إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 10 ديسمبر 2018

الرحمة بين المسلمين

الخطبة الأولى
فيا عباد الله، قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه تبدو واضحة جلية في تقواه لربه؛ فإن تقوى اللههي أساس كل صلاح، وسلوان كل صبر، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ [النساء:131]. 
أيها المسلمون، الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، وهي باقية ما بقيت أخلاقهم، هذه حقيقة مسلمة، لا ينازع فيها إلا مريض لم ينقه، أو مغرض لا يفقه، إن تدهور الأخلاق ناجم عن نقص الوازع الديني في النفوس، 
الوازع الديني الذي يملك عنان النفس، ويسيطر عليها فيكبح جماحها 
وإن من أعظم الأخلاق المندوبة، والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم، أن فقدان الرحمة بين الناس، فقدان للحياة الهانئة، وإحلال للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء. 
ولقد نالت الجاهلية من الرحمة أقسى منال، حتى وكأنما وأدتها في مهدها، ولقد كشف الله في كتابه عن فئام من الناس والأمم، ممن فقدوا الرحمة، وكأنما قدَّت قلوبهم من صخر صلد، تمثلت هذه الغلظة والقسوة، في أصحاب الأخدود، الذين أضرموا النيران، وخدوا الأخاديد في أفواه السكك، وجنبات الطريق، وكان ذلك حينما آمن الناس بما جاء به الغلام المؤمن، فكان من لم يرجع عن دينه يقحم في النار، فتنهش جسده نهشا، حتى لا يرى إلا فحمة أو رمادا، ولقد جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع في النار، فقال لها الغلام: (يا أماه، اصبري فإنك على الحق) [القصة رواها مسلم في صحيحه] 
لقد كشف الله في كتابه عمن فقد الرحمة وانقض عليها، فلم يرعَ حق أُم ولا رضيع، ولم يدع صغيرا ولا كبيرا في عافية، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ٱلأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ [القصص:4]. 
قال أبو رافع: أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحا عظيمة حتى ماتت 
لقد كشف الله في كتابه العزيز عن ممارسات شاذة، ممن فقدوا الرحمة أو أماتوها، وعن مكائد خبث، يصنعها يهود بني إسرائيل الذين هم أكثر البشر قسوة وفظاعة، وقلوبهم كالحجارة الصماء، بل هي أشد قسوة منها ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]. فكشف الله خبثهم، وبين أنهم قتلة ومردة من قديم الزمان ، قتلوا الانبياء والمصلحين وعباد الله المتقين وبما فعله يهود يحكم الله عليهم باللعنة والحرمان من الرحمة، فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ لَعنَّـٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ[المائدة:13]. 
عباد الله، إن الله ـ جل وعلا ـ حينما بعث رسله جعل تمكين الأخلاق الفاضلة في النفوس أصلا من أصول رسالاتهم، وأساسا من أسس دعواتهم، وخاتم الأنبياء والمرسلين هو من قال فيه ربه: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ [التوبة:128]. 
 وقال : ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) [رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم وصححه] 
لقد تجلت رحمة المصطفى ، في جوانب كثيرة من حياته، حتى لقد أصبحت سمة بارزة، لا يحول دونها ريبة أو قتر، في كل شأن من شئونه، فهو عطوف رحيم 
أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله تلا قول الله: رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم:36]. وتلا قول عيسى ـ عليه السلام ـ: إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ [المائدة:118]. فرفع رسول الله يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله ـ عز وجل ـ: يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل ـ عليه السلام ـ فسأله، فأخبره بما قال ـ وهو أعلم ـ فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)) الله أكبر! ما أعظم المصطفى !، وما أرحمه بأبي هو وأمي!. 
لقد تجلت رحمة المصطفى بأمته، حتى بلغت تعليم الجاهل، وتوجيه الغافل، ومناغاة العيال والصبيان، أقسمت بنت من بناته ليأتينها لأجل ابن لها قبض، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله الصبي، ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ قال: ((هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) [رواه البخاري] 
 وعن عائشة رضي الله عنها، قالت:  جاء أعرابيّ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّكُمْ تُقبِّلونَ الصِّبيان، ولا نُقَبّـِلُهم؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَوَ أَملِكُ لَكَ أَن نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِن قَلبِكَ؟ ))

إن رحمة المصطفى لم تقف عند هذا الحد فحسب، بل لقد حوت رحمته طبقات المجتمع كلها، أراملَ وأيتاماً، نساءً ومساكينَ، صغارا وكبارا، ولم يقتصر ذلك على فعله، بل عداه بقوله: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) [رواه أبو داود والترمذي] 
وقال : ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) [رواه مسلم]
وقال في التحذير من الاشقاق على الناس، ونزع الرحمة عنهم : ((اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئا فرفق بهم فارفق به)) [رواه مسلم] 
لقد تجلت رحمة المصطفى بالخلق، فتعدت نطاق البشرية إلى نطاق الحيوانات العجماوات، فلقد دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَ حن الجمل وذرفت عيناه؛ فأتاه رسول الله فمسح ذفراه فسكت، فقال: ((من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاءه فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال له: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبُه)) [رواه أبو داود] 
فيا لله العجب! حتى البهائم ألهمت أن الرسول رحمة الله مهداة، وأنه نبي المرحمة، فأين أنتم ـ عباد الله ـ من قصة هذا الجمل؟ أين أنتم من إيذاء تلك البهائم؟ ناهيكم عن إيذاء البشر والاستخفاف بهم، أين أنت يا راعي الغنم؟ أين أنت يا سائق الإبل؟ أين أنت يا راعي الأسرة؟ أين أنت يا راعي المدرسة؟ وأنت يا راعي الوظيفة؟ اتقوا الله جميعا فيمن استرعاكم، ولئن كان محمد قد مات، فلا تصل البهيمة بالشكوى إليه، أو البشر بطلب النصرة منه، فإن رب محمد عليه الصلاة والسلام حي لا يموت، يراكم ويسمعكم، ولكن يؤخركم إلى أجل لا ريب فيه ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281]. 
عباد الله، في طوايا الظلام طغى طوفان المادة الجافة، فأغرق الرحمة إلا القليل، ولقد بدت امثال الحياة عند البعض: ( إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يجهل عليك، وإن لم تتغدى بزيد تعشى بك) بل لقد صور العالم لدى البعض، أنه دنيا فسيحة لا مكان فيها للرحمة ولا للضعفاء 
ما أشده مضضا ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم! إن أمرها ليذهب فرطا، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغاً عظيما، فلا تجد إلاّ قلبا وصدرا وحرا إلا من عصم ربي، وقليل ما هم. 
إن الناس أحرار، متى حكمتهم معاني الرحمة والشفقة، والتواد والتعاطف، تحت ظل الإسلام الوارف، قال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [رواه مسلم] 
وبذلك كله يتصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير، اتصال الرحمة في كل شيء، أما ربط الرحمة والتراحم بالدينار والدرهم، في مقابل استبعاد تلك المعاني العظيمة، التي ينبغي أن تسود المجتمع، فهو الذي يقلب الموازين، وتكون المنفعة والمصالح، هي الآمر الناهي،فإذا أعطى نقص فغش، وإذا اخذ زاد فسرق، ويتعامل الناس في التعاطف والتراحم على أساس من الدرهم والدينار 
فإذا عظمّت الأمة الدينار والدرهم، فإنما تفتح الطريق للنفاق والطمع والقسوة، وإنما هيبة الإسلام في الرحمة بالنفس لا بالمال، 
والسلف الصالح خير من ترجم معاني الرحمة إبَّان عيشهم، فها هو الصديق أبو الصديقة، خليفة رسول الله ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم، منذ نعومة أظفاره، وما سمي بالعتيق، إلا لكثرة ما يعتق من العبيد رحمة بهم، وإنقاذا لهم من سطوة غلاظ الأكباد وشرار الخلق، كان يتعهد امرأة عمياء في المدينة، يقضي لها أشغالها سرا، إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة، قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا. فسمعها فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه. 
ولقد بلغت الرحمة مجلاة أوج صورها، في الخليفة الفاروق ، الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمها، فلما ذاق طعم الإيمان، انقلبت نفسه رأسا على عقب، وكأنه لم يكن قط قاسي النفس، غليظ القلب، فلما ولي الخلافة
َ- عنْ أَسْلَمَ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى حَرَّةَ وَاقِمٍ ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِصِرَارٍ إِذَا نَارٌ ، فَقَالَ : يَا أَسْلَمُ : إِنِّي لأَرَى هَهُنَا رَكْبًا قَصَرَ بِهِمُ اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ ، انْطَلِقْ بِنَا فَخَرَجْنَا نُهَرْوِلُ حَتَّى دَنَوْنَا مِنْهُمْ ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ مَعَهَا صِبْيَانٌ صِغَارٌ ، وَقِدْرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى نَارٍ ، وَصِبْيَانُهَا يَتَضَاغَوْنَ ،
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَصْحَابَ الضَّوْءِ ، وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ يَا أَصْحَابَ النَّارِ ، فَقَالَتْ : وَعَلَيْكَ السَّلامُ ، فَقَالَ : أَدْنُو ؟ فَقَالَتْ : ادْنُ بِخَيْرٍ أَوْ دَعْ ، قَالَ : فَدَنَا ، 
فَقَالَ : مَا بَالُكُمْ ؟ قَالَتْ : قَصَرَ بِنَا اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ ، قَالَ : وَمَا بَالُ هَؤُلاءِ الصِّبْيَةِ يَتَضَاغَوْنُ ؟ قَالَتْ : الْجُوعُ ، قَالَ : فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْقِدْرِ ؟ قَالَتْ : مَا أُسْكِتُهُمْ بِهِ حَتَّى يَنَامُوا ، وَاللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عُمَرَ . قَالَ : أَيْ رَحِمَكِ اللَّهُ وَمَا يُدْرِي عُمَرَ بِكُمْ ؟ قَالَتْ : يَتَوَلَّى أَمْرَنَا ثُمَّ يَغْفَلُ عَنَّا ؟
قَالَ : فَأَقْبَلَ عَلَيَّ ، فَقَالَ : انْطَلِقْ بِنَا ، فَخَرَجْنَا نُهَرْوِلُ حَتَّى أَتَيْنَا دَارَ الدَّقِيقِ ، فَأَخْرَجَ عَدْلا مِنْ دَقِيقٍ ، وَكُبَّةَ شَحْمٍ ، فَقَالَ : احْمِلْهُ عَلَيَّ ، فَقُلْتُ : أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ . فَقَالَ : أَنْتَ تَحْمِلُ عَنِّي وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ لا أُمَّ لَكَ ، فَحَمَّلْتُهُ عَلَيْهِ ، 
فَانْطَلَقَ ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَيْهَا نُهَرْوِلُ ، فَأَلْقَى ذَلِكَ عِنْدَهَا ، وَأَخْرَجَ مِنَ الدَّقِيقِ شَيْئًا ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا : ذَرِي عَلَيَّ وَأَنَا أُحَرِّكُ لَكِ ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ ، ثُمَّ أَنْزَلَهَا ، فَقَالَ : أَبْغِينِي شَيْئًا ، فَأَتَتْهُ بِصَحْفَةٍ فَأَفْرَغَهَا فِيهَا ، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ لَهَا : أَطْعِمِيهِمْ وَأَنَا أَطْبُخُ لَهُمْ ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى شَبِعُوا ، وَتَرَكَ عِنْدَهَا فَضْلَ ذَلِكَ ، 
وَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ ، فَجَعَلْتُ تَقُولُ : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا كُنْتَ أَوْلَى بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَيَقُولُ : قُولِي خَيْرًا ، إِذَا جِئْتِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَدْتِنِي هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، 
ثُمَّ تَنَحَّى نَاحِيَةً عَنْهَا ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فَرَبَضَ مَرْبِضًا ، فَقُلْتُ : لَكَ شَأْنٌ غَيْرُ هَذَا فَلا يَكْلِمُنِي حَتَّى رَأَيْتَ الصِّبْيَانَ يَصْطَرِعُونَ ثُمَّ نَامُوا وَهَدَءُوا ## ، فَقَالَ : يَا أَسْلَمُ ، إِنَّ الْجُوعَ أَسْهَرَهُمْ فَأَبْكَاهُمْ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ لا أَنْصَرِفَ حَتَّى أَرَى مَا رَأَيْتُ .
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن المرء المسلم، مطالب بالرحمة والتراحم بما استطاع من تحلم وتصبر، وعليه أن يترفق أولا في أهله، وثانيا في رعيته وجيرانه وموظفيه، فلا يكون عونا لزوجته على النشوز، ولا لأبنائه على العقوق، ولا لجيرانه على الإساءة، ولا لرعيته على التمرد، ولا للناس كافة على هجره ومباغضته. 
واعملوا بمثل قول المصطفى : ((إن من إجلال الله ـ تعالى ـ، إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) [رواه أبو داود]وحذارِ من الوقوع فيما حذر منه المصطفى بقوله: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)) [رواه أبو داود]
الخطبة الثانية : 
من أهم جوانب التسامح في هذا الدين مع غير المسلمين: مشروعية الرحمة العامة، هنالك رحمة عامة يرحم بها المسلم الخلق كافة، كما قال عليه الصلاة والسلامإن الله لا يضع رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم يا رسول الله! قال: ليس رحمة أحدكم صاحبه، ولكن يرحم الناس كافة
فأول مظاهر هذا التسامح الرحمة العامة؛ بل إن من أسماء الله عز وجل الحسنى المقدسة: اسمه عز وجل الرحمن واسمه الرحيم، ومعلوم اختلاف العلماء في تفسير هاتين الصفتين، وكيف أن الرحيم يختص بالمؤمنين، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة يشمل كل المخلوقات، فالرأفة والرحمة من صفات الله عز وجل. أيضاً أرسل الله تبارك وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للخلق، قال عز وجلوَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ومن هنا حض الإسلام على هذه الرحمة العامة للخلق كافة ورأف بهم، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلاملا يرحم الله من لا يرحم الناسالناس بكل أبعادها،
أيضاً وجود الكفر أو الفسوق أو العصيان في واحد من الناس هو أمر أصلاً يدعو إلى الرحمة والتأسف، أنت إذا تذكرت ما ينتظره من العذاب الأليم تشعر بالرحمة له والشفقة عليه من هذا العذاب، وتتأسف على حاله؛ لأنه إنسان مبتلى، فالمبتلى لا ينبغي إظهار التعالي عليه، بل على المسلم التقي الذي عافاه الله عز وجل أن يحمد ربه على العافيةكَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94أي: كذلك كنتم قبل أن تدخلوا في الإسلامفالإنسان المسلم لا ينظر إلى أن هذه الهداية أو التوفيق جاءت من كده وكدحه، إنما هي برحمة الله إياه وبتوفيقه ، فلا تنظر للكافر بتعالٍ، فإنما الأعمال بالخواتيم، لكن انظر له بعين الرحمة العامة، فتحمد ربك على العافية وترحم هذا المبتلى، وما معنى رحمته؟ معنى رحمته أن تنصحه وتدعوه إلى الحق بالأسلوب المناسبروى الترمذي عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالمن رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش )
جشع التجار واصحاب الاموال ورفع الاسعار والاغلاء على الناس وبعضهم محتاج وفقير ومسكين ونزع الرحمة من قلوب البعض وكأن الدنيا غابة يأكل فيها القوي الضعيف لا يرقب فيه رحمة ولا عدلا ولا انصافا .. 
ونحن على ابواب شهر عظيم ، والاحوال قاسيه والاسعار غالية ، والفقراء والايتام والمحتاجين ، تلمسوا حاجاتهم بقلوب رحيمة ، وتفقدوا عوزهم وسدو خللهم واعطفوا عليهم بقلوب يملئها الشكر لله على ما أنعم وأعطى ووسع ، اطعموا الجائع واكسوا العاري ، وامسحوا على رأس اليتيم ، وادخلوا السرور والفرح عليهم بمقدم رمضان ، لتتسع قلوبكم الرحيمة لهم ، وانبسطوا بوجهكم معهم ، ومدوا ايديكم بالعطاء مد المقرّ بأن هذه من نعم الله عليه فهو يشكرها بالعطاء وما نقص مال من صدقة ، وكل امرء في ظل صدقته يوم القيامة 
قال : ((الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يَفْتُر))
وفي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: إن امرأة دخلت عليها ومعها صبيتان فاستطعمت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها فأطعمتها ثلاث تمرات, فأعطت كل صبية تمرة, ثم رفعت التمرة الثالثة تريد أكلها فاستطعمتها إحدى البنتين فأطعمتها التمرة فعجبت عائشة رضي الله عنها من صنيعها, فلما دخل رسول الله أخبرته فقال : ((أتعجبين مما فعلت إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك))
أيها الناس، فبالرحمة تجتمع القلوب، وبالرفق تتآلف النفوس، والقلب يتبلّد مع اللهو الطويل والمرح الدائم، لا يشعر بحاجة محتاج، ولا يحسّ بألم متألم، ولا يشاطر في يؤس بائس ولا حزن محزون، جاء رجل إلى النبي يشكو قسوة قلبه فقال له: ((أتحبّ أن يلين قلبك؟! أرحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلنْ قلبك))، والرحمة لا تُنزع إلا من شقي عياذا بالله.
2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق