( العبودية لله ) : عباد الله: إن أول نداء وجهه ربنا لنا في كتابه الكريم أنْ أمرَنا بعبادته(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:21-22].
يا أيها الناس، يا أيها العرب والعجم، يا أيها الحُمر والسود والبيض، يا أيها الشيوخ والشباب، يا أيها الرجال والنساء، يا أيها الناس: نداء عام لبني آدم جميعًا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)؛ فهي الغاية التي من أجلها خُلقتم، وهو الهدف الذي لأجله وجدتم : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56-58].
ما خلقكم الله -أيها الناس- ليستكثر بكم من قلة، ولا ليستأنس بكم من وحشة، ولا ليستعين بكم على أمر قد عجز عنه؛ ولكنه خلقكم لتذكروه كثيرًا، وتعبدوه طويلاً، وتسبحوه بكرة وأصيلاً.
الله -جل جلاله- خلقكم -أيها الناس- لتعبدوه بقلوبكم وجوارحكم، بألسنتكم وأبدانكم، لتعبدوه في تصرفاتكم كلها؛ لتكون حياتكم كلها عبادة لله.
هكذا كان الأنبياء -صلوات ربي وسلامه عليهم-، حتى وصفهم الله -عز وجل- بأنهم عبيده، لأنهم قد استكملوا هذه الصفة، واستتموا تلك الخصلة، كانوا يعبدون الله -عز وجل- في حركاتهم وسكناتهم، في أقوالهم وأفعالهم، في غُدُوهم ورواحهم، في ليلهم ونهارهم، كان الواحد منهم عبدًا لله حتى ينزل به الموت.
قال الله -عز وجل- عن نوح -عليه السلام-: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء:3]، وقال عن أيوب -عليه السلام-: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) [ص:44-45]،
وهكذا؛ سيد العباد محمد -صلى الله عليه وسلم-، الله -جل جلاله- يصفه بأنه عبده: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) [البقرة:23]،
وكذلك الملائكة الكرام -عليهم السلام-، الله -جل جلاله- يصفهم بأنهم عباده: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)
إنَّ أشرف أحوالك -أيها المسلم- وأسمى مقاماتك حين تكون عبدًا لله، ما خلقك الله -عز وجل- لتكون عبدًا لغيره، بل خلقك لتعبده وحده لا شريك له، لتقوم وتقعد، وتركع وتسجد، وتذكر وتعبد؛ تذلُّلاً لله الواحد القهار، الذي بيده ملكوت كل شيء.
وهذا الأمر بالعبودية لله سبحانه وتعالى: يتضمن أن يكون الإنسان عبدًا لله، العبودية من البشر للبشر ذل، ومن البشر لله تعالى عز وتشريف ولذلك وصف الله تعالى نبيه في أشرف المقامات بالعبودية ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى )سورة الإسراء1. ثم عرج به إلى السماء في هذه الرحلة العظيمة في هذه الرحلة إلى الملأ الأعلى وصف الله نبيه بالعبودية( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ )سورة الكهف1.
في مقام إنزال القرآن على هذا النبي وصفه بالعبودية، ( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) سورة الأنفال41. وصفه بالعبودية، ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ )سورة الجن19. وصفه بالعبودية،
فما أعظمها من مكانة، وما أرفعها من منزلة، يوم يتشرف العبد الفقير بعبودية الرب الجليل القوي العلي القدير.
ومما زادنـي شـرفاً وتيهـاً *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيرت أحمـد لي نبياً
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيرت أحمـد لي نبياً
وكذلك فإن العبودية تعني تذللًا؛ لأن الطريق المعبد: هو الطريق المذلل، ولا بدّ أن يكون هناك استسلام لا بدّ أن يكون هنالك طاعة؛ لأنه لا يمكن أن يكون عبدًا له، ثم يتمرد عليه، لا يمكن أن يكون عبد حقيقيًا له ثم يعصيه، فلا بدّ أن يستسلم، ولا يتمرد، ولا يعترض على حكم ولا على قدر.
هذه العبودية، فيها محبة وخوف ورجاء، فالعبودية: تقتضي أن يحب المعبود، وهذا الحب ليس مجرد حب عاطفي! بمعنى أن يقول: إني أحبك، وأنا أحبك، ولكن الأفعال، والأقوال على غير هذا،
محبة الله ليست مجرد محبة عاطفية لكنها محبة تقتضي طاعة؛ إن المحب لمن يحب مطيع، وهذه المحبة مقدمة على محبة الولد والوالد والناس أجمعين، وكذلك محبة كل ما في الدنيا من مال أو متاع مساكن ترضونها أو تجارة تخشون كسادها، فمحبة الله في العبودية مقدمة على محبة كل أحد
محبة رب العالمين هذه التي تجعلك يا عبد الله: تطيعه تعبده تقوم بالعبادة وأنت مقبل ولست بكاره ، ولا أن تمل أو أنك تسأم؛ لأن العبادة التي فيها محبة تسهل القيام بالأعمال لله، وتجعلها مستحلاة، فأنت لا تقوم لصلاة الفجر وأنت نافر كاره، وإنما أنت محب، وعندما تعطي المال تعطي عن طواعية وطيب نفس لأنه لله فأنت محب، وعندما تتحمل مشاق الحج، والتعب المحبة في العبودية تهون عليك المشاق!
عباد الله : الإنسان لا بدّ أن يكون عبدًا لشيء، هكذا جعل الله القلب، إما أن يتملكه مال، أو يتملكه امرأة، تتملكه الدنيا، تتملكه علاقة مع معشوق يتملكه شيء، أو عدة أشياء؛ لكن إذا صار الإنسان عبدًا لإنسان، أو لشيء من الدنيا فستكون حياته شقاء، لا يمكن أن يرتاح، سيكون معذبًا بالعبودية لغير الله،
ولن يكون مرتاحًا، ولا مطمئنًا إلا إذا عبد الله، وتعبد لله، وصار عبدًا حقيقًيا له وحده لا شريك له، وعند ذلك يتحرر من تسلط بقية الأشياء عليه، لأن العبودية لله تعوضه عن النقص في الأشياء الأخرى، هذه من فوائد العبودية أن العبد مهما فقد من الدنيا، فإن عنده الأمل، وهو يعيش ويرجو رحمة الله سبحانه وتعالى ولا زال الهدف الأساسي قائمًا في حياته ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )سورة الذاريات56 فهو يعمل لهذا الهدف الأساس، بقية الأشياء وقفت تعطلت نقصت، لن تضر نفسيته ومسيرته لأنه قائم بالوظيفة الأساس التي خلق من أجلها لكن أهل الدنيا المتعلقين بها، الذين ليسوا عبيدًا لله، إذا نقص عنده شيء من الدنيا انهار وقد ينتحر
والله -يا عباد الله- إن الشرف والرفعة والمكانة والراحة والطمأنينة والسعادة ليست في الدور ولا في الفلل والسيارات والعمارات، ولا في الأموال والمناصب والجاه، إنها -والله- في عبادة رب الأرض والسموات، إنها في التشرف بالتذلل بين يدي الله، في الخضوع لله، في الارتباط بالله، في الاتصال بالمولى جل في علاه.
فليتك تحلـو والحيـاة مريرة *** وليتـك ترضـى والأنـام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامـر *** وبينـي وبيـن العـالمـين خـراب
إذا صح منك الود فالكل هين*** وكل ما فوق التراب تراب
وليت الذي بيني وبينك عامـر *** وبينـي وبيـن العـالمـين خـراب
إذا صح منك الود فالكل هين*** وكل ما فوق التراب تراب
عباد الله: العبودية، تقتضي الرجاء أن ترجو ثواب الله، وهذا مما يسرع الأعمال الصالحة عند الإنسان، وكذلك يجعله يمضي فيها لأن هنالك أملًا يريده، على طول حياته، يرجو الثواب من الله في كل شيء، ولو كان شيئًا دقيقًا ولو أخر غصن شجرة عن الطريق، وكذلك فإن العبودية تقتضي الخوف من الله وهذا مهم لأنه هو العنصر الذي يمنع عن ارتكاب المعاصي هو العنصر في العبودية الذي يقي الإنسان من الوقوع في المحرمات هذا الخوف من الله الذي يجعل العبد دائم العبادة لربه سبحانه وتعالى يخاف من التقصير يخاف أن لا يقبل منه.
الخطبة الثانية : العبودية تكون بجميع الجوارح :عباد الله: أن العبودية لله، ليست في القلب فقط، ولا في الجوارح فقط، هي موزعة على أشياء، فهناك عبوديات للقلب، الخوف الرجاء المحبة الاستحياء من الله سبحانه وتعالى الإخلاص الصدق التوكل على الله عز وجل التفويض عبوديات كثيرة قلبية لا يمكن أن تفعل الرجاء باليد! لا يمكن أن تفعل هذا الحياء من الله بعضو من الأعضاء! لكن هذه عبودية قلب، ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، فيض العين أثر للذي حصل في القلب؛ لأن الهيبة والوجل والخوف هذه عبادة قلبية وحتى الشوق إلى الله عبادة قلبية ( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ )سورة العنكبوت5
فضرب الله للمشتاقين إليه الذين يحبونه، ويحبون أن يلقونه ويحبون الأجر الذي عنده يريدون الأجر الذي عنده ضرب لهم موعدًا فقال: ( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ)سورة العنكبوت5. والعبد لا يتمنى الموت؛ لأنه يريد مزيدًا من الوقت للعبادة، لكن إذا نزل الموت اشتاق ، نزل وهو مقبل محب للقاء الله
بخلاف الذي ليس بعبد أو ناقص العبودية، ولذلك من القصص حادث سيارة مؤلم فظيع أقبل الشخص على شاب في الحادث، وقد تقطع، وبقي فيه رمق، وهو يصرخ ويقول: لا أريد أن أموت! لا أريد أن أموت! أنا ما صليت، أنا ما صليت! أريد أن أصلي! لا أريد أن أموت! لكن استمر النزيف حتى وصلت سيارة الإسعاف، كان قد فارق الحياة،
كلمة لا أريد أن أموت قالها عظماء، وكبراء على فراش الموت، لما نزل بهم الموت قال أحدهم من غير المسلمين: لا تتركوني أموت! لا تتركوني أموت! لأن الأمل كله كان في الحياة وملذاتها، فالآن إذا ذهبت إلى أين سيمضى وماذا سيبقى؟
بينما المؤمن العابد عندما ينزل به الموت يشتاق للقاء الله ، يشتاق لما امضى حياته في عبوديته ، يشتاق للثواب من الله ، بل ان الحياة الحقيقية تبدأ حينها في نظر المؤمن ، وان كل ما مضى على هذه الارض انما هي في نظره معبر وطريق قطعه للوصول الى وجهته ولقاء ربه
العبوديات يا عباد الله: قلبية، ولسانية كهذه الأذكار من التسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، والحوقلة، والاسترجاع هذه الأذكار الكثيرة المؤقتة، وغير المؤقتة، والمحدودة بعدد وغير المحدود بعدد، والمقيدة بزمان، والمقيدة بمكان، مقيدة بهيئة بحال، أو غير مقيدة على اختلافها،
وهناك عبوديات لليد كمصافحة المسلم للمسلم، واستلام الحجر الأسود، وتغيير المنكر، ونحو ذلك، هناك عبوديات بالأذن كسماع القرآن، وبالعين كالنظر في المصحف، وكذلك بالشم كشم الأولاد وتقبيلهم، وتمييز الشيء عن غيره في الأمانات أحيانًا، وكذلك عبوديات بالقدم كالطواف حول الكعبة والمشي الى الصلاة والطاعة ونحو ذلك، فانظر إلى توزع العبودياتهنا على الجسد بحيث تغطي سائر أحوال الإنسان وأوقاته ويكون فعلًا يعيش مع الله وهذه من معاني العبودية أن يكون عيشك معه
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر على الله (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18]
يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره ودنا أجله ماذا تنتظر؟ وماذا أعددت للقاء الله؟ ويا شاباً غره شبابه وطول الأمل ماذا تنتظر؟ وماذا أعددت للقاء الله؟ يا من بدنياه اشتغل *** وغـره طـول الأمل
الموت يأتـي بغتـة *** والقبر صندوق العمل
يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره ودنا أجله ماذا تنتظر؟ وماذا أعددت للقاء الله؟ ويا شاباً غره شبابه وطول الأمل ماذا تنتظر؟ وماذا أعددت للقاء الله؟ يا من بدنياه اشتغل *** وغـره طـول الأمل
الموت يأتـي بغتـة *** والقبر صندوق العمل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق