( التعلق بالله والاستغناء عن الخلق )
الخطبة الأولى:
فإنَّ التعلُّقَ بالله سبب لكل خير، وهو روح التوحيد وأساس السعادة، وهل بعثت الرسل ونزلت الكتب إلا لذلك؟! والانشغال عن ذلك والغفلة عنه والتعلق بغير الله أعظم خذلان وأكبر حرمان،
عن عثمان بن أبي العاص الثقفي -رضي الله عنه- أنه شكا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعًا يجده في جسده منذُ أسلم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم : "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأُحاذر". رواه مسلم.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا فقال : "يا غلام: إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". رواه الترمذي.
وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد ذات يوم، فرأى فيه رجلاً من الأنصار، يقال له: أبو أُمامة، فقال: "يا أبا أمامة: ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟!"، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: "أفلا أعلِّمُك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله -عز وجل- همَّك وقضى عنك دينَك؟!"، قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غَلَبَة الدين وقهر الرجال". قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله -عز وجل- همي وقضى عني ديني.( اصل الحديث ثابت من غير قصة ابو امامة )
ولما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأن سبعين ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب قال معرفًا بصفاتهم : "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون". رواه الشيخان. وإنما تركوا ذلك لكمال تعلقهم بالله.
وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال : جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : عظني وأوجز، فقال: "إِذَا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ فَصَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ، وَلا تَكَلَّمْ بِكَلامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ ، وَأجْمَعْ الِيَأسَ عمَّا فِي أيَدَيْ النَّاسِ". صحيح ابن ماجه الالباني
قال السعدي -رحمه الله- في بهجة قلوب الأبرار "هذه الوصية توطين للنفس على التعلق بالله وحده في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله، ولا يطمع إلا في فضله. ويوطن نفسه على اليأس مما في أيدي الناس؛ فإن اليأس عصمة. ومن أَيِس من شيء استغنى عنه، فكما أنه لا يسأل بلسانه إلا الله، فلا يعلق قلبه إلا بالله، فيبقى عبدًا لله حقيقة، سالمًا من عبودية الخلق، قد تحرّر من رقِّهم، واكتسب بذلك العز والشرف؛ فإن المتعلق بالخلق يكتسب الذل والسقوط بحسب تعلقه بهم".
وفي سنن ابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ فقال: يا رسول الله : دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبَّك الناس". صحيح ابن ماجه الالباني
وكل حديث رهَّب فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سؤال الناس فإنه يربي على التعلق بالله، ومن ذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَة لحم". رواه البخاري ومسلم.
ومن ثمرات التعلق بالله والاستغناء عن الناس: الكفاية والوقاية؛ قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3].
والمعنى أن الله كافيه؛ فإنه سبحانه بالغ ما يريده من الأمر لا يفوته شيء، ولا يعجزه مطلوب.
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل". رواه أبو داود والترمذي. ( حسن لغيره ) الالباني
قال عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت : حدثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى الله -تبارك وتعالى- إلى نبيه داوُد -عليه السلام "يا داوُد: أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبدٌ من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن مخرجًا، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبدٌ من عبادي بمخلوقٍ دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعتُ أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدمه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك".
ومن الثمرات كذلك: عزُّ المؤمن باستغنائه عن الخلق؛ فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا محمد: عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزَّه استغناؤه عن الناس". رواه الطبراني في الأوسط. والعزُّ ضد الذل. ( حسن بمجموع طرقه ) الالباني السلسلة الصحيحة
ومن صور التعلق بالله والاستغناء عن الخلق: في الصحيحين عن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ -شجر شوك-
فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم تَحْتَ سَمُرَةٍ -شجر الطلح- فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟! قُلْتُ: اللَّهُ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ". ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
ومما يحمل على التعلق بالله -عز وجل-: آية وحديث : أما الآية فقول الله تعالى: ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107].
وأما الحديث فقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفت الصحف". رواه الترمذي.
قال بعض السلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة يقول الله -عز وجل-: "يؤمل غيري للشدائد، والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجى غيري، ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملّني لنائبة فقطعت به؟! أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه؟! ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له؟! أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني؟! أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟! أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟! فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟! ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع وبلّغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضوُ ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قَيِّمُه؟! فيا بؤسًا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسًا لمن عصاني ووثب على محارمي". ذكر ذلك ابن رجب في نور الاقتباس.
الخطبة الثانية :
عباد الله: من تعلّق بغير الله عذب به؛
فعليك أولاً: بالصبر ومجاهدة النفس؛
وثانيًا: بالدعاء؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى". رواه مسلم.
ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا: والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك، وفي ذلك قيل:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما *** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم"
قال بعضهم : التعلق بغير الله تعالى يشبه إلى حد كبير الكرسي الهزاز، الذي لا يكف عن الحركة، لكنه في واقع الأمر لا يوصلك إلى أي مكان آخر، يظل يتحرك بك لكنك في النهاية لم تذهب إلى أي مكان، وهكذا هو حال المتعلق بغير الله تعالى، يطرق جميع الأبواب، ويعتمد على كل المخلوقين، ويتعلق بهم قلبه، وينفق ذات اليمين وذات الشمال من وقته ومجهوده وسعيه، ولكنه في النهاية لا يحصِّل أية نتيجة، بل ربما يكون سعيه وبالاً عليه.
ولذا نجد أن دين الله تعالى يربي المؤمنين على تعلق قلوبهم بالله تعالى، وتوكلهم عليه دون سواه، وتجريد العبودية له لا لغيره.
وإذا كانت مقادير كل شيء بيده سبحانه، ومصير العباد إليه، وآجالهم وأرزاقهم عنده، بل سعادتهم وشقاؤهم في الدنيا والآخرة لا يملكها أحد سواه عز وجل - وجب أن تتعلق القلوب به وحده، وأن لا تذل إلا له، ولا تعتز إلا به، ولا تتوكل إلا عليه، ولا تركن إلا إليه ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) [التوبة:51].
فالنفع والضر بيده سبحانه، ولا يملكهما غيره، ولا يقعان إلا بقدره ( قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ) [الأحزاب:17]
والقوة والغلبة لله تعالى يمنحها من يشاء ولو كانوا قلة مستضعفين، أذلة مستضامين ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله ) [البقرة:249] ونَصَرَ الله تعالى أهل بدر وهم الأقل والأضعف ، وكان عدوهم أكثر وأقوى في الظاهر ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) [آل عمران:123].
والقوة والغلبة لله تعالى يمنحها من يشاء ولو كانوا قلة مستضعفين، أذلة مستضامين ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله ) [البقرة:249] ونَصَرَ الله تعالى أهل بدر وهم الأقل والأضعف ، وكان عدوهم أكثر وأقوى في الظاهر ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) [آل عمران:123].
والذين لجئوا إلى غير الله تعالى يبتغون القوة والغلبة منهم ما نفعوهم من الله تعالى شيئا ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ ) [البقرة:165].
وتَعَلُّقُ القلب بالله وحده، واللجوءُ إليه سبحانه هو سبيل الرسل الكرام عليهم السلام، وبهنُصروا على أعدائهم، وأظهرهم الله تعالى في الأرض، وكتب لهم العزة والغلبة، وجعل العاقبة لهم،
ولما ابتُلي موسى عليه السلام بأقوى سلطة، وأعتى طاغية، وخشي المؤمنون من أتباعه الهلكة كان موسى عليه السلام قد علق قلبه بالله تعالى في تلك الساعة الحرجة ( فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) [الشعراء:61-62] فنجاه الله تعالى والمؤمنين معه، وأهلك فرعون وجنده.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم لما اجتمع عليهم كَلَب الكافرين، وتخذيل المنافقين، وكيد اليهود - قابلوا ذلك بالتوكل على الله تعالى، وعدم التنازل عن شيء من دينهم، وعلقوا قلوبهم بربهم عز وجل، فكفاهم الله تعالى شر أعدائهم، وكتب العز والغلبة لهم، وقد جاء ذكر ذلك في قرآن يتلى إلى يوم القيامة ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) [آل عمران:174].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق