الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: إن الحديث عن الجنة شيِّق ومحبّب إلى النفوس المؤمنة, الجنة تلك الأمنية الغالية التي يسعى إليها الساعون من المؤمنين على مر العصور, الجنة التي كانت في قلوب السلف الصالح شعلة تحركهم لضرب أعلى أمثلة البطولة في الجهاد والتضحية, الجنة تلك الغاية الكريمة التي ترنو إليها العيون الحالمة, وتهفو إليها الأرواح والنفوس المؤمنة في كل زمان ومكان يستعذبون العذاب من أجل الحصول عليها. إنها أعظم مرغوب عند المؤمن, ودخولها والانتهاء إليها أمل يتراءى له في رحلة العمر التي تستغرق حياته كلها. وما أكثر ما كانت حافزاً إلى الخير والحق مهما كان في الطريق من المخاطر والعقبات والأشواك, بل لو كان فيها الموت المحقّق.
لقد كان هذا أيام النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر أنس رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر, وجاء المشركون, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه)). فدنا المشركون, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)). قال عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله: جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: ((نعم)). قال: بخٍ بخٍ, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها !! قال: ((فإنك من أهلها)). فأخرج تمرات من قرنه, فجعل يأكل منهن, ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة !! فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل رضي الله عنه.
فيا أيها المؤمنون: إن الجنة هي دار المتقين, دار الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, دار جنانها تجري من تحتها الأنهار, دار قصورها لبنة من ذهب, ولبنة من فضة, طينها _ وقيل ملاطها _ المسك الأذفر ،وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت, وتربتها الزعفران وخيامها اللؤلؤ المجوف,
هي نور يتلألأ, وريحانة تهتز , وفاكهة وخضرة, فيها الزوجات الخيرات الحسان, فيها العباد المنعمون الذين يأكلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون بل يخرج ذلك منهم مسكاً عندما يكون منهم جشاءٌ, فيها المنعمون الذين يضحكون ولا يبكون, ويقيمون ولا يظعنون, ويحيون ولا يموتون,
فيها الوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة, فيها الجمال المبين والحور العين, فيها النعيم الدائم, فيها المزيد حيث يُرفع الحجاب فينظر الفائزون إلى وجه العزيز الوهاب, فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
ورد عن عرضها وريحها قول الله عز وجل: ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـواتُ وَالاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام)).
وأبواب الجنة ثمانية أبواب فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله من ماله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير, وللجنة ثمانية أبواب, فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة, ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد, ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان, ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة)). فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله: ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة, فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم وأرجو أن تكون منهم)).
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في الجنة ثمانية أبواب, باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل غيرهم)).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)).
هكذا وردت في الحديث موضحة العدد ومفسرة للقرآن حيث وردت مجملة في قوله تعالى: ( وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ [الزمر: 73].
وهذه الأبواب في غاية الوسع والكبر وإن ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة وهي مع ذلك سوف تكتظ وتزدحم بأفواج الداخلين إليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة, وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام)).
وعند باب الجنة شجرة عظيمة ينبع من أصلها عينان, خصصت إحداهما لشراب الداخلين, والثانية لتطهيرهم فإذا شربوا من الأولى جرت في وجوههم نضرة النعيم فلا يبأسون أبداً, وإذا توضأوا من الثانية لم تشعث أشعارهم أبداً, قال تعالى: ( وَسَقَـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً[الإنسان: 21]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن الجنة: ((وإذا شجرة على باب الجنة ينبع من أصلها عينان فإذا شربوا من إحداها جرت في وجوههم نضرة النعيم، وإذا توضأوا من الأخرى لم تشعث أشعارهم أبداً)).
ودخول الجنة يكون زمراً ويتفاوتون في حسن هيئتهم وجمال وجوههم لتفاوت أعمالهم في الدنيا في كمياتها وكيفياتها ويكونون جرداً مرداً بيضاً مكحلين أبناء ثلاثٍ وثلاثين سنة, الطول ستون ذراعاً , عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر, والذين يلونهم على أشد كوكب درّي في السماء إضاءة, لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون, أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك, ومجامرهم الألوة, أزواجهم الحور العين, أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء)).
ويعطى الواحد منهم قوة مائة رجل في الجماع, وأفئدتهم في الرقة والخوف والهيبة مثل أفئدة الطير, لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)).
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع, قيل: يا رسول الله أو يطيق ذلك؟ قال: يعطى قوة مائة)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس, ولا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه)).
وتستقبل الملائكة وفود الرحمن عند دخولهم إلى دار السلام, إلى جنات النعيم. قال تعالى: ( وَتَتَلَقَّـاهُمُ الْمَلَـئِكَةُ هَـذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103]. ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالدِينَ [الزمر: 73].
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها ألتفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين،
فترفع له شجرة، فيقول: أي رب! أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم! لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب! ويعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها،
ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب! أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها،
ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب! أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب! هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليها، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها، فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب! أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم! ما يصريني منك- أي شيء يرضيك ويقطع السؤال بيني وبينك - ؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟
قال: يا رب! أتستهزئ مني وأنت رب العالمين، فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر. وفي رواية: قدير. أخرجه مسلم وغيره
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم, قالوا: يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم, قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)). ومصداق ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: ( سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21].
وما أخفاه الله عنا من نعيم الجنة شيء عظيم لا تدركه عقول البشر وإنما هو التقريب إلى أذهانهم عن بعض ما ألفوه واعتادوه ورأوه في الدنيا, وإلا فالمخفي عنهم أعظم كما قال تعالى: ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة: 17]
ورد في صحيح البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, فاقرأوا إن شئتم: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة: 17].
وروى الإمام مسلم رحمه الله عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى, ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر حديثه: ((فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, ثم قرأ هذه الآية: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة 16، 17].
الخطبة الثانية :
أما بعد:
فلا زال الحديث عن الجنة متصلاً بسابقه نسأل الله أن يجعلنا من أهلها كما نسأله تعالى أن يجيرنا من النار إنه سميع مجيب وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
فعن خيامها وغرفها روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً)).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها)) فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائماً والناس نيام)) وفي رواية: ((أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام)).
وعن أنهار الجنة روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الكوثر نهر في الجنة: حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل ،وأبيض من الثلج)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: ((ذاك نهر أعطانيه الله _يعني في الجنة _ أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجُزُر)) قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَكَلَتُهَا أنعم منها)).
وقد ورد قول الله تعالى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم عن الأنهار الأربعة التي هي أصل كل أنهار الجنة وبأنها أنهار الماء غير الآسن أي الماء الصافي الذي لا كدر فيه وغير متغير الرائحة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه بل في غاية البياض والحلاوة ، وأنهار من خمر لذة للشاربين أي ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا ولا تذهب بالعقل وتغيبه، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة ( لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات:47]. . وَأَنْهَـارٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى [محمد:15]. أي وهي في غاية الصفاء وحسن اللون والطعم والريح،
وعن شجر الجنة قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام لا يقطعها)) [رواه البخاري ومسلم وغيرهما]. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: ( وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً [الإنسان:14]. قال: ((إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياماً وقعوداً ومضطجعين)).
وأهل الجنة يأكلون ويشربون ومع ذلك لا يتغوطون ولا يبولون ولا يمتخطون بل يكون طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، ولهم في الجنة ما يشتهون وما تتوق له وتتمناه أنفسهم. قال تعالى: ( ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِـئَايَـاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ٱدْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف:68-73].
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأكل أهل الجنة ويشربون، ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس)).
نعم إن الرجال والنساء من أهل الجنة يأكلون ويشربون ولكن شتان ما بين نعيم الجنة الذي لا ينفد ولا ينقطع من فترة لأخرى وبين الحال الموجود في الدنيا، والفرق شاسع بين فواكه الجنة ونعيمها الآخر من الأكل والشرب الذي يختلف في اللذة والطعم والوصف عن متاع الدنيا، فلا يوجد في الدنيا إلا بعض الأسماء فقط من العنب والنخل والرمان والسدر المخضود المقطوع شوكه، والطلح المنضود الذي فسر بالموز وغير ذلك من أنواع الفاكهة التي ذكرت جملة في عدة آيات من القرآن وتفصيلاً في بعضها، ومن المشروبات الماء والعسل والخمر واللبن، أضف إلى ذلك النعيم بالأكل والشرب والتلذذ بها من غير تعب ولا نصب ولا انقطاع ولا منة فيها،
- نساء الجنة :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قيده _ يعني سوطه _ من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)). والنصيف هو الخمار.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوإ كوكبٍ دريٍ في السماء، ولكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)).
- وقد ورد : ((إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات سمعها أحد قط،... إن مما يغنّين به، نحن الخيّرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرون بقرة أعيان، وإن مما يغنين به، نحن الخالدات فلا نمتنه، نحن الآمنات فلا نخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنّه)).
وورد في عددهن للمؤمن الواحد عدة روايات منها أن له زوجتان، ومنها: اثنتان وسبعون
ففي الجنة النعيم المقيم والخير العميم والفضل من الله الرحمن الرحيم، فيها الأسرة المرتفعة التي توحي بالنظافة والطهارة، والأكواب المصفوفة المهيأة للشراب والتي لا تحتاج إلى طلب أو إعداد، والوسائد والحشايا للاتكاء في ارتياح، والبسط والسجاجيد المبثوثة هنا وهناك للزينة والراحة سواء، هذا وغيره مما ذكر من النعيم والمناعم التي وردت في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مما يرى الناس لأسمائها أشباهاً في الأرض، ولكن عندما تذكر هذه الأشياء فتذكر لتقريبها لمدارك أهل الأرض، أما حقيقتها وحقيقة المتاع بها فهي موكولة إلى العزيز الحكيم قيوم السماوات والأرض وإلى علمه سبحانه وتعالى حيث أحاط بكل شيء علماً.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً)).
وأعظم كرامة في الجنة النظر إلى وجه الله العزيز الكريم ذي العزة والجبروت، عن صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل الله موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة وينجّنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم)). وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: ( لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]. وَقَدْ فُسِّرَ قول الله عز وجل: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]. بالنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) [رواه البخاري ومسلم].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) ثم قرأ هاتين الآيتين: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17].
فيا أيها المؤمنون: المسارعة المسارعة، والمنافسة المنافسة، والبدار البدار بالتقرب إلى الله عز وجل ومحبته تعالى باتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيما أمر به ونهى عنه وزجر، والخوف الخوف من الله تعالى ومن أليم عقابه، والرجاء الرجاء في الله سبحانه وتعالى والطمع في رحمته وثوابه، وعلينا أن لا نأمن مكر الله وغضبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ((قال الله عز وجل: لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة)).
فعلينا الأخذ بالأسباب وهي الأعمال الصالحة والبعد عن كل ما يسخط الله عز وجل، ومع ذلك نرجو رحمة الله عز وجل لأن الأعمال الصالحة أسباب لدخول الجنة التي لن يدخلها أحد بعمله، أي مقابل العمل الصالح وثمناً لها، وإنما هي الأسباب التي أُمرنا بفعلها والأخذ بها، وإلا فرحمة الله هي فوق ذلك ومنّته وكرمه على عباده...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق