الخطبة الأولى:
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واعتبروا بما ترون وتسمعون، تمر الشهور بعد الشهور والأعوام بعد الأعوام ونحن في سبات غافلون، ومهما عشت -يا ابن آدم- فإلى الثمانين أو التسعين، وهبك بلغت المئين، فما أقصرها من مدة وما أقله من عمر!! قيل لنوح -عليه الصلاة والسلام- وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً: كيف رأيت هذه الدنيا؟! فقال: كداخل من باب وخارج من آخر،
فاتقوا الله أيها الناس، وتبصروا في هذه الأيام والليالي فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم، وكل يوم يمر بكم فإنه يبعدكم عن الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم حياته وهذه الأيام بما يقربه إلى ربه ومولاه، وطوبى لعبد شغلها بالطاعات واتعظ بما فيها من العظات وانقضاء الأعمار، وطوبى لعبد استدل بتقلب الليل والنهار على ما في ذلك من الحكم البالغة لأولي الألباب والأبصار: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور: 44]،
عباد الله: فمنذ أيام قلائل طوى عام سجله وختم عمله، فهنيئاً لمن أحسن فيه واستقام، وويل لمن أساء وارتكب الإجرام، فهلم نتساءل عن هذا العام، كيف قضيناه وما أودعنا فيه، ولنفتش كتاب أعمالنا كيف أمليناه، فإن كان خيراً حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شراً تبنا إلى الله واستغفرناه، ولينظر كل منا في أمره، فإن كان من المفرطين، وهذا هو الواقع وهو الحاصل أننا فرطنا وأكثرنا التسويف وأكثرنا الآمال وضيعنا الليالي والأيام، فكم من يومٍ فضيل صيامه ما صمناه، وكم من ساعة فضِيلٌ قيامها لم نقمها، فليحاسب العاقل نفسه، فإن كان فرّط فيما مضى فليتب إلى الله ويتدارك ما بقي.
عباد الله: كم يتمنى المرء ويفرح بتمام شهره ومرور السنة عليه ليحصل على الراتب الشهري أو علاوة سنوية ، والله إن فرحه بانقضاء الشهر والعام إنما هو فرحٌ بنقص من عمره والدنو للأجل فرح بأنه يقترب من فراقه لأهله وانتقاله لقبره، فإنما ذلك مراحل نقطعها من سفرنا، وصفحات نطويها من دفاترنا، فهل يفرح بذلك إلا من استعد للقدوم على ربه بامتثال أمره.
عباد الله: ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع وتغرب، ففي طلوعها ثم غروبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما هي طلوع ثم غروب، ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عاماً بعد عام، فأنتم تودعون عاماً شهيداً عليكم، وتستقبلون عاماً جديداً مقبلاً إليكم، فبماذا تودعون العام الماضي وتستقبلون العام الجديد، فليقف كل منا مع نفسه محاسباً ماذا أسلفت في عامها الماضي، فإن كان خيراً ازداد، وإن يكن غير ذلك أقلع وأناب، فإنما تمحى السيئة بالحسنة، قال -صلى الله عليه وسلّم-: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، ليحاسب كل منا نفسه عن فرائض الإسلام وأدائها، عن حقوق المخلوقين والتخلص منها، عن أمواله التي جمعها من أين جاءت وكيف ينفقها.
أيها الناس: حاسبوا أنفسكم اليوم فأنتم أقدر على العلاج من غدٍ، فإنكم لا تدرون ما يأتي به الغد، حاسبوها في ختام عامكم وفي جميع أيامكم، فإنها خزائنكم التي تحفظ لكم أعمالكم، وعما قريب تفتح لكم فترون ما أودعتم فيها،
إن المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم ومن الحياة قبل الموت، وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في خطبته: "إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيب عنكم، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا".
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خطبته: "أيها الناس: حاسبوا أنفسكم اليوم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله"، ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ) [الحاقة: 18].
قال أحد السلف: "مثلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثلتُ نفس في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسُ: أي شيء تريدين؟! قالت: أريد أن أعود إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: قلت: فأنتي في الأمنية فاعملي".
هكذا كان أحدهم يتخيل لنفسه النعيم حتى ينهض بنشاط وقوة على الطاعة، ويتخيل الجحيم حتى يرتدع وينزجر عن المعصية، فبهذا -عباد الله- أنصح نفسي وإياكم، فكل من أراد أن يعين نفسه على الطاعة أن يتخيل أنه في نعيم الجنة يتخيل أنه في نعيم لا ينقطع ولذة لا تحول أبدًا، فإنَّ تخيُّل هذا الخير العظيم والرغبة في الوصول إليه يدفعك إلى أعمال الخير ويحثك على العبادة، ثم يتخيل أنه في النار بين حرها وزقومها وسلاسلها وصديدها، بين عقاربها وحيّاتها، فإن ذلك يزجره عن معصية كاد يخطو إليها، ويرده عن فاحشة كاد يصل إليها.
عباد الله: لنتذكر بانقضاء العام انقضاء العمر، وبسرعة مرور الأيام قرب الموت، وبتغير الأحوال زوال الدنيا وحلول الآخرة، فكم ولد في هذا العام من مولود وكم مات فيه من حي، وكم استغنى فيه من فقير، وافتقر من غني، وكم عز فيه من ذليل، وذل فيه من عزيز: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 26، 27].
أيها المسلم: راجع نفسك على أي شيء تطوي صحائف هذا العام: فلعله لم يبق من عمرك إلا ساعات أو أيام، فاستدرك عمراً قد أضعت أوله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
هكذا أوصانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باغتنام هذه الخمس قبل حلول أضدادها، فاتقوا الله -عباد الله- واستدركوا ما فات بالتوبة، واستقبلوا ما بقي بالعمل الصالح، فإن إقامتكم في هذه الدنيا محدودة، وأيامكم معدودة، وأعمالكم مشهودة، فوالله ثم والله إنه لينتظرنا كأس لزامٌ علينا أن نذوقه، إنه الموت، فوالله لأموت أنا وتموت أنت ويموت كل حي شئنا أم أبينا، رضينا أم لم نرض، وإن بعد الموت قبرًا وبعثًا ونشورًا وكتابًا يسطر كل ما عملناه في أعمارنا، وإن هناك يوم جزاء وحساب، فإما جنة أو نار، جزاء على ما قدمناه في أيامنا وحياتنا، فمن قضى عمره في طاعة ربه ومولاه وقدم خيرًا فهو إلى خير ونعيم أبدي إن شاء الله، ومن قضى عمره في اقتراف الشرور المعاصي وإغضاب ربه -عز وجل- فهو إلى شر وشقاء أبدي، ألم يتداركه الله -عز وجل- برحمته.
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون يتبعونها، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا".
نسيرُ إلى الآجال في كُلِّ لحظةٍ *** وأعمارُنا تُطْـوى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
تَرَحَّلْ من الدنيا بزادٍ مِنَ التُّقَى *** فعُمْرُكَ أيـامٌ وهُـنَّ قلائـل
وما هـذه الأيامُ إلا مـراحلٌ *** يحثُّ بها حادٍ إلى الموت قاصِدُ
وأعْجَبُ شيءٍ لو تأمَّلْتَ أنَّها ** منازلُ تُطْـوَى والمسـافِرُ قاعد!
عام كامل تصرّمت أيامه؛ كل يوم يمر، بل كل ساعة تمضي، وكل لحظة وثانية تمر علينا، إنما هي تقربنا من الأجل.
أيها الإخوة الكرام: إن العقلاء يتبصرون في تصرم أيامهم ولياليهم، ويعلمون أن كل لحظة وثانية ودقيقة -فضلاً عن كل ساعة ويوم وشهر وسنة- تسير بهم وتقربهم إلى ربهم.
لقي الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- رجلاً فسأله: كم مضى من عمرك؟! قال الرجل: مضى من عمري ستون سنة، فقال له الفضيل: فإنك منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ إليه. قال الرجل: آه! فما العمل؟! تحسن فيما بقى يُغفر لك ما قد مضى
روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- له: "يا ابن عمر: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن فراغك لشغلك".
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ النَّاسِ يغدو، فبائعٌ نفسَهُ؛ فمُعتِقُها أو موبِقُها"، ما معنى هذا الحديث؟! يغدو: يخرج في الغداة في الصباح، فالناس جميعًا يخرجون في الصباح، وإنك إذا نظرت إليهم في طرقاتهم أو نظرت إلى بيوتهم لوجدت البيوت في الصباح تفتح فيخرج الرجل ويخرج الشيخ الكبير وتخرج الفتاة وتخرج الطفلة، هذا يحمل أولاده، وهذه معها متاعها، وهذا ربما خرج مسرورًا، وهذا خرج حزينًا، هذا خرج يتجهز لعرس، وهذا خرج ليعزي في ميت، هذه خرجت مسرورة مع زوجها في سفر، وهذه خرجت مطلقة مبعدة إلى أهلها، الناس يغدون جميعًا، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "كُلُّ النَّاسِ يغدو، فبائعٌ نفسَهُ"، يعني صارف عمره، وممضٍ وقته خلال هذا اليوم، فهم ينقسمون إلى قسمين: "فمُعتِقُها" من النار بعمل الصالحات، "أو موبقها".
وإنك لترى ذلك في الناس، يذهب الرجلان، هذا إلى مكة يتعبد وذاك إلى بلد خارج المملكة ليكفل أيتامًا أو يبني مسجدًا أو يدعو إلى الله تعالى؛ بينما الآخر سافر ليعاقر خمرًا أو ليقع في فاحشة أو ليعقد صفقات ربوية، فالأول قد أعتق نفسه والثاني قد أوبقها.
ولقد أخبرنا النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن المرء سيُسأل عن أربعة أشياء: "عنْ عُمُرِهِ فيما أفناهُ، وعنْ جسدِه فيما أبْلاهُ، وعنْ مالهِ مِنْ أيْنَ أخذهُ وفيما أنْفَقَهُ، وعنْ عِلمِهِ ماذا عَمِلَ بهِ".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا * وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 12 - 15].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله منشئ الأيام والشهور، ومفني الأعوام والدهور، وميسر الميسور ومقدر المقدور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إلـه إلا الله الغفور الشكور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وضاعفلنا ولهم الأجور.
أما بعد:
عباد الله: إننا بعد انقضاء عام هجري ، زادت بذلك أعوامنا عامًا ونقصت أعمارنا عامًا ودنونا من الموت عامًا، فكل ساعة ذهبت لن تعود، وكل يوم مضى لن يعود، وكل شهر وكل سنة ذهبت لن تعود، فاتقوا الله -عباد الله- واستدركوا عمراً ضيعتم أوله، فرحم الله عبداً اغتنم أيام القوة والشباب، وأسرع بالتوبة والإِنابة قبل طي الكتاب، وأخذ نصيباً من الباقيات الصالحات، قبل أن يتمنى ساعة واحدة من ساعات الحياة، فإن النهار كل يوم يقول: يا ابن آدم: اغتنمني فإنك لا تدري لعله لا يوم لك بعدي، ويقول الليل مثل ذلك، قال ابن الجوزي: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه في غير قربة". وقال أيضاً: "واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة، فإن في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة".
فيا أيها المسلمون: كم نخلة ضيعناها في الجنة إذا كانت لحظة واحدة تقول فيها: سبحان الله العظيم وبحمده تكون غرساً لك في الجنة، فكم من بستان ضيعناه في الجنة؟! كم من الساعات أضعناها ففاتنا فيها الثواب الجزيل.
عباد الله: كم تمر على المسلم الأعوام والحال هو الحال لا يتغير ولا يتبدل عما هو فيه من غفلة وقسوة في القلب ومعاصٍ بلغت عنان السماء، أوامر الرحمن معطلة وأوامر الشيطان تنفذ، انشغل الناس بالمعاصي، فإذا كان العام الهجري الجديد، قالوا: هذا هو العام الهجري الجديد، ولكن أخي أين الجديد من أفعالك؟! أين الجديد من أقوالك؟! ألا يوجد قلب ناهٍ يفكر فيما مضى من العمر وانصرم من الساعات؟!! قال الإمام ابن رجب: "العجب ممن عرف ربه ثم عصاه، وعرف الشيطان ثم أطاعه".
أيها الناس: إن الشربة التي نشربها ثم نخرجها تقول لنا: إنما الدنيا متاع؛ إن اللباس الذي نلبسه ثم ننزعه لنستبدله بغيره يقول لنا: إنما الدنيا متاع؛ إن الصيف والشتاء اللذين يتعاقبان علينا يقولان لنا: إنما الدنيا متاع؛ إن الأشخاص الذين نراهم ونصافحهم ونحبهم ونجالسهم ثم نفقدهم يقولون لنا: إنما الدنيا متاع؛ إن المقابر التي ندفن فيها أحبابنا وفلذات أكبادنا تقول لنا: إنما الدنيا متاع، إن المال الذي نكتسبه بكدِّنا وتعبنا ثم يزول عنا في طرفة عين يقول لنا: إنما الدنيا متاع.
إن لله عبـادًا فُطَـنًا *** طلَّقوا الدنيا وخافوا الفِتَنَ
نظروا فيها فَلَمَّا علِموا *** أَنَّهـا ليستْ لِحَيٍّ وطَنًا
حسِبوها لُجَّةً واتَّخذوا *** صالحَ الأعمالِ فيها سُفُنًا
نظروا فيها فَلَمَّا علِموا *** أَنَّهـا ليستْ لِحَيٍّ وطَنًا
حسِبوها لُجَّةً واتَّخذوا *** صالحَ الأعمالِ فيها سُفُنًا
أيها الكرام: عام كامل تصرمت أيامه، وتتابعت ساعاته، فبالله عليكم: ماذا أودعنا خلال هذا العام المنصرم؟! هذا العام إنما هو خزائن تودع فيها الأعمال وتغلق لتفتح يوم القيامة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، قال: كتب في رقّ ثم جعل عليها طابع، فلم يكسر إلى يوم القيامة".
هذه الأيام التي مضت خزائن، هناك من أودع فيها ذِكرًا واستغفارًا وصدقة وإنفاقًا مباحًا؛ وهناك من أودع فيها فحشاء ومُنكرًا وبغيًا: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 81-82].
عباد الله: هلا تفكرتم أين من كان قبلكم في الأوقات الماضية؟! أما وافتهم المنايا وقضت عليهم القاضية، رحلوا إلى القبور وقلّ والله بعدهم بقاؤنا، هذه دورهم فيها سواهم، هذا صديقهم قد نسيهم وجفاهم، أخبارهم السالفة تزعج الألباب، وادّكارهم يصدع قلوب الأحباب، وأحوالهم عبرة للمعتبرين، فتأملوا أحوال الراحلين، واتعظوا بالأمم الماضين، لعل القلب القاسي يلين، وانظروا لأنفسكم ما دمتم في زمن الإِمهال، واغتنموا في حياتكم صالح الأعمال، قبل أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله، فيقال: هيهات فات زمن الإِمكان، وحصل الإِنسان على عمله من خير أو عصيان،
فنسألك اللهم يا كريم يا منان، أن تختم عامنا هذا بالعفو والغفران، والرحمة والجود والامتنان، وأن تجعل عامنا المقبل عاماً مباركاً حميداً، وترزقنا فيه رزقاً واسعاً وتوفيقاً وتسديداً، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وأصلح لنا جميع أحوالنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق