( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة )
الخطبة الاولى :
ذكر المفسرون أن رسول الله عليه الصلاة والسلام خطب أبنت عمه زينب بن جحش لمولاه زيد أبن حارثه ، فقالت : يا رسول الله ، لست بنكاحته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بل فانكحيه " فقالت : يا رسول الله ، أؤامر فى نفسى؟ فبينما هما يتحادثان ، أنزل الله - تعالى هذه الآية ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراُ أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاُ مبينا ) . فقالت : يا رسول الله ، قد رضيته لى زوجا؟ قال : نعم قالت : إذا لا أعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجته نفسى " .
قال ابن كثير : هذه الاية عامة فى جميع الأمور . وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشئ ، فليس لأحد مخالفته ، ولا اختيار لأحد هاهنا ولا رأى ولا قول ، كما قال – تعالى( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (
وفى الحديث الشريف " والذى نفسى بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " . صححه أحمد شاكر
وقال - سبحانه ) إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً ( للإِشعار ، بأن ما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يفعله بأمرا لله - تعالى - لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى .
وقوله ) أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ ) أى : لا يصح لمؤمن أو مؤمنة إذا أراد الله ورسوله أمرا ، أن يختاروا ما يخالف ذلك ، بل يجب عليهم أن يذعنوا لأمره صلى الله عليه وسلم وأن يجعلوا رأيهم تابعا لرأيه فى كل شئ .
ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا ( فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ( يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدى والرشاد.
﴿وَما كانَ ﴾ العلماء قالوا: ما كان لنفي الشأن، لو سألت إنساناً: هل أنت جائع؟ يقول لك: لا، الجوع حدث، لا تكفي،
لو كنت إنساناً محترماً جداً ولك مكانة، لو شخص سألك: هل أنت سارق؟ ليس من الحكمة ولا من البلاغة أن تقول: لا، يجب أن تقول: ما كان لي أن أسرق، صيغة ما كان – كما يقول أهل اللغة والبلاغة - تنفي عشرة أفعال، لا أفعل، ولا أرضى، ولا أشجع، ولا أعطي، مثلاً قال تعالى:
﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فيهِم ﴾سورة الأنفال: ٣٣ ] أي مستحيل وألف مستحيل أن يعذب المؤمنون وهم مطبقون سنة النبي عليه الصلاة والسلام،.. فالمعنى : مستحيل وألف مستحيل أن يكون للمؤمن خيرة من امره اذا قضى الله ورسوله في أمر ما ..مستحيل وألف مستحيل ان يكون
اعلموا عباد الله أن هذه الآية الكريمة تؤسس قاعدة أساسية يجب أن تكون منهجاً لحياة المسلمين وأن تستقر في نفوسهم وتتمثل في واقعهم ، إنه الأصل العظيم الذي يوجب على الراعي والرعية وعلى الفرد والمجتمع ، الاستجابة لأمر الله جل وعلا وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع مناشط الحياة وفي كافة المجالات والتصرفات ،
هذه الآية تقرر قاعدة كبرى بأن من مقتضيات الإيمان وصفاته واركانه الإسراع إلى مرضاة الله جل وعلا والاستهداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والإذعان والاستسلام والخضوع لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم .
عباد الله : إن سلف هذه الأمة لم ينالوا وشرف هذه الدنيا وفلاحها ونصرها وأمنها وأمانها ، إلا حينما وقفوا حيث أمر الله واختاروا لأنفسهم ما اختاره شرع الله فحازوا بذلك خير الدنيا وسعادتها ورضي الله ورضوانه في الآخرة .
عن عائشة رضي الله عنها قالت :( يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) شَقَّقْنَ مُرُوطَهن فاعتجرن بِهَا ) فالواجب على كل مسلم أن يقف عند شرع الله وأن يحكم في هواه وشهواته ورغباته حدود الله جل وعلا .
فإذا دعته نفسه إلى كسب دنيوي أو شهوة بدنية فعليه أن ينظر في حكمها ومدى مسايرتها للمنع الشرعي الصحيح وليحذر نفسه الأمارة بالسوء وليجتنب الغرور بهذه الدنيا الفانية الزائلة .
فيا أهل السلام تمسكوا بدينكم وقدموه على كل غال ونفيس تغنموا وتسعدوا وتفلحوا (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
ومن لم يلتزم شرع الله واتبع هواه فقد زل به الطريق وانحرف به عن الجادة القويمة ووقع في الضلال البعيد والانحراف السحيق ، قال تعالى بعد أن ذكر شأن المؤمنين (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) .
ورسوله صلى الله عليه وسلم يخاطب أمته داعياً إياهم طريق السعادة وسفينة النجاة قائلاً (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا ومن يأبى يا رسول الله، قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى ) .
ولفظ " من أمرهم " دلالة على أن المؤمن ليس له اختيار في طاعة الله ورسوله، وعليه الخضوع بين يدي ربه الذي يصرف له أموره ويدبر له شؤونه، فالله القيوم قائم على أمره كله ، وفي تفاصيل حياته كلها صغيرها وكبيرها
إنَّ اليقين بأنَّ الخير فيما اختاره الله لعبده له الأثر الكبير على النفس ، مما يجعل العبد في طمأنينة وراحة أنَّ أمره كله خير
أيها المسلمون: إن الواجب علينا أن لا نتعدى حدود الله التي يجب أن نعيش بها وأن نتحاكم إليها ، ونحن في خطر عظيم ومهلكة واقعة إن نحن أصبحنا نتخير في أمر قضى الله عز وجل به أو رسوله صلى الله عليه وسلم، لذلك كان من الإثم العظيم أن يتخير المسلمون في أمر حرام او أن يطرحوه لتصويت أو إبداء رأي أو استطلاع أو غيرها من الوسائل التي توحي بشيء من التخيير بين حكم الله ورسوله وبين حكم البشر
لا خيرة للمؤمن الصادق في أحكام الله ، ليس له ألاّ التسليم والرضى والقبول والطمأنينة في جميع ما يقضي الله عزجل ويقضي رسوله عليه الصلاة والسلام في العبادات والاحكاموالمعاملات والاخلاق والدين والدنيا والثقافة والسياسة والفرد والمجتمع والامة والاسرةوالزوجة والابناء والاقتصاد وكل شيء ، فالامر أمره والخلق خلقه ونحن عبيده نسمع ونطيع ونسّلم ونأتمر ، لان في ذلك الخير والصلاح والفلاح لنا في الدنيا والاخرة
الخطبة الثانية :
فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا الْكِتَابُ فَقَالَتْ مَا مَعَنَا كِتَابٌ فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا فَقُلْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْهُ فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْت.
قَالَ حَاطِبٌ: ((وَاللَّهِ مَا بِي أَنْ لا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) ((وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلام)) ((وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا)) ((وَمَا غَيَّرْتُ وَلا بَدَّلْتُ))ِ ((مَا كَانَ بِي مِنْ كُفْرٍ وَلا ارْتِدَادٍ)) ((أَمَا إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا نِفَاقًا قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ رَسُولَهُ وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ)) ((فقلت أكتب كتاباً لا يضر الله ولا رسوله)) أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِه.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ وَلا تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ.
فَقَالَ: أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَال: لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.]
وقال الإمام أحمد : عن أبي برزة الأسلمي أن جليبيبا كان امرأ يدخل على النساء يمر بهنويلاعبهن ، فقلت لامرأتي : لا يدخلن اليوم عليكم جليبيب ، فإنه إن دخل عليكم لأفعلنولأفعلن
قال : وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى يعلم : هل لنبي الله صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار : " زوجني ابنتك " قال : نعم ، وكرامة يا رسول الله ، ونعمة عين فقال : إني لست أريدها لنفسي قال : فلمن يا رسول الله ؟ قال : لجليبيب فقال : يا رسول الله ، أشاور أمها فأتى أمها فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك ؟ فقالت : نعم ونعمة عين فقال : إنه ليس يخطبها لنفسه ، إنما يخطبها لجليبيب فقالت : أجليبيب إنيه ؟ أجليبيب إنيه ؟ لا لعمر الله لا تزوجه
فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره بما قالت أمها ، قالت الجارية : من خطبني إليكم ؟ فأخبرتها أمها قالت : أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟! ادفعوني إليه ، فإنه لن يضيعني
فانطلق أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : شأنك بها فزوجها جليبيبا
قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له ، فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه : " هل تفقدون من أحد " ؟ قالوا : نفقد فلانا ونفقد فلانا قال : " انظروا هل تفقدون من أحد ؟ " قالوا : لا قال : " لكني أفقد جليبيبا " قال " فاطلبوه في القتلى " فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه
قالوا : يا رسول الله ، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه .. فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه ، فقال : قتل سبعة [ وقتلوه ] ، هذا مني وأنا منه مرتين أو ثلاثا ، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحفر له ، ما له سرير إلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم وضعه في قبره ، ولم يذكر أنه غسله ، رضي الله عنه قال ثابت : فما كان في الأنصار أيم أنفق منها وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتا : هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : " اللهم ، صب عليها الخيرصبا ، ولا تجعل عيشها كدا " كذا قال ، فما كان في الأنصار أيم أنفق منها...هكذا أورده الإمام أحمد بطوله ، وأخرج منه مسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق