
قال له: ما هو إلا ما رأيت، فلما انصرف عبد الله ناداهُ الرجل فقال تعال، ما هو إلا ما رأيت غير أني أبيتُ حين أبيت فلا أبيتُ وفي قلبي غشُ على أحدٍ من المسلمين، ولا أحسدُ أحدا من الناسِ على خيرٍ آثرَه اللهُ به. فأنصرفَ عبدُ اللهِ أبنَ عمرو وهو يقول: أما إن هذه هي التي بلّغتك وهذه هي التي لا نُطيقُها.
هذه هي التي بلّغتك وهذه هي التي لا نُطيقُها، تمسي وتضعُ جنبَك على فراشِك بقلبٍ سليم ليسَ فيه غشُ لأحدٍ من المسلمين، وتنظرُ إلى نعمِ الله على عبادِه فلا تحسدُ منهم أحدا! من يطيقُها؟
هذه التي بلغتّك وهي التي لا تُطاق.
أيها الأخوةُ في الله!
إنها صورةُ معبرةُ، ومشهدُ عجيبُ، صورةُ ذلك الرجلُ الطيب، السليمُ القلب الذي يطوي صدرَه على قلبٍ صافٍ كالزجاجة، ليسَ فيه غلُ ولا حسدُ ولا غشُ وشحناءُ ولا بغضاء، قلبُ صافٍ مصفى قد أُسلمَ لله رب العالمين.
إن هذا الرجلُ الذي يتعبدُ لله بتطهيرِ قلبِه وتصفيةِ فؤادِه، هذه الصورةُ تفتحُ أعينَنا عندما نتأملُها إلى مشكلةٍ كبرى، إنها مشكلةُ بعض المسلمين   الذين لا يؤثرُ الاسلام  في سلوكهم، ولا يتجلى في عبادتهم، ولا يفيضُ على القلبِ والوجدان.
أيها الأحباب:أين بصرُنا في تديُنِنا؟أين أثرُه علينا وفي سلوكِنا؟
نحنُ الذين نطالبُ أن يحكَمَ بالإسلام ينبغي أن نطالبَ مع ذلكَ بأن نحكمَ نحنُ بالإسلامِ على أنفسِنا، أن نحّكمَ الإسلامَ علينا أولا فيكونُ الإسلامَ منهاجَ حياتِنا نحنُ كما يجبُ أن يكونَ منهاجَ المجتمع ونظامَ حياةِ الدولَة.
تعالوا أيها الأخوةُ للنظرَ إلى حالِنا مع القلب الذي هو ملكُ الأعضاء: ( إن في الجسدِ مضغةُ إذا صلحت صلحَ الجسدُ كلُه، وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كلُه، ألا وهي القلب.) 
(  فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. ) 
هل تفقدنا القلوب! هل تبصرنا في أدوائِها! هل نظرنا إلى عللِها! هل تفقدنا القلوب من أمراضٍ تتسربُ إليها على غفلةٍ منا فتخالطُ مشاعرَنا وتنمو في وجدانِنا.
إن معاصيَ القلوبِ معاصيٍ ينبغيَ أن نخافَ منها أكثرُ مما نخافُ من معاصي الجوارح فهي أشدُ خطرا وأفتكُ أثرا.
هل تفقدنا القلوبَ من خطراتِ الاستعلاء والكبر ووساوسِ الغرورِ والعُجب! هل تفقدنا القلوبَ من شهوةِ الرياءِ وحبِ الظهورِ!
هل تفقدنا القلوبَ من آثمِ الحسدِ والبغضاء!
وغيرِ ذلك من خطايا القلوبِ التي تذهبُ فضلَ الصيامِ وثوابَ القيام وتأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطب. هذه الخطايا التي أتى الوعيدُ عليها على أنها مواردُ هلاكٍ، أستمع بقلبٍ يعي وعقلٍ يعقل، أستمع إلى هذه النذرِ المحمدية:
يقولُ (صلى الله عليه وسلم) : 
( لا يدخلُ الجنةَ من كان في قلبِه مثقالُ ذرةٍ من كبر. ) 
( ثلاثُ مهلكات؛ شحُ مطاع، وهوىً متبع، وإعجابُ المرءِ بنفسِه.) 
( دبَ إليكم داءُ الأممِ قبلَكم؛ الحسدُ والبغضاء هي الحالقَة، لا أقولُ تحلقُ الشعرَ ولكن تحلقُ الدين. ) 
ولا تزالُ تسمعُ إلى النذرِ في كتابِ الله تعالى، وسنةِ رسولِه (صلى الله عليه وسلم) محذرةً من خطايا القلوب، منذرةً بالوعيدِ عليها. 
إن القضيةَ أيها الأخوةُ جدُ لا هزلَ فيه، إننا أمامَ أدواءَ مهلكة، وأمراضٍ قلبيةٍ مدمرة، وآفاتٍ خطيرة، 
إن المشكلةَ في حياةِ كثيرين أن هذه الخطايا والأدواءِ تتسربُ إلى القلوبِ على حينِ غفلةٍ من أصحابِها، فهي أدواءُ خفيةٍ، وأمراضُ قلبيةٍ تدبُ إلى القلبِ على غفلةٍ منا.
أستمع إلى وصفِ النبيِ (صلى الله عليه وسلم) لأحدِ هذه الأمراض حيث يقول (صلى الله عليه وسلم) وهو يتحدث عن الرياء:
( اتقوا الشرك الخفي فإنَه أخفى من دبيبِ النمل. ) إنهَ يتسربُ إلى القلبِ على حينِ غفلةٍ فيجثمُ ويترعرعُ فيه حتى يرويه.
ثم تأتي مشكلةُ أخرى وهي أن المصابَ بهذه الأدواء يتآلفُ معها، فهي تنموا وتتضاعف دون أن يحس ذلك من نفسِه، بل دون أن يؤنبَ نفسَه عليها.
متى وقفنا مع أنفسِنا لنتفقدَ فيها خواطرَ العُجب، أو أدواءَ الحسد، أو آفة البغضاءِ والشحناء!
من هو الذي وقفَ منا مع نفسِه معنفا لأنَه أحسَ بالبغضاءِ تدبُ في قلبِه؟ من هو الذي وقفَ منا مع نفسِه محذرا لأن الحسدَ تحركَ بين جوانِحه؟ 
من هو الذي وقفَ منا مع نفسِه مذعورا لأنه أحس فيها شهوةَ  الرياء وحب السمعة بالعبادة ؟
إن هذه مشكلةُ أخرى وهي أن الإنسانَ يتآلفُ مع هذه الخطايا والأمراض فلا يتفقدُها في نفسِه، 
إلا أن الدينَ لا يُخدَعُ بشيءٍ من ذلك، واللهُ جل جلالُه لا يخادع، إن الذين جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يقولون له ائذن لنا ولا تفتنا: ائذن لي ولا تفتني، فقال الله له: ( ألا في الفتنةِ سقطوا. )
والذين جاءوا إليه يقولون إن بيوتنا عورة، قال اللهم لهم: ( وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا. ) 
لذلك نرى العداوات التي يفرزُها الحسد تلّبسُ بقمصٍ متعددةٍ من الغيرة، من التـناصح، من لباسِ الصالحَ العام، من تقويم الآخرين، وهكذا. ألبسةُ فضفاضةُ تلبسُ على داءٍ أسمهُ الحسد.
- الخطبة الثانية : 
أيها الأحباب: إن البراءةَ من هذه الخطايا وتطهيرِ القلوبِ من هذه العلل يفضي إلى الوصولِ إلى مرتبةٍ عظمى هي التي أدخلت ذاك الصحابيَ الجليلَ الجنة يوم سبرَ عملُه فإذا هو لم يتميز بعمل ولكن تميز بقلبٍ صافٍ وضيءٍ رقراق.  
ولذا قال النبيُ (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه وقد سألوه يوما عن أي الناسِ أفضل: ( كلُ مخمومُ القلبِ صدوقُ اللسان، قالوا يا رسول الله قد عرفنا صدوقُ اللسان، فما مخموم القلب؟ قال هو التقيُ النقي الذي لا أثم فيه ولا بغي ولا حسد. ) 
فأنظر كيف أن براءتَه من الإثمِ والبغيِ والحسد أوصلتَهُ إلى رتبةٍ شريفةٍ منيفةٍ وهي أن يكون أفضلَ الناس.
إن الأمرَ الذي ينبغي أن نعيَه هو أننا بأشد الضرورةِ إلى تفقدِ خطراتِ القلوب وتصفيتِها وأن يعلمَ كلُ منا أنه يومَ يدبُ إلى قلبِه شيءُ من خطايا القلوب فإن معنى ذلك أن النارَ تشتعلُ في ثيابِه ويوشكَ أن تُحرقَ بدنَه، ولذا فإن البحثَ عن أسبابِ تزكيةِ القلوبِ وتطهيرِها أمرُ ينبغي أن يجدَ فيه ويسعى إليه، فلنقفِ وقفاتٍ سريعةٍ مع أسبابٍ ستةٍ تعينُ على تطهيرِ القلوبِ وتزكيةِ النفوس.
فأولُ ذلك الصلةُ بذكرِ الله وقراءةِ القرآن :.
إن القرآنَ يوم يتصلُ به العبدَ قراءةً متدبرةً يرفعُه على آفاقٍ عاليةٍ، يسمو بهمتِه إلى الملأِ الأعلى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ). إن للذكرِ وللقرآن يومَ يتواصلُ العبدُ معها بقلبٍ حي أثرُها البالغُ في تطهيرِ القلبِ من أدرانٍ كثيرةٍ.
ثانيا الدعاء: نعم الدعاء فلن يُنال زكاُء النفسِ وطُهرُ القلبِ إلا بعونٍ من الله جل جلالُه:( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ). ولذا دعا النبيُ (صلى الله عليه وسلم) ربَه فقال: ( واسلل سخيمةَ قلبي ) ، ودعا الصالحون من عبادِ الله فقالوا: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا ).
ثالثا الرقابةُ على خواطرِ القلوب، ومحاسبةِ النفوس: ومعالجةِ ذلك، فليكن كلُ منا على قلبِه رقيبا ولنفسِه محاسبا، وليتفقد خواطرَها وحديثَ قلوبِها.
رابعا المجاهدة: واللهُ سبحانَه يقول: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، ويقول: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، إن الأمرَ يحتاجُ إلى صبرٍ ومصابرة، وجهدُ ومجاهدة. 
خامسا مجانبةُ المعاصي: وحميةُ النفسِ منها، فما تنموا هذه الأوبئةُ إلا في نفسٍ خربةٍ عشعشت فيها المعاصي وتكاثرت عليها الذنوب، واستمع إلى قولِ اللهِ عز وجل:( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ).
سادسا الإخلاص: ذاك الإكسيرُ العجيب، فإذا توفر الإخلاصُ لدينِ اللهِ في القلب زال الكبرُ وحل التواضعُ مكانَه، وزالت الأحقادُ والبغضاءُ منها وحل الوئامُ والودادُ مكانَها، وزال حبُ الدنيا والتطلعُ إلى مناصبِها ومغرياتِها وحل محلَ ذلك التطلعُ إلى مرضاةِ الله والنجاةُ من عقابِه ووعيدِه، وزالت العصبيةُ بأشكالِها وألوانِها وحل مكانَها الولاءُ للإسلامِ من حيثُ هو إسلام.
أيها الأحباب، وبعد نهايةِ هذا التطواف فعلى العهدِ فلنفترق، عهدُ التفقدِ لخطايا القلوب، والتواصلِ لتطهيرِ النفوسِ منها، وحراسةِ القلوبِ من هذه الخطايا أن تدبَ إليها، أو تنمو فيها،

1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق