( تحريم الرشوة )
أيها الناس: حين يضعف الدين في الناس تفسد أخلاقهم، وتقل أمانتهم، فترفع عنهم النعم، وتحل بهم النقم، ويتسلط بعضهم على بعض بالظلم والبغي والعدوان، فتحل فيهم الأثرة محل الإيثار، ويتخلقون بالأنانية بدل المواساة والإحسان، والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، ومن علامات قربها فساد الزمان, والزمان يفسد إذا رفعت الأمانة.
وقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله فقال: متى الساعة؟ فقال عليه الصلاة والسلام "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة"، قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة" رواه البخاري.
ومن أبين صُوَر ارتفاع الأمانة في أُمَّةٍ من الأممِ انتشارُ الرِّشوة فيها؛ حتى لا يصل الانسانالى حقه إلاّ بها، وهي خلق ذميم، وإثم مبين، يحذرها الشرفاء الكرماء، ولا يرتضيها لنفسه إلا الأراذل من الناس.
تخلقها بعض أهل الكتاب، من أحبار اليهود ورهبان النصارى، فذم الله تعالى صنيعهم في كتاب يُتلى إلى يوم الدين، ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ) [التوبة:34].
وسمَّى ما أكلوه من أموال الناس بالباطل سُحْتَاً، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به. من حديث رواه الحاكم وصححه.
إن الله -عز وجل- لما ذم كفرة بني إسرائيل، وبيَّن أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وأن قلوبهم نجسة، وتوعدهم بالخزي في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة؛ أعقب ذلك بقوله سبحانه ) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة:62-63].
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: السُّحْت: الرشوة. وقال الحسن -رحمه الله تعالى : كان الحاكم من بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمّه فأراها إياه وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب.
وكان من عاجل عقوبة بني إسرائيل على ذلك أن الله تعالى حرمهم من طيبات في الدنيا، ) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ) [النساء:161].
وظل هذا الخلق الدنيء ملازما لليهود حتى بعد أن ظهر المسلمون عليهم، وأخذوا خيبر منهم، وعاملهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها، فحاولوا رشوة عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- لما جاء يخرص تمر خيبر لإخراج زكاته كما روى مالك في الموطأ من حديث سليمان بن يسار -رحمه الله تعالى-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث عبد الله بن رواحة يخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حلياً من حلي نسائهم، فقالوا: هذا لكفخفِّفْ عنا، وتجاوَزْ في القسم. فقال عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-: يا معشر اليهود، والله إنكم لَمِن أبغض خلق الله إليَّ، وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: وفيه دليل على أن كل ما أخذه الحاكم والشاهد على الحكم بالحق أو الشهادة بالحق سحت، وكل رشوة سحت، وكل سحت حرام، ولا يحل لمسلم أكله، وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين…
ولما كانت الرشوة على تبديل أحكام الله تعالى إنما هي خصلة نشأت عند اليهود المستحقين للعنة الله تعالى وغضبه وعذابه كما حكى القرآن عنهم؛ كان مَن تخلَّق بها من أهل الإسلام متصفاً بأخس أوصاف اليهود، مستحقا للعنة الله تعالى وغضبه وعذابه، نسأل الله تعالى العافية والسلامة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: فإذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حدٍّ ضعفت نفسه أن يقيم حداً آخر، وصار من جنس اليهود الملعونين، وأصل البرطيل هو الحجر المستطيل سميت به الرشوة لأنها تلقم المرتشي عن التكلم بالحق كما يلقمه الحجر الطويل؛
وقد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتخلقين بقبول الرشوة أخذا أو عطاء أو توسطا؛ كما روى عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- فقال: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي. رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وفي روايةٍ للإمام أحمد من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي والرائش، يعني الذي يمشى بينهما..
ومهما تعددت أساليب الرشوة، وسميت بغير اسمها؛ فإن ذلك لا يغير من حقيقتها شيئا؛ فهي سحت يبني بها صاحبها جسده وأجساد أحب الناس إليه من أهله وأولاده، وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به.
إن الرشوة هي الرشوة ولو سميت هدية أو مكافأة أو حلوانا أو غير ذلك، ولو قدمت مالا أو متاعا أو حتى قضاء حاجة لا تحل لصاحبها مقابل أن يقضي له حاجته، فكل ذلك لا يخرجها عن مسمى الرشوة، ولا يرفع الإثم الحاصل بسببها، وظن كثير من الناس أنها لا تكون إلا في الأموال ظن خاطئ أدى إلى احتيالهم على الشرع بطرق شيطانية للخروج من إثم الرشوة؛ ليقعوا فيها بطرق أخرى، مع إثم احتيالهم على الأحكام الشرعية.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما استحلال السحت باسم الهدية وهو أظهر من أن يذكر كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما فإن المرتشي ملعون هو والراشي؛ لما في ذلك من المفسدة، ومعلوم قطعاً أنهما لا يخرجان عن حقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية، وقد علمنا وعلِم الله وملائكته ومَن له اطلاع على الحيل أنها رشوة.
وقد ذكر العلماء أن الرشوة هي ما يعطيه الشخص للحاكم وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد. وواضح من هذا التعريف أن الرشوة أعم من أن تكون مالاً أو منفعة يمكنه منها، أو يقضيها له. والمراد بالحاكم: القاضي وغيره، وكل من يرجى عنده قضاء مصلحة الراشي، سواء كان من ولاة الدولة وموظفيها، أو القائمين بأعمال خاصة كوكلاء التجار والشركات وأصحاب العقارات ونحوهم، والمراد بالحكم للراشى وحمل المرتشي على ما يريده الراشي: تحقيق رغبة الراشي ومقصده، سواء كان ذلك حقاً أو باطلاً.
ولا يستثنى من التحريم إلا من وقعَتْ عليه مظلمة لا يستطيع رفعها إلا بالرشوة، أو منع من حقه الثابت له لا يصل إليه إلا بها؛ فهذا قد رخص له في دفعها، والمصانعة بها؛ لأخذ حقه، ورفع الضرر عن نفسه، بشرط أن يستنفذ الطرق المشروعة قبل ذلك، والإثم في هذه الحال على آخذ الرشوة دون دافعها.
على أنه ينبغي أن يعلم أن الصبر واحتساب الحق الضائع عند الله تعالى أفضل من المصانعة بالرشوة لاستخراج حقه، إلا إذا ترتب على ضياع ذلك الحق مفاسد عظيمة تتعداه إلى غيره.
ومما ينبغي أن يُعلم أن كثيرا من الناس يظن أن له الحق في الشيء، فيصانع على نيله بالرشا، وهو ليس فيه حق؛ كمن يدفع الرشوة للوصول إلى الهبات والعطايا التي يبذلها السلاطين والأمراء والأغنياء، فهذه العطايا مباحة إن لم تكن مغتصبة، فلا يجوز للإنسان أن يصل إليها بالرشوة؛ لأنه وغيره فيها سواء، وليست حقا ثابتا له منع منه.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واحذروا الفتنة بالدنيا؛ فكم أردَت الفتنة بها من أقوام، استحلوا ما لا يحل لهم، وحملوا بسبب ذلك أوزارهم وأوزار غيرهم.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: للرشوة آثار سيئة على الأفراد والجماعات، فهي سبب لفساد الأخلاق، وانحطاط الهمم، وسفول الأمم؛ لا يرضاها كسبا له إلا من ضعفت نفسه، ورق دينه، ولا يتخلقها إلا من ذهبت أمانته، وظهرت خيانته، وتقاصرت عن الكسب الحلال همته؛ فأضحى دنيء النفس، يُرضي شهوته ببذل دينه، ويشبع طمعه بتعطيل مصالح إخوانه، ولن يشبع ولو حاز الدنيا كلها؛ إذ مشكلته في فقر قلبه، لا في قلة ذات يده.
إن الرشوة سبب للعداوة والبغضاء بين الناس؛ إذ يستولي الراشي على حقوق غيره؛ لأنه دفع للمرتشي، ويمنع صاحب الحق حقه؛ لأنه لم يدفع للمرتشي.
والرشوة سبب للعقوبة العاجلة على مَن تعامل بها؛ لأنها ظلم وبغي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وما دخلت الرشوة في شيء إلا أفسدته، ولا في بلاد إلا دمرتها، ولا في أمة إلا أهلكتها؛ فإن دخلت في العلم والتعليم، وغزت المدارس والجامعات؛ خرَّجت طلابا يملكون أعلى المؤهلات وهم لا يعرفون شيئاً، فوكلت إليهم المهام العظيمة، وأسندت إليهم المسؤوليات الكبيرة، وعلقت بهم مصالح البلاد والعباد؛ فأضاعوها بجهلهم وقلة علمهم، وهذا من إسناد الأمر إلى غير أهله المؤذن بقرب الساعة.
وإن كانت الرشوة في البناء والتعمير؛ كان الغش في المساكن والبنايات، وحينئذ لا يأمنالناس أن تخر بيوتهم على رؤوسهم، وقد حصل ذلك في بعض البلدان.
وإن دخلت الرشوة مجالات الطب والصحة كانت حياة الناس في خطر؛ إذ يتطبب فيهم فاقد العلم والأمانة؛ فلا العلم يسنده في عمله، ولا يملك أمانة تمنعه من التجربة في عباد الله تعالى.
وإذا كانت الرشوة في المناقصات وإرساء العقود؛ تعطلت مصالح العباد، وتقهقر عمرانهم، وتأخرت حضارتهم؛ إذ يرى الناس أنه لا مجال للمنافسة الشريفة في ذلك، فيغادر الأكفاء منهم بلادهم إلى أخرى، يستطيعون فيها المنافسة والإبداع، وما هاجرت كثير من العقول الإسلامية المنتجة إلى البلاد الغربية إلا بسبب الفساد المالي والإداري الذي خيم في كثير من بلاد المسلمين.
وإذا تخلق بالرشوة أهل القضاء، أو حراس الأمن؛ فشت الجرائم، وكثر الاعتداء، ورفع الأمن، وحل الخوف.
وبهذا يُعلَم -أيها الإخوة- أن الرشوة لا تفشو في جماعة من الناس إلا فسدت أخلاقهم، وذهبت أماناتهم، وهم حريون بمقت الله تعالى وعقوبته، مع توقف عمرانهم، وكساد أرزاقهم؛ مما يولد الفقر والجريمة.
فواجب على كل مسلم أنْ يحذَرها ويحذّر منها، ويسعى في إنكارها، بنصيحة المتعاملين بها، والتبليغ عنهم إذا لم تُجْد النصيحة؛ حماية لهم من الحرام، وردعا لغيرهم عن الفساد، وحفاظا على مصالح البلاد والعباد من الضياع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق