( النار وأهوالها )
الخطبة الأولى
|
أما بعد: أيها المسلمون، فإن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر الله سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعداء دينه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال.
ولهذا سوف تكون خطبتنا لهذه الجمعة عن ذكر النار وما أعد الله فيها من العذاب الشديد والنكال لمن عصاه ولم يلتزم شرعه، ليكون ذلك قامعا للنفوس عن شهواتها وفسادها، وباعثا لها على المسارعة إلى فلاحها ورشادها، فإن النفوس ولا سيما في هذه الأزمان قد غلب عليها الكسل والتواني، واسترسلت في شهواتها وأهوائها وتمنت على الله الأماني،
والشهوات لا يذهبها من القلوب إلا أحد أمرين إما خوف مزعج محرق أو شوق مبهج مقلق،
وقد قيل للحسن: يا أبا سعيد، كيف نصنع نجالس أقواما يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير،؟ فقال: والله، إنك أن تخالط قوما يخوفونك حتى يدركك الأمن، خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يدركك الخوف.
لقد قست القلوب فهي بين شواغل الدنيا وملهياتها، إذا أفاقت فإذا هي تفيق إلى نكبات وهموم وغموم تتجاذبها، وأما الحديث عن الرقائق والرغائب فهو غريب عن القلوب، غريب على الآذان، قلما تنصت إليه، قلما تسمعه، كم كان
![]()
يقف رسول الله
![]()
عن أنس - رضي الله عنه - قال: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام -: ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا قط؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار " حسن بشواهده – السلسلة الصحيحة 2511
أما إن نفوسنا بحاجة إلى أن نوردها المواعظ والنذر، وأن نذكرها بما خوف الله به عباده وحذرهم منه، وقد حذر سبحانه وتعالى عباده أشد التحذير، وأنذرهم غاية الإنذار من عذاب النار من دار الخزي والبوار، فقال جل جلاله وتقدست أسماؤه:
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]()
فوالله، ما أنذر العباد وخوفهم بشيء قط هو أشد وأدهى من النار؛ وصف لهم حرها ولظاها، وصف لهم طعامها وشرابها، وصف أغلالها ونكالها، وصف حرارتها وغايتها، وصف أصفادها وسرابيلها، وصف ذلك كله حتى إن من يقرأ القرآن بقلب حاضر، فكأنما أقيم على شفير جهنم، فهو يراها رأي عين، يرى كيف يحطم بعضها بعضا، كأنما يرى أهل النار يتقلبون في دركاتها ويجرجرون في أوديتها، كل ذلك من المولى جل وعلا إنذار وتحذير.
وكذا خوّفنا نبينا عليه الصلاة والسلام من النار وأنذر وتوعد وحذر، وكان
![]() ![]() ![]() ![]()
أيها الإخوة في الله، ثم أصبح الحديث عن النار وأهوالها حديثا خافتا لا تكاد تتحرك به ولا تستشعره القلوب، ولا تذرف منه العيون، حديثا غريبا على المسامع بعيدا عن النفوس مع أن ربنا جل جلاله قد ذكرنا بها غاية التذكير وحذرنا غاية التحذير، ألا فلنشعِر القلوب بشيء من أحوالها، ولنذكّر النفوس بشيء من أهوالها؛ لعل قسوة من قلوبنا تلين وغفلة من نفوسنا تفيق.
فإن سألت عن النار فقد سألت عن دار مهولة وعذاب شديد، إن سألت عن حرها وقعرها وزقومها وأصفادها وأغلالها وعذابها وأهوالها وحال أهلها فما ظنك بنار أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة. ما ظنك بحرها، نارنا هذه جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم.
أما بُعدْ قعرها فما ظننا بقعر نار يلقى الحجر العظيم من شفرها فيهوي فيها سبعين سنة لا يدرك قعرها، والله لتملأن، والله لتملأن، والله لتملأن.
أما طعامها وشرابها فاستمع إلى قول خالقها والمتوعد بعذابها:
![]() ![]() ![]() ![]() ![]()
أما شرابها فاستمع إلى ما يقول ربنا وخالقنا:
![]() ![]()
فهذا الطعام ذو غصة وعذاب أليم، وهذا الشراب كما قال تعالى:
![]() ![]() ![]()
يقول عليه الصلاة والسلام في بيان حال طعام أهل النار: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!))، يلقى على أهل النار الجوع فإذا استغاثوا أغيثوا بشجر الزقوم، فإذا أكلوه غلا في بطونهم كغلي الحميم، فيستقون، فيسقون بماء حميم إذا أدناه إلى وجهه شوى وجهه، فإذا شربه قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره،
![]() ![]()
أما سلاسلها وأغلالها فاستمع إلى وصفها:
![]() ![]() ![]() ![]()
أما عذاب أهل النار وكل ما مضى من عذابها فما ظنك بعذاب دار أهون أهلها عذابا من كان له نعلان يغلي منهما دماغه، ما يرى أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم.
أما حال أهلها فشر حال، وهوانهم أعظم هوان، وعذابهم أشد عذاب، وما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى انقطعت أعناقهم عطشا واحترقت أكبادهم جوعا، ثم انصرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية قد آذى حرها واشتد نضجها، فلو رأيتهم وقد أسكنوا دار ضيقة الأرجاء مظلمة المسالك مبهمة المهالك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، يسحبون فيها على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، النار من تحتهم، النار عن أيمانهم، النار عن شمائلهم،
![]() ![]()
فغطاؤهم من نار وطعامهم من نار وشرابهم من نار ولباسهم من نار ومهادهم من نار، فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع وجر السلاسل، يتجلجلون في أوديتها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، تغلي بهم كغلي القدر، وهم يهتفون بالويل ويدعون بالثبور،
![]() ![]() ![]() ![]() ![]()
يتفجر الصديد من أفواههم، وتتقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود عيونهم وأهدابهم،
![]() ![]()
ينادون من أكنافها ويصيحون من أقطارها: يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك قد تفتتت منا الكبود، يا مالك العدمُ خير من هذا الوجود، يا مالك ليقض علينا ربك.. فيجيبهم بعد ألف عام بأشد وأقوى خطاب وأغلظ جواب:
![]() ![]() ![]()
في الحديث : ( يُرسَلُ البكاءُ على أهلِ النَّارِ فيبكُون حتى تنقطعَ الدُّموعُ ثم يبكون الدَّمَ حتى يصيرَ في وجوهِهم كهيئةِ الأُخدودِ لو أُرسلَتْ فيه السُّفُنُ لجَرَتْ ) السلسلة الصحيحة – صحيح الجامع
فينادون ربهم وقد اشتدّ بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم:
![]() ![]() ![]() ![]() ![]()
ويزيد عذابَهم شدة وحسرتهم حسرة تذكرُهم ماذا فاتهم بدخول النار، لقد فاتهم دخول الجنان ورؤية وجه الرحمن ورضوان رب السماء والأرض جل جلاله، ويزيد حسرتَهم حسرة وألمهم ألما أن هذا العذاب الأليم والهوان المقيم ثمن اشتروه بلذة فانية وشهوة ذاهبة:
مآرب كانت لأهلها في الحياة عِذابافصارت لهم بعد الممات عَذابـا
لقد باعوا جنة عرضها السماوات والأرض بثمن بخس دراهم معدودة؛ بشهوات تمتعوا بها في الدنيا ثم ذهبت وذهبوا فكأنها وكأنهم ما كانت وما كانوا، ثم لقوا عذابا طويلا وهوانا مقيما، فعياذا بالله من نار هذه حالها، وعياذا بالله من عمل هذه عاقبته،
![]() ![]() ![]() ![]() ![]()
اللهم إنه لا طاقة لنا بعقابك، ولا صبر لنا على عذابك، اللهم فأجرنا وأعتقنا من نارك،
![]() ![]() ![]()
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الكُفرَ سَبَبٌ لِلخُلُودِ في النَّارِ ، وَمَا دُونَهُ مِنَ المَعَاصِي سَبَبٌ في دُخُولِهَا وَالتَّعذِيبِ بها ، فَإِنَّ النَّجَاةَ مِنهَا تَكُونُ بِتَحقِيقِ التَّوحِيدِ وَإِخلاصِ العَمَلِ للهِ ، وَالإِيمَانِ بِهِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَالإِحسَانِ إِلى الخَلقِ ، وَذِكرِ اللهِ وَدُعَائِهِ بِالنَّجَاةِ ،
وَلَذَا كَانَ الإِيمَانُ مِن أَعظَمِ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ عِبَادُ اللهِ إِلى رَبِّهِم لِيُخَلِّصَهُم مِنَ النَّارِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ اللهَ - تَعَالى - قَد حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَن قَالَ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَبتَغِي بِذَلِكَ وَجهَ اللهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
.
وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " مَا مِنكُم مِن أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللهُ لَيسَ بَينَهُ وَبَينَهُ تُرجُمَانٌ ، فَيَنظُرُ أَيمَنَ مِنهُ فَلا يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنظُرُ أَشأَمَ مِنهُ فَلا يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنظُرُ بَينَ يَدَيهِ فَلا يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلقَاءَ وَجهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمَرَةٍ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ
.
وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " لَن يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبلَ طُلُوعِ الشَّمسِ وَقَبلَ غُرُوبِهَا – يَعنِي صَلاتَيِ الفَجرِ وَالعَصرِ _ " رَوَاهُ مُسلِمٌ
.
وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " مَا مِن عَبدٍ يَصُومُ يَومًا في سَبِيلِ اللهِ - تَعَالى - إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَومِ وَجهَهُ عَنِ النَّارِ سَبعِينَ خَرِيفًا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ
"
وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " أَلَا أُخبِرُكُم بِمَن يَحرُمُ عَلَى النَّارِ أَو بِمَن تَحرُمُ عَلَيهِ النَّارُ ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهلٍ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ الأَلبَانيُّ : صَحِيحٌ لِغَيرِهِ .
وَعَن أَبي هُرَيرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " خُذُوا جُنَّتَكُم " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَمِن عَدُوٍّ قَد حَضَرَ ؟ قَالَ :" لا ، وَلَكِنْ جُنَّتُكُم مِنَ النَّارِ قَولُ : سُبحَانَ اللهِ ، وَالحَمدُ للهِ ، وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَاللهُ أَكبَرُ ، فَإِنَّهُنَّ يَأتِينَ يَومَ القِيَامَةِ مُجَنِّبَاتٍ وَمُعَقِّبَاتٍ ، وَهُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ " رَوَاهُ النَّسَائيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَعَن أَنَسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : كَانَ أَكثَرُ دُعَاءِ النَبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَقَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - : " مَنِ ابتُلِيَ مِن هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيءٍ فَأَحسَنَ إِلَيهِنَّ كُنَّ لَهُ سِترًا مِنَ النَّارِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ
عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (" ما سأل رجل مسلم الله - عز وجل - الجنة) (ثلاث مرات قط) (إلا قالت الجنة: اللهم أدخله إياي , ولا استجار من النار ثلاث مرات إلا قالت النار: اللهم أجره مني ")
.
فَاتَّقُوا اللهَ وَخُذُوا حَظَّكُم مِن هَذِهِ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتي صَحَّ أَنَّهَا وِقَايَةٌ مِنَ النَّارِ ، فَإِنَّ النَّارَ لا يَصلاهَا إِلاَّ الأَشقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتقَى " وَإِنْ مِنكُم إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتمًا مَقضِيًّا . ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا "
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق