( الهجرة النبوية )
إخوة الإيمان: تظلّنا هذه الأيام ذكرى حادثة عظيمة من حوادث وأحداث تاريخنا الإسلامي، هذه الحادثة كانت إيذانًا بعهد جديدٍ، وتحوّل مهمّ في تاريخ الدعوة الإسلامية، تلكم هي هجرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من مكة بيت الله الحرام إلى المدينة دار الهجرة، هذا الحدث يمثل أهمّ حدث من أحداث التاريخ الإسلامي، به بدأ بناء الدولة الإسلامية وبناء الأمة التي تعبد الله وحده لا شريك له، وتبلّغ دينه الحنيف إلى كل الناس، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الفتح: 28].
تجدُّد هذه الذكرى -عباد الله- يزيد في أعمارنا عامًا كلّما تكرر، ويذكرنا بانصرام الأيام، ويبيَّن لكل مسلم أن حياته على هذه الأرض محدودة، وأن كل يوم يمضي يقرب الإنسان من نهايته وأجله، فهذه أول عبرة من عبر مرور الأيام، وتجدد ذكريات الأحداث، فما من مظهر من مظاهر الزمان والمكان إلا هو آية وعبرة للإنسان: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُِوْلِي الألْبَابِ) [آل عمران: 190].
تحمل حادثة الهجرة النبوية -على صاحبها أشرف الصلاة وأتم التسليم- الكثير من الإلهامات للسائرين في درب الدعوة إلى الله تعالى، فهي أنموذج رباني من البذل والتضحية وهضم النفس في سبيل الوصول إلى الغاية الكبرى التي من أجلها خلق الله هذه الدنيا، وقد تُثار في النفس تساؤلات واندهاشات عدة عن أحداث السيرة بتفاصيلها النوعية، فما المعنى في أن يترك العبد دياره وأرضه التي نشأ بين جنباتها، والتي بين كل ذرة من ذرات ترابها ذكرى من أيامه السالفة، عَذْبَةٍ أو مُرَّة لا يهم، المهم أنها ذكرى محفورة في ضميره يستحضرها كلما هبت نسائم ذلك البلد، أو اشتم عبق القادمين من جهته!!
وما المعنى في أن يهجر الإنسان أهله وماله وعشيرته لينزل أرضًا جديدة لا يعرفها بلا مال ولا مأوى ولا عشيرة؟!
بل وما المعنى في أن يدع أبناءه وزوجته ووالديه وأهله بين ظهراني أعدائه ليفر بنفسه إلى أرض قد لا يلقى فيها قبولاً ولا ترحيبًا؟!
إنه لا معنى لكل ذلك سوى الإسلام!! دين الله تعالى، الذي يهون بجانبه كل غال وعزيز، فمهما عزَّت الأوطان والديار والضيعات فالإسلام أعزّ، ومهما تعلقت القلوب بالأبناء والزوجات فإن تعلقها بالإسلام أشد، ومهما منعت الأموال والعشيرة فالإسلام أقوى وأمنع.
لقد أدرك مسلمو الجيل الفريد أن حياتهم في الإسلام هي الحياة الحقيقية، وأن قوتهم في الإسلام لا فيما سواه، وأن اطمئنان قلوبهم وراحة أفئدتهم في الإسلام لا فيما سواه، وأن عزهم وشرفهم في الإسلام لا فيما سواه، وأن وجودهم رهن بوجود الإسلام، وأنه لا الأولاد ولا الأموال ولا الأوطان ولا التراب أولى بتضحية الإنسان بنفسه من الإسلام، لذا كان غاية ما يتمنون أن تُجدع أنوفهم، وتُبقر بطونهم، وتتخطفهم الطير أو تهوي بهم الريح في مكان سحيق، وتأكل أشلاءهم السباع في سبيل الإسلام، كانت غاية آمالهم أن يكونوا جسرًا يعبر عليه الناس إلى دين الله أفواجًا، أو حلقة في سلسلة الدعوة والجهاد على مر تاريخها؛ لذا لم يتمكن منهم عدوهم تاريخَهم كله، بل كان أعداؤهم أشد خوفًا منهم على ضآلة أجسامهم، وضعف قوتهم، وقلة حيلتهم، ونقص عتادهم، فكانوا يواجهون الموت بقلوب جسورة، يواجهونه ولا يخشونه، بل كان أحدهم يسعى إليه سعيًا، وكان شعارهم:
إِذَا كَشَـفَ الـزَّمَـانُ لَكَ القِنَـاعَ *** وَمَدَّ إِلَيْـكَ صَـرْفُ الدَّهْـرِ بَـاعًا
فَـلاَ تَـخْـشَ المَنِيَّــةَ وَالتَقِيْـهَا *** وَدَافِـعْ مَا اسْتَطَـعْتَ لَهَـا دِفَـاعًا
فَـلاَ تَـخْـشَ المَنِيَّــةَ وَالتَقِيْـهَا *** وَدَافِـعْ مَا اسْتَطَـعْتَ لَهَـا دِفَـاعًا
كانوا يحرصون على الموت أشد ما يكون حرص أعدائهم على الحياة، لذلك وُهبت لهم الحياة، ودانت لهم الدنيا بحذافيرها.
إن الهجرة النبوية كانت تعني بالمفاهيم البشرية انتحارًا مؤكدًا، فكتائب الأعداء متربصة بالنبي وآله، مدججة بالسلاح لاستئصال شأفته والقضاء على دينه، ولكن المشيئة الربانية لا معقب لها، ولا راد لقضائها، حتى تبدلت العتمة الكونية نقطة انطلاقة كبرى نحو النصر المنشود والنور المبين الذي غطى ظلام البشرية، مسفرة عن وضع أول حجر في صرح الدولة الإسلامية الناشئة.
البذل والتضحية هما العنوان الرئيس لهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فكما بذل المهاجرون مُهَجَهُم وأموالهم وديارهم ووطنهم، فقد بذل الأنصار كذلك كل ما يملكون في سبيل النهوض بالدولة ونصرة الملة، عن طيب نفس ورضا خاطر لا مثيل لهما في التاريخ، فضحوا بالأموال والديار والزوجات في سبيل إيناس وحشة إخوانهم من المهاجرين؛ تعويضًا لهم عن قسوة الحال، وتسليةً لقلوبهم عن مفارقة أحبابهم وأوطانهم، ويا له من شعورٍ عزَّ وجوده، ومشاركة وجدانية عميقة أعقبها عطاء بلا حدود، قَابَلَهَا تعفف ورُقِيّ واستغناء من المهاجرين لا مثيل له كذلك.
إن هذا الدين لن تقيمه فضول أوقات الداعين إليه، ولا تنصره زلات أقلامهم وألسنتهم، فالنفوس المشغولة والمنشغلة لا تقوم على أكتافها الدعوات، فالمشغول لا يُشغل، وقضية الإسلام لا تقبل لها في النفوس شريكًا، فإنها تستحوذ على القلب، وتأخذ بمجامعه، فلا تدع فيه لغيرها همًّا، وهذا هو معنى الهجرة الحقيقي، لا ما يتردد كل عام عنها بطريقة رتيبة، وعرض سمج ممل، إننا نحتاج أقصى ما نحتاج إلى أصحاب قضية، يحملون همَّ هذا الدين، ويعيشون به وله، ويسعون لمجده ليلاً ونهارًا، أما همُّ اللقمة والمسكن والملبس فهي أمور ثانوية في حياتهم، أو ينبغي أن تكون كذلك، بل هي لا تمثل شيئًا فيها، فالأمر أعجل من ذلك، والمرء يعيش حياته في سباق محموم بين دنياه وآخرته، ولكن جارت الدنيا على الآخرة جورًا عظيمًا حتى لم تدع لها في نفس المسلم نصيبًا، إلا عبادات مفروضة يؤديها بلا قلب، ظانًّا أنه بذلك أدى ما عليه تجاه دينه وربه، وحاشا أن يكون الأمر كذلك، فدنيا المسلم قنطرة إلى الآخرة، لم يُتعبد أو يؤمر بتزيينها وتجميلها، وإنما هو متعبد بتذليلها لأهدافه وغاياته، لتحقيق هدف أكبر، والوصول لغاية أعظم، وهي نشر "لا إله إلا الله" في الأرض، والإيمان بها، والإذعان إليها، وتربية الأجيال التي تحمل مشاعل الإيمان، فتنير بها طريق النفوس التائهة الحائرة…
جاءت هجرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعد الرسالة بثلاثة عشر عامًا، بعد أن أمضى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هذه المدة وهو يجاهد من أجل إبلاغ دين الله سبحانه، ومن أجل أن يهدي قومه والناس إلى طريق الله سبحانه صابرًا محتسبًا، يؤذى في سبيل الله، ويرى أصحابه يؤذون ويعذَّبون ويقتلون ولا يزداد مع ذلك إلا صبرًا ويقينًا وطاعة لله سبحانه، وقد جاء الأمر بالهجرة إلى يثرب بعد أن بايع سكانها الأوس والخزرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على الإيمان وعلى حمايته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم، وكان ذلك حين جاؤوا مكة حاجين، فكانت هذه البيعة مقدمة للهجرة المباركة.
خرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة مهاجرًا إلى ربه، وقد وعد الله من هاجر إليه أجرًا عظيمًا، يقول سبحانه: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء:100].
خرج –صلى الله عليه وسلم- إلى الهجرة بعد أن أعدت قريش العدة لقتله أو حبسه أو طرده، ولكن مكرهم عاد عليهم؛ لأن هذا المكر لن يحيق بمن يرعاه الله ويؤيده ويسدده: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُون) [آل عمران:160].
أعدت قريش العدة لقتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن طريق عدد من شباب قبائلها حتى يتفرّق دمه بين القبائل، ولكن جبار السموات والأرض أبطل سحرهم، ورد كيدهم إلى نحورهم، يقول سبحانه: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30].
فتوجه الحبيب –صلى الله عليه وسلم- إلى حبيبه أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ليخبره بأمر الهجرة، فما أن سمع الصديق بأمر الهجرة حتى كان همه الوحيد والكلمة الوحيدة التي قالها: "الصحبة يا رسول الله"؛ عن عائشة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جاء إلى بيت أبي بكر في ذلك اليوم ظهرًا على غير عادته، فلما دخل على أبي بكر قال: "أَخْرِج من عندك"، قال: يا رسول الله: إنما هما ابنتاي، يعني عائشة وأسماء، قال: "أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج؟!"، قال: الصحبة يا رسول الله؟! قال: "الصحبة"، قال: يا رسول الله: إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما، قال: "قد أخذتها بالثمن". أخرجه البخاري.
هكذا كان شغف الصديق بنصرة الدين: "الصحبة يا رسول الله؟!"، وهذا هو طلبه: الصحبة، وهي -عباد الله- ليست صحبة رجل ذا ثراء وأموال، وليست صحبة رجل ذاهب في نزهة، وليست صحبة رجل يسافر إلى دولة يترفه فيها ويتنعم، وليست صحبة رجل له موكب وحاشية وخدم وحشم، إنها صحبة رجل مطارد مطلوب للقتل ، فعلام يحرص الصديق على هذه الصحبة ويفرح ويفتخر بها؟! إنه الإيمان الذي تميز به صديق هذه الأمة -رضي الله عنه-، والذي جعله يُسخِّر نفسه وأهله وماله من أجل الدعوة ومن أجل الهجرة، فقد عرض نفسه لمصاحبة وخدمة وحماية رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، وأنفق ماله في إعداد العدة لذلك وفي استئجار الدليل، وعرَّض ابنه عبد الله للخطر حيث كان يمسي عندهما عندما كانا في الغار ويصبح عند قريش يتسقط الأخبار، وكان مولاه عامر بن فهيرة يسرح بغنمه عند الغار ليسقيهم من لبنها، وكذلك فعلت أسماء التي حفظت السر والتي شقت نطاقها لتضع فيه طعامهما، فسميت ذات النطاقين، فكانت عائلة الصديق كلها مجندة في سبيل الله وخادمة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
لقد هاجر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أجل الدين لا من أجل الدنيا، فقد بقي في مكة طيلة هذه المدة رغم الأذى الذي يتعرض له هو وأصحابه؛ لأنه كان يسير بأمر الله سبحانه، وكان يريد أن يبلغ دين الله سبحانه، وأن يهدي البشرية إلى طريق السعادة الأبدية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب:45، 46].
هاجر –صلى الله عليه وسلم- من أجل الله ومن أجل الدعوة إلى الله سبحانه، وكذلك هاجر أصحابه -رضوان الله عليهم- من أجل دينهم، ومن أجل المحافظة على دينهم، لا من أجل الدنيا، بل إنهم تركوا الدنيا في مكة، فمنهم من هاجر وترك ماله، ومنهم من هاجر وترك بيته ومتاعه؛ لأنهم لما نظروا إلى المال وإلى الدين وجدوا أن ضياع المال يُعوَّض، ولكن ضياع الدين لا يعوّض أبدًا، وجدوا أن كسر المال والبيت والأهل يُجبر، أما كسر الدين فإنه لا يُجبر.
وكل كسر فإن الدين يجبره *** وما لكسر قناة الدين جبران
- الخطبة الثانية :
والهجرة إلى مكة تعتبر ثالث هجرة لأصحاب الرسول –صلى الله عليه وسلم-؛ فقد هاجروا قبلها إلى الحبشة مرتين، وركبوا البحر وصارعوا الأمواج وتعرضوا للأخطار من أجل دينهم، وها هم يتركون مكة موطنهم وموطن آبائهم ومرتع طفولتهم وصباهم إلى المدينة؛ استجابة لأمر الله سبحانه وأمر رسوله –صلى الله عليه وسلم-.
أمضى –صلى الله عليه وسلم- في غار ثور ثلاث ليال هو وصاحبه أبو بكر، ينتظران أن يخفّ عنهما الطلب حتى يخرجا إلى المدينة، وكانت قريش تبحث عنهما في جنون، وتبعث بعيونها في كل مكان، وتجعل الأموال الطائلة لمن يأتيها بمحمد –صلى الله عليه وسلم-، وقد وصل كفار قريش إلى الغار الذي يختبئ فيه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، ولكن الله سبحانه صرفهم عنه وردهم خائبين، يقول أبو بكر كما في صحيح البخاري: قلت للنبي –صلى الله عليه وسلم- وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: "ما ظنك -يا أبا بكر- باثنين الله ثالثهما؟!".
إذا كان الإنسان في معية الله، وفي عناية الله، وإذا أيّد الله عبده ونصره، فإن الكون كل الكون لن يضره بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليه: "ما ظنك -يا أبا بكر- باثنين الله ثالثهما؟!".
هكذا -عباد الله- لا يخاف العبد إذا أيقن أن الله معه، وهكذا يكون مسددًا موفقًا في كل ما يقدم عليه إذا كان مراعيًا لمرضاة الله -عز وجل-: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم) [التوبة:40].
لقد كانت الهجرة نتيجة صبر ثلاثة عشر عامًا من الخوف والجوع والحصار والأذى، فكانت الثمرة على قدر التعب، وعلى قدر الصبر، وهكذا هذا الدين لا يعطي ثمرته إلا لمن صبر وثابر، أما من استعجل النتائج فإنه يُحرَم، فدولة المدينة التي شعّ منها النور إلى كلّ الأرض كانت نتيجة لصبر مكّة، ورسول الله الذي خرج من مكة سرًّا والناس يبحثون عنه، دخل المدينة في احتفال عظيم يحفّ به الناس من كلّ جانب، كلّ منهم يطلب منه أن ينزل عنده، وتحقق للنبي –صلى الله عليه وسلم- ولأصحابه قول الله تعالى ووعده لعباده الصالحين: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور:55].
وها هي الدعوة التي انطلقت من رجل فقير من قريش هو رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، معه رهط يسير ممن سبقوا إلى التصديق والإيمان أكثرهم من الضعفاء والموالي، ها هي يحملها اليوم أكثر من مليار إنسان في كافة أنحاء الدنيا، وها هو الإسلام يدخل كل بيت، ونداء الحق يرتفع في كل مكان: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:8، 9]، يقول –صلى الله عليه وسلم-: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو ذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاًّ يذل الله به الكفر". أخرجه أحمد عن تميم الداري.
هذا وعد صادق من الله لرسوله، ووعد صادق من الله لأمة رسوله –صلى الله عليه وسلم- ولكل من سار على هدي رسوله سير السلف الصالح دون تبديل ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق