( خصائص امة محمد عليه الصلاة والسلام )
الخطبة الأولى:
تمرُّ أمةُ الإسلام اليوم بمرحلةٍ تاريخيَّةٍ غير مسبُوقة؛ حيث تتوالَى الأحداثُ الضِّخام والمُتغيِّراتُ السريعة التي تدَعُ الحليمَ حيران. ويزدادُ كيدُ الأعداء وتربُّصُهم، مما جعلَ اليأسَ والوهَنَ يسرِي في قلوبِ كثيرٍ من أبناءِ الأمة، ودبَّ إلى بعضِهم الحُزنُ والشعورُ بالإحباطِ والعجزِ، وهم يرَون مكرَ الحاقِدين وقوَّتهم وجلَدَهم، ويُشاهِدون صُورَ القتل والدمار والتشريد، مع تلبُّسِ نفَرٍ من أبناءِ الأمة بأفكارِ غريبة عن ديننا وشرعنا
حتى تكوَّنَت عند فِئامٍ من الناسِ صُورةٌ قاتِمةٌ كئيبةٌ لحالِ الأمة الإسلامية ومُستقبلِها، وأحاطَت بهم خيالاتُ الوهمُ المُحبِط والهزيمة النفسيَّة.
ولقد حذَّرَنا الله - سبحانه وتعالى - في آياتٍ كثيرةٍ من الوقوع في حالةِ الوهَن هذه، والشعورِ باليأسِ والحُزن؛ حيث قال - سبحانه -: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139]، وقال - سبحانه -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) [آل عمران: 146]،
وأخبرَنا - سبحانه وتعالى - أن سُنَّته التي لا تتبدَّلُ، وعادتَه التي لا تتغيَّر أنه يُديلُ على عبادِه المُؤمنين بالابتِلاء والضَّعفِ، ثم تكونُ لهم العاقِبةُ والنصرُ والتمكينُ، ويُهلِكُ أعداءَهم ببأسِه الشديد وعذابِه المُهِين.
أيها المسلمون: نحن أمَّةُ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - من شرقِها إلى غربِها لا يجوزُ لها أن تيأَسَ ولا أن تبتَئِس، ولا ينبغي لها أن تقعَ فريسةَ الإحباطِ واليأسِ المُهلِك الذي يشُلُّ تفكيرَها ويُعطِّل طاقاتِها وقُدراتِها، ويُفقِدُها الأملَ والرجاءَ بسببِ ما يفعلُه الكائِدُون والطُّغاةُ المُجرِمون، وبسبب ما تُشاهِدُه وتسمَعُه كلَّ يومٍ من مشاهِد الأسَى والألَمِ والقتلِ، التي تُساهِمُ وسائلُ الإعلام المُختلفة والتواصُل الاجتماعيُّ مُساهمةً فاعلةً في نشرِها، لتزيدَ من مُعاناةِ المُسلمين إرجافًا وإرهابًا وإضعافًا.
نعم، لا يجوزُ أن تشعُر الأمةُ باليأسِ وقد بشَّرَها الله تعالى بالعزَّة والنصرِ والتمكين، وخصَّها بخصائِصَ كُبرى وفضائِلَ عُظمَى ليست لأحدٍ من الأُمَم، مما يجعلُها تفتخِرُ بتكريمِ الله لها، وتُباهِي الأُممَ، وترفعُ الرأسَ عاليًا، وهي التي اختارَها الله واصطفاهَا، فتبوَّأَت عنده - سبحانه - شرفًا عظيمًا، ومكانةً وفضلاً.
وليعلَمَ الناسُ كلُّهم أن هذه الأمة المُحمديَّة هي التي يُحبُّها الله ويُعلِي قدرَها، وهي الأمةُ المنصُورةُ شرعًا وقدرًا، عاجلاً أم آجِلاً، وأن ما أصابَها من بلاءٍ ومِحنةٍ، وتسليطِ الأعداءِ، ونقصٍ في الأموال والأرزاقِ، إنما هو تمحيصٌ ورِفعةٌ وتربيةٌ لها، لتقومَ بما وكلَها الله - سبحانه وتعالى - به، (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) [آل عمران: 140].
وثبتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - في "مسند الإمام أحمد" أنه قال: «بشِّر هذه الأمةَ بالسَّناءِ والدِّينِ والرِّفعةِ والنصرِ والتمكينِ في الأرضِ».
هذه الخصائصُ الشريفةُ للأمة المُحمديَّة ثابتةٌ بنُصوص القرآنِ والسنَّة، وهي كثيرةٌ ومُتنوِّعة، وإن أعظمَها قدرًا وأثرًا: أن جعلَ الله مُحمَّدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو نبيَّها ورسولَها، فهو أعظمُ الرُّسُل وأجلُّهم، وأمَّتُه أعظمُ الأُمم قدرًا ومنزلةً ومكانةً، وهي وإن كانت آخرَ الأُمم عددًا، إلا أنها تأتي أولَ الأُمم يوم القيامة، وهي خيرُها وأكرمُها على الله - سبحانه -.
هذه الأمةُ المُحمديَّةُ المُبارَكة هي أمةُ الوسَط والعدل، جعلَها الله شاهِدةً وحاكمةً على الأُمم، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143].
وهذه الأمةُ المُباركةُ اختارَ الله لها دينَ الإسلام ورضِيَه لها، وهو أعظمُ الأديان يُسرًا وسماحةً ومحاسِنًا، ورفعَ عنها - سبحانه وتعالى - الحرجَ في العبادات والمُعاملات، (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [الحج: 78].
ووضعَ الله - سبحانه - عن هذه الأمةِ الأغلالَ والآصارَ والرهبانيَّةَ الشديدةَ التي كانت على الأُمم قبلَنا.
ومن عنايةِ الله بهذه الأمةِ ورعايتِه لها: أنه يبعَثُ لها على كلِّ رأسِ مائةِ سنةٍ من الحُكَّام، والعلماءِ، والمُصلِحين من يُجدِّدُ لها دينَها، ويُذكِّرُها بما اندرَسَ من أُصول الملَّة والشريعةِ. أما غيرُنا من الأُمم فلا يأبَهُ الله بهم، فلذلك وقعُوا في التحريف والتبديلِ والضلال.
أمة الإسلام:
وبسببِ قِصَر أعمارِ أفرادِ هذه الأمة - فهي ما بين الستِّين إلى السبعين في الغالِب - قبِلَ الله منها القليلَ من العمل، وأثابَها عليه الثوابَ الكثيرَ المُضاعَفَ الذي تفوقُ به الأُممَ قبلَنا الأطولَ أعمارًا؛ كالأُجور المُضاعفَةِ المُرتَّبة على الصلاةِ والحجِّ، وقراءة القرآن، وليلة القدر، وصيام النوافِل، والصلاة في الحرمين الشريفين وفي المسجِد الأقصَى، وغير ذلك.
ومن تمامِ حفظِ الله لهذه الأمةِ والعنايةِ الإلهيَّةِ بها: أنه - سبحانه - حماها من الهلاكِ العام بالغرق أو بالسنين والقَحط، ولن يُسلِّطَ الله على هذه الأمة عدوًّا من غيرها فيتمكَّن منها ويستبيحَ أصلَها وجماعتَها، ولو اجتمعَ عليها من بأقطارِها.
وحفِظَ - سبحانه وتعالى - هذه الأمةَ من عذابِ الاستِئصال، وليس عليها عذابٌ في الآخرة، إنما عذابُها في الدنيا بالفتن والزلازِل والمصائِب.
وقضَى الله - سبحانه وتعالى - أن تكون الكعبةُ البيتُ الحرام قيامًا للناسِ، وأمانًا لهم، وهُدًى للعالمين، وجعلَ مسجِد نبيِّها - صلى الله عليه وآله وسلم - منارةً للعلمِ والنور، وتكفَّل الله بالشام وأهلِها، وأورثَ - سبحانه - هذه الأمة المسجِد الأقصَى وبيتَ المقدِس، وجعلَه حقًّا مشروعًا لها، وفتحَ - سبحانه وتعالى - للأمة كنوزَ الأرضِ وخيراتِها، وجعلَها تَفيضُ بالنِّعَم الظاهرة والباطِنة، فهي أمَّةٌ مُبارَكةٌ كثيرةُ الخيرات، كالغَيثِ لا يُدرَى أولُه خيرٌ أم آخرُه.
الخطبة الثانية :
ومن آثارِ هذا التيسير والسماحَة: أن الله - سبحانه وتعالى - تجاوزَ عن هذه الأمة ما حدَّثَت بها أنفُسُها، ووسوسَت به صُدورُها، ما لم تكلَّم أو تعمَل، ، ويسَّر لها أمرَ طهارتها وعباداتها، وفضَّلها بالتيمُّم، وجعلَ لها الأرضَ مسجدًا وطهورًا، وخفَّف عنها الصلاةَ؛ فهي خمسٌ في الفعلِ وخمسُون في الأجر، وجعلَ صُفوفَها في الصلاةِ كصُفوفِ الملائِكةِ، وفضَّلَها وخصَّها بالتأمين خلفَ الإمام، والسلام، وصلاةِ العِشاء فلم يُصلِّها أحدٌ من الأُمم قبلَنا.
وهدانا - سبحانه - إلى يوم الجُمعة، وأضلَّ عنه الأُمم الأُخرى، وأكرمَنا بالغداءِ المُبارَك "السَّحُور" الذي هو فصلُ ما بيننا وبين صيامِ أهل الكتاب، وأحلَّ للأمَّةِ الغنائِم التي حرَّمها على الأُمم قبلَنا، ونصرَها ونصرَ نبيَّها - صلى الله عليه وآلهوسلم - بالرُّعب، فما تزالُ الأُمم تهابُ أمَّةَ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتُجلُّها، لما وضعَ الله لها من المكانة والهَيبَة في قلوبِ الخلقِ.
وجعلَ - سبحانه وتعالى - مرضَ الطَّاعون إذا أصابَ أحدًا من هذه الأمة رحمةً وشهادةً، بينما كان هذا المرضُ عذابًا ورِجزًا على من كان قبلَنا، كما ثبتَ في "مسند الإمام أحمد": قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الطاعونُ كان عذابًا يبعثُه الله على من يشاءُ، وإن اللهَ جعلَه رحمةً للمُؤمنين».
ليست هذه الخصائِصُ والفضائِلُ للأمةِ في الدنيا فقط؛ بل كذلك لهم خصائِصُ في الآخرة؛ فهي أولُ الأُمم التي يُبدأُ بها في الحسابِ أمام الله - سبحانه وتعالى -، وحوضُ نبيِّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - أعظمُ أحواضِ الأنبياء وأكثرُها وُرودًا.
وتتميَّزُ هذه الأمةُ يوم القيامة بأنَّهم غُرٌّ مُحجَّلُون من آثار الوُضوء، سِيماهم في وُجوهِهم من أثر السُّجود، وهذه الأمةُ المُبارَكة أولُ الأُمم مُرورًا على الصِّراط، وأسبَقُ الناسِ دخولاً إلى الجنة
ونبيُّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الذي يشفعُ الشفاعةَ الكُبرى للناسِ في الموقِفِ الأكبر، بعد أن يعتذِرَ عنها الأنبياءُ - عليهم صلواتُ الله وسلامُه -.
ونبيُّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الذي يستفتِحُ بابَ الجنة، ولا تُفتحُ الجنةُ إلا له - عليه الصلاة والسلام -، ويدخلُ الجنةَ من هذه الأمة سبعُون ألفًا بلا حسابٍ ولا عذابٍ، مع كلِّ ألفٍ سبعُون ألفًا. وفي روايةٍ صحيحةٍ: مع كلِّ واحدٍ سبعُون ألفًا.
وأهلُ الجنة مائةٌ وعشرون صفًّا، ثمانُون صفًّا من هذه الأمة المُبارَكة، وأربعون من سائِر الأُمم.
والمُسلمُ من هذه الأمة يغفِرُ الله له ذنوبَه بالتوبة والاستِغفار بلا واسِطةٍ ولا قرابينَ للبشر، وإذا ماتَ المُسلمُ على شهادةِ التوحيدِ دخلَ الجنةَ، وإذا لقِيَ اللهَ بقُرابِ الأرضِ خطايا وهو لا يُشرِكُ به شيئًا لقِيَه - سبحانه - بقُرابها مغفرة.
فخيريَّةُ هذه الأمة حقٌّ ثابتٌ، ولا يجوزُ أن يتَّخِذَ البعضُ مما ذُكِر من الفضائلِ مُتَّكأً لمزيدٍ من الخُمول والضَّعفِ والتخاذُل، فإن للنصر أسبابًا وللتمكين أسبابًا، كما أن لنزول العذاب والعقاب أسبابًا، وتلك سُنَّةُ الله الجارِيةُ التي لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق